عرض مشاركة واحدة

قديم 16-01-22, 07:10 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الذكرى الـ«58» لسقوط سلطنة زنجبار «شهود على الأحداث» الجزء «2»

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


■ ■ في حدود الساعة (2:45) من فجر يومِ الأحد، 26 شعبان 1384هـ، الموافق الثاني عشر من يناير من عام 1964م، شقَّ سماء جزيرة القرنفل الهادئة، دوِيُّ الرّصاص .. اعتقد الناسُ للوهلةِ الأولى، أن عُمّالَ البلدية قائمون على قتلِ الكلاب الضّالة.. استمرت طلقات الرصاص، بل وقصُرت الفجوة الزمنية بين طلقةٍ وأُخرى.. بدأت الشكوك تلُفُّ الوجدان، وتتّجه نحو تصوّرٍ بحدوثِ اضطرابٍ من نوعٍ ما.. تأكَّدت الشكوك بسماع أصوات الرّجال تتعالى بما يفيد التعبئة العامة.
■ ■

بعد أن استعرضنا في الجزء الأول من هذا الملف الشائك، لحظات سقوط سلطنة زنجبار؛ نورد تاليًا تتمّة للأحداث، على النحو التالي:
إنزاليَّات السلاح
يقول نائب مفوض شرطة الحكومة المنكوبة في زنجبار، سليمان بن سعيد الخروصي، أنه وردت معلومةٌ إلى قيادة الشرطة، تُشيرُ إلى أن هناك إنزاليات لأسلحةٍ نارية على ثلاثة من شواطئ الأحياءِ الشديدة التأييد لحزبِ المعارضة، الأفروشيرازي، وهي: (تشوكواني، ومبويني، وفومبا)، المطلة على دار السلام مُباشرةً. يقول الخروصي، إنه أرسل مدير التحقيقات الجنائية، الرائد سبيت (Speight)، على رأس قوة من أفراد الشرطة للوقوفِ على حقيقة الأمر فجاءت إفادة الأخير نافية لصحة المعلومة.


وفي الواقع، فإن هناك ما يُؤكّد أن سفينةً جزائرية، باسم (ابن خلدون)، أنزلت في تنجانيقا في غُضون الأسبوع الأول من يناير 1964م، شُحنةً من أسلحةٍ نارية؛ وأن عملية الإنزال تمت في جوٍّ من الكتمان التام. وصرَّح وزير خارجية تنجانيقا، بأن بلاده تدفع ثمن تلك الأسلحة بتصدير شُحنات من البن إلى الجزائر، بموجب اتفاقٍ معقود بين البلدين؛ وأن تلك الأسلحة إنما هي لتزويدها للجيش التنجانيقي، وليس لتسليمها إلى لجنة تحرير أفريقيا – التي يوجد مقرها في مدينة دار السلام – كما اعتقد البعض، وفقما جاء في جريدة الأهرام المصرية، بتاريخ 8 يناير 1964م، نقلًا عن الإذاعة البريطانية.


