عرض مشاركة واحدة

قديم 20-04-09, 08:34 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

الحرب الاستباقية والحرب الوقائية في الماضي

في خمسينيات القرن الماضي، ثار جدل بين المحللين العسكريين حول مدى ملاءمة الحرب الاستباقية، ونظراً لأن الحرب الاستباقية من صميم عقيدة "بوش" الحالية، فمن الأفضل أن نسترجع للأذهان الأفكار التي طُرحت في تلك المناقشات، ولكن ينبغي ألاّ نغفل اختلاف التعريفات، ففي الخمسينيات كان مصطلح الحرب الاستباقية يعني عملاً عسكرياً لا يُتخذ إلاّ بعد التيقُّن من أن تهديداً وشيكاً سيقع. وتقوم عقيدة "بوش" على ما كان يُطلق عليه سابقاً "حرباً وقائية"، والتي عرفها المفكر الاستراتيجي "بيرنارد برودي" في أواخر الخمسينيات بأنها: "هجوم مدبّر مسبقاً تقوم به دولة ضد أخرى، وهو عمل غير مبرر لأنه لم ينتظر وقوع اعتداء محدد، أو أي عمل علني آخر من جانب الدولة المستهدفة"، وفي أواخر الأربعينيات، كان بعض مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية قد طرحوا خيار الحرب الوقائية، ولكن هذه السياسة لم تجد تأييداً كافياً.

وأعلنت إدارة الرئيس "ترومان" أن الولايات المتحدة لن تقوم بشن الضربة الأولى "ما لم يثبت بالدليل القاطع أن تلك الضربة هي هجوم مضاد على ضربة في طريقها للوقوع أو يجري العمل لشنها"، وبمعنى آخر أنه لن تكون هناك حرب وقائية، وظلت الحرب الاستباقية هي البديل. "وزادت الأسلحة الحديثة من أهمية استغلال المزايا العسكرية لشن الضربة الأولى، وهذا ما يدفعنا لتوخِّي الحذر لكي نضرب بكامل ثقلنا فور تعرضنا لهجوم، وإن أمكن فعلينا توجيه تلك الضربة قبل أن يقوم الاتحاد السوفيتي بتوجيهها فعلياً".

ودفعت التحديات الجمّة التي فرضتها الحرب الباردة الرئيس "أيزنهاور" للتفكير في عمل وقائي، وبحكم قلقه من المقدرات النووية الحرارية التي يمتلكها الاتحاد السوفيتي، والتكلفة الباهظة للمخصصات الدفاعية في الميزانية، فقد كتب مذكرة لوزير خارجيته "جون فوستر دالاس"، مشيراً إلى أنه في ظل الظروف الراهنة قد "تضطر الإدارة الأمريكية للنظر فيما إذا كان واجبنا تجاه الأجيال القادمة يملي علينا بدء الحرب في اللحظة المناسبة التي نقررها أم لا". إلاّ أن رئيس هيئة أركان الجيش حينذاك "ماثيو ريدجيواي" رفض الحرب الوقائية، لأنها حسب وصفه "تعارِض كافة المبادئ الأمريكية .. ويمقتها الأمريكيون.. ". وبعد بضعة شهور رفض الرئيس أيضاً تلك الاستراتيجية علناً على الأقل قائلاً: "إنني أرى أن الحرب الوقائية شيء مستحيل حالياً، وبصراحة لا أكترث لنصائح من يدخلون إلى مكتبي للتحدّث عنها".

ولخَّص "بيرنارد برودي" الجدل الذي دار حول الحرب الوقائية في كتابه الذي نشر عام 1959م بعنوان: "الاستراتيجية في عصر الصواريخ"، حيث خلُص إلى أن هناك ثلاث نقاط رئيسة تشكِّل جوهر ذلك النقاش، أولاً: يقرّ الجميع بأن المقدرات العسكرية التعرُّضية للدولة لم تعد كافية كوسيلة فعالة للدفاع، فلن تستطيع الأسلحة التقليدية أو النووية التصدي التام لهجوم مدمّر؛ وثانياً: تقرّ الغالبية بأن ذلك الهجوم سينجم عنه تدمير وإصابات لا تُطاق، وأخيراً: لا تلوح في الأفق مؤشرات على استحداث تقنية متطورة في المستقبل القريب لتحسين هذا الوضع.

