عرض مشاركة واحدة

قديم 10-02-11, 07:49 PM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
البواسل
مشرف قسم العقيدة / والإستراتيجية العسكرية

الصورة الرمزية البواسل

إحصائية العضو





البواسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي رؤية حول الثورة والتغيير



 

رؤية حول الثورة والتغيير
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

المحبوب عبد السلام

في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964 اكتملت في الخرطوم العاصمة السودانية وقائع انتصار أول ثورة شعبية في العالم العربي وأفريقيا وفقاً لتعريف العلوم السياسية لظاهرة ”الثورة الشعبية“، أطاحت بالحكم العسكري للفريق إبراهيم عبود وطغمته التي استولت على السلطة في انقلاب أبيض (تسليم وتسلم من الحاكم المدني السابق رئيس الوزراء إلى قائد الجيش) في العام 1958.


إذا جاءت تلك الثورة السودانية لأوائل النصف الثاني من القرن الماضي، في دولة عالمثالثية مهما تكن نامية، فقد تأسَّست فيها الشروط الأدنى للدولة المعاصرة (خدمة مدنية راسخة، جيش قومي، تعليم نظامي، إعلام عابر للأقاليم، جهاز قضائي، مشاريع اقتصادية ثم حكومة مركزية وأخيراً ملامح طبقة وسطى)، كما توفَّر حدٌ مقدَّر من أنماط الحياة الحديثة وخدماتها ووسائل النقل والاتصال والصناعة.

جانبت تلك الثورة وجهاً من وجوه النظرية التقليدية التي تجلَّت في غالب الثورات الأوروبية، أن يثور جزء من النظام على النظام (البرلمان أو عناصر في العائلة المالكة أو حكام الولايات)، لكن الذين قاموا بالثورة السودانية تلك هم القطاع الحديث الذي هو بوجه من الوجوه بعض منتوج الدولة الحديثة: طلاب جامعة الخرطوم، المؤسسة التعليمية الأرقى في البلاد التي أسَّسها المستعمر البريطاني في عام 1904، أساتذة الجامعة وعمداء كلياتها ثم الهيئة القضائية، وأخيراً اكتمل انتصار الثورة بانضمام كل القطاع الحديث – عمال، أطباء، مهندسون، موظفون، رجال أعمال – إلى موقف العصيان المدني الشامل.

أما قيادة الجيش التي ثار الشعب عليها فهي تمثل كذلك جزء من النخبة الحديثة، رأت التظاهُرات تملأ شوارع العاصمة وتمتد إلى الريف فسلَّمت بعد بضعة أيام حكم البلاد إلى سلطة انتقالية كوَّنتها الهيئات النقابية التي شلَّت البلاد بالإضراب العام ريثما تُكمِل المهمة بانتخابات عامة.


لكن المؤسسة السياسية الأهم في أطر الدولة الحديثة التي تنخرط في السياسة مباشرة، أي الأحزاب السياسية، فرغم أنها تأسَّست في السودان قبل نحو عقدين من فجر الثورة الأكتوبرية فلم يكن دورها كبيراً أو حاسماً في أحداث الثورة أو قيادتها، فقد حظرها الحكم العسكري لأول مجيئه، ثم هي قامت على أرضية طائفية دينية في الشمال، أو قبلية أفريقية في الجنوب تعبِّر عن مجتمع غير سياسي في ذات معاني السياق الحديث، فاجأتها الثورة كما فاجأت الجميع، بما في ذلك قادة القطاع الحديث الذين أشعلوا شرارتها الأولى وقادوها بالفعل، إذ جاءت شهاداتهم جميعاً متواترة أنهم إلى حين سقوط الشهداء واندلاع المظاهرات والحرائق وارتفاع الهتافات والشعارات لم يتصوَّروا أن يتهاوى الحكم العسكري على ذلك النحو السريع ويُسلمُ لهم أمر البلاد.


وإن كان لابد لكل ثورة من عقيدة أو نظرية أو كلمة، فقد جاءت الثورة السودانية في منتصف القرن الماضي ساذجة الشعارات تصوِّب نحو رموز النظام وقادته بلغة دارجة بسيطة، سوى نخبة يسارية موصولة بالوعي العالمي الاشتراكي جعلت الهجوم على البنك الدولي، مثلاً، جزءً من خطاب حملتها ضد نظام الفريق إبراهيم عبود. لكن كانت في السودان ملامح طبقة وُسطى جعلت الثورة الشعبية ممكنة بأسباب من غفلة العسكر الحاكمين عن ضرورة إشباع الفراغ السياسي، إذ لم تكن المطالب الاقتصادية حادة ولم يكن عامة أهل السودان يستشعرون أهم مأزومون بظروف البطالة أو مجانية التعليم والعلاج أو صحة البيئة، فلم يكن الوعي الاقتصادي قد اشتد كما هو الحال اليوم، بل كانت بيئة بسيطة تأكل مما تزرع ولا تكاد ترى فوارق طبقية في ظاهر صفحة الحياة أو في موائد الأغنياء إذا نُسبت إلى موائد الفقراء، يأكلون جميعاً ذات الطعام الزهيد. والحق أن جنرالات انقلاب 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 في السودان قد صوَّبوا نحو مشروعات للتنمية بدت معقولة ضمن الظرف التاريخي السياسي، ولكنهم عطَّلوا الفعل السياسي بالتمام، وكبتوا الحريات بغير عسفٍ عنيف سوى اعتقالات لبعض قادة الأحزاب قبل أعوام من تداعي أحداث ثورة أكتوبر/ تشرين الأول 1964 وسقوط الشهداء ثم سقوط بأسرع مما توقع الجميع.
الثورة الإيرانية إحدى أبرز ثورات القرن العشرين

