عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:43 AM

  رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

أصول عماد الدين زنكي

لا يمكن فهم شخصية عظيمة كشخصية عماد الدين زنكي دون العودة إلى جذوره وأصوله ، فبالنظر إلى حال أسرته وخاصة والديه ندرك الكثير من الأبعاد العميقة في حياته ، ونكشف السر وراء هذه الشخصية المتكاملة التي أجرى الله على يديها خيرًا كثيرًا للمسلمين .

والله علَّل الخير الذي أصاب الولدين في قصة موسى والخَضِرِ رحمه الله بأن الأب كان صالحًا، فقال تعالى ‎: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .
ففي هذه القصة بُعد عجيب ، ومعنى دقيق لا بد من الإعتبار به ، وهو أن الأب ترك الولدين مبكرًا ، ولم يكن عنده من العمر ما يكفي لتربية أولاده وتنشئتهم ، ومع ذلك فإن الله حفظ الولدين وأجرى لهما خيرًا واسعًا بسبب أن أباهما كان صالحًا .

وفي نفس المعنى يقول الله : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) .

وهذه هي حالة بطلنا العظيم عماد الدين زنكي تمامًا؛ فقد تركه أبوه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات فقط ! أي أن عماد الدين زنكي نشأ يتيمًا، ولكنَّ أباه كان يتقي الله ، وكان يقول الكلمة السديدة ، وكان صالحًا، فحفظ الله الابن بصلاح الأب ، وهذا متكرر كثيرًا في التاريخ الإسلامي ، وكم من المغيِّرين والمجدِّدين للأمة نشئوا يتامى، فما حرمهم ذلك من أن يكونوا قادة ومصلحين ، وليس الشافعي والبخاري ، وأحمد بن حنبل ، والحسن البصري ، وعبد الرحمن الناصر ، وقطز ، وعمر المختار إلا مجرد أمثلة ، بل إن رسولنا نشأ يتيمًا ، فكان أعظم إنسان عرفته البشرية .

إذن من هو الأب العظيم الذي بصلاحه حفظ الله له ولنا هذا الابن الجليل عماد الدين زنكي ؟!

إنه آق سنقر الحاجب التركماني ! وكما هو واضح من اسمه فهو من قبائل الأتراك ، من قبيلة تُعرف باسم ساب يو ، وهي قبيلة تمتعت بمكانة رفيعة عند السلاجقة الأتراك .

وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان ، وهو السلطان العظيم الذي إمتدت حدود دولته من الصين شرقًا إلى آسيا الصغرى غربًا ، وكان عادلاً حسن السيرة ولذلك لم يكن يُقرِّب منه إلا الصالحين ، ويكفي أن وزيره الأول كان نظام الملك ، وهو من أعظم الوزراء في الإسلام ، وحاجبه كان آق سنقر والد عماد الدين زنكي ، فهذا من أدلة صلاح السلطان ملكشاه الذي يسَّر له الله البطانةَ الصالحة .

وكان آق سنقر مقرَّبًا بدرجة كبيرة إلى قلب السلطان ملكشاه لدرجة أنه أنعم عليه بلقب عجيب ، وهو قسيم الدولة ، ومعنى اللقب أن يقتسم معه إدارة الدولة وشئونها ، وهي منزلة رفيعة جدًّا .

ثم كانت هناك أحداث صعبة تمرُّ بها بلاد الشام ، حيث كانت تمزِّقها صراعات سياسية خطيرة ، خاصة منطقة حلب حيث كان يتنازع السيطرة عليها ثلاث قوى رئيسية : أما القوة الأولى فهي قوة مسلم بن قريش العقيليّ صاحب الموصل وحلب .. وأما القوة الثانية فهي قوة تتش بن ألب أرسلان أمير دمشق ، وهو أخو السلطان ملكشاه ، ولكنه كما ذكرنا قبل ذلك كان خبيثًا فاسدًا ، وكذلك صار أولاده من بعده وهم رضوان ودقاق وأما القوة الثالثة فهي قوة سليمان بن قتلمش مؤسِّس إمارة سلاجقة الروم ووالد قلج أرسلان الأول الذي مرَّ ذكره في بدايات قصة الحروب الصليبية .

