الموضوع: حرب العصابات
عرض مشاركة واحدة

قديم 30-04-09, 08:40 AM

  رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

إن تأثير المفاجأة هو الشيء الجوهري في هذه الهجمات كافة. وهو مائزة في المقام الأول لصيالة الغوار. ولا يمكن حدوث هذا التأثير إذا كان فلاحو المنطقة على علم بوجود الجيش الثائر. لهذا السبب ينبغي إجراء كافة التحركات ليلاً ولا يسوغ إلاَّ لرجال شديدي الكتمان ذوي إخلاص مخبور، أن يعلموا بها ويجروا الارتباطات. يجب أن تكون الحقائب مملوءة زاداً لهذه المسيرات، لكي يستطاع الصمود يومين أو ثلاثة أو حتى أربعة في مكان الكمين.
لا يجوز الوثوق كثيراً بتكتم الفلاح: أولاً لأن لديه ميلاً طبيعياً للكلام والتعليق على الحوادث مع أعضاء آخرين من أسرته أو مع الُخلَّص من معارفه، ثم لأن الوحشية التي يعامل بها جنود العدو الأهلين، عند الهزيمة، تبث الرعب وتحدو بالبعض، إنقاذاً لحياتهم، أن يتكلموا أكثر مما ينبغي، فيقدمون بذلك معلومات جوهرية. ولأجل نصب كمين، يتم اختيار مكان يبعد على العموم، ما لا يقل عن مسير يوم واحد عن مآرز الغوارة المعتادة، والتي يعرفها العدو دائماً بكثير أو قليل من التقريب.
لقد أكدنا آنفاً أن كيفية الرمي في القتال تدل على مواضع المتقاتلين، فمن جهة رمي الجندي النظامي، حامياً، سخياً، معتاداً أن تتوفر له الذخيرة كيفياً، ومن الجهة الأخرى رمي المغاور، منهجياً، منجَّماً[50]، عارفاً قيمة كل رصاصة، يستعملها بحرص ولا يرمي أبداً أكثر مما يلزم. ولما كان من غير المنطق أن يترك العدو يفلت، اقتصاداً للذخيرة، أو ألاَّ يستنجز الكمين عمله ملياً، لذا وجب توقع كمية الذخيرة التي ينبغي استعمالها في كل مناسبة، وتسيير القتال وفقاً لهذه الحسابات المسبقة.
الذخيرة هي مسألة المغاور الكبرى. يتوفر السلاح دائماً، وما يُملك منه لا يعود يفارق الغوارة. أما الذخيرة فتنفد. وإذا كان السلاح يغنم بعامة، مع ذخيرته، فلا تغنم الذخيرة وحدها أبداً إلاّ نادراً. ولا يفيد السلاح الذي يغنم مع ذخيرته في تموين أسلحة أخرى، إذ ليس ثمة سلاح فائض. لذلك يغدو المبدأ الصِيالي القائل بالاقتصاد في الرمي مبدأ أساسياً في هذا النمط من الحرب.
لا يسع القائد المغاور الذي يعتد بهذه الصفة لنفسه، أن يهمل شأن الانسحاب. ينبغي إجراء الانسحابات في الوقت المجدي، وأن تكون مرنة، وتسمح بإنقاذ كل عتاد تشكيلة الغوار، والجرحى. لا يجوز للثائر أبداً أن يفاجئه العدو أثناء الانسحاب، ولا يستطيع قط أن يسمح لنفسه بترف مطاوعة الطوق الذي يُشد حوله.
ينبغي إذاً حراسة الطريق المختارة في كافة النقاط التي يحتمل أن يُقبل العدو منها بجنوده في محاولة للتطويق. وإذا ما وقعت محاولة التطويق، وجب أن تكون هناك جملة ارتباط تتيح إشعار الرفاق سريعاً بالمحاولة.