وأوجدت هذه الأوضاع بيئة تجعل فكرة الحرب الوقائية تروق للبعض، وينطلق مؤيدو هذا التوجُّه من افتراض حتمية الحرب، ومقدرة الاستخبارات على تحديد الأهداف المناسبة، ويجادلون بأن شن حرب وقائية سيكفل مزايا مهمة، وستتمخض عنه نتائج حاسمة، ويقلل من فعالية العدو إن لم يبطلها تماماً. وعلى النقيض من ذلك، فإن معارضي الحرب الوقائية يحذّرون من أنها ستعمل على بدء الحرب على أساس ما يمكن أن يحدث، وهي طريقة حذَّر "بسمارك" من اتباعها بقوله: "لا أنصح مطلقاً بإعلان الحرب فوراً لمجرد ما يتراءى من استعدادات يقوم بها الخصم لبدء أعمال عدائية في المستقبل القريب، إذ لا يمكن للمرء أن يعلم غيب القدرة الإلهية".

وفي حين أن نصيحة "بسمارك" قد لا تكون من ورائها دوافع أخلاقية، إلاّ أنها وجدت اهتماماً كبيراً بين معارضي الحرب الوقائية الذين يجادلون بأن هذا المنحى يتقاطع مع عدم شرعية الاستخدام المفرط للقوة لمجرد افتراضات، وعلّق "برودي" على ذلك بقوله: "لقد اتخذ الأمريكيون قرارهم بوضوح بإجماع كبير ودون حدوث مناقشات مستفيضة ضد أي شكل من أشكال الحرب الوقائية. ولعل عدم إخضاع الموضوع للتمحيص الدقيق يؤكد أن القَدَر قد لعب دوراً في اتخاذ هذا القرار الذي يتوافق تماماً مع فلسفتنا القومية وقيمنا". وفي عقد الخمسينيات، لم يكن الرئيس "أيزنهاور" أو الشعب الأمريكي على استعداد لتجاوز ذلك الحد الأخلاقي، وربما كان "هنري كيسنجر" يعبّر عن الشعور القومي الأمريكي تجاه الحرب الوقائية حينما كتب: "يسود دائماً مظهر من مظاهر عدم اليقين عن أي برنامج يتناقض مع المشاعر القومية، والحدود التي يكفلها الدستور لتحرّك السياسة الخارجية الأمريكية".

وفي الأربعينيات، رفض الرئيس "ترومان" ما طالبت به أقلية باتخاذ عمل وقائي ضد أهداف نووية سوفيتية، وفضَّل بدلاً من ذلك انتهاج استراتيجية الاحتواء، وهو ما أكّد عليه الرئيسان التاليان له. ولو أن الرئيس "ترومان" أو الرئيسين اللذين خلفاه على كرسي الرئاسة سلكوا مسلك الضربات الوقائية، لأصبحت الحرب الوقائية جزءاً من الموروث الأمريكي، وربما ترتب على ذلك رد نووي انتقامي من الاتحاد السوفيتي محدود أو أسوأ من ذلك، وكانت سياسة الاحتواء بداية لحرب باردة امتدت على مدى عقود من الزمان، واتسمت بالتوتّر الشديد، وظهور تحالفات مزعجة وصراعات إقليمية، إلاّ أن استراتيجية "ترومان" وحكمته قد أفلحا في نهاية المطاف في مواجهة أكبر تحديّين من تحديات تلك الحقبة من الزمان، وهما: المحافظة على أمن الولايات المتحدة، ومنع وقوع حرب نووية.

 

 


   

رد مع اقتباس