لا تسهل الإجابة على مثل هذه الأسئلة، إنما تساعد عليها المقارنة بين ما يقوله الحلف عن نفسه، وما يمارسه على أرض الواقع.
لا يرى الحلف نفسه مجرد حلف عسكري، بل يؤكد أنه مجموعة ديمقراطية ليبرالية مؤسسة على مجموعة من القيم أهمُّها الديمقراطية، وعليه فقوامه دعامتان: هوياتية وعسكرية. وقد تعززت الدعامة الهوياتية بمرور الزمن، خاصة مع تحول كل أعضاء الحلف إلى ديمقراطيات. كما أن توازن الرعب النووي فتح المجال للتركيز على الصراع السياسي والأيدولوجي لاستحالة المواجهة العسكرية المباشرة، فكان تعزيز القيم الديمقراطية الليبرالية في حد ذاته تعزيزاً للحلف.
تقسيم العالم إلى "أمم حرة" و"دكتاتوريات" الموروث عن الحرب الباردة، استمر بعد نهايتها ليترسخ في النسق العقدي للقادة الغربيين. ولم يكن الخوف من التهديد السوفياتي يخص الجوانب العسكرية فقط، بل كان يشمل إمكانية تخريب الأنظمة الديمقراطية من الداخل (أعمال انقلابية لأحزاب شيوعية). وهذا ما يعزز فكرة غلبة الدعامة الهوياتية على العسكرية، على الأقل من حيث مدركات التهديد. ويدل استمرار الحلف بعد اختفاء هذا التهديد على قوة الروابط الهوياتية، إذ لولا السند الهوياتي لما تمكنت المصالح الإستراتيجية وحدها من الإبقاء على الحلف.
بالمقابل لا تكفي منظومة القيم المشتركة، بل يجب توافر مصلحة مشتركة. واختلاف مصالح الحلفاء سبب حالة الارتياب الهوياتي التي يمر بها الحلف أحيانا، إلا أن الدعامة الهوياتية تبقي دائما على خط التضامن الضروري. وللحلف وظيفة أمنية، فهو يحافظ على استقرار أوروبا حائلاً دون عودتها إلى صراعاتها التقليدية، وبالتالي فإمكانية تعبئة المرجعية الهوياتية للمجموعة الديمقراطية الأوروأطلسية هي التي أعطت معنى جديداً للحلف الذي ينحو لتكون الغلبة فيه للبعد الهوياتي على الوظيفة العسكرية التقليدية.
وربما يكمن نجاح حلف شمال الأطلسي في أنه شدد على القيم المشتركة بين الدول الأعضاء لأنه لا جدال فيها، بينما المصالح قد تختلف، لذا كانت القيم المشتركة المحرك الأساسي للحلف ومبرره الشرعي، فأثر في سلوك أعضائه لأنه يذكرها بعمق هذه القيم المشتركة التي تُستدعى كلما اقتضت ضرورة الخلافات ذلك للإبقاء عليها تحت سقف منخفض ومحدود.
وهكذا يعمق الحلف وعي دوله بالانتماء إلى مجموعة أطلسية ذات هوية واحدة، مساهماً بذلك في صياغة وصقل الذات الأطلسية وبالتالي صياغة علاقتها البينية وعلاقتها مع الآخر. وحتى حينما تصل الخلافات إلى مستويات عالية (كما كان في غزو العراق)، فإن الحد الأدنى من التضامن الغربي البيني يبقى قائماً بفضل هذه الأرضية المشتركة من القيم والهوية الواحدة. فدول الحلف المناوئة للتدخل الأميركي في العراق لم تتمنَّ هزيمة الولايات المتحدة هناك، لأنها لا تريد ولا تتصور دعم هزيمة قيم الحرية والديمقراطية أمام الدكتاتورية بغض النظر عن الأهداف الإستراتيجية الأميركية. وقد ساهم الحلف بشكل كبير في هذا الوعي والهوية الإستراتيجيين.
