جذوة جهادية
وقد ظهرت آثار هذه التربية الخصبة والمكينة على سلوك المماليك -وخاصة في عهد دولة "المماليك البحرية"- في معاركهم العسكرية وانتصاراتهم التاريخية المتوالية؛ بدءا من معركة المنصورة الفاصلة التي أنهوا بها أحلام الصليبيين في العودة إلى المشرق، بعد هزيمة حمْلتهم العدوانية بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع وأسْره وقتْل نصف جيشه.
ومحورية دور المماليك في هذه المعركة التاريخية هي التي جعلت معاصريها يطنبون في الإشادة بأمرائهم، ويصفونهم بأنهم "أحيوْا في ذلك اليوم الإسلامَ من جديد، بكل أسد من التُّرْك قلبه أقوى من الحديد؛ فلم تكن إلا ساعة وإذا بالإفرنج قد ولَّوا على أعقابهم منهزمين، وأسُود الترك لأكتاف خنازير الإفرنج ملتزمين"؛ طبقا لتعبير المؤرخ ابن أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) في كتابه ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.
وخلال الفترة 659-690هـ/1261-1291م تمكّن المماليك من تحرير جميع المدن والقلاع والموانئ الإسلامية من احتلال الصليبيين، التي عجزت أجيال مشروع التحرير السالفة(السلاجقة والزنكيون والأيوبيون) عن انتزاعها من براثنهم، فأعادوا إلى هذا المشروع وهَجَه الذي خبا خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري/الـ13م.
فقد حمل سلاطين المماليك -منذ تسلَّم الحكمَ مؤسسُ دولتهم الفعلي الظاهر بَيْبَرْس البُنْدُقْدَاري (ت 676هـ/1277م)- مشعلَ الجهاد المتواصل ضد الصليبيين لاقتلاعهم من الساحل الشامي برمته؛ منطلقين في ذلك من واقع سيطرتهم القوية والمركزية على وحدة مصر والشام التي مكّنتهم من كسب رهان الحروب الصليبية خلال ثلاثة عقود فقط!!
يقول المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في ‘المنهل الصافي‘: "كان الملك الظاهر [بَيْبَرْس].. ملكاً شجاعاً مقداماً، خبيراً بالحروب ذا رأي وتدبير وسياسة ومعرفة تامة. وكان سريع الحركات.. نالته السعادة والظَّفَر في غالب حروبه، وفتح عدة فتوحات من أيدي الفرنج"؛ ثم ذكر المؤرخ من هذه الفتوح أكثر من 14 موضعا شاميا كانت معاقل قوية للصليبيين.
على أن قمة إنجازات الظاهر بَيْبَرْس -الذي أطلق شرارة مطاردة الصليبيين سنة 663هـ/1265م- كانت إسقاطه إمارة أنطاكية الصليبية سنة 666هـ/1268م، وهي ثانية إمارات الصليبيين تأسيسا بعد إمارة الرُّها (= مدينة أورْفا بتركيا اليوم)؛ وكان تحريرها أعظمَ إنجاز للمسلمين بعد استعادة صلاح الدين القدسَ قبل نحو قرن إثر معركة حطين في سنة 583هـ/1187م.
وقد لاحظ المؤرخ ابن واصل الحموي حجم الإنجاز الهائل المتحقق في أيام بَيْبَرْس حين قارنه بأعمال نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م) وصلاح الدين، بل إنه فضّل صنيعه عليهما لتضاعف أعباء الاحتلال في عصره بـالعدوان المغولي؛ فقال: "رحم الله الملك الناصر صلاح الدين.. فلم يؤيَّد الإسلام بعد الصحابة.. برجل مثله ومثل نور الدين محمود بن زنكي..؛ فهما جددا الإسلام بعد دروسه..، ثم أيد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين (= بَيْبَرْس)، وكان أمره أعجب! إذ جاء بعد أن استولى التتر (= التتار) على معظم البلاد الإسلامية، وأَيِسَ الناسُ أن لا انتعاش للملة؛ فبدّد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية، ومَلَك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية"!!
ولما توفي بَيْبَرْس؛ حمل خليفتُه المملوكي السلطانُ المنصور قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) رايةَ المواجهة لتصفية بقايا الوجود الصليبي بالشام فاستولى على عدة حصون صليبية، ثم ختم حياته بإنجازه الأعظم عندما أسقط رابعة الإمارات الصليبية تأسيسا وهي طرابلس الشام التي حررها سنة 688هـ/1289م. وبصنيعه هذا أكمل المنصور قلاوون تفكيك إمارات الصليبيين الأربع التي تشكلت منها "المملكة اللاتينية في الشرق" أو "المملكة المقدسة" في بلاد الشام زهاءَ قرنين!!
