
انهيار اقتصادي
رافقت الاضطرابَ السياسي والاختلال الإداري الذي عصف برسوخ العرش المملوكي أزماتٌ اقتصادية هائلةومتتابعة، فصَّل القولَ في أسبابها وتجلياتها وتداعياتها -في العديد من مؤلفاته- المؤرخُ المقريزي الذي عاصر تلك الحقبة وراقبها بدقة، وأرجعها -في كتابه ‘إغاثة الأمة‘- إلى ثلاثة عوامل رئيسية رأى أنها هي أسباب تلك الأزمات وما يسبقها أو يرافقها من "الغلوات" أي موجات التضخم.
وأول تلك الأسباب -في نظره- هو الفساد الذي جعل السلطة السياسية والتنفيذية والقضائية في الدولة مرتعا لـ"كل جاهل ومُفْسد وظالم وباغٍ" يسعى إلى تولي "الخُطط (= الوظائف) السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة: كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة، وسائر الأعمال"، وغالبية هؤلاء الولاة الفَسَدة لا مال عندهم فكانوا يلجؤون إلى الاستدانة لدفع تلك الرشى للسلطان.
وعندما يكون رأس السلطة فاسدا فمن مصلحته أن يغمض "عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع الأموال، ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء ولا بما يسترقّه من الحرائر"، ولذلك نجد أن "قوماً ترقَّوْا في خَدَم الأمراء يتولَّفون إليهم بما جَبَوْا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم، فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال"!!
وبعد أن يتولى المفسدون الوظائف يصبح كل واحد منهم نقطة تجمّع لفاسدين أصغر منه، وهكذا ينتشر الفساد الإداري في عصب أجهزة الدولة من أعلى إلى أسفل، عبر الاختلاس أو فرض الضرائب الباهظة التي تشبه "الإتاوة" على عامة الناس وخاصتهم.
وقد عرفت ظاهرة الرشوة مقابل تولي الوظائف العامة -في الغالب- باسم "البرطلة"، ورغم عراقة هذا المصطلح فإننا نراه شاع بقوة في مصادر تاريخ العصر المملوكي عاكسا المدى الواسع لتفشي الرشوة فيه.
ويؤكد المؤرخ المملوكي الجركسي ابن تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- أن هذه الظاهرة وُجدت في عصر المماليك البحرية لكنها كانت خافية ومُحارَبة، بينما أصبحت مجاهَرا بها في عصر دولة الجراكسة منذ مؤسسها الأول السلطان الظاهر برقوق الذي يقول عنه: "وحدث في أيامه تجاهرُ الناسِ بالبراطيل (= الرّشا)، فكان لا يكاد يُولَي أحدا وظيفة ولا عملا إلا بمال، وفسدَ بذلك كثير من الأحوال، وكان مولعا بتقديم الأسافل وحطّ ذوي البيوتات" الأصيلة!!
وقد لاحظ ابن تَغْري بَرْدي أيضا خطورة هذه الظاهرة حتى بعد مرور أكثر من سبعين أو ثمانين سنة على انتشارها العلني؛ فقال معلقا: "قلتُ: وهذا البلاءُ قد تضاعفَ الآن حتّى خرج عن الحدّ، وصار ذوو البيوت (= أصحاب الشرف والأمانة) مَعْيَرَةً في زماننا هذا"!! ومن اللافت هنا أن انتشار الاختلاس والرشوة في الدولة المملوكية كان أحد المسوِّغات التي ساقها العثمانيون -فيما بعد- ضمن أسباب إخضاعهم لأراضي المماليك!
إن نظاما سياسيا كهذا تقوم دعائم ولاية أعماله على الفساد المالي والإداري عندما يضعف أو يمر بلحظة فراغ، فإن الفوضى السياسية والأمنية ستضرب في جنابته، وهو ما حصل أيام المقريزي؛ إذْ وقع "اختلاف بين أهل الدولة آل إلى تنازع وحروب.. وثورة أهل الريف وانتشار الزُّعّار (= اللصوص) وقطّاع الطريق، فخِيفتْ السُّبُل وتعذَّر الوصول" إلى المناطق الآمنة.
وطبيعي أن تكون كلفة ذلك الفساد باهظة على الأتباع من الفلاحين "فلما دُهِيَ أهلُ الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم، اختلت أحوالهم وتمزقوا كلَّ ممزق، وجَلَوْا عن أوطانهم، فقلَّتْ مجابي (= جبايات) البلاد ومتحصلها لقلة ما يُزرع بها، ولخلوّ أهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم".
ومن نماذج تطبيع السلاطين مع الفساد المتجذر أنه إزاء الضعف العام الذي كانت حلقاته تتوالى على دولة المماليك في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي من كل حدب وصوب؛ اتخذ السلطان برسباي قرارا اقتصاديا كان له مردود شديد السلبية على الأوضاع الاقتصادية في الدولة.
فوفقا لابن حجر العسقلاني في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمْر‘؛ فإنه في سنة 832هـ/1428م أصدر برسباي مرسوما سلطانيا يقضي باحتكاره شخصيا لتجارة "الكارم" (التوابل) مع الهند، "وحجّر على الفلفل أن يُشترى لغيره، وألزم جميع التجار ألّا يتوجه أحد ببضاعة إلى الشام ولا غيرها بل إلى القاهرة...، وألزم الفرنج (= التجار الأوروبيين) بشراء الفلفل بزيادة خمسين ديناراً عن السعر الواقع (= الحقيقي)...، وحصل على التجار من البلاء ما لا يوصف، وتمادى الأمر على ذلك"!!
وقد أدرك الإمام ابنُ حَجَر خطورة هذا التحول الاقتصادي البالغ السوء، فوجد نفسه -باعتباره قاضي قضاة الشافعية في مصر آنذاك- مضطرا لمطالبة السلطان برسباي بإزالة الظلم الذي أوقعه على تجار "الكارمية" وتجارتهم ذات المكانة المحورية في تحريك اقتصاد البلاد، والتي تشبه تجارة النفط في عصرنا هذا من حيث الأهمية العالمية، ولِما أدت إليه عوائدها من نهضة عمرانية ووقفية وعلمية هائلة، فضلا عن منافعها الاقتصادية الكبرى على المجتمع الأهلي الإسلامي وخاصة في مجال المؤسسات الوقفية.
قاد هذا الإمام مواقف العلماء الرافضة لمظالم السلطة المملوكية المفروضة على التجار بل وعامة الشعب، وكان سلاحهم في ذلك الإفتاء بإسقاط حق السلطة في جباية الزكاة على الأنشطة التجارية والثروتين الحيوانية والزراعية.
فقد أخبرنا ابن حجر -في ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر‘- أنه ترأس مجلسا قضائيا جمع معه قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى (الحنفية والمالكية والحنابلة)، وقضى بأن "التجار... يؤدون إلى السلطنة من المكوس (= الضرائب) أضعافَ مقدار الزكاة، وهم مأمونون على ما تحت أيديهم من الزكاة. وأما زكاة المواشي فليس في الديار المصرية غالبا سائمة (= الدابة التي تَرعْى ولا تُعلَف). وأما زكاة النبات فغالب مَن يَزرع مِن فلاحي السلطان أو الأمراء. [...] وانفصل المجلس على ذلك، وانفرجت عن التجار وغيرهم" الأزمة التي كانوا يعانون منها.
