الموضوع: حرب العصابات
عرض مشاركة واحدة

قديم 30-04-09, 08:33 AM

  رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

روبرتو فرناندزريتامار
لاهافانا، تشرين الأول 1966





مقدمة المترجم
لا، لم يمت غيفارا

مات غيفارا...
حين حملت أمواج الأثير هذا النبأ الأليم رفض الناس الطيبون في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في تلك البلدان حيث يحتدم الصراع ضد الاستعمار بمختلف الأشكال، تارة بالحديد والنار كما في فيتنام أو الشرق الأوسط أو بعض أقطار أميركا اللاتينية، وتارة أخرى بمختلف الوسائل المتراوحة بين النضال الشرعي والنعف المتفاوت الشدة كما في كثير من البلدان الآسيوية والأفريقية، رفض الناس الطيبون أن يصدقوا، لا، لم يمت غيفارا، ولا يمكن أن يموت... إن غيفارا أكبر من ذلك، أكبر من الموت، أكبر من أن يصرعه الرصاص الغادر يطلقه أعداء الشعوب، أكبر من أن يسقط والرسالة العظيمة التي نذر لها نفسه لّما تتحقق...
وكانت الأنباء قد تواترت مرات عديدة قبل ذلك، تبثها مكاتب الاستخبارات الاستعمارية والعميلة، عن مصرع الثوري الكبير، لكنه سرعان ما يفتضح كذبها وبطلانها خلال ساعات معدودة أو أيام قلائل... ما يمنع أن يكون الخبر كاذباً هذه المرة، رغماً عن تكاثر الدلائل على صحته؟ لكنه حين أعلن فيدل كاسترو، زعيم رفيق البطل الثائر الراحل وبل أقرب الرفاق إليه في النضال، من راديو هافانا وتلفزيونها، ليلة الخامس عشر من تشرين الأول 1967، أن النبأ الفاجع صحيح بصورة أليمة، كان لابدّ للناس الذين يؤمنون بالحقيقة الواقعة أن يصدقوا، رغماً عن كل ما يثيره هذا التصديق في قلوبهم من مرارة ولوعة وحزن. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يتألمون فيها لفقدان رفيق بطل، كما أنها لن تكون المرة الأخيرة.
لم يكن غيفارا بطلاً لأنه قارع الظلم بشجاعة فحسب، لأنه جابه أعداء الشعب ببسالة، وبعزيمة لا ترهب الموت ولا تهاب التضحية مهما غلت، بل كان بطلاً لأنه كان قبل كل شيء مثال الثوري الكامل. كان مخلصاً لمثله الأعلى حتى النهاية مقداماً لا يعرف التراجع، ذكياً يحذق سياسة الأمور، متواضعاً لا يتسرب الخلل أو الهوى إلى نفسه، وكانت كبرياؤه الوحيدة هي الكبرياء الثورية، هذه التي تجعله قاسياً لا يرجم حيال أعداء الثورة وأعداء الإنسان، وحيال جميع الأشياء أو الأهواء التي تعارض الثورة أو تسيء إليها، لكنه في الوقت نفسه رفيق طيب ودود لجميع أولئك الذين يشاركون في الثورة، أو يتوقون إليها، أو يتعرضون للظلم والاضطهاد من أية جهة كانت. ولعل هذا هو السبب في أن غيفارا كبر جداً في عيون الثوريين والأنصار، في كوبا نفسها وفي جميع البلدان الأخرى، كبر حتى حَسِبَ بعض الناس أنه أضحى أسطورة، أو وهماً يزعمون أن الثورة تنغذى به، وأنها لا تستطيع بدونه أن تستمر في البقاء. لا، إن غيفارا كبير لأنَّ إخلاصه لمبادىء الثورة كان كبيراً، إن غيفارا كبير لأن إيمانه كان كبيراً بالثورة التي لا حدود لها ولا وطن، الثورة التي ليست هي وقفاً على هذا البلد أو ذاك، وليست هي محصورة ضمن حدود هذا القطر أو ذاك، بل هي ثورة قائمة أبداً، متصلة دون انقطاع، ولن ينطفىء لها لهيب حتى تطهر هذه الكرة الأرضية من كل رجس، وتطهر نفس الإنسان من كل دنس، فتكون بذلك قد قضت قضاء مبرماً على العالم القديم والإنسان القديم، ووضعت الأسس المتينة الصلبة من اجل بناء العالم الجديد والإنسان الجديد. ولقد آمن غيفارا بهذه الثورة منذ تفتح وعيه على العالم، وظل وفياً لها حتى أغمض عينيه الإغماضة الأخيرة، وأنكر من أجلها طبقته وماضيه والحياة الهانئة التي كان يمكن أن يحياها، وخلّف ذلك كله وراء ظهره ليرتمي في حمأة المعركة، وسلاحه المادي ضعيف واهٍ. لكن سلاحه الفكري والروحي جبار لا يقاوم.