يقول الملك أبو الفداء الأيوبي الذي يؤكد -في تاريخه- أنه شخصيا حضر تحرير طرابلس: "لما نازلها السلطان نصبَ عليها عدّة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها.. بالسيف ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء فنجَى أقلُّهم في المراكب، وقُتل غالب رجالها.. وغنِم منهم المسلمون غنيمة عظيمة".
ثم استعد السلطان قلاوون لاستعادة آخر وأكبر معاقل الصليبيين بالشام في عصره، وهي إمارة عكّا التي لم تكن أصلا ضمن إماراتهم الأربع الأولى، وإنما تشكلت من فلولهم التي سمح صلاح الدين بخروجها من القدس وغيرها من المعاقل التي فتحها على الساحل، ثم توفي صلاح الدين قبل أن يتمكن من انتزاعها من قبضتهم.
وقد التقت هذه الفلول لاحقا في مدينة صور كما يقول ابن الأثير فـ"اجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم"؛ ثم هاجموا منها عكا بدعم من قادة الحملة الصليبية الثالثة التي وصلت عكا سنة 587هـ/1191م يتزعمها الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد (ت 596هـ/1199م)، فاحتلوها بعد حصار مرير وأمعنوا في أهلها قتلا وتنكيلا، وأسسوا فيها إمارة صليبية خامسة عاشت قرنا كاملا.
لكن قلاوون توفي سنة 689هـ/1290م وهو على رأس جيشه متجها من القاهرة إلى عكا لفتحها؛ فكانت إنجازاته العظيمة تلك دليلا على صدق مقولة ابن خلدون فيه أنه "حسُنتْ آثار سياسته وأصبح حُجّةً على مَن بعده" من السلاطين!! ثم اضطلع بمهمة تحرير عكا بعده ابنه السلطان الأشرف خليل (ت 693هـ/1292م).
وفي فجر 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م، وبعد حصار دام أسبوعين؛ وقع الهجوم الهائل على أسوار المدينة فكان التحرير والانتصار الباهر. ويصف لنا الدَّواداري -في ‘كنز الدرر‘- أجواء هذا الحدث التاريخي الحاسم؛ فيقول إن الأشرف "زحف عليها (= عكا) بالجيوش بكرةَ النهار قبل طُلوع الشمس، وضُربت الكُوسات (= آلات نحاس تقرع بقوة لإخافة الأعداء) مع طبلخانات (= طبول) الأُمراء، مع صراخ الأبطال وصهيل الخيل وقعقعه السلاح؛ فخُيّل لأهل عكا [من الفرنج] أن القيامة قد قامت في تلك الساعة!! فلم تطلُع الشمس من الأبراج إلا والسناجق (= الأعلام) السلطانية الإسلامية على.. الأبراج، والفرنج.. قد ولَّوْا الأدبار وركنوا إلى الفرار"!!
وبسحق الصليبيين داخل أسوار عكا في جمادى الأولى سنة 690هـ/1291م؛ طُويت صفحة دموية استمرت قرنين كاملين من أوزار الحروب الصليبية فـ"تكاملت بذلك جميع البلاد الساحلية للإسلام، وطُهِّر الشام من الفرنج بعد أن كانوا قد أشرفوا على مُلك دمشق ومُلك مصر"؛ وفقا للمؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) في تاريخه.
ثم إن المماليك هم الذين صدّوا -قبل ذلك وبعده- الاجتياحات المغولية في معارك فاصلة استمرت نصف قرن؛ فلئن كانت معركة حطين -في رجب سنة 583هـ/1187م- شكّلت بداية النهاية للاحتلال الصليبي في الشام، فإن معركة عين جالوت -التي وقعت بين بيسان ونابلس بفلسطين يوم 25 رمضان 658هـ/3 سبتمبر 1260م- كانت المحطة الحاسمة في وقف المد المغولي الجارف للهيمنة على المنطقة، بعد إسقاطهم عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 656هـ/1258م وإخضاعهم الخاطف لمركز الشام دمشق سنة 658هـ/1260م.