ورغم أن الأخبار المتواترة، في حينه، أشارت إلى أن شحنة السلاح الجزائري كانت في طريقها إلى المقاتلين الأحرار في موزمبيق، عن طريق تنجانيقا؛ إلاّ أن ما هو مؤكّدٌ، في المقابل، يشير إلى أن تلك الشحنة استَحصلت عليها تنجانيقا بالحيلة. حيث سافر وزير الدفاع التنجانيقي، أوسكار كمبونا، إلى الجزائر، وطلب من الرئيس الجزائري، أحمد بن بلة تزويده بشحنةِ السلاح، بصفته (كمبونا) رئيسًا للجنة تحرير أفريقيا، بعد أن أوهمه أنها ضرورية لعمل اللجنة، وذلك وفقما أشار سليمان بن شحبل، في كتابه (زنجبار: صعود وسقوط دولة مستقلة). ومع ذلك، فهناك في المقابل، معلومات مُؤكّدة، تُشيرُ إلى أن الرّئيس نيريري توقّف في العاصمة الجزائرية، في طريق عودته من أمريكا إلى بلاده، في الفترة 25-28 يوليو 1963م، وطلب صراحةً من الرّئيس أحمد بن بلة أن يطلب من الرّئيس عبد الناصر وقف مُساندته للحزب الوطني، أو تحديدًا، للحكومة الائتلافية المنتخبة؛ بعد أن أوهمه بأنها حكومةٌ عنصريّة موالية للإمبرياليةِ الإنجليزية (حسب اللقاء الذي أجريته مع الدكتور حارث الغساني، نقلًا عن لقاء الأخير مع الرئيس الأسبق أحمد بن بلة). ولعلّ هذا ما يُبرّرُ اللقاء الذي أجراه أحمد بن بلة بعبد الناصر في القاهرة، فورَ الإطاحةِ بالحكومة، حيث نصحه بعدم التدخّل في شئون زنجبار؛ مسوغًا ذلك بالقول: إن ما يحدث في زنجبار إنما هو ثورة اجتماعية، يقودها شبّان عرب راديكاليين، من أمثال علي سلطان وعبد الرحمن بابو (سليمان بن شحبل، ص 411).


يصبُّ في الوعاء ذاته، ما أكّده القبطان شاندلر، قبطان السفينة السلطانية (السيد خليفة) للرائد وارينج، قائد الشرطة المتحركة، عندما جمعهما لقاءٌ في دار السلام، بعد سقوط زنجبار بأيام قلائل؛ حيث قال له: إنه شاهد سفينة جزائرية راسية في ميناء دار السلام – قبل الأحداث المأساوية بأيامٍ معدودة – تفرّغ حمولتها، ومن ضمنها كانت مجموعة من سيارات الإسعاف؛ وأن هذه السيارات لم تخضع لإجراءات التفتيش المعتادة؛ وأنه بالتالي، يعتقد أنها كانت محمّلةً بالسّلاح (تقرير ضابط الشرطة توماس وارين، الأرشيف الوطني البريطاني، الوثيقة رقم: Do 185/‏‏59(.

وبمناسبة الحديث عن أوسكار كمبونا، الذي عُرف بـ(رجل تنجانيقا القوي)، فقد يكون من المناسب الإشارة إلى الكيفية التي تم بها التّخلّص منه. يقول الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه (زنجبار: الصراعات والوئام): إن كمبونا كان من أشد المؤيّدين للرئيس التنجانيقي، جوليوس نيريري، إلاّ أن الأخير، وكما هي عادته، كان يُخطّط للخلاص منه، بعد أن سطع نجمه. ففي المحاولة الانقلابية التي تعرضت لها تنجانيقا بعد الانقضاض على زنجبار بأسبوعٍ واحد فقط – والتي كانت في حكم الناجحة – كان الرئيس نيريري قد اختفى حيث المجهول، وكذا وزراؤه؛ إلاّ أن كمبونا تدخل بدورٍ حيويّ، وذلك بأن أجرى تنسيقًا مع القوات البريطانية؛ التي بدورها أعادت الرئيس إلى دفَّة الحكم، بعد أن نجحت في إخماد الانقلاب العسكري. نظرت جماهير العامة إلى كامبونا كبطلٍ قوميّ، واشتدّت شعبيّته بشكلٍ منقطع النظير، ونُظمت له الأناشيد والأغاني الشعبية الحماسية.


