عرض مشاركة واحدة

قديم 20-04-09, 08:31 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

تطور الاستراتيجية

لقد كانت الضربة على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس 1945م بمثابة بداية للعصر الذري، وثورة في الشؤون الاستراتيجية. وقد واجه المسؤولون في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحديات غير مسبوقة في التوصُّل إلى برنامج دفاعي، نظراً لأن التخطيط الاستراتيجي قد بلغ مستوى من التعقيد لم يكن متخيلاً في السابق، وتحتّم على المفكرين الاستراتيجيين الموازنة بين الأسلحة التقليدية والنووية، وبرز على إثر ذلك عديد من القضايا مثل: صياغة عقيدة عسكرية للاستخدام الاستراتيجي والتكتيكي للأسلحة النووية، وتطوير التقنية والبرامج اللازمة لتطبيق تلك العقيدة العسكرية، وتخصيص الموارد بين القوات التقليدية والنووية، بل وبين الأسلحة النووية وكل فرع من فروع القوات التقليدية، وتقويم انعكاسات الاستراتيجية النووية على الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وظلت هذه القضايا تمثّل تحدياً كبيراً للقادة الأمريكيين المدنيين والعسكريين الذين بذلوا جهوداً مضنية للتوصُّل إلى استراتيجية فعّالة، وتشكيل ملائم للقوات لاستتباب الأمن القومي على مدى طويل، وتضافرت جهود الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وجهود القائمين على أمر التقنية المتطورة والميزانية، لإعادة النظر في العقيدة العسكرية الاستراتيجية والنتائج المترتبة على ذلك.

وفي عام 1950م، أعلنت إدارة الرئيس "ترومان" عن أول استراتيجية نووية أمريكية في مذكرة مجلس الأمن القومي رقم (68)، حددت بموجبها سياسة الاحتواء كقاعدة للدفاع القومي، وأجرت الإدارات اللاحقة تعديلات على تنفيذ تلك السياسة، ولكنها احتفظت بجوهرها المتمثل في وقف المد الشيوعي بقوات تقليدية ونووية. وقد اعتمد "ترومان" على ترسانة نووية متطورة، لردع التوسُّل السوفيتي وتعزيز القوات التقليدية لحماية مبادرات السياسة الخارجية الأمريكية الأخرى.

وفي عام 1953م، ألحق الرئيس "أيزنهاور" أسلحة تقليدية بالقوات النووية، بسبب التكاليف المالية الباهظة في حالة الإنفاق على قوات تقليدية ونووية في آن واحد، وأطلق اسم (الردع) على سياسته التي أسماها "نظرة جديدة"، ولكن سرعان ما أدرك النقّاد نقاط ضعف هذه الاستراتيجية، فقد أشار "هنري كيسنجر" الذي كان أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة "هارفارد" في ذلك الوقت إلى ضيق أفق تلك الاستراتيجية بقوله: إن عدم امتلاك الولايات المتحدة لقوات تقليدية كافية لمواجهة المدّ الشيوعي يجعل القادة العسكريين والسياسيين أمام موقفين لا ثالث لهما: إما التدمير النووي أو السلبية التامة، بصرف النظر عن مستوى الاعتداءات السوفيتية، أو النتائج الأخلاقية للحرب الشاملة، وطالب "كيسنجر" القادة العسكريين بإجراء تعديلات على تلك العقيدة العسكرية حتى تكون أكثر استجابة، حيث يقول: "في ظل قوة الأسلحة الحديثة، ينبغي أن تتوصل عقيدتنا الاستراتيجية إلى بدائل أقل تدميراً من التدمير النووي الحراري".

وفي عام 1961م، قدَّم "جون كنيدي" هذا البديل بإعلانه أن "وضعنا الدفاعي ينبغي أن يتصف بالمرونة والتصميم في آنٍ واحد، ولابد أن يدرك كل معتدٍ من الأعداء المحتملين الذين يفكرون في شن هجوم على أي منطقة من مناطق العالم الحر أن ردَّنا سوف يكون مناسباً وسريعاً وفعّالاً وبانتقاء شديد". وهذه الاستراتيجية التي أعلن عنها "كنيدي" تهدف إلى تجنُّب استراتيجية الانتقام الشامل أحادية الجانب، والهيمنة النووية بانتهاج قدر أكبر من التماثل والمرونة.