فقد استمر زحف المغول مظفَّرا وهم "عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام"؛ حسب ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- حتى واجههم المسلمون في عين جالوت "فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقُتِل أمير المغول".
ويرسم لنا ابن كثير بقلمه صورة احتفاء المسلمين بانتصارهم المدوي هذا بقيادة أمراء دولة المماليك، الذين اكتسبوا شرعيتهم السياسية النهائية من بلائهم الكبير في هذه المعركة الفاصلة؛ فيقول إنه "جاءت بذلك البشارة، ولله الحمد على جبْره إياهم بلطفه، فجاوبها دَقُّ البشائر (= طبول تقرع للأخبار السارّة) من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيَّد الله الإسلام وأهله تأييدا"!! 
(المصدر : الجزيرة - ميدجورني)
حسم تاريخي
وعلى صعيد جهود تقوية الجبهة المصرية الشامية أمام الأطماع الصليبية المتجددة كان للأسطول البحري المملوكي إسهام مركزي في ذلك التحصين؛ ففي سنة 659هـ/1261م تولى السلطان الظاهر بَيْبَرْس البُنْدُقْدَاري عرش الدولة المملوكية فوضع خطة لإعادة تنظيم كافة قطاعاتها، وشمل ذلك صناعة الأسطول البحري.
وعن ذلك يحدثنا المقريزي (ت 845هـ/1442م) -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- فيقول: "ونظر [بَيْبَرْس] في أمر الشّواني (= جمع «شَوْنَةُ»/«شيني»: سفينة قتالية) الحربية وكان قد أُهمِل أمر الأسطول بمصر..، وأنشأ عدّة شواني بثغريْ دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى «دار الصناعة» ورتَّبَ ما يجبُ ترتيبه، وتكامل عنده ببرّ مصر ما ينيف على أربعين قطعة، وعدة كثيرة من الحراريق (= جمع حَرَّاقة: سفينة قاذفة للنيران) والطرائد (= جمع طريدة: سفينة حربية هجومية)".
وسرعان ما آتت جهود بَيْبَرْس أكُلَها باستعادة الأسطول المملوكي لزمام المبادرة العسكرية؛ ففي عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1341م) كانت جزيرة أرواد -الواقعة اليوم ضمن سوريا- قد "اجتمع فيها (= سنة 702هـ/1302م) جمعٌ كثير مِن الفرنج..، وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين..، فعُمِّرت الشواني وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم (= البحر المتوسط)..، وجرى بينهم قتال شديد، ونصر الله المسلمين وملكوا الجزيرة المذكورة"؛ وفقا للملك المؤرخ أبي الفداء الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.
وبسبب الهجمات القبرصية البحرية على سواحل مصر والشام التي أثارت مخاوف من تجدد أطماع الصليبيين في المنطقة؛ زاد اعتناء المماليك بصناعة أساطيلهم حتى بلغت ذروة قوتها بسيطرتهم على قبرص التي كانت حينها آخر معقل إستراتيجي للصليبيين يهددون منه بلاد الإسلام انطلاقا من منطقة شرقي المتوسط، ويتخذونه منطلقا لمهاجمة المراكب التجارية والعسكرية المملوكية والإسلامية.
ففي أواخر سنة 829هـ/1426م أمر السلطان المملوكي سيف الدين بَرْسْبَاي (ت 841هـ/1437م) "بعمارة الأغربة (= جمع غُراب: السفينة الحربية الكبيرة) والحمّالات (= السفن الحربية المعدة لحمل المعدات والخيول)، وجدَّ في ذلك وبذل الأموال..، ويُقال إنه بلغت عدة العمارة (= الأسطول) -أغربةً وحمالاتٍ وزوارقَ- مئتيْ قطعة وزيادة"؛ حسب الإمام ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في 'إنباء الغُمْر بأنباء العُمْر'.
ويضيف ابن تَغْري بَرْدي -الذي كان معاصرا لتلك الأحداث- أن الغارات المملوكية تواصلت على جزيرة قبرص، وانتهت المحاولات الثلاث بنجاح القادة المماليك في تحقيق هدفهم؛ إذْ "ركبوا عائدين بالأسرى والغنيمة وبصاحب قبرس (= الملك جانوس بن جاك المتوفى 835هـ/1431م) إلى أن وصلوا إلى الثغور الإسلامية، ثم ساروا نحو القاهرة، فدخلوها في يوم الأحد سابع شهر شوال سنة تسع وعشرين وثمانمئة (829هـ/1426م)...، وقد اجتمع لرؤيتهم من الخلائق عالَم لا يحصي عددَهم إلا الله"!!