هنا شعر الرئيس بخطورة الرجل على مركزه، ورأى أنه لابد من كسر شوكته؛ فعمد إلى سحب حقيبة وزارة الدّفاع منه وسلّمه أُخرى ليست ذات سيادة. المقرّبون من كمبونا، ومنهم إخوته، نصحوه بالهروب من المصير المشئوم الذي ينتظره؛ ففعل ذلك وهرب إلى بريطانيا. جاءت ردّة فعل الرئيس نيريري مؤكّدة لنواياه الخبيثة؛ إذ أمر فورًا باعتقال إخوة كمبونا، وألقى بهم في غياهب السجن. وفي بريطانيا، انضمّ كمبونا إلى الجماعة التي كان يقودها أحمد بن سيف بن ناصر الخروصي، التي كانت تسعى إلى عملٍ مُضاد، لاسترداد الشرعية في زنجبار؛ كما وسافر بعد ذلك إلى القاهرة لمقابلة علي محسن البرواني، وزير خارجية الحكومة المنكوبة، فور خروجه من السجن في عام 1974م، وأقرّ له بخطئه الفادح حينما طاوع الرئيس نيريري في مسألة توجيه شُحنة السلاح إلى زنجبار. (وفق اللقاء الذي أجريته مع البرواني، في سنة 2005م).

وممّا يُذكر، فإن تحريات الحزب الوطني أكّدت، قبل الانقضاض على الشرعية ببضعةِ أيام، أن رجالات حزب الأمة، شوهدوا وهم يُنـزلون السّلاح على الشاطئ في أوقاتٍ متأخرة من الليل؛ كما شوهدوا كذلك يتدرّبون على السلاح في الغابات. هذه المعلومة أكّدها العقيد علي محفوظ (أحد أبرز قيادات حزب الأمة) لعلي محسن البرواني، عندما تشاركا زنزانة واحدة في “سجن دودوما” في تنجانيقا. جديرٌ بالذكر، أن رجالات حزب الأمة، الذين كانوا قد تلقّوا تدريبات عسكرية في كوبا، كثيرًا ما سُمعوا يرددون على الملأ عزمهم على الإطاحة بالحكومة، سواءً بالقوة أو بالحيلة، إذا ما فاز الحزب الوطني في الانتخابات.


والحقّ، فمهما قيل عن موضوع شحنة السّلاح التي وُجّهت إلى زنجبار، فالثابت يُشير إلى أن الإطاحة بالحكومة تمّت بأسلحة الشرطة، التي تم الاستيلاء عليها من المخازن، حسب الإبانةِ التي أوردناها في الجزء الأول من هذا المقال. (تقرير ضابط الشرطة توماس وارينج، الأرشيف البريطاني). تؤكّد وكالة الاستخبارات الأمريكية هذا الرّأي، وذلك بالإشارة إلى أن شحنة السلاح والذخيرة التي حصل عليها حزب الأمّة من تنجانيقا، بقيت في مخبئها إلى أن سقط النظام الشرعي (تقرير استخباراتي، زنجبار: ثورة المائة يوم، رفع عنه التصنيف 2007م). وإذا كانت لمسألة إنزاليات السلاح من دلالة، فإنما تدلُّ على وجود مُخطَّطٌ آخر للإطاحةِ بالحكومة، حسبما سيأتي ذكره لاحقًا.


هل كان للإنجليز دورٌ في الإطاحة بالحكومة ؟
إن شتات ما خلَّفه التاريخ عن ملف زنجبار، يدفع كل ذي لُبٍّ إلى تساؤلٍ محوريٍّ وخطير، حول مدى التدخل الإنجليزي في الأحداث التي أطاحت بالحكومة الشرعية؟ وما إذا كان من الجائز التسليم أصلًا بوجود تدخلٍ من نوعٍ ما؟ يمكن القول، وبحق، إن الإجابة على مثل هذا التساؤل ليست بالأمرِ الهين، إذ لا يمكن بحالٍ من الأحوال الجزم يقينًا بوجود يدٍ إنجليزيةٍ خفية وراء الإطاحة بالدولة؛ إلّا أن ما يمكن الإشارة إليه في هذا الصّدد، يتمثل في التأييد الإنجليزي بل والتسهيل لبلوغِ النتيجة المأسوف عليها؛ ناهيك عن وجود العديد من الأدلةِ الظرفية التي تشيرُ بأصابعِ الاتهام إلى الإنجليز – كأشخاصٍ على أقلّ التقديرات – بالتدخل لإيجاد الظروف الملائمة لإنجاح مخطّط الإنقضاض على الدولة.

