الموضوع: حرب العصابات
عرض مشاركة واحدة

قديم 30-04-09, 08:32 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

لقد توقفت عند هذه الإستشهادات، إلا أني أعتقد أنها تظهر بأكبر قدر من الصفاء والوضوح كيف أُعِد فكر الثورة الكوبية إعداداً تدريجياً، دون تخطيطات مبسطة قبلية، وكذلك دون خوف مما قد يلصق بها. وقد نشأت، من جهة أخرى، لدى فيدل أولاً، ولدى غيره من القادة الكبار أيضاً، إرادة إبعاد كل تضليل لغوي يدفعهم إلى رفض العبارة النمطية الجامدة لمصلحة الاقتراب من الواقعة عن طريق الشرح، ويمضي حتى يرتدي شكل الخطاب التعليمي الطويل الذي يلقيه فيدل كاسترو والذي تحدث عنه سارتر. إن القول أن كوبا تمضي في طريقها لإقامة ديكتاتورية مثلاً لن يفيد شيئاً كثيراً بل قد يزعج المراقب قليل الحذر. فالأفضل أن نشرح ما يجري فيها. وعندما تتلقى هذه الواقعة، بصورة لاحقة، اسماً، فسيكون هذا الاسم غنياً في مغزاه بدلاً من أن يكون صيغة جوفاء رنانة أو يحدث ارتكاسات انفعالية متأصلة الجذور تستطيع الممارسة وحدها توضيحها. وهكذا لم نقم بالثورة الاشتراكية إلا بعد أن اتخذت الثورة الكوبية تدابير اشتراكية، عام 1960، خاص في نصف الثاني منها، مدفوعة بالواقعات ذاتها، حتى بعد أن قوبلت بحماس عدالة هذه التدابير لدى صدور تصريح هافانا الثاني، والتي أكدها فيدل كاسترو، عشية الغزو، في 16 نيسان 1961. في تلك الفترة شرح تشي في نص جوهري ("كوبا، شذوذ تاريخي، أم طليعة الكفاح ضد الاستعمار"، (نشر بتاريخ 9 نيسان 1961)، أصالة الثورة الكوبية، الحركة التي اتبعت، رغم أنها "مارقة إلى حد كبير بأشكالها وبمظاهرها – ولم يكن بمقدورها إلا أن تتبع – الخط العام لجميع أحداث القرن التاريخية الكبرى، المتميزة بالنضالات المعادية للاستعمار وبالانتقال نحو الاشتراكية". ويعترف تشي بالعوامل الاستثنائية النادرة لثورتنا ("من بينها العامل الأول، والأهم، وربما الأكثر أصالة، تلك القوة الطبيعية المسماة فيدل كاسترو روز"؛ ومنها أيضاً "أن الإمبريالية الأميركية الشمالية قد ضللت ولم تستطع قط أن تقدر الأبعاد الحقيقية للثورة الكوبية") لكنه يشير بخاصة إلى "أن الجذور الدائمة لجميع الظاهرات الاجتماعية في أميركا، والتناقضات التي تنضج في داخل المجتمعات الراهنة، تثير تحويلات يمكن أن تبلغ مدى ثورة كالثورة الكوبية". في هذا النص يبلغ الفكر السياسي لدى تشي غيفارا درجة النضج. وانطلاقاً من هذه اللحظة، سنراه يتحدث في خطبه الدولية الكبرى، خطبه في بونتاديل إيسته، وجنيف، والأمم المتحدة، أو الجزائر، كناطق فوق العادي باسم العالم الثالث. إن الثورة الكوبية لم تكِّون فكراً دون أن تكِّونه في الوقت نفسه للبدان الأخرى التي تجتاز ظروفاً مماثلة لتلك التي تمر فيها كوبا: وفي طليعتها بلدان أميركتنا، وكذلك بلدان قارتين أخريين ناميتين.
وإذا كانت الثورة الكوبية قد وجدت بمساعيها هي فكراً أصيلاً، فإن ذلك الأمر يقتضي منا أن نجابه بهذا الفكر جملة من المشكلات، ستحمل بدورها هذا الفكر على الأغتناء. وسيكون تشي الممثل والشاهد الاستثنائي لهذا التفاعل في بناء الاشتراكية اليومي في بلد نام.
هذا الطبيب التائه الذي أقنعه فيدل كاسترو، في ليلة باردة من ليالي المكسيك، بأن يرافقه لتحرير بلاده، هذا المغاور الذي كلفه فيدل بشن الحرب الثورية من أول الجزيرة إلى آخرها، هذا المحول الذكي الذي حول الممارسة العملية إلى نظرية، هو الذي سيوكل إليه فيدل بعد تسلم السلطة مراكز رئيسية في الحكومة. أولاً رئاسة البنك الوطني، لإدخال الاستقرار على الوضع الخطير للقطع النادر، ثم وزارة الصناعة المكلفة بتنسيق وتكبير الصناعة التي أممت فجأة في بلد قليل التنمية، والذي قُطع، بالإضافة إلى هذا، قطعاً فظاً عن المصدر الذي يكاد يكون المصدر الوحيد للمنتوجات المصنوعة. كانت القضية أن تظل الأمة واقفة على قدميها وأن تكون في حالة تمكنها من العمل.