لقد كان انتصار المماليك في قبرص حدثا تاريخيا أعاد إلى الأذهان أمجاد الانتصارات الإسلامية الكبرى بعد نحو قرن ونصف من توقفها، وهو ما جعله جديرا بتنظيم أحد احتفالات النصر المهيبة التي احتفظت لنا كتب التاريخ الإسلامي بتفاصيلها الدقيقة؛ فمبجرّد وصول الأخبار بحصول هذا الانتصار الحاسم "دقّت البشائر بالقلعة (= مقر السلطان بالقاهرة) لهذا الفتح ثلاثة أيام"؛ وفقا للمؤرخ جمال الدين ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في كتابه ‘النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة‘.
وينقل لنا هذا المؤرخ -وهو ابن أمير مملوكي- أجواء تلقي السلطان لهذا الفتح العظيم وتفاعل الرأي العام المسلم مع الحدث؛ فيقول إن بَرْسْبَاي لما بلغه الخبر "كاد أن يطير فرحا، ولقد رأيته وهو يبكي من شدّة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله"! ثم أمر السلطان بدق "البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن الإسلام لما بلغهم ذلك، وارتجّت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور الذي هجم عليهم، وقُرئ الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية.. بالقاهرة، حتى سمعه كلّ من قصد سماعه، وقالت الشعراء في هذا الفتح عدّة قصائد"!
ولم يكتف السلطان المملوكي باحتفالاته عند سماع الخبر؛ فقد ادَّخر لقادة الفتح وجنوده -الذين "أراحوا أبدانهم سبعة أيام" في قبرص "وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح"- ضروبا أخرى من الاحتفالات، اجتمع لرؤيتها "خلائق لا يعلم عِدّتَهم إلا الله تعالى، حتى أتت أهلُ القرى والبلدان من الأرياف للفرجة"!!
وتضمن هذا الاحتفالُ المهيبُ مسيرةً حافلة جابت شوارع القاهرة، واحتشد الناس -رجالا ونساء- في شوارعها لرؤية الغزاة وغنائمهم، فقد "ركبت الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة..، وشقُّوا القاهرة إلى باب زويلة..، والخلق في طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل لا يسمع كلام رفيقه، من كثرة زغاريد النّساء -التي صُفّت على حوانيت القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهن أحد لذلك- والإعلان بالتكبير والتهليل، ومن عِظَم التهاني! هذا مع تخليق (= تطييب) الزعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى في الأزقة"!!
ولم تكن هذه المسيرة العسكرية الحاشدة عشوائية؛ بل كان الغزاة منظمين بدقة في استعراضهم بحيث إن "ترتيب مشيهم [كان] يُذهب العقل" بجماله وتناسقه، فقد "قدّموا أوّلا الفرسان من الغزاة أمام الجميع، ومن خلف الفرسان طوائف الرّجّالة (= المشاة) من المطّوّعة (= المتطوعون للقتال)..، ومن خلف هؤلاء الجميع الغنائمُ محمولة على رؤوس الحمّالين، وعلى ظهور الجمال والخيول والبغال والحمير، والتي كانت على الرؤوس فيها تاج الملك [الفرنجي] وأعلامه منكَّسة، وخيله تقاد من وراء الغنائم، ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج، ثم من بعدهم السبي من النساء والصّغار"!!
ويضيف ابنُ تَغْري بَرْدي أنه من وراء جميع الأصناف المتقدمة وُضع "جينوس (ت 835هـ/1432م) ملك قبرس (= قبرص) وهو راكب على بغلٍ بقيدِ حديدٍ" في غاية الإذلال والمهانة!! ثم ساروا "على هذه الصِّفة حتى طلعوا إلى القلعة (= مقر السلطان بالقاهرة)؛ فأنزِل جينوس عن البغل وكُشف رأسه..، وقد صُفّت العساكر الإسلامية من باب المدرّج إلى داخل الحوش السلطاني"!!