ينبغي أن نستحضر في هذا السياق، أن أمن الدولة حتى لحظة الإطاحة بالنظام كان بيد الإنجليز: فمُفوِّض الشرطة كان إنجليزيًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى كلٍّ من: قائد الشرطةِ المتحركة PMF، وقائد القسم الخاص Special Branch، ومأمور السجن المركزي؛ وكذا عدد كبير من كِبار الضباط. مُؤشرات القيام بأعمالِ شغَبٍ عنيفة؛ وبالتالي، الإطاحةِ بالحكومةِ الشرعية، كانت واضحةً أمام كل هؤلاء، إلا أنهم تعمَّدوا عدم التدخُّل لإنقاذ الموقف؛ بل تدخلوا بأعمالٍ إيجابيةٍ، حسب ما أورده سليمان بن شحبل في كتابه، لإفساحِ المجال لإتمام ذلك، وضمان شل حركةِ أية مُقاومةٍ مُحتملة،وفق ما سنرى في الأدلة الظرفية التالي بيانها:


أولاً: عدم اتخاذ التدابير اللازمة لحفظ الأمن:
فرغم أن مُفوض الشرطة، كان قد تلقى تبليغًا رسميًا من رئيس الوزراء، مَفاده أن الدولة ستتعرض لاضطرابٍ أمنيٍّ شديدِ الحرج، من طرف أتباع حزب المعارضة، وأن ذلك التبليغ حدث قبل الاجتياح الغوغائي بما ينوفُ على الأربع والعشرين ساعة؛ إلّا أن المفوض لم يُكلف نفسه باتخاذ التدابير اللازمة لحفظ الأمن والنظام العام، كإعلان حالة التأهب الأمني من الدرجة الأولى، حسبما تقضي بذلك الأصول المرعية؛ وإنما أوهم الرئيس بأن الوضع الأمني سيكون تحت السّيطرة. نتيجةً لذلك، فإن التشكيلة الشرطية الوحيدة القائمة مقام الجيش والمتمثلة في الشرطةِ المتحركة، لم تكن في حالة تأهب؛ بل أقل يقظة من كثيرٍ من الأيام العادية.


ليس ذلك فحسب، وإنما الثابت وثائقيًّا يشير إلى أن رئيس حزب المعارضة، عبيد كارومي، كان قد أَبلغ أحد كبار ضبّاط القسم الخاص، وهو الرائد بوت، (Mr. Bott)، قبل الانقضاض على الدولة بيومٍ واحد، أن اضطرابًا أمنيًّا من نوعٍ ما سيحدث، وأن هذا الاضطراب سيستهدف السّيطرة على مخزني السّلاح في كلّ من مركز شرطة زيزاني، ومركز شرطة متوني؛ وأنه بالتالي يُبرئ نفسه مُقدّمًا من أية مسئولية، لعدم اتصاله بما سيحدث. عمل الضابط أعلاه على توصيل المعلومة إلى مُفوّض الشرطة، الذي بدورِه لم يأخذ الموضوع بجدّية؛ فلم يُكلّف نفسه بالتحقيق في الأمر؛ ولا حتى بإعلان حالة طوارئ من الدرجة الأولى، حسبما تقضي الأصول الأمنية. وللأمانة، فإن الثابت أيضًا، يُشير إلى أن مُفوّض الشرطة، مرّر المعلومة إلى قائد الشرطة المتحركة، الرائد طوماس وارينج، الذي لم يأخذ هو الآخر المعلومة بجديّة؛ لاعتياده على تلقي مثل تلك البلاغات، حسبما ذكر صراحةً في تقريرِه. ويقول الأخير: إنه في ضوء تلك المعلومة، اكتفى بوضع فصيل واحد من فصائله في حالة استنفار؛ حيث زوّدهم بالهراوات والدروع فقط؛ تاركًا السّلاح والذخيرة في مخزنها، بحجة إمكانية الرّجوع إليها بسهولة، إذا ما دعت الحاجة.