بل إن العلماء أدرجوا ضرورة مبادرة السلطان برسباي برفع المظالم عن الناس ضمن الأسباب الكبرى المُعِينة على رفع بلاء الطاعون الذي ضرب البلاد في سنة 833هـ/1429م، وحددوا من تلك المظالم ثلاث مفاسد كبرى كان من بينها "التشديد على التجار الكارمية في بيع البهار (= البهارات/التوابل) للسلطان وإلا مُنعوا من التجارة فيه...، والتَّحْكِير على القصب (= قصب السكر) ألّا يُزرع إلا في بلاد السلطان"؛ وفقا لابن حجر.
لكن هذه المطالبة ذهبت أدراج الرياح، ولم يستمع برسباي -رغم تعهده برفع جميع المظالم التي استُحدثت بعد عهد برقوق- للمحاولة الإصلاحية التي قام بها الفقهاء والقضاة، لأن ذلك كان سيقضي على المكاسب المهولة التي كان يَجنيها من احتكار التجارة الرائجة في كل من الكارم والسكر.
لقد أدت هذه المكاسب السلطانية الضخمة إلى بروز ما كان يُسمى "المتجر السلطاني" كنظام اقتصادي وتجاري احتكاري أصبح راسخا منذ ذلك الحين، فلا تُباع التجارة الكارمية وغيرها -من السلع المهمة الرائجة مثل السكر وأحيانا من غيرها الحطب- إلا من متاجر السلطان حصرًا، وسار خلفاء برسباي على طريقه في ترسيخ نظام الاحتكارات السلطانية.
ومن أنواع التضييق على التجار -وخاصة في عهد السلطان بَرْسْبَاي- أنهم قد يعاقَبون لمجرد مرورهم بميناء معين يحظر السلطان المرور به؛ ومن ذلك ما يرويه المقريزي -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- من أنه بسبب انتعاش ميناء جدة التجاري على حساب ميناء عدن كثرت مظالم مسؤولي دولة المماليك بها فتجنبها التجار لصالح عدن مجددا، فأصدر بَرْسْبَاي سنة 838هـ/1434م مرسوما بـ"أن من اشترى بضاعة من عدن وجاء بها إلى جدة -إن كان من الشاميين أو المصريين-.. يضاعف عليه العُشُر (= الضريبة) بعُشريْن، وإن كان من أهل اليمن أن تؤخذ بضاعته بأسرها"!!

ضرائب مرهقة
ومما زاد الأوضاعَ الاقتصادية سوءا خطرُالحصار الاقتصاديونشاط القرصنة الذي كانت تتعرض له الأساطيل البحرية التجارية الإسلامية على أيدي القراصنة الصليبيين؛ فالمقريزي يذكر -في كتابه ‘السلوك‘- أنه لما اجتاح تيمورلنك بجحافل جيشه بلادَ الشام سنة 803هـ/1401م وحاصر دمشق "بطلت الأسواق كلها..، وقدِم الخبرُ [إلى القاهرة] أن الفرنج أخذوا ستة مراكب مُوسَقة (= محمَّلة) قمحا، سار بها المسلمون من دمياط إلى سواحل الشام ليباع بها من كثرة ما أصابها من القحط والغلاء"!!
ولتأمين سفن الحركة التجارية الإسلامية من خطر هذه القرصنة الحربية الأوروبية، التي تذكرنا بما يشهده عصرنا -في أوقات الحروب- من مصادرات لقوافل أغذية العدو للمتاجرة بها في ظل الغلاء وشُحّ موارد الغذاء؛ يخبرنا المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في سنة 844هـ/1439م جهز السلطان المملوكي سيف الدين جَقْمَق (ت 857هـ/1453م) أولَ حملة عسكرية في عهده، وكان سببها "عَيْث (= إفساد) الفرنج في البحر وأخْذها مراكبَ التجار".
واللافت أنه كلما تبدّت مظاهر الضعف الاقتصادي في دولة المماليك فأتعبتها نتيجة قلة الموارد العامة للدولة، والتي كانت تؤخذ من المصادر الشرعية كالزكاة والصدقات وأخماس الحروب والغنائم وعوائد الأراضي الإقطاعية وغيرها، والمصادر غير الشرعية كالضرائب وعوائد الاحتكار؛ كانت الدولة تتوسع في الأمرين الأخيرينِ معًا، فتجمع بين الاحتكار الضار وفرض الضرائب المجحفة لفئات بعينها من كبار أمراء الدولة والمتنفّذين فيها، فتُعيّن رسوم "المقرَّر" و"الضمان" باصطلاحات ذلك العصر.
وقد عدّد الإمام المؤرخ المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنواعا كثيرة من الضرائب الاحتكارية التي فرضها المماليك على قطاعات زراعية وصناعية وإنتاجية متنوعة في البلد، فكان قطاع مثل تربية وإنتاج وتسويق "الفراريج" (الدواجن) يُعطى من قبل السُّلطة لأعيان محددين من كبار الأمراء العسكريين المقطَعين، ثم تُؤخذ منهم ضرائب سنوية مقرَّرة ومحدَّدة، وكانت الضحايا الذين يعانون من هذا التلاعب هم الضعفاء من عامة الناس.
يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: "ومن ذلك مُقرَّر طرح الفراريج: ولها ضمان (= ضرائب احتكارية) عدّة في سائر نواحي أرض مصر يطرحون على الناس الفراريج، فيمرّ بضعفاء الناس من ذلك بلاء عظيم، وتقاسي الأرامل من العسف والظلم شيئا كثيرا، وكان على هذه الجهة عدّة مُقْطَعِين، ولا يمكن أحد من الناس في جميع الأقاليم أن يشتري فرُّوجا فما فوقه إلا من الضامن (= المحتكِر)، ومن عُثر عليه أنه اشترى أو باع فرّوجا من سوى الضامن جاءه الموت من كل مكان، وما هو بميت"!!
وللقارئ الكريم أن يقيس مستوى الأوضاع الاقتصادية المزدهرة في دولة المماليك البرجية مع نظيرتها المتدهورة في دولتهم البحرية، لكي يدرك التراجع الهائل الذي وصلت إليه تلك الأوضاع وقاد -في نهاية المطاف- إلى اندثار هذه الدولة العظيمة!
ففي عهد الازدهار الاقتصادي المملوكي بلغت القاهرة من الاستبحار العمراني مستوى عاليا يصفه القلقشندي -في ‘صبح الأعشى‘- بقوله: "ولم تزل القاهرة في كل وقت تتزايد عمارتها وتتجدّد معالمها... حتّى صارت على ما هي عليه في زماننا من: القصور العليّة، والدور الضخمة، والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدّة، والمناظر النَّزِهَة، والجوامع البَهِجَة، والمدارس الرائقة، والخوانق (= زوايا الصوفية) الفاخرة، مما لم يُسمع بمثله في قُطْر من الأقطار، ولا عُهد نظيره في مصر من الأمصار"!!