بين الثورة السودانية الأولى في أكتوبر/ تشرين الأول 1964 والثورة السودانية الثانية في أبريل/نيسان 1985 كانت الثورة الإيرانية الإسلامية في العام 1979 نمطاً جديداً باهراً في العالم الإسلامي، فقد تقدَّم العالم شيئاً في وسائل الاتصال وظهرت منذ منتصف العقد التسعين تقريرات الأمم المتحدة ومنظماتها تصف العصر بأنه ”عالم واحد يستمع إلى أصوات عديدة“، فقد ظهر جلياً أن الفضاء سيغدو عمَّا قريب محدوداً إزاء نمو قنوات الاتصال لا سيما التلفزة نحو كثافة وشيكة. لم تستعمل تلك الوسائل لمدى طاقتها القصوى لكنها حملت إلى أحياء طهران الفقيرة وإلى المدن الإيرانية الأخرى صوت الإمام الخُميني معبأ في أشرطة الكاسيت ومبثوثاً من أجهزة التسجيل على شُرُفات المنازل وسقوفها، فقد ظهر مع إرهاصات الثورة مركز للقيادة الدينية الملهمة، حمل الطمأنينة إلى الجماهير المنتفضة أنها موصولة ببؤرة الضوء التي ستقودها إلى المستقبل مهما تكن نُذُر التضحيات جسيمة في وجه نظام الشاه المستبد بقوَّته، ومهما تكن تلك القيادة بعيدة في فرنسا ولكنها قريبة بما أتاح العصر من اتصال وإن لم يبلغ حال القرية الواحدة كما هو اليوم، وبتنظيم فني يواكب حالة الثورة وتطورها وإن لم يكن ناجزاً إذ لم يُتح تسارع الأحداث من فئة مستنيرة حول الإمام في الضاحية الباريسية، تمام إحكام تنظيم الثورة.


والغريب أن الكاتب البريطاني المختص في شئون الشرق الأوسط ”ألفريد هوليداي“ أصدر قبل بضعة أشهر من اندلاع الثورة وانتصارها السريع كتاباً بعنوان: ”النفط والثورة في إيران“ يتنبأ فيه بهبَّة الشعب الإيراني ويلتمس أسباب الثورة في الاقتصاد والفقر ووعي العصر وفي التاريخ الشيعي، لكنه لم يكن يتوقع أن تأتي الثورة إسلامية خالصة بقيادة شيخ طاعنٍ في السن، وأن يكون مفكر الثورة وملهم شعاراتها هو الدكتور علي شريعتي المفكر الإسلامي وليس أياً من رموز الماركسية أو الليبرالية الإيرانية، وأن تغدو كلماته شعارات الثورة الملهمة ”الشهيد روح التاريخ“.


إذن توالت أحداث الثورة الإيرانية وإيقاعها بأسرع مما توقع العالم، فقد استعادت جماهير الشعب الإيراني كل تراث الفداء والغضب الشيعي من التاريخ ليغدو حياً تنضح به الشوارع التي امتلأت عن آخرها، تمده أزمات الاقتصاد والمعاش والفوارق الطبقية الفاحشة ومنهج الشاه الاستبدادي الاستفزازي في الحكم، وصور احتفالاته الباذخة بعرش ألف ليلة وليلة قبل عام من الثورة، ثم تراث قريب من ثورات 1905 وثورة مصدَّق والكاشاني لمنتصف العقد الخمسين. أما النُخبة وفئاتها فقد تجاوبت مع الثورة، ولكن المد الشعبي استوعبها كقطرة في محيطه، وعندما انهارت طواقم دبابات الجيش وهربت أمام صفوف الشهداء التي واجهتهم بصدورها صفاً بعد صف، كانت طائرة الشاه تبحث عن ملجأ تضيق عليها الأرض بما رحبت، وكان الخميني يواصل غفوته المطمئنة على أرضية طائرة الخطوط الجوية الفرنسية ريثما تهبط في مطار طهران ويشهد العالم كله في عصر التلفزيون الشيخ الثمانيني ملهم الملايين التي أحاطت بمقدمه الميمون.

 

 


 

البواسل

ليس القوي من يكسب الحرب دائما
وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما

   

رد مع اقتباس