علاوة على ما تقدّم، يُضيف مفوّض الشرطة في تقريره، أنّه كان قد تلقّى معلومةً، من أحد مصادره السرّية، في مساء يوم السّبت، 11 يناير، مُؤدّاها أن اضّطرابًا أمنيًّا شديد الحرج سيحدث في ذلك اليوم، وأن هذا الاضطراب سيستهدف القضاء على حياة جلالة السّلطان وكذا وزير خارجيّته، على محسن البرواني؛ وذلك كلّه، بعد السّيطرة على سلاح الشّرطة. لاشك أن معلومةً كهذه، هي بحق، كافية لتعزيز الأُولى، التي نُقلت إليه عن رئيس حزب المعارضة؛ ومَدعاةً، بالتالي، إلى رفع درجة التأهب الأمني إلى أقصى درجاته؛ إلاّ أنه، وعلى خلاف ما يدّعيه في تقريرِه، فإن شيئًا من هذا لم يحدث؛ كما أنه لم يسعَ إلى استدعاء نائب مفوض الشرطة، سليمان الخروصي، ولا الرجل الثالث في جهاز الشرطة، محمّد السكيتي، من المهمّة التي كان قد كلّفهما بها، خارج مدينة زنجبار.


ثانيًا: إبعاد أعلى قياديين وطنيين عن مدينة زنجبار:
حسب العرض التفصيلي المتقدم، عمَدَ مُفَوِّض الشرطة إلى إبعادِ نائب المفوض سليمان الخروصي، وكذا الرجل الثالث في القيادة، محمد السكيتي، بحجةِ الإشراف على الوضع الأمني، في منطقتين بعيدتين عن مدينة زنجبار. وكان من الممكن أن يُفسّر هذا الإجراء لمصلحةِ المفوض حال اتخاذه الإجراءات اللازمة للمحافظة على أمن البلاد، وكذا استدعاء القائدين أعلاه من خارج المدينة لتدعيم شوكته، فور التكليف الذي تلقاه من رئيس الوزراء باتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة حالة الشغب المتوقعة؛ أو حتى فور ورود المعلومة المنقولة إليه عن رئيس حزب المعارضة، كارومي – حسب الإشارةِ المتقدّمة –إلّا أن ذلك لم يحدث.


ثالثًا: رفع نقاط التفتيش:
علاوةً على ما تقدم، فإن الذي كان مُتَّبعًا في تلك الفترةِ الحرجة، تمثل في وضع نقاط تفتيشٍ أمنية – من أفراد الشرطةِ المتحركة – في بعضِ المواقعِ الحساسة أمنيًا، حيث كانت تبقى تلك النقاط يقِظةً طوال الليل؛ إلا أن الذي حدث في ذلك اليوم اختلف عن المألوف، إذ عمد المفوض جاك سُليفان إلى تصريف نقاط التفتيش مُنذ السادسةِ مساءً. لاشك أن غياب تلك العيون الساهرة، في الطُرقات العامة، سهَّلت للمهاجمين التسلُّل إلى أهدافهم دون عائق.