بل إنه في عصر ذلك الازدهار كان حجم قمامة المدن المملوكية -على سبيل المثال- مؤشرا مهمًّا في قياس مكانتها واتساع عمرانها، ومعيارا ملحوظا في ميزان مفاضلتها مع غيرها من الأمصار؛ فقد بلغت "كيمان القاهرة" -وهي تلال بقايا الأتربة وما في معناها من مخلفات قمامات البيوت ومستعمَلات الأسواق- حدًّا عظيمًا في العصر المملوكي الأول.
ويحدثنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه سمع من بعض شيوخ عصره -الذي عايشوا دولة المماليك البحرية- أنهم كانوا "يفاخرون بمصر (= القاهرة) سائر البلاد ويقولون: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) على الكيمان (= جمع كوم: التلال) والمزابل، يعنون بذلك ما يستعمله اللبّانون والجبّانون والطباخون من الشِقاف (= قطع خزفية) الحمر التي يُوضع فيها اللبن، والتي يوضع فيها الجبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين..، وما يستعمله العطارون من القراطيس والورق..؛ فإن هذه الأصناف المذكورة إذا حُملت من الأسواق وأُخذ ما فيها أُلقيت إلى المزابل"!!
وقد صبت ثمرات تلك القوة الاقتصادية والعمرانية في ترسيخ المكانة السياسية للدولة المملوكية على خريطة القوى الإقليمية والدولية، حتى صارت القاهرة "أمَّ الممالك، وحاضرة البلاد، وهي في وقتنا دار الخلافة، وكرسيّ المُلك، ومنبع الحكماء، ومحطّ الرحال، ويتبعها كل شرق وغرب خلا الهند فإنه نائي المكان بعيد المدى"؛ وفقا للقلقشندي.
وهكذا انتقلت دولة المماليك -في ظل التضييق على التجارة والاقتصاد في القطاعين العام والخاص لصالح السلطان وكبار الأمراء حصرا- إلى مرحلة جديدة تُثقِل فيها أعباءُ الفساد المالي والإداري كاهلَ الدولة، وتُفقِر عُمومَ الناس، وزادت الطينَ بلةً الإجراءاتُ التي قام بها السلطان برسباي على المستويين السياسي الداخلي بتقريبه مماليكه الأجلاب وتفضيلهم على غيرهم من طوائف المماليك الأخرى، بالإضافة إلى احتكار التجارة الكارمية ذات الأهمية العالمية.
كل ذلك جعل بوصلة الدولة المملوكية تتجه مع مرور الزمن نحو الانحراف في الحكامة الداخلية والضعف في السياسة الخارجية، وهو أمر لاحظه المقريزي في سياسات السلاطين الذين عاصرهم واحتكّ بحكمهم عن كثب، حتى أولئك الذين مدحهم في بعض فترات حكمهم.
فقد وصف مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- السلطانَ المؤيد شيخ المحمودي بـ"سيد ملوك الزمان"، لكنه حين حَكَم على عهده -بعد وفاته- قال عنه -في كتابه ‘السلوك‘- إنه "هو أكثر أسباب خراب مصر والشام لكثرة ما كان يُثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق، ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه بغير وازع من عقل ولا ناهٍ من دين"!! وقال عن السلطان برسباي بُعيد وفاته مقيِّما عهده: "شمل بلادَ مصر والشَّام في أيَّامه الخرابُ وقلةُ الأموال بها، وافتقر النَّاس، وساءت سِيَرُ الحكَّام والولاة، مع بلوغه آمالَه ونيله أغراضه"!!
ثم تطورت صراعات طوائف المماليك الداخلية مع مجيء كل سلطان؛ لاسيما بين طبقتيْ "الأجلاب" و"القرانيص" وغيرهم إلى اضطرابات أمنية هائلة، هذا مع استمرار تمرد القبائل والإمارات التركمانية في جنوب ووسط الأناضول على طول القرن التاسع الهجري وحتى دخول العثمانيين مصر، وكلها أسباب أدت إلى اعتلال الحياة الاقتصادية والحركة التجارية، وبالتالي قادت إلى تناقص الموارد المالية وفراغ خزائن الدولة وتضاعُف عوامل اختلالها وانحلالها. 
أزمات وبائية
وبالإضافة إلى التداعيات السلبية للصراع على العرش، والنتائج الوخيمة لتفشي الفساد المالي والإداري، وما فرضه السلاطين من ضرائب ظالمة ومجحفة على التجار وغيرهم؛ عانت دولة المماليك الثانية من تبعات أزمات كبرى سبقتها خلال القرن الثامن الهجري/الـ14م كان الوباء والغلاء هما أكثرها تكرارا وأخطرها آثارا، وفقا لما لاحظه المقريزي -في مقدمة كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- حينما أورد أربع أزمات كبرى تتابع وقوعها متوزعا على أرباع هذا القرن.
فقد ذكر المقريزي -ضمن سياقِ رصْده للكتب التي تؤرخ لمرافق القاهرة ومنشآتها وأسباب اختفائها- أن القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج (ت 730هـ/1330م) صنّف "«كتاب إيعاظ المتأمل وإيقاظ المتغفل» في الخطط (= الأحياء السكنية)، بيّن فيه جُمَلا من أحوال مصر وخططها إلى أعوام بضع وعشرين وسبعمئة، وقد دثرت بعده معظم ذلك في وباء سنة تسع وأربعين وسبعمئة (749هـ/1348م)، ثم في وباء سنة إحدى وستين (761هـ/1360م)، ثم في غلاء سنة ست وسبعين وسبعمئة (776هـ/1374م)"!!
ثم تعاظمت وتيرة حدوث هذه الأزمات -بمختلف أنواعها- طوال عقود القرن التاسع الهجري/ الـ15م وحتى سقوط الدولة المملوكية، وهو ما يحدد لنا المقريزي بدايته الفعلية بقوله: "فلما كانت الحوادث والمحن -من سنة ست وثمانمئة (806هـ/1403م)- شمل الخرابُ القاهرةَ ومصرَ وعامةَ الإقليم"!!
ثم إنه رصد -في ‘السلوك‘ ضمن وقائع سنة 821هـ/1418م- تفاقمَ الآثار السلبية لتلك الأزمات وما صاحبها من فساد إداري على استمرارية الدولة، فقال متنبئا بقرب نهايتها: "وقد اختلَّ إقليم مصر في هذه السنين خللا شنيعا يظهر أثره في [السنين] القابلة"، وذكر في تفصيل ذلك "من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته"!!