وكنتيجة مأساويَّة لهذا الصراع قُتل مسلم بن قريش على يد سليمان بن قتلمش ، وأصبح الطريق إلى حلب مفتوحًا لسليمان ، ولكن أهلها رفضوا تسليم المدينة له ، وأرسلوا إلى السلطان العادل ملكشاه ليتسلم مدينة حلب ، فوافق السلطان ملكشاه ، وجاء بجيشه ، لكن في هذه الأثناء قُتل سليمان بن قتلمش على يد تتش بن ألب أرسلان ، وإنطلق تتش ليستولي على حلب ، غير أنه وصلها مع وصول جيش أخيه ملكشاه ، ووجد تتش أنه لا طاقة له بهذا الجيش العملاق ، فإنسحب وترك المدينة لملكشاه .

وكان الوضع في حلب سيِّئًا للغاية نتيجة الصراعات الدموية التي دارت في المنطقة فلم يجد السلطان ملكشاه حلاًّ لإصلاح أوضاعها إلا بتسليم إدارتها إلى الرجل الذي يثق في قدراته وأخلاقه وورعه ، وهو قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، وكان ذلك في شهر شوال (479هـ) يناير 1087م ، وهكذا بدأ الحكم السلجوقي لمدينة حلب ، بل وأعطاه إلى جوار حلب عدة مدن في المنطقة منها حماة ومَنْبِج واللاذقية .

تسلَّم آق سنقر الحاجب رحمه الله المدينة وهي في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب بفعل الصراعات الكثيرة التي كانت بين حكام وأمراء المنطقة؛ مما جعل الحكام الذين تولوا حكمها لا يلتفتون أبدًا إلى أمورها الداخلية ، أو إلى حياتها الاقتصادية، فتراجعت واردات البلاد ، وفُرضت ضرائب باهظة على السكان ، ونتيجة لغلاء الأسعار , إنتشر اللصوص في المدينة، وإنعدم الأمن ، ومن ثَمَّ تعطلت الحركة التِّجارية، كما تراجعت الزراعة ، وهذا كله - لا شك - أثَّر سلبًا في كل قطاعات المجتمع .

ومع هذا التدهور الرهيب في كل مناحي الحياة إلا أن آق سنقر بدأ يمارس عمله بنشاط ، ساعيًا بكل طاقته أن يصلح الأمور كلها ، وكانت نظرته شمولية ، فلم يهتم بجانب على حساب آخر ، بل تناول الأحوال جملة واحدة .

إهتم آق سنقر بداية بالحالة الأمنية الخطيرة التي كانت تعاني منها حلب ، فأقام الحدود الشرعية ، وطارد اللصوص وقُطَّاع الطريق ، وقضى عليهم ، وتخلص من المتطرفين في الفساد .

وإضافةً إلى هذه السياسة التي تعتمد على وجود شرطة قوية عادلة تدافع عن الحقوق ، وتستخدم سلطتها في حماية الناس بدلاً من التسلط عليهم ، إضافةً لهذه الشرطة فإن آق سنقر لجأ إلى سياسة أخرى عجيبة آتت ثمارًا رائعة وفي وقتٍ محدود ؛ ذلك أنه أقر مبدأ المسئولية الجماعية لكل قرية أو قِطَاع في المدينة ، مما يعني أنه في حالة إذا هوجمت قافلة أو إنسان ، فإن أهل القرية يتحملون مسئولية الدفاع عنه ، وإذا سُرقت أمواله ، فإنهم يجتمعون معًا لتعويضه عما سُرق، ومن ثَمَّ أصبحت مهمة الحفاظ على الأمن هو مهمة الجميع ، ولا يمكن أن يشك الناس في لص أو عصابة مجرمين دون الإخبار عنها ؛ لأن المسئولية أصبحت جماعية وليست فردية ، وهذا له مرجع في الشريعة ، حيث مبدأ "العاقلة" ، بمعنى أن أفراد العائلة الواحدة أو القبلية الواحدة ، أو القرية الواحدة يتعاقلون فيما بينهم ، أي يتعاونون فيما بينهم لجمع الدِّيَة المطلوبة من أحدهم ، أو سداد الدين عنه ، وبذلك تعود الحقوق لأصحابها مهما كانت كبيرة .