إنما يلفت النظر ظهورُ انفصام بين النظرية والتطبيق على صعيد منظومة القيم منذ نشأة الحلف الأولى، فقيمة الديمقراطية في وثيقة تأسيسه لم تمنع أن تكون البرتغال من الدول المؤسسة له رغم طبيعة الحكم الاستبدادي العنيف فيها آنذاك، ويصعب تفسير ذلك بمقولة إن ذلك كان مدخلا لدفع البرتغال في اتجاه الديمقراطية، فمثل ذلك لم يُتّبع مثلا مع الدولة الإسبانية المجاورة، وكان استبعادها عن المشاركة في تأسيس الحلف في عهد حكم فرانكو الاستبدادي بذريعة عدم توافق هذا الحكم مع قيم الحلف.
هذا التناقض يزول عند النظر في متطلبات الجانب العسكري، أي حاجة الحلف عسكريا إلى موقع البرتغال على ساحل الأطلسي، بينما كان وجود الأسطول الأميركي في البحر الأبيض المتوسط مع اعتماده على السواحل الإيطالية، يغني إستراتيجياً عن موقع إسبانيا البحري.
ويسري شبيه ذلك على التعامل مع عضوية تركيا واليونان في الحلف، فقد كان العامل الحاسم هو الموقع الجغرافي من وجهة نظر أمنية عسكرية، ولم تلعب أوضاع تطبيق الديمقراطية في البلدين دورا كبيرا.
ويظهر الربط السببي بين منظومة القيم كما يراها الحلف وبين شبكة تطوير صيغه الأمنية العسكرية في مواجهة العدو، من خلال شعاره الدائم "اليقظة ثمن الحرية"، والمقصود هو اليقظة الأمنية العسكرية.
يمكن إذن تثبيت حقيقتين اثنتين:
أولاهما
أن منظومة القيم لعبت فعلا دورا حيويا في إحداث الانسجام الداخلي بين أعضاء الحلف وتعزيز جبهته، خصوصا خلال الحرب الباردة في مواجهة حلفٍ مقابل (حلف وارسو) يقوم على صرامة الأيدولوجية. كما أن هناك اليوم رغبة في استعادة مقولة القيم الثقافية والسياسية ضمن سياق سعي الحلف إلى التوسع شرقا في الفضاء الإسلامي وعلى تخوم روسيا والصين، إلا أن منظومة القيم تظل في نهاية المطاف خادمة -بشكل أو بآخر- للإستراتيجيات العسكرية والمصالح السياسية الكبرى، فالحلف الأطلسي في جوهره مظلة عسكرية إستراتيجية -وليس ناديا ثقافيا أو فكريا- تشغلها قضايا الأمن وتعزيز التفوق العسكري أكثر من سواها.
الثانية
أن الهويات لا تولد مكتملة بداية، بل هي صيرورة تاريخية تختلط فيها الثقافة والقيم بالمصالح السياسية والعسكرية. وعلى هذا الأساس، فمع التسليم بوجود هوية مشتركة بين دول الحلف، فإنها عند التحقيق نتيجة سياسات وخيارات كبرى للدول الفاعلة والمؤثرة في الحلف، وليست مجرد انعكاس آلي لمنظومة الثقافة والقيم السياسية. ففرنسا ديغول مثلا التي رفضت الانضمام إلى الحلف منذ تشكيله ليست مختلفة من ناحية الهوية والقيم عن بقية الدول الأعضاء، بقدر ما كانت مختلفة من جهة سياساتها الدفاعية والأمنية. كما أن تركيا حينما تم ضمها إلى الحلف لم تكن ليبرالية بمقاييس السياسة والاقتصاد، بقدر ما حكمت الحلف اعتباراتُ الإستراتيجية العسكرية الكبرى، وفي مقدمة ذلك جعلها بمثابة منطقة عازلة للخطر الشيوعي السوفياتي.