ويخبرنا هذا المؤرخ أنه لما انتهت المسيرة إلى القلعة "أمر السلطان بإحضار متملّك قبرس فتقدّم ومشى وهو بقيوده ورأسه مكشوفة، وبعد أن مشى خطوات أمِر فقبّل الأرض ثم قام، ثم قبّل الأرض ثانيا بعد خطوات، وأخَذ يُعَفِّر وجهه في التّراب، ثم قام فلم يتمالك نفسه -وقد أذهله ما رأى من هيبة المُلك وعِزّ الإسلام- فسقط ثانيا مغشيا عليه، ثم أفاق من غشوته وقبّل الأرض، وأوقِف ساعة بالقرب من السلطان بحيث إنه يتحقّق شكله..، هذا مع ما الناس فيه من التّهليل والتّكبير بزُقاقات القلعة، وأطباق (= ثُكنات) المماليك السلطانية وغيرها"!!
ويختم ابنُ تَغْري بَرْدي مشاهد هذه الاحتفالات وآثارها التي تواصلت مدة طويلة؛ فيقول: "كان هذا اليوم يوما عظيما جليلا لم يقع مثله في سالف الأعصار، أعزّ الله تعالى فيه دين الإسلام وأيّده وخذل فيه الكفر وبدّده!! ثم انفضّ الموكب ونزل كلّ واحد إلى داره، وقد كثرت التهاني بحارات القاهرة وظواهرها لقدوم المجاهدين، حتى إن الرّجل كان لا يجتاز بدرب ولا حارة إلا وَجد فيها التخليقَ (= التطييب) بالزّعفران والتهاني، ثم أمر السلطان بهدم الزينة فهُدمت، وكان لها مدّة طويلة"!!
شرعية واقعية
وهكذا فإن المماليك صاروا يحكمون بـ"شرعية الإنجاز" المتحققة من تلك الانتصارات العظيمة التي قابلتها جماهير الشعب بالحفاوة والتقدير البالغ؛ إضافة إلى أن الخليفة القرشي العباسي -الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- صار مقره القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ"السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين"؛ وفقا للمؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) في ‘ذيل مرآة الزمان‘.
فمن المعلوم أن السلطان الظاهر بيبرس كان استقبل أحد أمراء البيت العباسي الفارين من سيوف المغول يسمى أبا القاسم أحمد بن محمد (ت 660هـ/1262م)، وهو حفيد للخليفة القوي الناصر لدين الله (ت 622هـ/1225م)، فبايعه بيبرس -في مفتتح عهد سلطنته- ليكون بذلك أولَ الخلفاء العباسيين في مصر، وأطلق عليه لقب "المستنصر بالله الثاني".
وبهذا التتويج سعى بيبرس إلى ضمان استمرار نظام "الخلافة" كرمز لوحدة المسلمين انطلاقا هذه المرة من القاهرة، وربما على أمل العودة بها إلى بغداد عندما تتهيأ الظروف. لكن لم تفلح محاولته تلك؛ بل ظل منصب هذه الخلافة الجديدة قائما على نحو صوري دون سُلطة حقيقية على أرض الواقع في مصر والشام والحجاز، لكن -في الوقت ذاته- ظل تعاقب هؤلاء "الخلفاء" العباسيين على منصب "الخلافة" مستمرا لإضفاء الشرعية السياسية والدينية على سلطة المماليك حتى نهاية دولتهم على أيدي العثمانيين.
إن "شرعية الإنجاز" الواقعية تلك هي التي جعلت قوتُها الإمامَ ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) يخص سلاطين المماليك بالتحريض على التصدي للتتار الزاحفين من العراق إلى الشام ومصر -بعد "إسلام" ملوكهم- بقيادة سلطانهم قازان بن أرغون (ت 703هـ/1303م) سنة 702هـ/1302م.
فقد أصدر فتوى تُلزم المماليكَ بالجهاد لكنها تمنحهم "الشرعية السياسية"، وتحشد الرأي العام لمناصرتهم في المقاومة حتى لا تتكرر هزيمتهم أمام التتار "المسلمين" سنة 699هـ/1300م. وقد جاء في فتوى ابن تيمية تلك: "أما الطائفة (= المماليك الحاكمين) بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتِلون عن دين الإسلام، وهم مِن أحقِّ الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي ﷺ.. في الأحاديث الصحيحة المستفيضة".
ثم أتبع الشيخ ذلك برسمه خريطةً لجغرافيا المسلمين السياسية -من العراق إلى المغرب ومن اليمن إلى الشام- مبرهِنا بها على صدقية ما ذهب إليه من تفرد المماليك بالأهلية لقيادة المسلمين؛ فرأى أن "من يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها..، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم.
وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيِّعون له..؛ وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة.. وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعَفون عاجزون..؛ وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها..؛ وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك..؛ فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام..، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية"!!
لقد عُمّرت دولة المماليك الأولى -أو عصر المماليك الأتراك البحرية- ما يقارب مئة وثلاثين سنة، تربعت فيها الأسرة القلاوونية التي بدأت مع السلطان المنصور سيف الدين قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) على عرش المماليك زهاء قرن (678-784هـ/1279-1385م).
وهي فترة تخللها صعود بعد السلاطين الآخرين من خارج هذه الأسرة لفترة قصيرة مثل السلاطين: زين الدين كتبُغا (ت 702هـ/1302م)، وحسام الدين لاجين (ت 698هـ/1299م)، وبَيْبَرْس الجاشْنَكِير (ت 709هـ/1309م)، الذين تسلطنوا جميعهم مدة ست سنوات تقريبا مثّلت استثناء من حكم الأسرة القلاوونية، التي بزغ فيها السلاطين الكبار: المنصور قلاوون والأشرف خليل بن قلاوون والناصر محمد بن قلاوون، ثم جاء أبناء هذا الأخير وبعض أحفاده.
مثّل موتُ السلطان القوي في السلطنة المملوكية الناصر محمد بن قلاوون -الذي حكم ثلاث مرات وكان أطول السلاطين حُكما- بدايةً لتسلُّط كبار الأمراء المماليك على رقاب السلاطين الأطفال أو الشباب الضعاف من أبناء الناصر محمد وأحفاده، فاستغلّ الجراكسة -في نهاية الأمر- هذه الأحداث وانقلبوا على الحكم التركي بالكلية.
وبذلك أسس الشراكسة لأنفسهم عصرا جديدا بدأ مع السلطان الظاهر برقوق بن آنص العثماني اليلبُغاوي (ت 801هـ/1399م) الذي استطاع تصفية منافسيه من الأمراء "فلم يبق له معاند، وصار له من المماليك الجراكسة عدد كبير جُلبوا إليه من البلاد فرقّاهم إلى ما لم يخطر لهم ببال، وأنعم على جماعة منهم بإمريّات (= مناصب رفيعة)"؛ طبقا لما في كتاب ‘السلوك‘ للمقريزي الذي يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه قد "زالت دولة بني قلاوون بالملك الظاهر برقوق في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمئة (784هـ/1386م)".
وإذا كان "المماليك البحرية" قد عززوا شرعية حكمهم إثر انقلابهم على أسيادهم من الأيوبيين بإحياء الخلافة العباسية انطلاقا من القاهرة؛ فإنه يبدو أن ورثتهم من "المماليك البرجية" حاولوا أن يسوغوا شرعية انقلابهم على أسيادهم من "المماليك البحرية" بادعائهم نَسَباً عربيا لعرقهم الشركسي، وذلك عبر ادعائهم انتساب الشركس إلى قبيلة غسان القحطانية حسبما يخبرنا به المؤرخ ابن خلدون بقوله: "فانحازت قبائل غسّان إلى هذا الجبل (= جبل شركس بالقوقاز) عند انقراض القياصرة والروم، وتحالفوا معهم واختلطوا بهم ودخلت أنساب بعضهم في بعض، حتى ليزعم كثير من الشركس أنّهم من نسب غسّان"!!
وقد استفاضت مسألة الانتساب العربي لسلاطين الشركس في عصر المماليك البرجية حتى نهاية دولتهم؛ فهذا خاتمة مؤرخي العصر المملوكي ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م) يذكر -في كتابه ‘بدائع الزهور في وقائع الدهور‘- أنه "كان [السلطان] برقوق من خلاصة الجراكسة، من قبيلة يقال لها «كسا»؛ نقل بعض الثقاة من المؤرخين أن قبيلة «كسا» كانت من نسل جبلة بن الأيهم بن الحرث الأعرج ابن أبى شمر الغساني (ت 24هـ/645م)، من قبيلة غسان" العربية اليمانية!!
بل يبدو أنه "ظلت هذه الأسطورة حية بين المجتمع المملوكي المصري في ظل حكم العثمانيين"؛ وفقا للمستشرق دفيد آيالون (David Ayalon المتوفى 1418هـ/1998م) في بحث له عن المماليك منشور ضمن كتاب ‘موجز دائرة المعارف الإسلامية‘ الصادر عن مؤسسة «بريل» الهولندية.
يتبع....