وعندما أصبح "ليندون جونسون" رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر 1963م، كانت استراتيجية الردّ المرن تخضع للتجربة في جنوب شرقي آسيا، وخلال مدة رئاسة "جونسون" أظهرت تجربة فيتنام مدى التحديات الناجمة عن خوض حرب تقليدية محدودة ضد عدو غير تقليدي. ولعل من أسباب فوز "ريتشارد نيكسون" في الانتخابات، عدم رضا الرأي العام بمجريات الحرب في فيتنام، فضلاً عن البصمات الواضحة التي وضعها "هنري كيسنجر"، وما أجراه من تغييرات على السياسة الدفاعية الأمريكية. وتعتبر سياسة الوفاق وهو الاسم الذي أُطلق على استراتيجية نيكسون-كيسنجر تنقيحاً آخر لاستراتيجية الاحتواء، حيث تؤكد على انتهاج المسلك الدبلوماسي لإقناع السوفييت بقبول شرعية الأيديولوجيات الأخرى، وما يكسبه الجميع من فوائد في ظل نظام عالمي يسوده الاستقرار. وتواصل هذا الحوار في فترة رئاسة "جيمي كارتر" الذي سعى للتوصُّل إلى سياسة خارجية أمريكية جديدة تقوم على قيم أخلاقية رفيعة بعدم التدخُّل، ورفض استخدام القوة العسكرية، حيث أعلن عام 1977م: "إننا نرغب في تجميد تطوير وإنتاج الأسلحة، وتقليص الأسلحة النووية الاستراتيجية إلى حدٍ كبير".
وعندما تولّى "رونالد ريجان" الرئاسة خلال الثمانينيات، عمل على عكس ما كانت تسعى إليه إدارة "كارتر" من تقليص للأسلحة الاستراتيجية، حيث حصل على موافقة الكونجرس لزيادة المخصصات الدفاعية على مدى ست سنوات، لأغراض التطوير والتدريب وزيادة الرواتب. ولعل الأمر الأكثر طموحاً في ذلك هو برنامج الدرع الدفاعي الصاروخي، أو ما يُطلق عليه: مبادرة الدفاع الاستراتيجي. (sdi) وأخيراً آتت استراتيجية الاحتواء التي تم تتويجها بالنهضة العسكرية في عهد ريجان أُكلها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، وبذلك انتهت مواجهة امتدت على مدى خمسة عقود تقريباً بين العملاقين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.

وفي حين أن بعض المؤرخين يعزون لسياسات "ريجان" التعجيل بانتهاء الحرب الباردة، إن لم تكن سبب من أسبابها، فإن استراتيجيته الدفاعية القومية كما هي استراتيجية من سبقوه على الرئاسة قد حددت رؤيته فيما يتعلق بالتوازن السليم بين الأسلحة التقليدية والنووية. وهذا الازدواج بين الأسلحة التقليدية والنووية هو الذي أطال بقاء الاتحاد السوفيتي، لأن كلا الرئيسين "جورج دبليو بوش"، و "بيل كلينتون" قد عملا بموجبه. وعلى مدى خمسين عاماً تضافرت مجموعة من العوامل تمثلت في توجهات الرؤساء الأمريكيين والتطورات التقنية، والطموحات السوفيتية، والتحولات الاجتماعية والسياسية في دفع عجلة استراتيجية الاحتواء في مسعى للتوصُّل إلى أنسب الاستراتيجيات. ورغم ما حفلت به السنوات الأخيرة من القرن العشرين من تعقيدات في التخطيط الاستراتيجي، فقد برزت تعقيدات أكبر في أوائل القرن الحادي والعشرين.

 

 


   

رد مع اقتباس