بل إن الحوادث الأمنية والفتن تسببت في موجة غلاء رغم توافر المحاصيل الزراعية كما وقع بمنطقة صعيد مصر سنة 818هـ/1415م؛ إذْ يرصد الإمام ابن حَجَر العسقلاني -في ‘إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر‘- تداعيات الغلاء الذي وقع في تلك السنة، فإنه رغم أن السَّنة بدأت برخص ظاهر في الأسعار و"مع وجود الغِلال وزيادة النيل" فإنه "آل الأمر إلى أن فُقِد القمح، وبلغ الناس الجهدَ وانتشر الغلاء في قِبْلِيِّ (= جنوبي) مصر وبحريِّها (= شماليها)"!!
ويُرجع العسقلاني أسباب الغلاء إلى "كثرة الفتن بنواحي مصر من العرب وخروج العساكر مرة بعد مرة، ففي كل مرة يحصل الفساد في الزروع ويقلّ الأمن في الطرقات فلا يقع الجَلْب (= توريد السلع) كما كان"، وخرجت قوات لضبط الأمن هناك بقيادة قائد كبير من المماليك "فعاث من معه في الغلال وأفسدوا". وتزامن ذلك مع قحط شديد وقع في الحجاز والشام "فكثر التحويل في الغلال إلى [تلك] النواحي من أراضي مصر وصعيدها".
وكان من أكثر الأزمات تكرارا -في العصر المملوكي- انخفاضُ منسوب النيل الذي كان يؤثر على الزراعة في مصر التي هي المصدر الأساسي لملء خزانة الدولة، فضلا عن مد السوق المحلية بالسلع الأساسية وأولها الخبز.
والأزمات السنوية التي أصيبت فيها البلاد بانخفاض منسوب النيل كثيرة، مثل أزمة سنة 822هـ/1419م التي وصل فيها سعر القمح إلى 350 درهما (= اليوم 700 دولار أميركي تقريبا) للأرْدبّ (= 80 كغ تقريبا)، أي إن سعر كيلو القمح في تلك الأزمة قد بلغ ما قيمته اليوم 8.5 دولارات أميركية تقريبا، وهو مبلغ ضخم مرهق للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
ولهذا السبب "شمل الخرابُ قرى أرض مصر" كما يقول المقريزي، وغالبا ما كانت تصاحب الأزمةَ الغذائية أزماتٌ صحية وبائية تفتك بالناس؛ فقد "فشت الأمراض من الحميات (= جمع حُمَّى)، وبلغ عدد من يَرِدُ الديوانَ من الأموات (= تسجَّل أسماؤهم لدى السلطة) نحو الثلاثين في اليوم، والظلم كثير لا يتركه إلا من عَجز عنه"!!
وكما جرى في مصر؛ كان الغلاء يقع في الشام المملوكي بسبب انحباس المطر، أو بسبب هروب المصريين إلى الشام أثناء انخفاض النيل الحاد؛ نجاةً بأنفسهم وذراريهم كما وقع في سنة 855هـ/1451م عندما "وردت الأخبار من البلاد الشامية بغلوِّ أسعارها إلى الغاية، وأن القمح بيع فيها كل غِرَارة (= كيس حبوب يسع نحو 200كغ) بستمئة فضةً، وكذا وقع الغلاء فيها أيضاً في سائر المأكولات لكثرة من قدم عليها من مصر وغيرها فرارا من الغلاء، ولعظم ما وقع بها من الثلوج"؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي في ‘حوادث الدهور‘.
وربما تفاقمت تداعيات الكوارث الطبيعية بحوادث الاضطراب السياسيّ والفتن الطائفية -وما يتبعها من فراغ أمنيّ- إلى حدِّ تعطيل الشعائر الدينية العامة مثل صلوات الجُمَع والجماعات، بل ومواسم الحج؛ فالمؤرخ المملوكي ابن شاهين المَلَطي يروي -في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- أنه في أحد أيام الجمعة سنة 802هـ/1399م حدثت وقعة كبيرة بين أمراء المماليك "ارتجّت منها القاهرة…، فغُلقت أبواب الجوامع واختصر الخطباء وأوجزوا في الصلاة، ولم يُخطب في بعض الجوامع، بل ولا صُلي في بعض أيضا، وخرج الناس في ذعر وأغلقت الأسواق".
أما الحرب الأهلية المملوكية بين السلطان المخلوع الناصر محمـد بن قلاوون والسلطان المظفر بَيْبَرْس الجاشْنَكِير فقد منعت أهل الشام من المشاركة في موسم الحج سنة 709هـ/1310م، وذلك حين عزم الناصر على العودة من الشام مقرِّ منفاه إلى مصر واندلع الصراع بينه وبين المظفر فـ"لم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة"؛ وفقا لابن تَغْري بَرْدي.
وفي ظل ضعف قبضة سلاطين مصر المماليك على الحجاز؛ يذكر ابن شاهين المَلَطي أنه انقضت سنة 828هـ/1425م فـ"لم يحجّ من العراق أحد، وأخبِروا أن سبب تعويقهم [كان] خوفا على أنفسهم من مُقبل أمير الينبع، فإنه كان تحوّل إلى طريق الحاجّ لفساد يفعله"!!
ونتيجة لتلك الأزمات السياسية والاقتصادية والصحية والأمنية التي ظلت تتوالى على دولة المماليك نتيجة عدم استقامة وفعالية السياسة العامة للسلاطين؛ فإنها قد انكفأت على نفسها في عصر الجراكسة على نحو ما نقلناه في كلام ابن تَغْري بَرْدي من عدم خوضهم للحروب الكبرى، إذا ما استثنينا الانتصار المهم على القبارصة اللاتين الذي انتهى بسيادة المماليك على هذه الجزيرة، ليبدأ بذلك عهد تبعيتها للمماليك ثم العثمانيين فيما بعد.
وهكذا فإن الأهداف التي نشأت من أجلها الدولة المملوكية تلاشت بمرور الزمن، وعلى رأسها مواجهة الغزاة من الأعداء مثل المغول والصليبيين والأرمن، وحماية الحرمين الشريفين، وتحقيق الأمن والعدالة للرعية، وإعادة إحياء الخلافة العباسية في طورها الثالث، وكل هذه المبررات السياسية قد تحققت بالفعل مع دولة المماليك الأولى (648-784هـ/1250-1382م) قبل أن تتلاشى الواحدة بعد الأخرى في دولتهم الثانية.
تحولات إقليمية
منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ لم تبق إلا إمارات قليلة كبرى في وسط وجنوبي الأناضول مثل: الإمارة القرمانية و"إمارة دلغادر" (ذو القدر)، وإمارة أبناء رمضان، وفي أقصى الشرق دولتا: "آق قويونلو" (ذوو الخِراف البِيض) و"قره قويونلو" (ذوو الخِراف السود).
وقد تزامن هذا الانحسار في القوى السياسية بهذه المنطقة مع انتصار العثمانيين على البيزنطيين وفتح القسطنطينية في سنة 857هـ/1453م، ثم افتتاحهم مناطق شاسعة في البلقان، وتعاظم القوة البحرية العثمانية في بحر إيجه والبحر المتوسط، ثم استيلائهم على الإمارات التركمانية المفكَّكة والضعيفة التي نشأت أثناء وعقب انهيار دولة سلاجقة الروم منذ سنة 700هـ/1300م.