* *
كان أبوه مهندساً معمارياً أرجنتيني التبعة، أي من تلك الطبقة البرجوازية الميسورة التي يمكن أن تتوفر لها جميع مسرات الحياة العصرية. ولقد أصيب أرنستو في طفولته الأولى بمرض الربو، الأمر الذي جعله موضع العناية الصحية الفائقة، هذه العناية التي تمرد عليها حين اشتد ساعده، فجعل يمارس مختلف ضروب الرياضة، حتى أشدها ارهاقاً، في محاولة للتغلب على ذلك المرض الذي يفرض عليه بعض القيود. ولعل هذا هو السبب في تفضيله دراسة الطب على أية دراسة أخرى، لأن الطب فن يمكن أن يخلِّص الإنسان من بعض القيود القاسية التي تفرضها عليه الطبيعة المناوئة.بيد أن مطالعاته علمته في تلك الأثناء أن ثمة قيوداً أقسى من سلاسل المرض، ومن أكبال الظروف الطبيعية المناوئة، قيوداً مادية تئيد على السواد الأعظم من البشر، وقيوداً روحية تكبل نفوسهم وتنأى بهم عن الطبيعة الإنسانية الحقيقية، قيوداً، طالعته من آلاف عيون الناس البائسين الجياع، العاطلين عن العمل، الرازحين تحت نير الكبت والاضطهاد، الطامحين إلى لقمة العيش وإلى الكرامة من وراء لقمة العيش. ولقد طالعه من قرار هذه العيون اليأس كله، والخوف كله، والذل كله، وطالعته في الوقت نفسه قوة لا تغلب، قوة عاتية، جبارة، ساحقة، سوف يتحول إليها اليأس والذل والخوف ذات يوم، وعندئذ لن يعترض أحد أو مشيء سبيلها. أليس ذلك ما حدث دائماً في التاريخ، منذ أيام روما القديمة؟ أو ليس ذلك ما حدث مؤخراً في روسيا حيث انقلب الخوف واليأس والذل إلى تلك القوة الجارفة التي اكتسحت عالم القياصرة العفن، وجعلت تبني على أنقاضه عالماً جديداً يبشر بالأمل، وبالحرية، وبالكرامة وبالغد السعيد؟
وإن غيفارا ليشعر إذاً أن مكانه ليس في بيت أبيه، ولا في عيادة يستقبل فيها المرضى كل يوم، ولا حتى في وطنه الأرجنتين حيث لا يستطيع أن يعمل شيئاً في الوقت الحاضر. إن "حياته تبدأ وراء الحدود"، ومكانه هو العالم الفسيح، وموطنه هو كل موضع في هذه الدنيا تحول فيه اليأس والخوف والذل على قوة تناضل في سبيل حياة أفضل... و هذا هو في قلب المعركة، حيثما تحتدم، في تشيلي وفي كولومبيا، وفي بوليفيا وفنزويلا، وفي غواتيمالا حيث كان شعب صغير، رازح منذ مئات السنين تحت نير الاستعمار والاستعباد والاستغلال، قد صنع ثورة وهو يكافح عنها ضد قوى القارتين مجتمعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية واحتكاراتها الغاشمة.
أجل، إن في قلبه ناراً تشتعل، تدفعه لأن يكون إلى جانب المظلومين، إلى جانب البائسين، إلى جانب المعذبين في الأرض. وهذا ما يعبر عنه في رسالة إلى والديه كتبها مؤخراً: "وليس الحب الحقيقي الذي يرويني حب الوطن والزوجة والأولاد والأصدقاء، بل هو أكبر من ذلك كثيراً، فهو الشعلة التي تحترق في باطن الملايين من بؤساء العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحق والعدالة. إني أؤمن بأن النضال المسلح هو الطريق الوحيدة أمام الشعوب السامية إلى التحرر. ويعتبرني الكثيرون مغامراً، وأنا مغامر حقاً، لكن من غير طراز أولئك المغامرين المنساقين وراء نزوات فردية عابرة. وإني أضحي بكل شيء من أجل الثورة والنضال المتصل".