رابعًا: تغيير في بعض قادة الشرطة:
رغم حالة الاستنفار العامة التي تملَّكت رجل الشارع، في الفترةِ السابقةِ على الإطاحة بالنظام، فإن الاختلال الأمني السَّابق الإشارة إليه ما كان ليحدث، لولا التغيير الذي طرأ في بعض قيادات الشرطة، ونذكُر من ذلك قائد الشرطة المتحركة، الرائد مادان. عُرف عن هذا الرائد حِرصه وإخلاصه الشديدين للعمل، ولعلَّ التصرُّف الذي بدر منه قبل الإطاحة بالحكومة بأسبوعين خير دليل على ذلك. فلقد استشعر أن مركز شرطة متُوني سيتعرض لهجومٍ من قِبَل حزب المعارضة؛ وكرَدَّةِ فِعلٍ مُباشرة من هذا القائد الحريص، عمَدَ إلى تسليح قناصتهِ بأفضل الأسلحة، والمتمثلة في بنادق آلية من نوع Bren &Stenووضعهم في مواقع استراتيجية، في حالةِ استنفارٍ قُصوى، لحماية المركز بشكلٍ خاص، والمدينةِ بشكلٍ عام، إلى أن انحسَرَ الخطر وعادت الأمور إلى طبيعتها. المكافأة التي تلقاها هذا القائد، بعد الحادثةِ ببضعةِ أيامٍ، كانت الإحالة إلى التقاعد.

خامسًا: التصرُّف الذي بدر من قائد شرطة زيواني:


عمد قائد شرطة زيواني، الرّائد دُرَمْ، إلى سحبِ البنادق من حرَّاسِ قيادته، وتركهم مُزوّدين بالهراوات والدّروع فقط. كما أخذ معه مفتاح مُستودع السلاح، خِلافًا للنظام الذي يقضي بتركِ المفتاح مع الضابط المناوب. حدث هذا قبل بداية الاجتياح بحوالي ساعةٍ واحدة فقط. يُذكر أن هذا المركز كان يَضُم بين جَنباتهِ مُستودع السلاح الرئيس لجهاز الشرطة.


سادسا: عدم التعرُّض للإنجليز:
فور بداية الاعتداء على مركز شرطة زيواني، شاهد الكثير من العامة، الضباط الإنجليز يُولونَ الأدبار هربًا من الثكنات العسكرية، وبصحبتهم عوائلهم؛ حيث أخذوا يمرون وسط الاعتداءات الغوغائية على الأبرياء من المواطنين، دون أن يُصابوا ولو بخدشٍ بسيط. جميع المؤشرات تُرجّح تلقي القائد الشكلي للعملية التي أطاحت بالدولة تعليمات بعدم التعرُّض للإنجليز.فكل الطوائف العرقية في زنجبار، تعرَّض أفرادها للقتلِ أو الاعتداء، ماعدا الأوروبيين. وفي المقابلات الصحفية التي أُجريت مع البريطانيين الواصلين كينيا بعد الإطاحة بالنظام ببضعة أيام أفاد أحدهم: “إن الثوريين كانوا لطيفين جدًا معنا”. وقال أحد البريطانيين الذين غادروا زنجبار: “إن جميع القتلى والجرحى في زنجبار، إنما هم من العرب، وإن الثوريين امتنعوا عن إيذاء أيّ أوروبي في البلاد” (جريدة الأهرام المصرية، 16 يناير 1964م). المعاملة الخاصة للبريطانيين جعلت الكثير من العامة يتساءلون عما إذا كان هناك أيّ اتفاقٍ خاص بين بريطانيا والقائد المزعوم للإطاحة بالحكومة.

ويجدر بنا أن نشير إلى أهم التوجيهات التي أصدرها القائد المزعوم لعملية الإطاحة بالشرعية، جون أُكيلّو، لرجاله قبل تنفيذ العملية، وفق ما أورده في كتابه وهي على النحو التالي:
1. على الجميع الامتناع عن إلحاق الأذى بالأوروبيين؛ فهم لم يسيئوا إلينا.
2. ينبغي قتل السلطان أينما وجد، وبدون تردُّد.
3. ينبغي قتل كل من ينتمي إلى الفئة العمرية (18-55 سنة)، وبدون تردُّد.