كان على تشي أن يتصدى لمشكلات اقتصادية ملموسة في سبيل إنجاز هذه المهام الجديدة التي سيخرج منها أيضاً ظافراً. فالثورية، بطبيعة الحال، لا تأتي جاهزة: أنها على الدوام سلسلة من المهام التي يجب على الناس تحقيقها، تحقيقاً حسناً أو سيئاً. ولا توجد صيغ يجب تطبيقها بصورة آلية. إن الثورة تثبت، بمعنى مختلف عن المعنى الذي فكر به كروتشه Croce، أن التاريخ هو فعلاً "مأثرة من مآثر الحرية". فأمام كل مشكلة جديدة تنبجس المسألة اللينينية: ما العمل؟ ولا جدوى من البحث عن الجواب في أي كتاب. بل يجب أن يأتي الجواب، كما نصح لينين بالذات، من "التحليل الملموس للأوضاع الملموسة". فتشي يجد نفسه إذاً مرغماً على أن يأخذ بعين الاعتبار وقائع مثل طبيعة التخطيط الاشتراكي، تبعاً لوضع كوبا الملموس، وحسب الصلة الديناميكية لهذا الوضع مع العالم أجمع، ويستنتج من هذا التحليل مميزات نظام التمويل في الميزانية على الحساب الاقتصادي، وهذا يجره إلى مهاترات سياسية مع شارل بيتلهايم ذاته. وللأسباب ذاتها يصر على أولوية الحافز الأخلاقي على الحافز المادي إذا أردنا حقاً بناء مجتمع اشتراكي، لكنه طبعاً لا يقول بالحافز الأخلاقي حصراً: فنحن لا نرى كيف يمكن التوصل إلى هذا المجتمع الاشتراكي إذا حرضنا لدى الناس الشهوات التي تقوم عليها الرأسمالية. وليس هذا ما يقترحه تشي: "لا ننكر الضرورة الموضوعية للحافز المادي، لكننا نرفض فعلاً أن نستخدمه كدافع أساسي" ("حول نظام الميزانية..."). وبالمقابل، ليس من الخيال في تشي، بل لا بد منه لهذا البناء الجديد أن نحفز الإنسان إلى اتخاذ موقف جديد تجاه العمل")، موقف يتيح تطمين شاعر تشي المفضل، ليون فيليبه L. Felipe، الذي رأى بقلق تعارض العمل واللعب. فهل من الضروري أن نصر على الانفعال الذي نعانيه ونحن نرى هذا الرجل، هذا تشي يبدأ خطاباً في عمال مثاليين وينشد أبياتاً للشاعر الإسباني الكبير؟ إن ما لم ينسه تشي أبداً، وهو غارق في عمله، أو في نظرياته، هو الغائية الحقيقية لثورة ما: خلق كائن بشري أفضل، "إنسان جديد"، حسب تعبيره هو. وإذا كان تشي يناقش قانون القيمة، وخطر البيروقراطية، والإطار الثوري، وصفات الشيوعي الشاب، وبناء الحزب، فهذه الفكرة هي التي تجوب شواغله كلها. ما أهمية عنف العمل أو ضحالة الفكرة، فهذه أو ذاك، لدى الثوري، مسخّران لخدمة الإنسان. وإذا كان الأعداء يستطيعون طمس هذه الحقيقة، فإن واجب الثوريين، أن يرددوها ويشرحوها.
"إن وزن هذا البناء، بناء العقل الإنساني ] كتاب رأس المال[ يبلغ حداً يجعلنا ننسى في الغالب الصفة الإنسانية (بالمعنى الأفضل للكلمة) لقلقه... فالإنسان هو الذي يهمنا الآن... كان ماركس يفكر بتحرير الإنسان، وكان يرى الشيوعية حلاً للتناقضات التي أنتجت انحطاطه..."
وقد بلغ هذا الموقف الذي وقفه تشي تعبيره الأصفى والأوضح في النص الأخير الذي كتبه قبل رحيله عن كوبا في الرسالة الرائعة التي وجهها إلى كارلوس كويجانو، مدير الصحيفة الأسبوعية مارشا، والتي نشرت تحت عنوان "الاشتراكية والإنسان في كوبا": لقد كانت، بمقدار ما، تلخيصاً، وحصيلة. وعندما نشر هذا النص في كوبا (وأذيع على نطاق واسع جداً) كان تشي قد غادر البلاد.
