الموضوع: حرب العصابات
عرض مشاركة واحدة

قديم 30-04-09, 08:37 AM

  رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

القسم الثاني

الغوار






1- المغاور مصلحاً اجتماعياً
لقد حددنا وضع المغاور في ما سبق: إنه رجل يندمج بإرادة الشعب التحررية، ومتى استنفدت الوسائل السلمية، فهو يطلق العنان للنضال فيغدو الطليعة المسلحة للسكان المقاتلين. إنه يدخل النضال وفي نيته هدم النظام الظالم، ويتطلع أيضاً، بكثير أو قليل من التأكيد، إلى استبدال النظام القديم بشيء جديد.
لقد أكدنا أن الريف في أمريكا اللاتينية وفي كافة البلدان المتخلفة تقريباً، هو الذي يشكل ميدان النضال الأمثل، في الظروف الراهنة. لذا فإن أساس المطاليب الاجتماعية التي سوف يثيرها المغاور سيكون تغيير بنية الملكية الزراعية.
سيدور النضال إذاً باستمرار تحت الإصلاح الزراعي. ويمكن في البدء ألاَّ تكون أهداف هذا الإصلاح وحدوده محددة تماماً، وأن يقف عند رغبة الفلاح، القائمة منذ قرون خلت، في امتلاك الأرض التي يشتغلها أو التي يرغب في اشتغالها.
تتعلق شروط تحقيق الإصلاح الزراعي بالشروط القائمة قبل بدء النضال وبالاتساع الاجتماعي لهذا النضال. إلاَّ أن المغاور، بصفته عنصراً واعياً من الطليعة الشعبية، ينبغي أن يكون سلوكه الأخلاقي بحيث يستوثقه خادماً حقيقياً للإصلاح الذي ينشده. فإلى الشدة الكراهية الناجمة عن شروط الحرب القاسية، ينبغي أن يضيف الشدة الناشئة عن الرقابة الصارمة على النفس، التي تقاوم كل غلواء، كل جنوح يمكن أن تستدرجه الظروف. ينبغي أن يكون المغاور ناسكاً.
أما العلاقات الاجتماعية، فسوف تتغير مع تطور الحرب. ففي البدء، لا يزال المغاوير مستجدين، فلن يستطيعوا ولن يحاولوا حتى تغيير أي شيء في البنيات الاجتماعية المحلية. أما البضائع التي لا يستطيعون تأدية قيمتها، فسوف يشترونها لقاء سندات تسدد في أول فرصة سانحة.
ينبغي أن يساعد المغاور الفلاح دوماً، مِهانياً واقتصادياً ومعنوياً وثقافياً. ومنذ لحظات الحرب الأولى سيكون حاضراً دوماً لمساعدة الفقير، مع فرض أقل قدر ممكن من الإزعاج للغني. إلاَّ أن الأمور تأخذ مجراها، وتزداد التناقضات حدة، وسوف يأتي وقت يأخذ فيه كثيرون ممن كانوا ينظرون إلى الثورة بشيء من العطف يقلبون لها ظهر المجنّ، وسوف يخطون خطوتهم الأولى في الصراع ضد القوى الشعبية. في هذه اللحظة ينبغي أن ينقلب المغاور فيغدو حامل راية قضية الشعب، ويعاقب كل خيانة. وفي منطقة القتال، تقصر الملكية الخاصة على حدود وظيفتها الاجتماعية: أي أن الأرض الفائضة والدواب غير الضرورية لعائلة غنية تنتقل إلى أيدي الشعب وتوزع بالعدل.
ويحق للمالك الذي يحل هذا المصير بأرزاقه أن يتقاضى تعويضاً وينبغي احترام هذا الحق. إلاَّ أن التسديد يتم بسندات ("سندات الأمل"، كما دعاها استاذنا اللواء بايو[34] عند الكلام عن هذا النوع من الإقرار بالدين).
وتنتقل أراضي وأملاك وصناعات أعداء الثورة البارزين والمباشرين فوراً إلى أيدي القوى الثورية، وينبغي الإفادة من مناخ الحرب، من هذه اللحظات التي تبلغ فيها الأخوة الإنسانية أسمى قيمتها، لابتعاث كل نمط من العمل التعاوني يمكن أن تتقبله ذهنية المنطقة.
لا يكتفي المغاور، المصلح الاجتماعي، بأن يضرب المثل بسلوكه، بل ينبغي أن يسدي توجيهاً فكرياً مستمراً، بفضل معارفه، وأمانيه، والتجربة التي يكتسبها خلال شهور الحرب أو سنواتها. إن هذه التجربة تفيد الثوري إذ تنير مفاهيمه بقدر ما يتأكد له بأس السلاح، وبقدر ما يعي ظروف أهالي المنطقة. يدرك الثوري عندئذ الأساس الحق والضرورة الحيوية لكثير من التغييرات التي كان يرى أهميتها النظرية فيما مضى، ولكنه غالباً ما لم يفطن لطابعها العملي الملِح.
يكثر هذا الموقف نظراً لأن بادئي حرب الغوار وقادتها ليسوا أناساً ينوءون كل يوم بفلاحة القَراح[35]، إنهم رجال يفهمون ضرورة تغيير وضع الفلاحين الاجتماعي ولكنهم لم يتألموا، في جملتهم، من شرور حالة الفلاح. فيحصل عندئذ – وأتكلم ههنا عن التجربة الكوبية – تفاعل حقيقي بين أولئك القادة الذين يعلِّمون الشعب، بالوقائع، أهمية النضال المسلح الأساسية، وبين الشعب ذاته الذي يكبر شأنه إبان النضال، ويُري القادة بدوره ما هي الضرورات العملية. ومن هذا التفاعل بين المغاور وشعبه ينشأ تجاذر[36] تدريجي يقوي الموائز الثورية للحركة شيئاً فشيئاً، ويعطيها بُعدها القومي.





2- المغاور مقاتلاً
تتطلب حياة المغاور ومميزاتها التي رسمنا معالمها باقتضاب، مجموعة من الشروط الجسمية والعقلية والأخلاقية ليتكيف المرء بهذه الحياة وينجز المهمات التي تقتضيها بنجاح.
وأول سؤال يتبادر هو الآتي: ماذا يُطلب من المغاور؟ ينبغي الإجابة أولاً أنه يُفضَّل أن يكون المغاور من أهالي المنطقة. إذ يكون له في محلته علاقات يمكنه الاتصال بها مباشرة، ويكون عارفاً بهذه المنطقة إذ هو منها. (إن معرفة الأرض هي أحد العوامل الهامة في نضال الغوار). ويستطيع أن ينجز عملاً أفضل لاعتياده مواجهة صعوبات منطقته. ويضيف إلى ذلك الحماس في الدفاع عن حِماه الخاص أو في النضال لتغيير النظام الاجتماعي الذي يُسيء إلى عالمه الشخصي.
المغاور مقاتل ليلي: نقصد بذلك أنه يجوز كافة الصفات اللازمة للعمل الليلي. ينبغي أن يكون ماكراً، وأن يسير في الوهاد والأنجاد إلى مكان القتال دون أن يشعر أحد بتنقلاته، وينقضّ على العدو باستعمال المفاجأة، فهي عنصر رئيسي في هذا النمط من الحرب. ينبغي له أن يفيد من الذعر الحاصل، فيلقي بنفسه في القتال جامحاً، لا يحتمل أدنى توان لدى رفاقه، مستفيداً من أدنى معالم الوهن لدى العدو. يصل المغاور كالإعصار، يهدم كل شيء، لا رحمة لديه إلاَّ ما تمليه الظروف، يقتل عند الاقتضاء، ويزرع الرعب بين المقاتلين الأعداء. إلاَّ أنه في آن، يعامل المهزومين العزَّل بالحسنى، ويحترم الموتى.
الجريح حرام، وينبغي معالجته على أحسن وجه ممكن – إلاَّ إذا أدانته حياته الماضية بالإعدام – فيجرى به المقتضى في هذه الحالة. إن ما لا يسوغ عمله أبداً هو أصطحاب أسير عندما لا يتوفر بعد مأرز متين يمتنع على العدو: يغدو هذا الأسير عندئذ خطراً على أمن السكان المحليين وعلى تشكيلة الغوار ذاتها، بسبب المعلومات التي يمكن أن يقدمها إذا ما عاد إلى فرقته الأصلية. فإذا لم يكن مجرماً، أطلِق سراحه بعد توبيخه.
ينبغي أن يجازف المغاور بحياته كلما لزم ذلك، وأن يكون مستعداً ليجود بها دون تردد في اللحظة المطلوبة. لكن عليه أن يكون حذراً في آن والاَّ يعرِّض نفسه بلا ضرورة. ينبغي اتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة لاجتناب النهاية غير الموفقة أو الهلاك. لذلك يهم جداً في كل قتال، أن تراقب كافة النقاط التي يمكن أن يتلقى العدو النجدات منها. ويمكن بذلك اجتناب التطويق أيضاً، فهو نكبة مادية بالغة الخطورة، إلاَّ أنه نكبة معنوية أشد خطورة، إذ يُفقد الإيمان بمستقبل النضال.
بَيْدَ أنه ينبغي أن يكون المغاور مقداماً، أن يحلِّل الخطر وإمكانات العمل ببرود، أن يكون جاهزاً دوماً لاتخاذ موقف متفائل مهما كانت الظروف، أن يجد مخرجاً موفقاً، حتى في اللحظات التي لا تترك فيها المقارنة بين العناصر المؤاتية والمجافية له غير أمل ضئيل.
ولكي يفوز المغاور بالحياة، ينبغي أن يثبت قدرة كافية على التكيف ليستطيع الاندماج بالبيئة التي يعيش فيها واستخدامها إلى الحد الأقصى حليفة له. ثم ينبغي أن يكون حادَّ الإدراك، ذا قدرة عفوية على الإبداع، تسمح له باتخاذ القرارات في غمرة العمل.
إن قدرات التكيف والإبداع هذه لدى الجيوش الشعبية تُفشل كل حسابات أمراء الحرب وتكبح جماحهم.
لا يسوغ للمغاور في أية حال أن يترك رفيقاً جريحاً إلى رحمة جنود الأعداء إذ أن مصيره شبه المؤكد هو الموت. يلزم إبعاده عن مناطق القتال مهما كلف الأمر، لنقله إلى حرز أمين، وينبغي احتمال أشد المتاعب لهذه الغاية ومعاناة أعظم المخاطر: فيجب ان يكون جندي الغوار رفيقاً لا يضارع.
وهو بالإضافة إلى ذلك، أبكم. كل ما يقال أو يجري أمامه لا يعرفه غيره. لا يسمح لنفسه أبداً بكلمة زائدة، حتى مع رفاقه في القتال، فالعدو سوف يحاول باستمرار أن يدخل رجاله إلى قلب تشكيلة الغوار، للتعرف إلى مخططاتها وإلى أماكن ووسائل الحياة التي تستخدمها.
وبالإضافة إلى الصفات الأخلاقية التي ذكرناها، ينبغي أن يتمتع بعدد من الصفات الجسمية الهامة جداً. ينبغي أن يكون غير تعوب، فيجد "نَفَساً ثانياً" عندما يبدو أنه بلغ من الإعياء مبلغاً لا يطاق. فكل حركة من حركاته بطولية تخرج من أعماق إيمانه، فترغمه على أن يخطو خطوة أخرى، لن تكون هي الأخيرة، إذ يفوز بأخرى، ثم أخرى، وأخرى، باستمرار إلى أن يبلغ المكان الذي حدده القائد.
ينبغي أن يستطيع معاناة الألم إلى أقصى حدوده، فيحتمل ليس فقط حرمان الغذاء، والماء والثياب، والمأوى، الذي يتعرض له كل آن، بل يحتمل الأمراض والجراح أيضاً. وكثيراً ما ينبغي أن تندمل الجراح دون تدخل الجرَّاح، بفعل الطبيعة وحدها، ولا بد أن يكون الأمر كذلك لأنه يغلب لمن يغادر منطقة الغوار للمعالجة، أن يغتاله العدو.
ولكي يحقق هذه الشروط ينبغي أن يتمتع المغاور أيضاً بصحة من حديد، تسمح له باحتمال كل الخطوب دون أن يصيبه مرض، كما تسمح له بالتعافي إبان حياة الوحش الطريد هذه، حتى يغدو، إذا أمكنني القول، جزءاً لا يتجزأ من الأرض التي يقاتل عليها، بفعل من التكيف الطبيعي.
تحدو بنا كل هذه الاعتبارات إلى التساؤل: ما هي السن المثلى للمرء لكي يكون مغاوراً؟ يصعب جداً تدقيق حدود السن. ثمة مائزات اجتماعية أو فردية من شتى الأنواع يمكن أن تغير منها. فسوف يكون الفلاح مثلاً أجلد كثيراً من ابن المدينة. والمدني الذي اعتاد التمارين الجسمية والحياة الصحية سيكون أفعل بكثير من رجل قضى عمره كله خلف المكتب. إلاَّ أنه يمكن القول بإيجاز إن السن القصوى للمقاتل، في مرحلة البداوة التامة من الغوار، لا ينبغي أن تتجاوز الأربعين، مع بعض