ينبغي دائماً توفر رجال غير مسلحين، يلتقطون بنادق الرفاق الجرحى أو الصرعى، أو سلاح الأسرى، ويعنون بالأسرى، وبنقل الجرحى، بالارتباطات. ويجب أن يتوفر دائماً فريق جيد من الرسلاء لا يرقاهم الإعياء، مخبورين في جِدِّهم، وقادرين على إيصال الأوامر بعجل تام.
إن عدد هؤلاء الردفاء نسبي، لكن يمكن تحديده باثنين إلى ثلاثة في العشرة: إنهم يشهدون القتال، وينجزون المهمات المقتضاة في المؤخرة، مدافعين عن المواضع إبان الانسحاب، وقائمين على مصالح الارتباط التي ذكرناها.
عندما تمارس تشكيلة الغوار حرباً من النمط الدفاعي – أعني عندما تؤمن حماية مسالك منطقة معينة ضد رتل من الغزاة – يتحول القتال إلى حرب تحاصن. غير أنه ينبغي دائماً عند بدء الاشتباك، العناية بتأثير المفاجأة التي تكلمنا عنها آنفاً. وإذا تم حفر خنادق أو جمل دفاعية أخرى يسهل على فلاحي المنطقة تمييزها، ينبغي التأكد أن هؤلاء الفلاحين باقون خلف الخطوط. إذ أن الحكومة، في هذا النمط من الحرب، تقيم الحصار على المنطقة، ويضطر الفلاحون الذين لم يلوذوا بالفرار إلى الذهاب لمناطق بعيدة عن منطقة حمى الغوَّارة، بقصد التموين. وفي اللحظات الحرجة التي نصفها، يضحى كل رجل يغادر منطقة الغوار خطراً بالغاً، نظراً للمعلومات التي يمكن أن يسديها للعدو. وعلى الجيش الثائر، في الحرب الدفاعية، أن يتخذ صيالة الأرض المحروقة مبدأ أساسياً.
ينبغي بناء الجهاز الدفاعي كله بحيث تقع مقدمة العدو دائماً في كمين. من المهم جداً على الصعيد النفسي، أن يكون رجال المقدمة هم الذين يُصرعون، دون ريب، في كل قتال. ينبغي خلق وعي لهذا الواقع يتفاقم حدَّة كل مرة لدى جيش العدو، فيبلغ منه مبلغاً لا يبقى معه أحد يرضى أن يكون في المقدمة. ولما كان واضحاً أن رتلاً بلا مقدمة لا يستطيع التقدم، فلا بد إذاً أن يتحمل أحد هذه المسؤولية...
وإذا ما رُئي الأمر مجدياً، أمكن القيام بمراوغات للإلهاء، أو تطويقات أو هجمات جناحية، أو مجرد صد العدو جبهياً. إلاَّ أنه ينبغي في كل الحالات تقوية النقاط الخليقة أن تستهدفها هجمات العدو الجناحية.
يفترض ذلك توفر رجال وسلاح أكثر مما في القتالات الآنف وصفها، فمن الواضح أنه يلزم كثير من الرجال لرصد كافة الدروب المتواردة إلى منطقة ما. وقد تكون عديدة. ينبغي ههنا زيادة عدد الفخاخ والهجمات على الناقلات المدرعة، في آن مع ضمان أعظم سلامة ممكنة لجملة الخنادق الثابتة التي يمكن للعدو، بحكم ثباتها، أن يحدد مواضعها. وإذا كان الأمر العسكري في هذا النمط من الحرب، هو بعامة، الصمود بوسائل الدفاع حتى الموت، يجب مع ذلك أن يضمن لكل من الحماة الحد الأقصى من فرص البقاء حياً.
