هذا التناقض يظهر بوضوح عند مقارنة الموقف الأميركي من مذكرات توقيف صدرت بحق الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين، حيث أبدت واشنطن دعما صريحا للمحكمة رغم أن موسكو ليست عضوا في نظام روما، مع موقفها الرافض اليوم لاختصاص المحكمة في الأراضي الفلسطينية، رغم انضمام
السلطة الفلسطينية رسميا إليها منذ عام 2015.
من زاوية قانونية، حاول جيمس روبينز، كبير الباحثين في المجلس الأميركي للسياسة الخارجية، تبرير العقوبات بالقول إن المحكمة الجنائية تجاوزت ولايتها، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل ليستا طرفين في نظام روما المؤسس للمحكمة، ولأن واشنطن لا تعترف بالدولة الفلسطينية.
غير أن هذا التبرير، كما بدا في سياق النقاش، لا يفسر اللجوء إلى عقوبات شخصية ضد قضاة، بدل الاكتفاء بالطعن القانوني أو تجاهل قرارات المحكمة.
هنا تحديدا، تتبدى فكرة "دبلوماسية الترهيب" بوصفها أداة سياسية لا قانونية، فالعقوبات، التي تشمل حظر السفر وتجميد الأصول وتعطيل التعاملات المالية، لا تستهدف الحكم القضائي ذاته، بل القضاة كأفراد، في محاولة لردع أي اجتهاد قانوني مشابه مستقبلا داخل المحكمة.
أستاذ
القانون الدولي والمدعي العام السابق في المحكمة الجنائية الدولية جيفري نايس قرأ هذه الخطوة باعتبارها اعتداء مباشرا على استقلال القضاء الدولي، ومحاولة لتفكيك
القانون الدولي الإنساني برمته.
فحين تُعاقِب دولة قضاة لأنهم مارسوا صلاحياتهم، فإنها -وفق تعبيره- لا تدافع عن السيادة، بل تُعلن أن القانون لا يسري إلا على الضعفاء.
هذه القراءة تلتقي مع مخاوف أوسع عبّرت عنها المحكمة الجنائية الدولية نفسها، حين وصفت العقوبات بأنها تقويض خطير لسيادة القانون، وهو توصيف عززته مواقف أممية وأوروبية، من بينها تحذير صدر عن الأمين العام للأمم المتحدة
أنطونيو غوتيريش، وقلق الحكومة الهولندية، بوصفها الدولة المضيفة للمحكمة.
غير أن هذه الردود، كما أشار الدكتور لقاء مكي، بقيت في إطار الإدانة الرمزية، دون ترجمة عملية قادرة على كبح السلوك الأميركي، فواشنطن، التي تمتلك أدوات الضغط المالي والسياسي، لا تُبدي اكتراثا كبيرا بالاستنكار الأخلاقي، ما دامت العقوبات تحقق هدفها الردعي.
الأخطر في هذا المسار، كما ناقشت الحلقة، لا يكمن فقط في حماية نتنياهو وغالانت من المساءلة، بل في ترسيخ سابقة مفادها أن أي محاولة مستقبلية لمحاسبة قادة دول حليفة لواشنطن ستُواجه بالأسلوب ذاته، وهو ما يضعف ثقة الدول الصغيرة والمتوسطة في جدوى الانضمام إلى منظومة العدالة الدولية.
كما أن هذه المواجهة تعيد طرح سؤال قديم جديد: هل القانون الدولي أداة عدالة أم أداة سياسية بيد الأقوياء؟ فالتاريخ الحديث للمحكمة الجنائية، من السودان إلى أفغانستان وأوكرانيا، يُظهر أن معيار "السيادة" يُستدعى أو يُهمَل وفق هوية المتهم، لا وفق جسامة الجريمة.
في حالة غزة، يكتسب هذا السؤال بعدا إضافيا، فالمحكمة التي فتحت تحقيقاتها منذ عام 2015، لم تتمكن حتى الآن من وقف الجرائم أو ردعها، لكن مجرد اقترابها من دائرة مساءلة إسرائيل كان كافيا لإطلاق حملة أميركية مضادة، هدفها -بحسب مراقبين دوليين- قطع الطريق على أي تطور قانوني قد يحرج الحليف الإسرائيلي.
في المحصلة، لا تبدو العقوبات الأميركية مجرد رد فعل ظرفي، بل جزءا من معركة أوسع على شكل النظام الدولي المقبل، تُطرح في هذه معركة القوة بديلا عن القانون، والردع السياسي بديلا عن العدالة، في وقت تتآكل فيه ثقة العالم بقدرة المؤسسات الدولية على حماية الضعفاء من بطش الأقوياء.