استثناءات قليلة تصادف خاصة لدى الفلاحين. لقد التحق أحد أبطال نضالنا، هو المقدم كريشنثيو بيريز، بالـ"سييرا"[37] وله من العمر خمس وستون، وكان من أكثر الرجال فائدة في الجيش. ونستطيع التساؤل هل ينبغي أن ينتمي أعضاء تشكيلة مغاورة إلى فئة اجتماعية معينة. وقد قيل إنه ينبغي أن تتفق فئتهم الاجتماعية مع فئة المنطقة التي تختار مركزاً للعمليات، أعني أن تكون النواة المقاتلة فلاحية. الفلاح هو وضوحاً أفضل جندي، لكن هذا لا يعني أنه ينبغي نفي عناصر السكان الآخرين وحرمانهم من فرصة النضال في سبيل قضية عادلة. وفي هذا الصدد أيضاً ليس من قاعدة لا استثناء لها.
لم نحدد بعد السن الدنيا. نعتقد أنه لا يجوز قبول عناصر لم يبلغوا السادسة عشرة، إلاَّ في ظروف خاصة جداً هنا أيضاً. فهؤلاء المراهقون، الذين يكادون أن يكونوا أولاداً، ليسوا بعامَّتهم على ما يكفي من النمو لاحتمال المشاق والمتاعب والآلام التي سيرغمون عليها.
يمكن القول إن السن المثلى للمغاور تقع بين خمس وعشرين وخمس وثلاثين سنة. فالحياة في هذه المرحلة قد اتخذت لدى الجميع وجهتها النهائية، ومن يذهب مخلّفاً بيته وعالمه قد فكر ملياً في مسؤولياته، ويفعل ذلك وقد حزم أمره على ألاَّ يتراجع خطوة. ثمة بين الأولاد أيضاً حالات لمقاتلين غير عاديين قد بلغوا أسمى تقديرات جيشنا الثائر. إلاَّ أنها استثناءات فقط. وازاء كل مراهق أثبت صفات المقاتل الرفيعة، ثمة عشرات لزم إعادتهم إلى ديارهم وشكَّلوا لوقت طويل ثقلاً خطيراً على تشكيلة الغوار.
والمغاور، كما قلنا، جندي يحمل بيته على ظهره، مثل الحلزون. فينبغي له إذاً أن يجهز حقيبته بحيث أن أقل كمية ممكنة من المتاع تؤدي له أعظم الفائدة. لن يصطحب إلاَّ ما لا غنى عنه، لكنه سوف يحتفظ به خلال كل الظروف كأثمن ما عنده، فهو ما لا يسوغ فقده إلاَّ في حالات يائسة حقاً.
وسوف يقتصر تسلُّحه إذاً على ما يستطيع اصطحابه بنفسه حصراً. سيكون تجديد التموين بالسلاح صعباً جداً، وأصعب منه التموين بالذخيرة: فالتعليمات العسكرية هي إذاً عدم ابتلال الرصاص، وصيانته، وعدَّه واحدة واحدة لاجتناب فقدان شيء منه. أما البندقية فتبقى نظيفة دائماً، مشحمة جيداً، لامعة القناة، ومن المفيد أن يعاقب قائد كل جماعة أولئك الذين لا يسهرون على صيانة سلاحهم.
ولكي يتحلى هؤلاء الرجال بمثل هذه الصفات من إخلاص وحزم، تسمح لهم بالعمل في هذه الظروف المناوئة، ينبغي أن يكون لهم مثل أعلى. إن هذا المثل بسيط، مباشر، ليس فيه كبير ادعاء، ولا يرمي بعيداً على وجه العموم، إلاَّ أنه على قدر من الحزم والوضوح يمكن معه التضحية بالحياة في سبيله، دون تردد. إنه لدى كافة الفلاحين تقريباً، حق امتلاك قطعة أرض تخصهم لشغلها والاستمتاع بوضع اجتماعي عادل. إنه لدى العمال، الحصول على عمل وتقاضي أجر لائق، والاستمتاع أيضاً بوضع اجتماعي عادل. وتصادف لدى الطلاب وأهل المهن الحرة، أفكار أكثر تجريداً، مثل الشعور بالحرية التي يكافحون من أجلها.
يحدو بنا كل ذلك إلى التساؤل: كيف يعيش المغاور؟ إن حياته النظامية هي أن يجوب الطرق. لنأخذ مثلاً مغاوراً في الجبل في منطقة شَجِرة، يطارده العدو باستمرار. تنتقل تشكيلة غوارية في هذه الظروف نهاراً، دون أن تأخذ وقتاً للطعام. ومتى تدانى الليل تحط الرحال في فرجة من الغاب، قرب مورد ماء، وفق التنظيم المعتاد، فتجتمع كل جماعة للطعام سوية، ومتى ران الليل تشعل النيران بما يتوفر لذلك.
يأكل المغاور متى استطاع، وكل ما يستطيع. تختفي وجبات خيالية في بطون المقاتلين، ويعانون أحياناً أخرى صيام يومين أو ثلاثة دون هوادة في إجهادهم. إن سقف المغور هو السماء المكشوفة: وسوف يداخل بين السماء وبين شبكة نومه رقاً من النايلون كتيماً للماء، ويضع تحت شبكته حقيبته وبندقيته ورصاصه التي هي كنوزه. يستحسن أحياناً عدم نزع الأحذية خشية حدوث هجوم مفاجىء من العدو. الأحذية هي كنز آخر للمغاور ومن يملك زوجاً منها يضمن لنفسه حياة سعيدة في نطاق المصاعب اليومية.
هكذا يسير المغاور يوماً بعد يوم، دون اقتراب من أي مكان آهل، مجتنباً كل تماس لم يقصده هو، عائشاً في أوعر المناطق، دون طعام أحياناً وحتى دون شراب، في الحر والقر. يتفصد عرقه في المسيرات الدائبة ويجف عليه ممتزجاً بالعرق الأسبق، دون توفر النظافة بانتظام (غير أن ذلك يتعلق كما هو الأمر دائماً، بمزاج كل واحد).
حدث في الحرب الأخيرة، عندما أوشكنا على دخول بلدة "أل أوفيرو"، بعد السير ستة عشر كيلو متراً والقتال ساعتين وخمس وأربعين دقيقة في عين الشمس، وبعد عشرة أيام ونيف قضيناها في ظروف مجافية لنا، أن وُجدنا قرب البحر تحت شمس محرقة. كانت أجسامنا تفوح برائحة مميزة مؤذية إلى حد أنها تصد كل من يقترب. وكانت حاسة الشم لدينا قد تكيفت بهذا النمط من الحياة، وكانت شبكة كل مغاور تعرف عن سواها من رائحتها الخاصة.
ينبغي أن تكون المعسكرات سهلة المغادرة وألاَّ يبقى فيها أثر يشي بها، وأن تكون اليقظة في غايتها. ولكل عشرة رجال ينامون، يجب أن يكون ثمة واحد أو اثنان ساهرين. ينبغي تبديل الحرس مرات عديدة ومراقبة كافة مداخل المعسكر مراقبة وثيقة.
تعلََّم حياة الحرب كثيراً من الحيل لتهيئة الطعام ولطبخه بسرعة وتطييبه بكل ما يصادف في الجبل، أو لابتكار ألوان جديدة وتنويع أشكاله التي تتألف بصورة أساسية، في المنطقة المدارية، من النباتات الدَرَنية، والحبوب، والملح، وقليل من الزيت أو الزبدة، وفي مناسبات متباعدة جداً، من أحد صنوف اللحم

 

 


   

رد مع اقتباس