كلما كان الخندق مستخفياً للمراقبة عن بعد. كان أميناً. ويحسن تغطيته بسقف لإبطال تأثير مدافع الهاون. إن مدافع الهاون المستخدمة في الميدان عامة هي ذات عيار 60 أو حتى 85 مم، وهي لا تستطيع خرق سقف جيد مبني بالمواد المحلية، كالخشب أو الحجر، ومحكم التمويه. ينبغي الاحتياط دائماً بإنشاء مخرج يسمح للمرء في الحالة القصوى، أن يفلت دون تعريض حياته كثيراً. لقد أنشأنا مثل هذه الوسائل الدفاعية في سييرا ماسترا حيث كانت فعالة لوقايتنا من رمي مدافع الهاون. تشير كل هذه الاعتبارات بوضوح إلى انعدام وجود خطوط نار محددة. إن خط النار هو شيء نظري إلى حد بعيد أو قريب، يتثبت في بعض اللحظات الحرجة، إلاَّ أنه مطاط ومتنافذ بين المعسكرين. وما هو موجود إنما هو أرض سائبة[51] واسعة بينهما. إلاَّ أن الأرض السائبة تتميز في الغوار بأن ثمة سكاناً مدنيين يعيشون فيها، ويتعاونون إلى حد ما مع أحد المعسكرين. وتقف أكثرية باهرة منهم، في الواقع، إلى جانب الثورة. لا يمكن ترحيل هؤلاء السكان حشراً، إذ أن أي المتنازعين يحاول ذلك، يختلق لنفسه معضلة تموينية لا حل لها. تمر في هذه الأرض السائبة غزوات دورية، نهارية على وجه العموم لقوى القمع، وليلية لقوى الغوار. وتجد قوى الغوار في هذه الغزوات مصدراً هاماً للتموين ينبغي تداركه على الصعيد السياسي بإقامة أحسن العلاقات مع الفلاحين والتجار.
إن عمل الذين لا يقاتلون مباشرة هام جداً في هذا النمط من الحرب. لقد أشرنا آنفاً إلى بعض مميزات الارتباط في أماكن القتال، إلاَّ أن الارتباط هو مؤسسة تقوم داخل تنظيم الغوارة. وينبغي بناء الارتباطات حتى أبعد جماعة من المغاوير، بحيث تستطيع الانتقال دائماً من نقطة لأخرى بأسرع وسيلة معروفة في المنطقة، هذا حتى في الأرض المجافية لنا. لا يرد مثلاً، لغوارة تعمل في أرض مجافية، أن تدع جمل موصلات حديثة قائمة، كالبرق، والطرقات.. إلخ، عدا بعض الجمل اللاسلكية التي يتعذر تخريبها والتي لا تفيد إلاَّ حاميات عسكرية قوية تذود عنها. وهي بأية حالة، لو سقطت في أيدي الغوارة، لاحتاجت إلى تغيير الرموز والتوترات، وهو عمل على جانب من الصعوبة في بعض الأحيان.
نقول ونحن نتذكر تجربتنا الخاصة خلال حرب التحرر: إن الاختبار اليومي الأمين عن كافة نشاطات العدو يُستكمل بالاختبار الذي تؤديه ارتباطاتنا. ينبغي درس جملة المخابرات درساً كثيراً، واختيار رجالها بأكبر عناية. فلا يمكن تقدير مبلغ الأذى الذي يستطيع أن يؤتيه عميل مزدوج. وإذا لم نذهب إلى هذا الحد، فإن اختباراً مبالغاً فيه، يستعظم الخطر أو يستصغره، يمكن أن تنجم عنه متاعب جمة: ويندر أن يستصغر الخطر، إذ أن ميل الفلاح العام يحدو به إلى تضخيم الأنباء. إن الذهنية الجبتية[52] التي تستحضر أشباحاً وكائنات غيبية شتى هي ذاتها التي تختلق جيوشاً جبارة أيضاً عندما لا يعدو الأمر فصيلة أو دورية عدوة. كما ينبغي أن يبدو الجاسوس محايداً قدر الإمكان، وألاّ يظهر في عين العدو، على أية صلة بقوى التحرر. ليست هذه المهمة صعبة بقدر ما تتراءى، ويصادف أناس كثيرون، تجار أو أصحاب مهن حرة وحتى رجال دين، يستطيعون الإسهام فيها وتقديم المعلومات.