سابعًا: موقف بريطانيا الرافض للتدخل
يقول البرواني، إنه عندما كان حاضرًا مع رجال المقاومة في مركز شرطة ماليندي وبعد نقاشٍ مُستفيضٍ مع كلٍّ من رئيسِ الوزراء، محمد شامتي؛ ووزير المالية، جمعة علاي الأبروي؛ استقر الرأي – بعد التباحث مع مُفوض الشرطة –على أهمية الحصول على مُساندةٍ عسكرية، من القوات البريطانية المتمركزة في كينيا، على غرار ما حدث في أحداث شغب يونيو من عام 1961م. تم على إثرِ ذلك، الاتصال بالقنصل البريطاني، الذي أفاد بأن الوضع يقتضي الحصول على موافقة من الدولة المضيفة، أي من الحكومة الكينية، كونها أصبحت دولة مستقلة؛ كما أنه وضع من العراقيل ما يستخلص منه عدم رغبته في إدخال الحكومة البريطانية في مسألة إغاثة زنجبار.

ولتجاوز عقبة ضرورة الحصول على موافقةِ الدولة المضيفة، اقترح الوزراء المذكورين على القنصل – بعد أن انتقلوا إلى مكتبهِ – الاستعانة بالقوات البريطانية المتمرّكزة في عَدن كون عدن لا تزال مُستعمرة بريطانية. ردود فعل القنصل جميعها اتسمت، ليس بعدم التشجيع للفكرةِ وكفى، وإنما، بالفُتورِ وعدم المبالاةِ أيضا؛ إذ وضع أول عقبة أمام إمكانية التنفيذ، بالقول متسائلاً: وأين ستهبط تلك القوات والمطار تحت قبضةِ “الثوريين”؟ الأمر في غاية البساطة، فمن الممكن إنزال مَظليين، هكذا كانت إجابة البرواني العفوية؛ ولكن، الأمر يقتضي الحصول على موافقة الحكومة البريطانية.
تلك كانت العقبة الثانية التي وضعها القنصل أمام الوزراء. هنا طلب البرواني من القنصل أن يُسجل استغاثة الحكومة لدى السلطات المختصة في بريطانيا، إلا أن الأخير ردّ عليه بالقول: إننا في عطلة نهاية الأسبوع، ويتعذَّر التنسيق مع الحكومة البريطانية؛ ومهما كان الحال، فأنتم تمثِّلون حكومة أقلية، ولن أؤيد تدخّل حكومة صاحبة الجلالة في شئون زنجبار الداخلية. حاول البرواني إفهام القنصل بأنهم، وبفوزهم في انتخابات الرئاسة بثمانيةِ عشر مقعدًا مُقابل ثلاثة عشر للمعارضة، لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، اعتبارهم أقلية، بل هم أغلبية وأن المشكلة ليست دستورية بقدر ما هي مُشكلة إنسانية، تتمثل في ذبح الأبرياء من المواطنين؛ وأن زنجبار عضو في مُنظّمةِ دولِ الكومنولث، فهي بذلك لها حق على الحكومة البريطانية.
جميع تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح؛ وبالنتيجة، لم تتلقَ بريطانيا استغاثةً رسميةً من الحكومةِ المنكوبة، وهذا ما أكده فعلاً وزير المستعمرات البريطانية، لأحمد بن سيف الخروصي، عندما كتب إليه بعد الإطاحةِ بالحكومة بأسبوعين مستوضحًا عن سبب رفض بريطانيا التدخل لإنقاذ الحكومة من الانهيار.
في الجزء التالي، الذي سنعرضه في عدد يوم الأحد المقبل، سنقف على المصلحة البريطانية في إسقاط الحكومة الشرعية؛ ثم نضيف أسبابًا ظرفيةً أخرى تشير بأصابع الاتهام إلى التورط البريطاني في تلك النتيجة الدموية المأساوية؛ وهل كان لتوافق الحكومة الشرعية مع الرئيس جمال عبدالناصر، علاقة في الأمر؟ ولماذا لم يتدخل عبدالناصر، لإنقاظ الوضع .. هذا ما سنتعرف عليه في العدد القادم.

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس