يشهد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي تحوّلًا متسارعًا منذ مطلع الألفية الجديدة، نتيجة التبدلات العميقة في البيئة الجيوسياسية والتكنولوجية والإقليمية. فالعقيدة الأمنية التي تشكّلت في الخمسينيات على مبادئ الردع، والإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لم تعد قادرة على مواكبة طبيعة التهديدات الجديدة. وقد فرضت التغيرات الجذرية في الشرق الأوسط، خاصة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، واقعًا إستراتيجيًّا جديدًا تلاشت فيه الحدود بين الأمن الخارجي والداخلي.
كذلك، خلال العقود الأخيرة كان هناك تحوّل بنيوي عميق في بنية الجيش الإسرائيلي وعقيدته الأمنية، حيث انتقل مركز الثقل العسكري من الجيش القائم على القوات البرية والمناورة الميدانية إلى جيش فائق التقانة (الهاي-تك) المعتمد على التكنولوجيا والاستخبارات والحرب عن بُعد. هذا التحول، الذي تَغذّى من الثورة الرقمية وهيمنة اقتصاد الابتكار الإسرائيلي، أوجد فجوة متزايدة بين الأذرع العسكرية، إذ تحولت النخبة التكنولوجية الممثلة بسلاح الجو والاستخبارات والسايبر إلى مركز الثقل العملياتي، في مقابل تهميش القوات البرية التي كانت تاريخيًّا عماد الحسم في الحروب الإسرائيلية.
ويرى كلٌّ من رئيس الأركان الأسبق غادي آيزنكوت والعميد غاي حزوت أنّ هذا الخلل في بناء القوة العسكرية أضعف قدرة الجيش على تحقيق الردع الفعّال والحسم الميداني، وجعل العقيدة الأمنية الإسرائيلية تميل إلى إدارة الصراع من بعيد بدل خوضه على الأرض، الأمر الذي أوجد فجوة بين التفوق التقني والجاهزية الميدانية.
وقد جاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023 لتجسّد بصورة مأساوية هذا الخلل البنيوي، إذ كشف هجوم حماس حدود الرهان على التفوق التكنولوجي وإهمال القوات البرية، وأظهر هشاشة منظومات الاستخبارات والإنذار المبكر في مواجهة تهديد غير متكافئ. في ضوء ذلك، يقدم حزوت مراجعة نقدية داخلية لمسار الجيش الإسرائيلي، مبيّنًا أن النجاحات التكتيكية في المعركة بين الحروب لم تُترجم إلى تفوق إستراتيجي، وأن الانقسام بين جيش فائق التقانة (الهاي-تك) وجيش الفرسان يعكس أزمة أعمق في العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي، الذي تراجعت ثقته بالمؤسسة العسكرية وتبدلت أولوياته اتجاه الخدمة القتالية. ومن هنا، يدعو النص إلى إعادة بلورة عقيدة أمن قومي متوازنة تُعيد الاعتبار للقوات البرية، وتدمج بين القدرات التكنولوجية والميدانية، وتؤسس لرؤية نقدية إصلاحية داخل الجيش الإسرائيلي، بما يضمن استعادة الجاهزية والثقة وتحقيق الردع الفعلي في الحروب المستقبلية.
ترافقت هذه التحولات الخارجية مع تغيّرات داخلية عميقة داخل إسرائيل نفسها. كما أثّرت اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية في الإدراك الإسرائيلي لمصادر التهديد، إذ انتقلت بعض الدول من خانة العداء إلى خانة الشراكة، مما دفع بعض النخب الأمنية إلى المطالبة بإعادة تعريف الأولويات الإستراتيجية. غير أن هذه التحولات لم تُفضِ إلى تبنّي صيغة جديدة رسمية للعقيدة الأمنية، وبقيت كل الجهود في حدود المبادرات الفردية والمؤسساتية غير الملزمة.
كانت المحاولة الأولى الجدية لإعادة صياغة العقيدة الأمنية في عام 1998 بمبادرة وزير الدفاع الأسبق إسحاق مردخاي، الذي أطلق ورشة عمل واسعة ضمّت شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية رفيعة المستوى. وقد أُنجزت خلالها دراسة شاملة امتدت في خمس مجلدات تناولت أسس العقيدة الجديدة، إلا أن المشروع لم يُقَر رسميًّا من قبل الحكومة، وبقي حبيس الأدراج.
تكررت المحاولة الثانية في عام 2006، عقب
حرب لبنان الثانية، حين شكّل وزير الدفاع الأسبق دان مريدور لجنة خاصة لتعديل العقيدة الأمنية، وقدّمت اللجنة تقريرها إلى رئيس الأركان آنذاك
شاؤول موفاز. تضمّن التقرير مقترحات لتوسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل الدفاع عن المدنيين من تهديد الصواريخ البعيدة المدى والهجمات السيبرانية. ومع ذلك، واجه التقرير مصيرًا مشابهًا لما سبقه، إذ لم يُقرّ من قبل الحكومة، وظلّ ضمن الإطار النظري غير المُلزم، مما عكس هشاشة الإرادة السياسية في تحويل النقاش الفكري إلى سياسة أمنية عملية.
وفي عام 2013، قدّم اللواء البروفيسور يتسحاق بن يسرائيل تصورًا محدثًا للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، رأى فيه أن الخطر الأساسي الذي يواجه الدولة لم يعد متمثلًا في الجيوش النظامية، بل في التنظيمات اللا-دولتية مثل حماس وحزب الله، التي تمتلك قدرات صاروخية وهجومية متطورة وتعمل بأسلوب الحروب اللامتماثلة. دعا بن يسرائيل إلى بناء عقيدة أمنية تكنولوجية تعتمد على التفوق السيبراني والاستخباري، لكن اقتراحه، بدوره، لم يتجاوز حدود النقاش الأكاديمي، ولم يتحول إلى وثيقة رسمية أو إستراتيجية دولة معتمدة.
في ضوء ذلك كله قدّم كلٌّ من أليكس مينتس وشاؤول شاي دراسة بحثية تتناول ضرورة إعادة تطوير مفهوم الأمن الإسرائيلي التقليدي من خلال إضافة مكوّن جديد هو التكيّف باعتباره عنصرًا إستراتيجيًّا مكمّلًا للمحاور الكلاسيكية للأمن القومي (الردع، الإنذار المبكر، الحسم، والدفاع).
يرى الباحثان أنّ المفهوم الأمني الإسرائيلي، الذي تأسّس منذ عقود على مبدأ الردع والتفوّق العسكري الثابت، لم يعُد كافيًا في ظل التحوّلات الديناميكية المتسارعة في البيئة الإقليمية والتكنولوجية والعملياتية، وأنّ الحاجة الملحّة اليوم تكمن في بناء قدرة مؤسسية مرنة قابلة للتكيّف مع المتغيرات الميدانية والسياسية بصورة مستدامة.
ويؤكد مينتس وشاي أنّ المقصود بالتكيّف ليس الجانب التكتيكي المحدود في إدارة المعارك، بل هو مفهوم إستراتيجي شامل يشمل آليات اتخاذ القرار الأمني وتطوير منظومة التفكير العسكري والاستخباري، بحيث تتمكّن الدولة من التعامل مع سيناريوهات غير متوقعة في بيئة صراعية متقلبة. ويرتبط هذا التوجه بما يسمّيه الباحثان المرونة الإستراتيجية التي تتطلّب من المنظومة الأمنية القدرة على التعلم المؤسسي وإعادة الضبط السريع لمسارات الفعل الميداني والسياسي.
وقد برزت أهمية هذا المكوّن بوضوح عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023، حينما أظهرت إسرائيل تحوّلًا تكيفيًّا جوهريًّا في إدارة الصراع، تمثّل في الانتقال من صدمة الهجوم إلى خوض حرب طويلة الأمد امتدت قرابة عامين، اتّسمت بتبدّل الأهداف العملياتية وتغيير أساليب القتال والاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية. هذا الأداء، وفق التحليل، يعكس تبلور ما يمكن تسميته بـالجيل الجديد من المفهوم الأمني الإسرائيلي القائم على التكيّف الإستراتيجي المستمر في مواجهة التهديدات غير التقليدية.
فشلت المبادرات المتعاقبة في التحول إلى سياسة أمنية رسمية مُلزمة، وظلت محاولات فكرية جزئية تعكس وعيًا بتبدّل التهديدات دون أن تنجح في بلورة رؤية مؤسساتية موحدة. ويُعزى ذلك إلى هيمنة المقاربة العسكرية التقليدية على التفكير الإسرائيلي، وإلى الانقسام السياسي الذي يمنع التوافق على تعريف جامع للأمن القومي في عصر تتشابك فيه الأبعاد العسكرية، والاجتماعية، والتكنولوجية، والاقتصادية. وبذلك، يبقى مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في حالة مراجعة دائمة دون تجديد فعلي، رهينًا بتوازنات القوى الداخلية والخارجية التي تعيق بلورة عقيدة أمنية جديدة تواكب واقع التحديات المعاصرة.
شكّل هجوم حركة حماس على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحوّل جذرية في المشهد الأمني الإسرائيلي، وأحدث زلزالًا إستراتيجيًّا بدّد ركائز النظرية الأمنية التي قامت عليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.
ففي ذلك اليوم، تحطّمت أربع ركائز أساسية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية: الردع، الإنذار، الحسم، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لتُضاف إليها أزمة التكنولوجيا العسكرية التي شكّلت لعقود عنصر التفوق الإسرائيلي. هذا الحدث غير المسبوق أعاد تعريف مفاهيم الأمن، والاستخبارات، والسيطرة في البيئة الإسرائيلية.