إن الفرق الشاسع بين المعلومات التي تحصل عليها القوى الثائرة ومعلومات الجيش النظامي، هو من أهم موائز حرب الغوار. يضطر الجيش النظامي أن يجوب مناطق مناوئة له إطلاقاً، لا يلقى فيها إلاَّ صمت الفلاحين المر، بينما تعتد تشكيلة الغوار بصديق في كل بيت، إن لم يكن في صفوفها أحد أعضاء الأسرة، وتتداول الأنباء باستمرار خلال جملة ارتباطاتها، حتى الأركان العامة أو مركز قيادة الغوار في المنطقة.
عندما يتوغل العدو في أرض قد جاهرت بالثورة، حيث انضوى الفلاحون كافة إلى قضية الشعب، تنشأ مسألة بالغة الخطورة. يحاول معظم الفلاحين أن يفروا مع الجيش الشعبي، مخلِّفين أطفالهم ومشاغلهم، ويحاول غيرهم اصطحاب عيالهم بقضِّها وقضيضها، وأخيراً يمكث غيرهم مكانه بانتظار الأحداث. إن أبلغ نتائج توغل العدو هو زج أُسَر كثيرة في وضع صعب، إن لم يكن يائساًً. ينبغي إسداء الحد الأقصى من الدعم لهم، لكنه ينبغي تحذيرهم أيضاً من أن الفرار صوب مناطق غير آهلة، بعيداً عن أماكن التموين المعتادة، يعرضهم بالتأكيد إلى اللِزَن[53].
لا يسوغ الحديث عن "نمط من القمع" من جانب أعداء الشعب: ففي كل مكان، يعمل أعداء الشعب تبعاً للظروف النوعية من تاريخية واجتماعية واقتصادية، على نحو يزداد أو يقل إجراماً، وإن كانت طرائق القمع العامة متماثلة على الدوام. ثمة أماكن لا يستثير فيها فرار الرجل إلى منطقة الغوار، مخلفاً أسرته في البيت، رد فعل كبير. بَيْدَ أن هذا الفرار كاف، في أماكن أخرى، لمصادرة أرزاقه وإحراقها وللتسبب بقتل الأسرة كلها. لذا فمن الطبيعي أن يتم تنظيم الفلاحين الذين سوف يتأثرون بتقدم العدو، على خير وجه، تبعاً لما يعرف عن قواعد الحرب في هذه المنطقة بالذات.
واضح أنه ينبغي التأهب لطرد العدو خارج المنطقة المصابة، بقطع خطوط مواصلاته، ومنع تمونيه بواسطة غوارات صغيرة ترغمه على أن يلقي في القتال أعداداً كبيرة جداً من الرجال.
إن استخدام الاحتياط على نحو حكيم في كل لقاء هو أهم العوامل في هذه المعارك. يندر أن يستطيع الجيش الثائر، بحكم طبيعته، أن يعتمد احتياطات، لأن عمل أبسط المشتركين فيه منظم ومستخدم ملياً في كل قتال. غير أنه يحسن أن يحتفظ الجيش الثائر برجال موزعين، يستطيعون الاستجابة لطارىء ما، أو شن هجوم معاكس، أو تثبيت وضع ما. ويمكن وفقاً لتنظيم الغوارة وتبعاً لإمكانات الساعة، أن يحتفظ بفصيلة متأهبة "صالحة لكل عمل"، تكون مهمتها هي الانتقال إلى أشد النقاط خطراً. يمكن تسميتها "الفصيلة الانتحارية"، أو أي اسم آخر. إنها تقوم جيداً في الواقع بالوظائف التي تشير هذه التسمية إليها. يجب إرسال هذه "الفصيلة الانتحارية" إلى كافة النقاط التي يحسم فيها القتال، وإلى الهجمات المفاجئة على المقدمات، وللدفاع عن الأمكنة الأشد خطورة وعرضة للإصابة، وأخيراً إلى كل مكان يهدد فيه العدو استقرار خط النار. يترك كل امرىء حراً أن ينخرط في هذه الفصيلة، التي يجب أن تغدو جائزة ينالها من يختارها. والجندي منها خليق أن يصبح على مر الزمن مثالاً لكل رتل غواري، ويتمتع المغاور الذي يتشرف بالانتساب إلى هذه القطعة بإعجاب واحترام رفاقه كافة.




 

 


   

رد مع اقتباس