لقد عمل العثمانيون على توسيع رقعة دولتهم في منطقة الأناضول، ورأوا أنهم أكثر استحقاقا للسيطرة السياسية عليها من المماليك الذين دخلوا في مراحل التأخر الحضاري منذ منتصف ذلك القرن، وربما منذ بداية عصر الجراكسة في منتصف ثمانينيات القرن الذي سبقه.
ولقد أصاب المؤرخ مايكل وينتر -في كتابه ‘المجتمع المصري تحت الحكم العثماني‘- حين قال: "تُعدُّ فترة حكم الشركس -أو المماليك البرجية- فترة اضمحلال إذا ما قورنت بفترة المماليك البحرية التركية؛ فلم يعد للسلطنة أعداء خطرون إذْ إن الفرنجة الصليبيون كانوا قد طُردوا سنة 1291م [690هـ]، ومع مطلع القرن الخامس عشر (التاسع الهجري) -بعد انسحاب تيمور لنك من الشام- لم يعد المغول يُشكلون تهديدًا، فلم يُطوِّر الجيش طرائق فنية عسكرية جديدة (تكنيكات)، كما لم يتّخذ تكنولوجيات عسكرية جديدة؛ ذلك أن المماليك رفضوا استخدام أسلحة نارية -وهي التسليح الحديث لذلك الزمان- معتبرين أنها أسلحة لا تمتُّ بصلة للفروسية أو الرجولة أو الإسلام، كما لم يكن من الممكن استخدام البندقية من فوق صهوة جواد...، ونتيجة لذلك مرَّ الجيش المملوكي بفترة طويلة من الركود".
ويتوسع وينتر في رسمه لسياق الصدام المملوكي العثماني؛ فيضيف أنه "بينما كانت الدولة المملوكية تضمحل؛ حققت جارتها الشمالية الدولة العثمانية تقدما سريعًا...، واشتبكت في الحرب المقدّسة ضد البيزنطيين، وتوسّعت باطراد على حساب الحكّام المسيحيين في البلقان الممزَّق، وعلى حساب الإمارات التركية في الأناضول...، وبعد أن استولى العثمانيون على القسطنطينية تزايد توجّس المماليك من التوسّع العثماني".
ثم يشير إلى أنه في نهاية القرن التاسع الهجري/الـ15م صارت العلاقات الدولية في الشرق الأوسط فجأةً أكثرَ تعقيدًا؛ إذ إن اكتشاف البرتغاليين -في سنة 903هـ/1498م- لـ"رأس الرجاء الصالح" ووصولهم -بمساعدة من البحارة المسلمين- إلى الهند حَرَم مصرَ من عوائد تجارة التوابل، فساهم ذلك في مصاعب اقتصادية جمّة عانت منها الدولة المملوكية، لاسيما إثر الحصار الذي فرضه البرتغاليون على موانئ البحر الأحمر وخاصة ميناء جدة المملوكي.
ذلك الحصار الخانق الذي تواصل ست سنين، وحدثنا عنه وعن تأثيراته الاقتصادية على مؤسسة بيت المال المملوكية مؤرخ معاصر لوقائعه هو ابن إياس الحنفي؛ فهو يذكر -في ‘بدائع الزهور‘- ضمن وقائع سنة 920هـ/1514م أنه "كان في تلك الأيام «ديوان المفرد» و«ديوان الدولة» و«ديوان الخاص» (= مؤسسات مالية) في غاية الانشحات (= قلة المال) والتعطيل؛ فإن بندر (= ميناء) الإسكندرية خراب ولم تدخل إليه القطائع (= السفن) في السنة الخالية، وبندر جدة خراب بسبب تعبّث الفرنج (= البرتغاليون) على التجار في بحر الهند؛ فلم تدخل المراكب بالبضائع إلى بندر جدّة نحواً من ست سنين"!!
في ظل هذه الأوضاع الإقليمية الضاغطة؛ جاء التنافس الإقليمي بين المماليك والعثمانيين الذي تعود جذوره إلى عصر السلطان العثماني بايزيد الأول (ت 805هـ/1402م)، فقد استغل بايزيد ظروف وفاة السلطان المؤسس لدولة المماليك البرجية الظاهر برقوق سنة 801هـ/1399م وارتقاء ولده الناصر فرج، وما تلا ذلك من تصارع بين المماليك على المناصب والولايات والحروب الأهلية فيما بينهم، ففي تلك السنة ذاتها "حاصر أبو يزيد بن عثمان مَلَطية والأبلتين (= وسط تركيا) وتسلمهما". كما يذكر الإمام ابن حجر العسقلاني في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمْر‘.
بل إن المقريزي يخبرنا بأن طموح بايزيد لم يقتصر على منطقة التخوم بين الشام والأناضول، وإنما امتد إلى السيطرة على بلاد الشام نفسها؛ فهو يذكر -في كتابه ‘السلوك لمعرفة الملوك‘- أنه في شوال سنة 801هـ/1399م "ورد الخَبَر بأن بايزيد بن عثمان ملك الرّوم (= الأناضول) تحرك للمشي على بلاد الشَّام" لانتزاعها من قبضة المماليك.
ولعل تحركات بايزيد تلك -التي أجهضتها هزيمته أمام تيمورلنك في «معركة أنقرة» ثم أسْره وقَتْله على يديه- هي التي ألهمت ابنَ خلدون -بجانب حدسه التاريخي وتأمله في مصائر الأمم قياماً فازدهارا وانحطاطا فاندثارا- تنبُّؤَه الصادقَ بسقوط مصر -وليس الشام فقط- في أيدي العثمانيين.
فقد قال تلميذه ابن حجر في كتابه ‘رفع الإصر‘: "سمعتُ ابنَ خلدون مرارا يقول: ما يُخشَى على ملك مصر إلا من ابن عثمان"!! والمقصود بـ"ابن عثمان" هنا هو السلطان العثماني حينها بايزيد الأول، لكن انكسار العثمانيين -أمام الاجتياح المغولي لبلادهم- أجّل تحقق نبوءة ابن خلدون بسيطرتهم على مصر بما يتجاوز قرنا بعد وفاته.
ويؤكد المؤرخ التركي إسماعيل حقي أوزون جارشلي (ت 1397هـ/1977م) في كتابه "Osmanlı Tarihi" (التاريخ العثماني) أن الصراع المملوكي العثماني بلغ أشده منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري/الـ15م، أي في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح (ت 886هـ/1481م) الذي دخل في مواجهة مع السلطان المملوكي الأشرف إينال لأسباب ثلاثة:
أولها أن السلطان الفاتح اشتكى له علماءُ دولته -وخاصة ممن أدَّوْا فريضة الحج- من وعورة طريق الحج، واحتياج قوافل الحجاج الشديد إلى موارد الماء في طرقهم، فعرض على سلطنة المماليك -التي كانت تحكمُ منطقة الحرمين الشريفين- أن تتكفل الدولة العثمانية بإصلاح طريق الحج وإنشاء الأسبلة والآبار، لكن السلطان المملوكي آنذاك الأشرف إينال رفض هذا الطلب.