ونتيجة لهذه السياسة البارعة ، ونتيجة للتطبيق الدقيق لها ، ونتيجة للإستخدام الصحيح لجهاز الشرطة في الإمارة ، عمَّ الأمن والأمان في كل الربوع وفي غضون أشهر قليلة ، وانعكس ذلك - ولا شك - على حركة التجارة والزراعة ، وانعكس على حركة الأموال والبضائع ، ومن ثَمَّ تحسَّن الاقتصاد بشكل ملموس وإنخفضت الأسعار ، وتوفَّرت المنتجات ، وصار لحلب شأن عظيم بين الإمارات المجاورة .

ولا بد أن نؤكِّد هنا على أن آق سنقر رحمه الله كان حريصًا تمامًا على إقامة الحدود الشرعية ، مع أن الكثيرين قد يعتقدون أنها ستترك مجتمعًا مشوَّهًا نتيجة قطع أيدي السارقين ، وقتل القاتلين ، ورجم الزناة المحصنين ، وجلد الزناة غير المحصنين ، وجلد شاربي الخمر ؛ قد يعتقد البعض أن المجتمع في حلب أصبح مشوَّهًا نتيجة تطبيق الحدود في وجود الكثير من المفسدين والمجرمين ! لكن واقع الأمر أن هذا لم يحدث ؛ لقد كان تطبيق الشريعة مع مجرم أو اثنين رادعًا لبقية المجرمين ، ولم تَنْقِلْ لنا المصادر أن عددًا كبيرًا قد عوقب بهذه الحدود، إنما نقلت أن الأغلب الأعم من المجرمين إرتدع عن جرائمه ، وصدق الله إذ يقول : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، فأصبحت حياة حلب وأمنها وعزِّها وتحسُّن اقتصادها وعلوّ شأنها في تطبيق القصاص ، وفي الإلتزام بالحدود الشرعية ، وفي التطبيق الحرفيِّ لكتاب الله وسنة رسوله .

ونتيجة هذا الأمن المتناهي نادى آق سنقر في أهل حلب بأمر عجيب جدًّا ، وهو أن لا يرفع أحد متاعه من الطريق إذا أراد أن يذهب إلى مكان بعيد ثم يعود ، بل يتركه دون حراسة، وهو ضامن له ألا يُسرق !!

لقد كان أمنًا عجيبًا تحدَّث عنه الناس هنا وهناك .

ومما يُروى في هذا الصدد قصة عجيبة ، وهي أن آق سنقر كان قد مرَّ بقرية من قرى حلب، فوجد أحد الفلاحين - وكان لا يعرف آق سنقر - قد فرغ من عمله في حقله ، ويستعد لحمل أداة من أدوات الزراعة على دابته ليحملها إلى القرية ، وكانت هذه الآلة مغلَّفة بالجلد ، فقال له آق سنقر : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحدٌ متاعًا ولا شيئًا من موضعه ؟ بمعنى أنه يضمن لك حفظه من السرقة ، فقال الفلاح : حفظ الله قسيم الدولة ، وقد أُمِّنَّا في أيامه ، وما نرفع هذه الآلة خوفًا عليها من السرقة ، لكن هنا حيوان يقال له ابن آوَى (حيوان مثل الذئب) تأتي إلى هذه الآلة فتأكل الجلد الذي عليه ، فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك .. فعندما عاد قسيم الدولة إلى حلب أمر الصيَّادين فتتبعوا هذه الحيوانات في كل الإمارة ، فصادوها حتى أفنوها !

لقد كان أمنًا يخرج عن حدِّ الواقع إلى الخيال !

ولم يكن إسهام آق سنقر في هذا المجال فقط ، بل نجد إسهاماته العمرانية مثلاً ما يثبت أنه كان قائدًا متوازنًا مهتمًّا بكل التفاصيل في إمارته ، وقد جدَّد رحمه الله منارة مسجد حلب الجامع ، وما زال اسمه منقوشًا عليها إلى اليوم .

وأما في المجال العسكري ، فكان قسيم الدولة رحمه الله منظمًا إلى أبعد درجة ، وكان له جيش نظاميّ معظمه من التركمان ، وكان له أيضًا جيش احتياطي مكوَّن من العرب والتركمان ، وكانت القوات الاحتياطية تبلغ عشرين ألف مقاتل .

وصار قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله حديث الناس كلهم أجمعين ! وأحبَّه أهل حلب حبًّا جمًّا ، بل شُغِف بأخباره عامة المسلمين .

يقول المؤرخ ابن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق عن آق سنقر: "وأحسن فيهم السيرة ، وبسط العدل في أهليها ، وحمى السابلة (الطريق المسلوك) للمترددين فيها ، وأقام الهيبة ، وأنصف الرعية ، وتتبع المفسدين فأبادهم ، وقصد أهل الشر فأبعدهم ، وحصل له بذلك من الصيت ، وحسن الذكر ، وتضاعف الثناء والشكر ، فعمرت السابلة للمترددين من السفار ، وزاد إرتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار" .

وقال ابن الأثير في حقه : "وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته ، وحفظًا لهم ، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع" .

وقال إبن كثير: "كان قسيم الدولة من أحسن الملوك سيرةً ، وأجودهم سريرة ، وكانت الرعية في أمن وعدل ورخص" .

كانت هذه هي حياة قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله .

ومع هذه الروعة فإنَّ هذه الحياة لم تكن تعجب الجميع ! بل كان هناك مَن ينكر عليه خيره ، ومن يكره فضله ، ومن يحقد عليه لأجل صلاحه وورعه !!

وعلى رأس هؤلاء كان تتش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه ، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها ، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه ؛ فالناس يحبونه ، وكذلك السلطان ملكشاه ، فماذا يفعل تتش ؟!

لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه ! فبدأ في السعي في ضم كل الإمارات الشامية بإستثناء حلب ؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحب آق سنقر ، فلا داعي لإستثارة السلطان عليه ، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ العبيديّ ، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضد العبيديين .

لكن قسيم الدولة كان يدرك أطماع تتش الإنفصالية ، وكان في نفس الوقت عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه ، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه ، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة ، مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر ، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة .

أراد السلطان ملكشاه أن يحل الأزمة برفق ؛ فهو لا يريد أن يغضب كلا الطرفين ، ومن ثَمَّ فقد إستدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام ، وهناك قام تتش بصراحة بإتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة ، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه ، بل وإتهم تتش بالكذب ، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه ، ورفض عزله ، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له !

وكان هذا اللقاء في رمضان 484هـ ، أي بعد خمس سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر مفجع وهو وفاة السلطان ملكشاه في شوال 458هـ\ تشرين الثاني 1092م ، وتولى بركياروق إبنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى ، وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع ؛ ولذلك قرر تتش أن يتحرك بالقوة العسكرية لحرب ابن أخيه بركياروق ، والسيطرة على السلطنة بالقوة !!

ولكن تتش كان يخشى من وجود قوة آق سنقر خلف ظهره ، وفي نفس الوقت كان يريد أن يستغل قوته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه ، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليعاونه في حرب بركياروق بن ملكشاه !!

وقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة ؛ فهو يعلم أن قوة تتش أكبر بكثير من قوته ، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى ، وعم السلطان الحالي بركياروق ، لكن في نفس الوقت هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه ، ويريد أن يحفظه في إبنه ، كما أنه يعلم أطماع تتش ، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين ، فماذا يفعل ؟!
لقد فكَّر قسيم الدولة في خطة خطيرة ! قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر !

لقد قرر قسيم الدولة أن يخرج بجيشه مع تتش ، ويوهمه أنه سيقاتل معه ، فإذا إلتقى الجيشان ، ترك قسيم الدولة جيش تتش وإنضمَّ إلى جيش بركياروق !

إنها خطة خطيرة ستقضي تمامًا على قسيم الدولة لو إنتصر تتش ! لكنَّ قسيم الدولة كان يرى أن الحق مع بركياروق ، ليس لأنه الوريث الشرعيّ للحكم فقط ، ولكن لكونه أصلح وأتقى ألف مرة من تتش ؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحق .

إنه نوعية فريدة حقًّا من الرجال !

ونفَّذ قسيم الدولة خطته ، وفي سنة 486هـ إلتقى جيش تتش مع جيش بركياروق في مدينة الرَّيِّ بفارس ، وفعلاً إنسحب آق سنقر بجيشه وإنضم إلي بركياروق ، وفعل نفس الشيء أمير الرها بوزان ، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه ، فإختلَّ توازن جيش تتش ، ومن ثَمَّ إنسحب مهزومًا من الرَّيِّ ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن ، لكنه عاد بقلبٍ أشد حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر .

أعاد بركياروق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له ، وذلك في ذي القعدة 486هـ ، وأمده بقوات إضافية لأنه كان يتوقع ضربة انتقامية وشيكة من تتش .

وسرعان ما جاءت هذه الضربة ، فقد جمع تتش عدة جيوش ، وتقدم صوب حلب لإمتلاكها ، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبركياروق ، لكنَّ الأمراء تأخروا في القدوم ، مما جعل قسيم الدولة يواجه تتش بجيشه وحده، وكانت الهزيمة المفجعة ، وأُسِرَ آق سنقر ، وقام تتش بقتله على الفور !

كانت هذه المأساة في يوم السبت 9 من جمادى الأولى 487هـ\ مايو 1094م ، وهكذا انتهت فترة حكم آق سنقر - وهي ثمانية أعوام - لمدينة حلب ، ويشهد الجميع أنها كانت من أزهى عصور حلب مطلقًا .

هذه هي قصة الرجل العظيم قسيم الدولة آق سنقر الحاجب !

هذه هي قصة الرجل الذي تربَّى في بيته عماد الدين زنكي !

لقد قُتل قسيم الدولة آق سنقر ، بينما لم يتجاوز ابنه عماد الدين زنكي عشر سنوات !! لقد كان عماد الدين زنكي طفلاً صغيرًا ، ولا بد أن كثيرًا من الناس أشفقوا عليه من الضياع ، وكم من الأيتام ضاعوا ويضيعون ! لكن عماد الدين زنكي لم يضِع ، بل أعزَّه الله ونصره ، ولم يمُتْ إلا وهو على رأس إمارة واسعة ، وكان من أحبِّ خلق الله إلى قلوب العباد .

إن قسيم الدولة وإن كان لم يترك لابنه مالاً كثيرًا ، ولا منصبًا رفيعًا ؛ فإنه ترك له أشياء أخرى كثيرة أعظم كثيرًا من المال والسلطان .

لقد ترك له أولاً رعاية الله وحفظه ، وكفى بهذه الرعاية ميراثًا ! لقد كان قسيم الدولة ورعًا تقيًّا قائلاً للحق دومًا ، حتى قال ابن العديم : " وكان قسيم الدولة شديد التقوى ، عميق الإيمان" .

وهذه التقوى حفظت الابن الصغير الضعيف كما وعد الله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثانيًا حبًّا عظيمًا للشريعة وآدابها ، وتوقيرًا كاملاً لقوانينها وحدودها ، ورأى عماد الدين زنكي بعينيه بركات تطبيق الشريعة ، فما تركها أبدًا .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثالثًا إعلاءً لقيمة العدل ، حتى ترسخ ذلك في قلبه وكيانه ، فكَرِه الظلم بكل صوره ، وصار من أعدل حكام المسلمين كما كان أبوه .