وهكذا، حين سقط النظام الشعبي في غواتيمالا تحت الضربات الاستعمارية المهيأة بكل خبث، غادر غيفارا إلى المكسيك، ملجأ جميع الثوريين في أميركا اللاتينية، ومن هناك بدأت قصته مع فيدل كاسترو، واشتراكه في حملة غرانما التي نزلت على الشاطىء الكوبي، دوره في ملحمة سييرا مايسترا التي انتهت إلى اسقاط نظام باتيستا الدكتاتوري وإقامة نظام شعبي ثوري يسير بخطى حثيثة نحو الاشتراكية.
* *
يقول فيدل كاسترو في معرض حديثه عن أرنستو "تشي" غيفارا: "نحن الذين نعرف أرنستو غيفارا بصورة وثيقة – وأقول "نعرف" لأنه لا يمكن قط الحديث عن أرنستو غيفارا بصيغة الماضي – لا بد لنا أن نقول إن لدينا خبرة عظيمة بخلقه ومزاجه. ومهما يكن من الصعب أن نتصور أن مثل هذا الرجل، بمثل هذه السمعة وبمثل هذه الشخصية، قد قضى في معركة دارت بين دورية من المغاورين وقوات من الجيش النظامي، حتى إذا بدا ذلك أبعد ما يكون عن المنطق، فإننا نعرف أن ليس فيه شيء فوق عادي. ذلك أنه تميز دائماً، خلال كل الوقت الذي عرفناه فيه، ببسالة عجيبة، بازدراء مطلق للخطر، فهو يصنع في جميع الأوقات الأشد خطراً والأعظم صعوبة الأشياء الأعظم صعوبة والأشد خطراً. هكذا كان سلوكه في مناسبات عديدة أثناء نضالنا في سييرا ما يسترا، وفي لاس فيلاس، وكثيراً ما اضطررنا، بطريقة أو أخرى، إلى اتخاذ بعض التدابير من أجل حمايته، وقد عارضنا أكثر من مرة تنفيذ بعض الأعمال التي كان يريد انجازها، وذلك بقدر ما كنا نتبين فيه تلك الصفات الرائعة التي يتحلى بها المقاتل والإمكانات المتوفرة لديه من أجل خدمة الثورة في واجبات أو مهمات ذات أهمية استراتيجية أعظم، بحيث كنا نحميه من خطر السقوط في معركة ذات أهمية أقل.
"ولنعترف بأننا كنا نخاف دائماً من أن يقود هذا المزاج، هذه المبادرة الخاصة به، الحاصرة في جميع أوقات الخطر، إلى الموت في أية معركة. وما كان في قدرة أي إنسان أن يكون على يقين من أنه سيتخذ على الأقل حداً أدنى من تدابير الحماية. وكثيراً ما كان يتقدم في طليعة دورية استكشافية عادية...
"ولعله كان يفكر، وهو واع تماماً للرسالة التي أخذها على عاتقه ولأهمية النشاط الذي يقوم به، لعله كان يفكر – كما فكر على الدوام – بما للبشر من قيمة نسبية وما للقدرة من قيمة لا تدحض. كانت هذه الأشياء تشكل جزءاً من شخصيته..
"ولقد كنا نحب أكثر ما نحب أن نشاهده يتحول إلى صانع لانتصارات الشعوب الكبرى بالأحرى من أن يكون رائداً لهذه الانتصارات. لكن رجلاً له هذا المزاج، وهذه الشخصية، وهذا الخلق، وهو يملك على الدوام هذا الارتكاس حيال بعض الظروف، لمدعو من سوء الحظ لأن يكون رائداً لهذه الانتصارات بالأحرى منه صانعاً لها.. وإنه لمن المؤكد أن الرواد هم أيضاً صناع النصر، ومن كبار الصنّاع فضلاً عن ذلك: لكنه كان أقل الناس اهتماماً بذلك.
"وإنه لمنطقي أن يكون من المحال، بالنسبة إلينا جميعاً نحن الذين نكن له حباً عميقاً، أن نرضى بأن نشاهده وقد انقلب إلى رائد فحسب، إلى قدوة لا نرتاب مطلقاً في أنه سيكون لها وقع هائل. إنه لمنطقي أن يتألم كل كائن إنساني حين يتعرض مثل هذا الخلق وهذا الذكاء وهذه الاستقامة للدمار الحكمي

 

 


   

رد مع اقتباس