وأما السبب الثاني الذي أجّج الصراع بين الطرفين؛ فهو أن المماليك كانوا يدعمون طرفا في "إمارة دلغادر" (ذو القدر) التركمانية وسط الأناضول، بينما ساند العثمانيون طرفا آخر، وقد أدى هذا التدخل الخارجي في شؤون الإمارة الأناضولية -التي ظلت فترة طويلة ضمن سيادة المماليك- إلى اشتعال المواجهة بين الدولتين، حتى بعد وفاة السلطان محمد الفاتح في سنة 886هـ/1481م.
ويؤكد أوزون جارشلي أن السبب الثالث الذي أدى إلى زيادة التوتر والعداء بين الجانبين هو تهاون المماليك بالبروتوكولات الاستقبالية اللائقة بسفراء العثمانيين، ومعاملتهم بدرجة من الاستخفاف اعتبرها السلطان محمد الفاتح وخلفاؤه من بعده إهانة لدولتهم وقوتهم في المنطقة.
وقد استخدم العثمانيون ببراعةٍ حلفاءَهم في الدولة القرمانية و"إمارة دلغادر" (ذو القدر) في مواجهتهم للمماليك، وإن استطاع السلطان المملوكي الجركسي الأقوى الأشرف قايتباي أن يدحر قوات المتمردين في هاتين الإمارتين، ومن خلفهم جيش العثمانيين في ثلاث جولات حاسمة تتابعت طوال عشرين سنة، أدت في النهاية إلى عقد اتفاقية صداقة وسلام بين الجانبين.
ولكن ذلك الحسم الأوّلي أنهك الخزانة المملوكية، فقد قدّر المؤرخ المملوكي ابن إياس الحنفي -في كتابه ‘بدائع الزهور‘- أن قيمة ما أنفقه قايتباي على بعض هذه الحروب بلغ "ألف ألف دينار (= اليوم 200 مليون دولار أميركي تقريبا) حتى عُدَّ ذلك من النوادر، ولم يُسمَع... فيما تقدم من الدول الماضية أن أحدا من السلاطين فعل مثل ذلك"!!
صعود عثماني
ورغم هذا التنافس الإقليمي بين الجارتين مصر وتركيا أو المماليك والعثمانيين جنوبي الأناضول؛ فإن المصاعب الاقتصادية المملوكية المتفاقمة اضطرت السلطان قانصوه الغوري إلى طلب المساعدة الفنية واللوجستية من العثمانيين لمواجهة الخطر البرتغالي الناجم حينها من جهة ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي، فأمدّوه بالسلاح والخبراء الفنيين الذين ظلوا في القاهرة وميناء السويس عدة سنوات للإشراف على تطوير الأساطيل المملوكية، وقد انطلقت بمساعدتهم عدة حملات بحرية مملوكية لكنها لم تؤد إلى انجلاء الخطر البرتغالي، وكان لتخلف القوة البحرية المملوكية دور كبير في تلك النتيجة.
والواقع أن هذا التخلف البحري المملوكي سَبَقَ عصرَ السلطان الغوري؛ فهو يعود إلى عهد المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية الظاهر بيبرس الذي أرسل حملة بحرية لغزو جزيرة قبرص سنة 669هـ/1270م؛ لأنها كانت تمد الإمارات الصليبية في الساحل الشامي بالمؤن والسلاح، لكن الحملة العسكرية التي أرسلها الظاهر بيبرس فشلت ووقعت قواته بأكملها في الأسر.
ووفقا لما أورده الإمام العَيْني في كتابه ‘عِقد الجمان‘؛ فقد بعث الظاهر بيبرس رسالة إلى ملك قبرص هيوج الثالث (ت 683هـ/1284م) مهوِّنًا من أسر سفن المماليك وطاقمها العسكري، ومتفاخرا -في المقابل- باستيلائهم على القلاع الصليبية الحصينة سنة 670هـ/1271م بمنطقة الساحل الشامي، وملخصا طبيعة الذهنية القتالية للمماليك التي تُعلي شأن القتال من فوق صهوات الخيول لا من أعلى سطوح السفن. وفي ذلك يقول بيبرس في رسالته هذه:
"ما العجب أن يُفخر بالاستيلاء على حديد وخشب (= السفن)؟! الاستيلاءُ على الحصينة (= القلاع) هو العجب!! وقد قال وقلنا، وعلم الله أن قولنا هو الصحيح، واتكل واتكلنا، وليس من اتكل على الله وسيفه كمن اتكل على الريح، وما النصر بالهواء مليح، إنما النصر بالسيف هو المليح، ونحن نُنشئ في يوم واحد عدّة قطائع (= قطع بحرية)، ولا يُنشأ لكم من حصن قطعة! ونجهزّ مئة قلْعٍ (= شراع السفينة) ولا يُجهَّزُ لكم في مئة سنة قلعة! وكُلُّ من أُعطِي مِقْذافاً (= مجداف السفينة) قذّف (= جدَّفَ)، وما كلُّ من أُعطِي سيفا أحسن الضرب به أو عَرَف! وإن عُدمت من بحرية المراكب آحاد فعندنا من بحرية المراكب ألوف، وأين الذين يطعنون بالمقاذيف في صدر البحر من الذين يطعنون بالرماح في صدور الصفوف؟! وأنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول"!!
فبهذه الجملة التي وردت في خطاب بيبرس إلى هنري: "أنتم خيولكم المراكب ونحن مراكبنا الخيول" تتلخّص النظرة المملوكية إلى القوة البحرية، صحيح أن المماليك تمكنوا من تحقيق انتصارات بحرية مهمة، وعلى رأسها -كما سبق القول- فتح جزيرة قبرص والاستيلاء عليها في عصر الأشرف برسباي سنة 828هـ/1425م.
لكن تلك الانتصارات المحدودة لم تكن إلا استثناء للقاعدة التي تؤكد أنهم لم يكونوا قوة بحرية وازنة في أي مرحلة من تاريخهم، حتى إن المؤرخ البريطاني جيمس واترسون يرى -في كتابه ‘فرسان الإسلام وحروب المماليك‘- أنه فيما يخص "الاستجابة العسكرية" المملوكية للتهديدات الأوروبية "كانت المشكلة [دائما] تكمن في الأسطول البحري، أو في عدم وجوده على وجه أدق"! وأن ذلك التقصير في الاستعداد البحري كان متوارثا بين سلاطين المماليك منذ عهد بيبرس.
