ورغم الضجر قاد أولسون سيارته عبر شوارع العاصمة النمساوية الهادئة نحو سفارة بلاده، وما إن دخل حرم السفارة حتى لفت نظره رجل ذو ملامح لاتينية يجلس في ركن الانتظار، وإلى جواره فتاة صغيرة بدت للوهلة الأولى أنها ابنته. تبادل ضابط الاستخبارات الأميركي نظرة سريعة مع الحارس قبل أن يسأله ماذا لدينا هنا؟ فناوله الحارس جوازَي سفر كوبيين رسميين، فأدرك الضابط أن هذه الزيارة مختلفة.
سارع الضابط أولسون لمقابلة الرجل الكوبي لكنه اصطدم بجدار اللغة. فلم يكن يتحدث اللغة الإسبانية، والرجل لم يكن يعرف من الإنجليزية سوى بضع كلمات، فتحدثا باللغة الروسية.
وبدأ الرجل الكوبي يردد أمامه أسماء يعرفها الضابط الأميركي جيدا: إنها أسماء ضباط
وكالة المخابرات المركزية السريين داخل أوروبا الشرقية. عندها شعر أولسون بأنه أمام شيء أكبر بكثير مما توقع. فاستدعى أحد ضباطه الناطقين بالإسبانية، ونقل الرجل والفتاة على الفور إلى مخبأ آمن، ثم أخرجهم سرا من النمسا فجر اليوم التالي.
كان الرجل هو العقيد فلورنتينو لومبارد رئيس محطة الاستخبارات الكوبية في براغ، أما الفتاة فكانت عشيقته المراهقة، وهي ابنة مسؤول كوبي في السفارة، وقد فرّا معا تاركين خلفهما زوجته وأطفاله في براغ.
قصد المنشقّان فيينا ليعرضا خدماتهما على وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وليدشنا حياة جديدة بعيدا عن قبضة هافانا. وكانت قصتهما بمثابة قنبلة فجّرت واحدة من أكبر الإحراجات في تاريخ الاستخبارات الأميركية.
فقد كشف لومبارد أن الكوبيين الـ38 الذين اعتقدت السي آي إيه أنها جنّدتهم على مدى 26 عاما لم يكونوا سوى عملاء مزدوجين تتحكم بهم الاستخبارات الكوبية من الألف إلى الياء، وأن كل معلومة وردت من هؤلاء "العملاء" كانت مزيّفة، وأن كل الأموال والمعدات التي أُرسلت إليهم بما فيها نظام متطور للاتصالات عبر
الأقمار الاصطناعية، انتهت في خزائن هافانا، مما جعل أولسون يقول "أكره الاستخبارات الكوبية، لكني أحترمها وأخشاها، فجهاز الاستخبارات الكوبي هو الجهاز الأكثر فعالية في مواجهة مكافحة التجسس الأميركية".
كانت تلك القصة الحقيقية واحدة من بين عشرات القصص التي رواها جيمس أولسون رئيس قسم مكافحة التجسس الأسبق بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في كتابه "كيف تمسك جاسوسا؟"، الذي غاص فيه بالقراء في عمق العمليات الاستخبارية، وبالأخص التجسس المزدوج، فشرح بشكل فريد كيفية اختيار العملاء المزدوجين، وطريقة بدء عملياتهم، وآليات إدارتها، وأساليب كشفهم التي ينفذها ضباط الاستخبارات.
إن العميل المزدوج هو شخص يزعم أنه يعمل لصالح جهاز استخبارات محدد، ولكنه يقدم تقاريره إلى جهاز استخبارات آخر، وتعد قضايا العملاء المزدوجين الأكثر تعقيدا في مجال التجسس ومكافحته، لأنها تقوم على إدارة علاقة مركبة تحمل في داخلها خطر الانهيار في أي لحظة.
أحيانا لا ينتهي الجدل حولها بعد سنوات طويلة من خروج أحداثها للعلن، فالروسي موريس تشايلدز الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في صباه، وعمل لصالح الاستخبارات الأميركية والسوفياتية خلال الفترة من 1958 إلى 1977، قد حصل في الوقت ذاته على وسام الراية الحمراء السوفياتي وميدالية الحرية الرئاسية الأميركية تقديرا لجهوده في خدمة كلا البلدين.
وما زال
الجدل دائرا في مصر وإسرائيل حول دور
أشرف مروان صهر الرئيس السابق جمال عبد الناصر، هل قدم للإسرائيليين معلومة موعد بدء حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 وفق الرواية الإسرائيلية، التي عضدها تسفي زامير رئيس الموساد وقت اندلاع الحرب، أم ضللهم بخصوص الموعد وفق رواية الرئيس المصري السابق محمد
حسني مبارك. وقد وصل الجدل حول مروان لدرجة أن كتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف عنه كتاب "الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"، الذي تحول إلى فيلم سينمائي.
مراحل عمليات التجسس المزدوج
تبدأ عملية التجسس المزدوج عادة بتحديد الهدف والغاية، فيجتمع جهاز الاستخبارات لمناقشة أهم الاحتياجات، مثل الدول ومجالات المعلومات التي تتطلب العمل عليها. وبمجرد تحديد الاحتياجات، يُوضع ملف تعريف للعميل المطلوب ثم يبدأ ضباط الاستخبارات في محاولة إيجاد مرشح مناسب. وقد تأخذ هذه العملية بضعة أسابيع أو شهور.
ويتطلب هذا العمل نوعا خاصا من الأشخاص لإتمامه، مثل أن يكون الشخص المرشح ممثلا بارعا كي يبني قصة مقنعة، قادرا على التفكير السريع والتعامل مع الضغوط دون انهيار، ومتمكنا من قراءة الآخرين جيدا، ودقيق الملاحظة، ملتزما بالتعليمات. وعند العثور على الشخص المناسب تبدأ مفاتحته بشكل مباشر أو من خلال وسطاء، وفي حال قبوله للعمل تبدأ عملية الفحص والتدقيق والتدريب المطولة.
إن اختيار الشخص المناسب يمثل النقطة الأهم في مسار إدارة العملية، فليس كل من يقبل التعاون يصلح لأن يكون عميلا مزدوجا، فمعظم الأخطاء تبدأ عند اختيار شخص لا يستطيع التكيف مع الضغط أو يتعامل بردود فعل غير محسوبة.
وفي تلك المرحلة تُبنى للعميل المزدوج حياة كاملة موازية من الصفر تشمل نشأته، ونمط علاقاته، وتاريخه المهني، وتفاصيله اليومية وصولا إلى مشكلاته الشخصية لكي تتناسب مع الصورة التي ينبغي أن يراها الخصم، كما تعاد صياغة علاقاته بمحيطه القريب داخل بلده عبر تغيير نمط عاداته اليومية، أو افتعال مشاكل وظيفية تخدم الغطاء المطلوب. وأي فجوة صغيرة في هذا الواقع الموازي يمكن أن تؤدي إلى انهيار العملية، لأن الخصم عادة ما يختبر الرواية المقدمة له من خلال مقارنة سلوك العميل مع الظروف المحيطة به.
ويشير أولسون إلى أن بعض الدول -خاصة ذات التقاليد الاستخباراتية الصارمة مثل روسيا والصين- لا تمنح ثقتها بسهولة، فتستغرق عمليات التغلغل عبر عميل مزدوج وقتا أطول مقارنة بجهات أقل صرامة. ولهذا فإن الصبر عنصر لا غنى عنه، وفشل الجهاز في احترام الزمن يؤدي غالبا إلى انهيار العملية قبل أن تحقق أي نتيجة ذات قيمة.
وتبدأ نقطة القوة الأساسية في تشغيل هذا النوع من العمليات من الفهم العميق لما يبحث عنه الخصم، فكل جهاز استخبارات لديه نمط من التوقعات، وطريقة معينة في اختبار الأشخاص، ومنظومة متطلبات عند التعامل مع العملاء المحتملين. ولذا تدرس الجهة التي ستدير العميل المزدوج صورة العميل التي يريد الخصم أن يراها، وتحرص على تجهيز 3 أمور أساسية:
- قدرة العميل على الوصول إلى معلومات حصرية.