يستحيل أن نتجنب في هذه الصفحات المسألة التي يطرحها كثير من الناس في العالم أجمع والمتعلقة بتشي: لماذا غادر كوبا؟ أعتقد أن على هذه المسألة أن تدخل في حسابها أموراً عديدة: هي أن تشي فعلاً أميركي – لاتيني، مثل الفنزويلي سيمون بوليفار،والأرجنتيني جوزيه دوسان مارتان، والدومينيكي ماكسيمو غوميز – أو المارتينيكي فرانتز فانون الذي كان تشي يحبه كثيراً – الذين ناضلوا كلهم في سبيل بلاد أخرى غير تلك التي ولدوا فيها، وغالباً في سبيل عدة بلدان، وأن كوبا هي واحدة من بلدان عديدة في أميركا اللاتينية التي عاش فيها تشي، وأن الثورة الكوبية هي إحدى ثورتين أمركيتين – لاتينيتين اشترك فيهما تشي (الثورة الثانية هي الثورة الغواتيمالية)، وأنه ما يزال في أميركا اللاتينية – وفي العالم النامي بصورة عامة – كثير من الثورات تنتظر التفجير. وأن هذه الثورات الجديدة التي تطالب الشعوب بها بإلحاح هي كالثورة الكوبية فصول لثورة واحدة. وفي عام 1959، عندما نزل الجيش المتمرد من الجبال كان الناس البسطاء في كوبا مقتنعين أن تشي سينطلق بين لحظة وأخرى للاشتراك في تحرير بلد آخر مستبعد. بيد أن الثورة الكوبية التي بدأت لتوها كانت بحاجة إليه لتوطيد كيانها. وكان آنذاك مثالاً للعامل المتفاني، وبطل البناء. وبعد ست سنوات، عندما خاضت هذه الثورة معركتها الأولى، وعندما عرفت جيرون، وتطهير إيسكامبري، وأزمة تشرين أول، عندما نظمت معاملها وأريافها على أساس الإنتاج من أجل الشعب، اعتبر تشي أن هنالك "أراضي أخرى في العالم" بحاجة أمس إليه.
إن أولئك الذين يتهمون الثوريين بأنهم تقييديون بشكل أعمى هم أول من يرفض عنصر الحرية. والجدة، والإبداع في التاريخ. فما أن رأوا تشي يغادر كوبا حتى نبشوا من القبر أزواجاً شهيرة زعموا استخدامها لتجنب التفكير في ظاهرة لم يتوقعوها وفهم هذه الظاهرة، فالعاطفيون أخذوا يتحدثون عن بوليفار وسان مارتان، وسيِّئو النية اقترحوا أسماء أخرى.. الحقيقة أن التاريخ يمتلك الآن تشاركاً جديراً لا تستطيع التشاركات السابقة تفسيره بأي شكل ولا تستطيع رده إلى تبسيطات سابقة: إنه فيدل كاسترو وأرنستو غيفارا. وإنه لأمر رائع أن نرى كم يكمل هذان الرجلان أحدهما الآخر: فمن جهة الهزة البركانية للرجل الذي يعتبره تشي ذاته "تلك القوة من قوى الطبيعة المسماة كاسترو روز" ومن جهة أخرى تلك الرغبة الجامحة لدى تشي في صنع المفاهيم. إن اللحظة التي تتداخل فيها هاتان الوظيفتان – واللحظة التي نعيشها واحدة منهما – ليست أقل ما في هذا الحوار من جمال: فنحن نرى فيدل يثبت فكره ( وهذا يقوده إلى الدخول في مهاترات من أجل توضيح فكره) لأنه على وجه الضبط الزعيم الأول للثورة ونرى تشي يندفع في العمل، ليكون مرة أخرى، أميناً لنظريته. وهكذا يسعد الثورة الأميركية – اللاتينية الحالية أن يكون على رأسها رجلان يختفي لديهما التفرع الثنائي القديم الرأس المفكر – والذراع المسلح، ويذوب في واقع جديد ملتهب. فلماذا قرر أحد الرجلين، ذاك الذي لم يولد في كوبا لكنه خدمها خدمة لم يؤدها إلا القلة من الكوبيين، أن يعود من جديد إلى القتال، في سبيل حرية أرض أخرى هذه المرة؟ إن القراء لا يملكون كما لا أملك أنا معطيات كافية للإجابة. بيد أن الرجل الذي يستطيع التحدث عن هذا الموضوع، في الوقت الأنسب: فيدل كاسترو، قال في ختام مؤتمر القارات الثلاث الذي يجسداً تجسيداً رائعاً المثل الأعلى لفيدل وتشي على السواء:
"إنضم إلينا الرفيق غيفارا عندما كنا منفيين في المكسيك. ومنذ اليوم الأول لم تكن تفارقه الفكرة التي عبر عنها بوضوح، وهي أنه عندما ينتهي الكفاح في كوبا، فإن عليه واجبات أخرى يجب أن يقوم بها في أمكنة أخرى، ولقد قطعنا له على أنفسنا وعداً بأننا لن نطلب منه البقاء في بلادنا، من أجل أية مصلحة للدولة، وأية مصلحة قومية، وأي ظرف، ولن نمنعه من تحقيق هذه الرغبة أو هذه الدعوة. وقد وفينا وفاء تاماً مخلصاً بهذا الوعد الذي قطعناه. للرفيق غيفارا."


 

 


   

رد مع اقتباس