ورغم أن واترسون ختم كتابه بوصفه الجازم للمماليك بأنهم "وصلوا إلى ذروة الكمال في الفنون العسكرية"؛ فإنه لاحظ بحق أن "المماليك [البرجية الشراكسة] كانت لديهم فجوة هائلة في القوة البحرية، كان يتعيّن عليهم اجتيازها عندما فرضت عليهم الحاجة المُلحّة ذلك عندما وصل البرتغاليون إلى سواحل البحر الأحمر في القرن الخامس عشر (التاسع الهجري)، والأكثر أهمية من ذلك أن هذه السياسة أظهرت كيف أن القوة الرئيسية في العالم الإسلامي تقوقعت على نفسها، واعترض المماليك على التوسّع والمغامرة في الوقت الذي كانت فيه الأمم الغربية قد بدأت في اعتناق هذا المبدأ (= مبدأ المغامرة) بطريقة شاملة، وكانت سياستهم المبسطة وغير الواقعية في الدفاع -عن طريق حرمان العدو من قطعة أرض للرسو عليها- خيالية ومتصلّبة، وامتد هذا الجمود إلى منهجهم الفكري نحو إستراتيجية كبرى".
ويرى هذا المؤرخ أنه "تعود الميزة الهائلة التي حصلت عليها الدول الغربية -من خلال الاستثمار المستمر في القوة البحرية والملاحة في المحيطات والتي أدّت في النهاية إلى هيمنة الغرب والاقتراب من الوهن لدول الشرق الأوسط في العصر الحديث- بأصولها إلى العصر الذهبي للمماليك، ولكن سلاطين المماليك في القرن الثالث عشر (السابع الهجري) بالطبع لم يكن في مقدورهم التنبؤ بهذا الأمر، وكانت صناعة السياسة بالنسبة لهم -كما هو الأمر بالنسبة للكثيرين من الساسة في عالم اليوم- تمثّل ببساطة عملية التفاعل البسيط فقط مع الأحداث، ولم يكن الشرق الأوسط في العصور الوسطى خاليًا قطُّ من الأحداث الجسام".
ولم يقتصر التخلف العسكري المملوكي على الجانب البحري فقط، رغم وجود التحدي من البرتغاليين وطائفة الإسبتارية الصليبية في أواخر عهد الدولة في المحيط الهندي والبحرين المتوسط والأحمر، وإنما امتدّ هذا التخلّف أيضا إلى الميدان القتالي البرّي؛ ذلك أن العثمانيين -وهم المنافسون الإقليميون الأخطر- لم يركنوا -بعد هزائمهم الثلاث أمام المماليك في عصر الأشرف قايْتباي بسبب الصراع المملوكي العثماني على الإمارات التركمانية في وسط وجنوب الأناضول- إلى الدعة والكسل اللذين ركن إليهما نظراؤهم المماليك.
لقد خاض العثمانيون صراعا حربيا مستمرا على أربع جبهات ساخنة: مع الصفويين في أقصى الشرق، والصليبيين في الغرب، والمماليك في الجنوب، ولاحقًا مع الروس في الشمال، واستفادوا من تلك التجارب العسكرية إدراكهم أن التحدي التسليحي هو أهم ما يواجه الأمم والجيوش، وحالما اختُرعت البندقية الحديثة لجؤوا إليها، واستعانوا بها مع المدافع المحدّثة المطوّرة، وقد أثبت التسليح العسكري العثماني الحديث فاعليته في المواجهة أمام الصفويين سنة 920هـ/1514م، ومع المماليك في سنتيْ 922-923هـ/1516-1517م.
ركود قاتل
أما المماليك فلم يُحاولوا ابتداع خطة لمواجهة هذا السلاح الجديد؛ لأن طبيعتهم لم تتسم بالمرونة الكافية للتعلم والتحديث، ومن عجب أن سلالة المماليك -الذين سقطوا أمام الأسلحة العثمانية الحديثة في معركتيْ مرج دابق والريدانية- هم ذاتهم الذين سقطوا -بعد ذلك بقرنين ونصف- في موقعة الأهرام أمام الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت (ت 1235هـ/1821م)، وهكذا ظل العقل العسكري المملوكي أسير الجمود والتخلف عن مواكبة العالم في تطوراته العسكرية المتلاحقة!
وتلخص لنا عمق ذلك الجمود والتخلف المملوكي تلك القصة التي رواها المؤرخ المصري أحمد بن زُنْبُل الرمّال (ت 960هـ/1543م) في كتابه ‘آخرة المماليك‘ الذي وثق فيه حوادث سقوط دولة المماليك؛ فقد ذكر أن رجلاً مغربيا جاء إلى مصر حاملاً معه بندقية أوروبية فقدمها إلى السلطان قانصوه الغوري "وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق (= جمهورية البندقية/فينيسا)، وقد استعملها جميع العسكر الروم (= الأتراك العثمانيون) والعرب، وهذه هي!
فأمره [السلطان] أن يُعلّمها لبعض مماليكه ففَعَلَ، وجيء بهم فرموا بحضرته، فساءه ذلك! وقال للمغربي: نحن لا نترك سُنّة نبينا ونتبع سنة النصارى...! فرجع المغربي وهو يقول: من عاش [سـ]ـينظُر هذا الملك وهو يُؤخَذ بهذه البندقية، وقد كان ذلك"!! فقد سقط الغوري فعلا بتلك البندقية العثمانية ثم سرعان ما سقطت بها دولته بعده في غضون سنة واحدة!!
وقد اعترف المنهزمون من المماليك وقوات الأعراب الداعمة لهم بقوة البندقية العثمانية وفعاليتها القتالية؛ فابن زنبل يخبرنا بأنه بعد هزيمة الأمير شاد بك (ت بعد 923هـ/1517م) -وهو أحد رفقاء السلطان المملوكي طومان باي- ولجوئه إلى العربان بعد دخول العثمانيين إلى القاهرة، وفي حديثهم عن شجاعة طومان باي وفروسية المماليك قالت العربان: "لكن من يصبر على ملاقاة هذه النيران وضرب الزانات (= رماح قصيرة) والبندقيات؟! ولو كانوا مثلنا يُقاتلون على ظهور الخيل كان الواحد منا يقاتل منهم مئة ومئتين؛ لأنهم ليس عندهم معرفة في ركوب الخيل، ولا الجولان في الميدان"!!
وهو القول الذي أكده أيضا والي القاهرة المملوكي الأخير الأمير الجركسي كرتباي (ت بعد 923هـ/1517م)، بعد أن وقع أسيرًا في أيدي العثمانيين؛ فكان مما قاله في حديثه للسلطان العثماني سليم الأول حسب رواية ابن زُنْبُل: "اسمع كلامي، وأصغِ إليه حتى تعلم أنت وغيرك أن منّا فرسان المنايا والموت الأحمر، ولو يلي واحد منا بعسكرك بنفسه وحده، وإذا لم تُصدّق فجرّب، فاؤمُر عسكرك أن يتركوا ضرب البندق فقط...، وهذه هي البندق التي لو رَمَتْ بها امرأة لمنعتْ بها كذا وكذا إنسانًا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتَنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد ﷺ"!!