وترك قسيم الدولة لإبنه رابعًا رحمة فطرية على الرعية ، حتى كان يقدِّم مصالحهم على مصالحه ، ويعفو ويصفح لو كان الخطأ في حقِّه ، ويرحم الضعفاء والفقراء ، ويأخذ الحق لأهله دون تجاوزٍ أو طغيان .

وترك قسيم الدولة لإبنه خامسًا تواضعًا عظيمًا ، جعله لا ينظر إلى بهرجة السلطان ، وعظمة الكرسيّ ، بل كان دائمًا متواضعًا لله يدرك فضل الله عليه ، ومن ثَمَّ لا يتكبر على خلق الله ، ولا يُعْجَبُ بما يحقِّق من نصر أو تمكين .

وترك قسيم الدولة لإبنه سادسًا مهارة إدارية وقيادية جعلته قادرًا على تحريك الجموع وسياستهم ، وجعلته محبًّا لفكرة الوحدة والتجمع تحت راية واحدة .

وترك قسيم الدولة لإبنه سابعًا حبًّا للجهاد وتعظيمًا له ، فحياته كلها كانت جهادًا ، وكذلك حياة إبنه ؛ لقد علَّم ابنه كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله لا في سبيل الملك والمال ، كما علَّمه ركوب الخيل وفنون الفروسية ، فقد كان قسيم الدولة من أمهر الناس قتالاً ، ومن أعظمهم جهادًا .

وترك قسيم الدولة لابنه ثامنًا حبًّا في قلوب أهل حلب ، فقد تعلَّقت قلوبهم جميعًا بهذا الحاكم العادل الرحيم ، حتى قال ابن الأثير كلمة عجيبة تصف حب الناس له ، فقال: " توارث أهل حلب الرحمة عليه إلى آخر الدهر !!" أي أن كل أبٍ يُوصِي أبناءه أن يتراحموا على قسيم الدولة ، وهكذا إلى آخر الدهر! فأيُّ درجةٍ من الحبِّ كانت هذه الدرجة ! ولا شك أن هذا سيكون له مردود كبير على حياة عماد الدين زنكي .

وترك قسيم الدولة لابنه تاسعًا حبًّا واضحًا للسلاطين العادلين الأقوياء لسلطنة السلاجقة ، فقد كان ولاء قسيم الدولة لملكشاه ، ولابنه بركياروق من بعده ، وهذا أعطى وضوح رؤية كبير لعماد الدين زنكي ، فلم ينبهر في حياته بلقبٍ أو شخص ، إنما جعل ولاءه للسلطان العادل ، ولم يتشتَّت بين القوى المختلفة ، بل ظل ثابتًا في إتجاه واحد ، وهذا حقَّق له خيرًا كثيرًا في حياته .

وترك قسيم الدولة لإبنه عاشرًا وأخيرًا مجموعة من الأصدقاء الأوفياء الذين أحبوه في الله ، لشخصه لا لسلطانه ، فحفظوا إبنه اليتيم بعد موته ، تمامًا كما فعل قسيم الدولة عندما حفظ إبن السلطان ملكشاه بعد موته ؛ لأنه كان يحبُّ السلطان لله ، وهكذا دائمًا يحدث ؛ فالجزاء من جنس العمل ، والله يقول : (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .

فتلك عشرة كاملة تركها قسيم الدولة لإبنه الصغير عماد الدين زنكي ! فمَن مِن المسلمين ترك لابنه مثلما ترك قسيم الدولة لابنه ؟!

إن الناس تنشغل بترك المال والثروة ، وتأمين الشقة والسيارة ، وتوصية فلان وفلان ، ولكنَّ القليل الذي يترك مثل الذي تركه قسيم الدولة رحمه الله ، لكنَّ القليل أيضًا الذي يكون مثل عماد الدين زنكي ، فإعتبروا يا أولي الأبصار !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس