القوات الأمريكية تخلِّف وراءها مدنا عراقية يلُّفها القلق
يكتمل انسحاب القوات الأمريكية من المدن والبلدات العراقية اليوم
مع اقتراب موعد انسحاب القوات الأمريكية من المدن والبلدات العراقية بشكل كامل اليوم الثلاثاء، تتصاعد الهجمات التي يشنها مسلحون بالقنابل في شتَّى أنحاء البلاد. في هذا الجو، يتساءل جيم موير، مراسل بي بي سي في المنطقة، عمَّا إذا كان ارتفاع وتيرة الهجمات يشكِّل علامة على أن الأسوا لم يأت بعد، أم أنه يمثل الحركة الأخيرة في لعبة النَّرد بالنسبة للمسلحين؟
ربما يبدأ الاختبار الحقيقي للوضع الأمني في العراق مع الانتخابات العامة أوائل اعام المقبل شمس حارقة
تحت أشعة الشمس الحارقة وعند وقت الظهيرة في أحد أيام الصيف في العراق، ساد جو من الهيجان والنشاط الصاخب في ما تبقَّى من مقر قيادة قوات الأمن المشتركة (جي إس إس) كومانشيه.
إنها واحدة من العديد من القواعد العسكرية الأمريكية التي أُقيمت في البلاد في ربيع العام المنصرم، وذلك بالاشتراك مع قوات الجيش العراقي.
كان الهدف من إنشاء القاعدة هو إخضاع العاصمة العراقية بغداد ومناطق آُخرى من البلاد لسيطرة الحكومة المركزية.
يقبع مقر جي إس إس كومانشيه هذا على تخوم مدينة الصدر ببغداد، تلك الضاحية ذات الأغلبية الشيعية، والممتدة على مساحة مترامية الأطراف يلفها جو سديمي حار.
معقل ميليشيا
كانت المدينة حتى العام الماضي تشكِّل معقلا لميليشيا جيش المهدي، أي أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. إلا أنه جرى ترويض تلك الميليشيا وانحلت بعد أن كانت قد خاضت قتالا ضاريا ضد كل من قوات التحالف والجيش العراقي.
أمَّا الآن، وتنفيذا لبنود اتفاق الانسحاب الموقَّع بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية، فإن الأمريكيين منهمكون بحزم أمتعتهم والاستعداد للرحيل عن البلدات والمدن.
خاض الأمريكيون حربا شرسة ضد المسلحين خلال الفترة الماضية
الأمريكيون منهمكون هذه الأيام بحزم أمتعتهم والاستعداد للرحيل عن البلدات والمدن
ترى الرافعات العملاقة مشغولة برفع أجزاء من الجدران الإسمنتية المضادة للتفجيرات، ومن ثم وضعها على متن شاحنات ليتم نقلها إلى مكان آخر، وذلك وسط الزوابع وسُحب الغبار التي ملأت المنطقة. حزم الحقائب
أمَّا عناصر لواء آيرون هورس" من فرقة الفرسان الأولى في الجيش الأمريكي، فقد حزموا حقائبهم واعتلوا عرباتهم المدرعة وغادروا منطقة انتشارهم.
وحتى قبل يومين من حلول الموعد النهائي لمغادرة القوات الأمريكية في نهاية الشهر الحالي، تحوَّل هذا الموقع إلى مجرَّد أرض يباب مهجورة، كما أُعدَّ مبنى القيادة لكي يتم تسليمه إلى العراقيين.
لن يتم تسليم ذلك المبنى للجيش العراقي، والذي أعاد انتشار وحداته هو الآخر في مناطق مختلفة، بل سيُسلَّم إلى وزارة الزراعة، صاحبة المنشأة التي كانت تُستخدم كمحطة أبحاث تابعة لها.
إغماد السيوف
القاعدة العسكرية، ببساطة، في طريقها إلى الاختفاء والتلاشي، فهذه هي السيوف تعاد إلى أغمادها.
ومن محاسن الصدف، أنني تمكنت من أن ألتقي بعض موظفي وزارة الزراعة الذين جاؤوا ليتفقدوا مقرهم القديم، وذلك قبل استعادته من الأمريكيين.
كانت مدينة الصدر حتى العام الماضي معقلا لميليشيا جيش المهدي، أي أتباع مقتدى الصدر
لم يكن هؤلاء المسؤولين مسرورين جدا، فقد قالوا لي إن كافة سجلاتهم ومعداتهم قد ولَّت إلى غير رجعة، وكذلك خسروا سنوات من العمل المضني والجاد.
المالكي: بات العراق قادرا على حماية أمنه بنفسه
كما لم يكن أولئك المسؤولون متفائلين أيضا بشأن المستقبل الذي ينتظر بلادهم والمنطقة.
انفجار عنيف
فقد هزَّ مدينة الصدر انفجار عنيف عند لحظة الغروب وقُبيل ساعات فقط من زيارتنا لمقر جي إس إس كومانشيه، ولكأن الأمر قد جاء ليؤكد لهؤلاء المسؤولين العراقيين مخاوفهم التي طالما حدثوني عنها لتوِّهم.
فقد أُلقيت قنبلة في أحد أسواق المدينة المزدحة، والتي تكون عادة في ذروة نشاطها عند الغسق، إذ تبدأ درجة الحرارة، التي تلفح الوجوه عادة خلال النهار، بالانخفاض في مثل ذلك الوقت.
قُتل في الهجوم عشرات الأشخاص، ولربما وصل العدد إلى 80 أو 90 شخصا، إذ توفي بعض المصابين في وقت لاحق.
غضب عفوي
وانفجر غضب عفوي في أوساط من "نفد بريشه" من الهجوم، إذ سمعنا أصوات البعض في الحشود وقد راحوا يهيلون الحجارة على أفراد قوات الأمن ويصرخون متسائلين: "لماذا لا يقوم الجيش العراقي بحمايتنا؟"
المالكي للعراقيين: القوات العراقية باتت قادرة على الحفاظ على أمنكم
كل ذلك أكد لنا سبب المخاوف التي تنتاب العراقيين في الوقت الذي تتنحى فيه القوات الأمريكية جانبا ويبدو العنف آخذ بالتصاعد بشكل حاد.
وهكذا نرى المرة تلو الأخرى أن مناطق الشيعية وأسواقهم ومساجدهم وشوارعهم المزدحمة تُستهدف بهجمات كبيرة بالقنابل، تماما كما كان يحدث في تلك الأيام القديمة السيئة التي مرت على البلاد قبل نحو عامين أو ثلاثة أعوام خلت.
ذريعة
يخشى البعض من عودة الميليشيا إلى العنف بعد الانسحاب الأمريكي من المدن والبلدات العراقية
ولهذا السبب ظهرت الميليشيا الشيعية في ذلك الوقت، وكانت ذريعتهم بذلك هي حماية تجمعاتهم المهددة بالخطر، بالإضافة إلى الرغبة بالانتقام لما وقع عليه، الأمر الذي قاموا به بشكل فظيع من خلال خطف وتعذيب المئات، أو في الحقيقة الآلاف، من السنة.
وإذا تواصلت تفجيرات القنابل وساءت الأوضاع خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وكانت القوات العراقية غير قادرة على إيقافها، فبالتأكيد ستتزايد الضغوط على الميليشيا الشيعية لكي تعود إلى سابق عهدها وممارسة أنشطتها السابقة.
وعندها، بالطبع، سيكون هناك ثمة خطر من عودة الدورة المميتة من الانتقام الطائفي التي بدأت تتبدَّى معالمها من جديد.
لقد أطل رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، من على شاشة التلفزيون ليؤكد للعراقيين أن القوات العراقية باتت قادرة على الحفاظ على أمنهم.
الإبلاغ عن الشبهات
ستكون القوات الأمريكية جاهزة لتقديم النجدة والعون للقوات العراقية عندما يُطلب منها ذلك
وحثَّ المالكي أفراد الشعب على عدم الاستجابة للاستفزازات، وعلى مساعدة قوات الأمن من خلال الإبلاغ عن أي شيء مشبوه يرونه أو يشعرون به.
وقال المالكي إن انسحاب الأمريكيين من المدن والبلدات يشكل تطورا تاريخيا ونصرا كبيرا للعراق.
وفي الواقع، إن الانسحاب الذي نتحدث عنه الآن يحدث بشكل واضح وبادٍ للعيان، أكثر من كونه انسحابا حقيقيا. إن الأمر ليس أبدا وكأن الأمريكيين يقومون في الثلاثين من الشهر الجاري فجأة بسحب غطاء الطاولة من تحت مجموعة من الأطباق والصحون والأواني الفخارية.
كما أن الأمريكيين كانوا قد خففوا في الآونة الأخيرة من وجودهم وفرص رؤية العراقيين لهم في معظم المناطق المدنية في البلاد.
إعادة تموضع
حتى أن القوات التي يقومون بسحبها الآن من مواقع مختلفة، مثل جي إس إس كومانشيه، لن تذهب بعيدا، إذ تجري إعادة تموضع لها في قواعد خارج حدود المدينة. كما ستكون هذه القوات جاهزة للتدخل وتقديم النجدة والعون للقوات العراقية عندما يُطلب منها ذلك.
وليست القوات الأمريكية الأصلية المتواجدة في العراق منذ سنوات بصدد مغادرة البلاد حالا، ناهيك عن تلك الوحدات التي أُرسلت إلى هناك لاحقا للمساعدة في قمع حركة المسلحين المتصاعدة.
أمَّا التجربة والاختبار الحقيقيان فسوف يأتيان لاحقا. ولربما يحدث ذلك في أعقاب الانتخابات العامة التي ستشهدها البلاد في شهر يناير/كانون الثاني المقبل، أي عندما يبدأ الأمريكيون بالاختفاء وبمغادرة البلاد فعليا.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل باتت القوات العراقية جاهزة ومستعدة حقا لاستلام زمام الأمور في البلاد، وهل ستبقى تلك القوات متماسكة ككيان واحد، وذلك في أوضاع من الاستفزاز الطائفي والإجهاد؟
سؤال آخر
وهناك سؤال آخر هو: تُرى، هل قامت الحكومة العراقية بفعل ما هو كافٍ لاجتذاب السنة إلى صفوفها، وخصوصا الميليشيا السنية، المعروفة حاليا بـ "مجالس الصحوات"، أو "أبناء العراق"، الذين كانوا يقفون في السابق إلى جانب المسلحين؟
والسؤال الثالث هو: هل ينتاب العراقيين حقا شعور بالانتماء القوي إلى الأمة العراقية وبالارتباط بها، أم أنهم يقفون بانتظار رحيل الأمريكيين، وبالتالي يستطيعون عندئذٍ الاهتمام بمصالح طوائفهم وعشائرهم وقبائلهم؟
والحقيقة هي: لا أحد يعرف حقيقة، لكن هناك ثمة حاجة لفعل المزيد في الوقت الراهن، وذلك إذا ما أُريد للشعب العراقي أن يشعر بالثقة بالنفس.
المصدر : bbc