هكذا رأى المماليك استعمال البندقية في الحروب مخالَفةً لسُنة النبي ﷺ ومنهجه في الحروب، ووصفوها بأنها "الحيلة التي تحيّلتْ بها الإفرنج لمّا أن عجزوا عن ملاقاة العساكر الإسلامية"؛ طبقا لابن زُنْبُل. ولم يُرجع سلاطينُ المماليك الخللَ إلى أنفسهم وانغلاقهم عن متابعة تطورات العالم حولهم في مجال التسليح، حتى جاءهم العثمانيون بالمدافع الحديثة الحاسمة في الحرب البرية، وجاءهم البرتغاليون بالأساطيل القوية الفاصلة في الحرب البحرية؛ فتأخروا برًا وبحرًا تأخُّراً أحرج دولتهم وأخرج مُلكهم من مسرح التاريخ!!
والواقع أن المماليك امتلكوا المَدافع -التي كانوا يسمونها "المكاحل"- لكنهم لم يتوسّعوا في صناعتها بعد زوال الخطر المغولي والصليبي، ويشير مؤرخ سقوط مصر المملوكية ابن زُنْبُل إلى وجود أربعة مدافع مملوكية تم دفنها في الرمال في مصر قُبيل وأثناء معركة الريدانية شمال القاهرة سنة 923هـ/1517م، التي هُزم فيها المماليك أمام العثمانيين وفُتحت لهم أبواب مصر من بعدها.
لكن ابن إياس يذكر عددا من المدافع المملوكية أكبر مما أورده ابن زُنْبُل؛ فيقول إن "السلطان [قانصوه الغوري] سَبَك نحوا من سبعين مكحلة (= مدفعا) ما بين كبار وصغار من نحاس وحديد، فكان منهم أربعة كبار"، ولعل هذه الأربعة الكبار هي التي ركّز ابن زُنْبُل على ذكرها -دون بقية السبعين- نظرا لضخامة حجمها.
وطبقا لابن زُنْبُل أيضا؛ فإن خبيرا في المدافع هو "الأمير يزبك المكحّل" سبق له أن كان ضمن الأمراء الأربعة والعشرين الكبار الذين خرجوا مع قانصوه الغوري إلى المعركة الأولى الحاسمة مع العثمانيين في مرج دابق الواقعة اليوم شمالي محافظة حلب السورية، لكن لم تذكر المصادر أن المماليك استخدموا المدافع في الشام أمام العثمانيين. وأما في مصر فإن ما قام به المماليك في الريدانية هو ردم هذه المدافع بالرمال خشية الجواسيس العثمانيين، ولم تُطلق منها إلا قذيفة واحد فقط؛ طبقا لابن زُنْبُل.
على أن المؤرخ ابن إياس الحنفي يذكر -في ‘بدائع الزهور‘- عن آخر السلاطين المماليك طومان باي -وهو معاصر لحكمه- اهتمامَه الكبير بصناعة المدافع وذخائرها وعربات نقلها؛ فيقول: "وكان هذا السلطان له عزم شديد في عمل هذه العجلات وسَبْكِ المكاحل (= المدافع) وعَمَلِ البندق الرصاص، وجَمَع من الرُّماة ما لا يُحصى، وكانت له همة عالية ومقصده جميلا"!!
وأيا ما كان الأمر؛ فإن نتائج المعركة كشفت بجلاء أن كفة التقدم العسكري كانت راجحة لصالح الجانب العثماني، لكن السلاح وحده لم يكن السبب الأساسي في سقوط المماليك؛ إذْ ظهرت خيانة كل من والي حلب خاير بك (ت 928هـ/1522م) ووالي دمشق جان بردي الغزالي (ت 927هـ/1521م)، وتذكرنا خيانة خاير بك بخيانة الأمير دمرداش (ت بعد 815هـ/1412م) والي حلب أثناء غزو تيمورلنك لبلاد الشام سنة 803هـ/1400م وتمكنه منها.
لذا كان من أسوأ الأخطاء التي وقع فيها السلطان الغوري عدم تعيين الأكفأ على ولاية حلب الحدودية شديدة الأهمية، والتي هي خط الدفاع الأول عن السلطنة المملوكية، وقد كلفه ذلك ثمنا باهظا حين خسر في معركة مرج دابق "من أمراء مصر والشام وحلب وغير ذلك نحو أربعين أميرا" فارسا؛ وفقا لابن إياس في ‘بدائع الزهور‘.
هذا فضلاً عن تخلف جهاز المخابرات الداخلي المملوكي الذي لم يعد فاعلاً في أخريات الدولة، وفشله في تقييم ولاء نواب السلطنة وكبار أمرائها ومدى تحملهم لمسؤولياتهم، بعكس الفاعلية القوية التي كان عليها هذا الجهاز في زمن الظاهر بيبرس في الدولة البحرية، والظاهر برقوق في الدولة البرجية.
لقد فَقَدَ المماليك كثيرا من شرعيتهم بين الناس لأمرين أساسيين في تلك الآونة؛ الأمر الأول: هو مظالم سلاطينهم المرهقة لجميع طبقات الشعب من العامة والخاصة، وما صاحب ذلك من فساد مالي وإداري أدى إلى إسناد المناصب إلى غير المؤهلين لها بالرشوة والواسطة، مما قاد إلى تراجع فعالية مؤسسات الدولة.
وأما الأمر الثاني: فهو ما يُروى من سعيهم للتعاون مع الصفويين الشيعة بإيران ضد العثمانيين السُّنّة، وهو ما سجله المؤرخ الشامي شمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ/1546م) بقوله -في كتابه ‘مفاكهة الخلان في حوادث الزمان‘– إن السلطان العثماني سليم الأول "اطَّلَعَ على مطالعات (= مراسلات) من سلطاننا (= قانصوه الغوري) إلى الخارجي إسماعيل الصوفي (الشاه الصفوي المتوفى 930هـ/1524م) يستعينه على قتال ملك الروم سليم خان" العثماني!!
وكان ينبغي للمماليك -على أقل تقدير- أن يقفوا على الحياد في الصراع بين الصفويين والعثمانيين، خاصة أن الصفويين كانوا آنذاك على اتصال بالبرتغاليين رغبة منهم في التحالف معهم ضد المماليك، وهو ما وثقه المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث ابن إياس الحنفي بقوله إنه جرى في سنة 916هـ/1510م أن أحد ولاة الشام "قَبَضَ على جماعة من عند إسماعيل الصوفي (= الشاه الصفوي) وعلى أيديهم كُتُبٌ من عند الصوفي إلى بعض ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عونا على سلطان مصر، وأنهم يجيئوا إلى مصر من البحر ويجيء هو من البر...، وبعث بهم إلى السلطان" المملوكي قانصوه الغوري.
كما فاقمت ضعفَهم العوامل الأخرى التي شرحناها سابقا مثل صراعاتهم البينية وانقلاباتهم العسكرية، وأزماتهم الاقتصادية والصحية، وتخلفهم العسكري والحضاري؛ فأدى كل ذلك إلى هزيمتهم الساحقة أمام العثمانيين في الشام أولا ثم في مصر، وأسفرت تلك الهزيمة عن نهايتهم المحتومة بانهيار دولتهم وزوال سلطانهم بمقتضى سُنن التاريخ التي لا تحابي أحدا!!
المصدر: الجزيرة نت