عرض مشاركة واحدة

قديم 12-08-25, 04:00 PM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي في الذكرى الـ800 لنشأتها.. دولة المماليك من الازدهار إلى الاندثار



 

دولة المماليك من الازدهار إلى الاندثار

يقدّم هذا المقال عرضا مركَّزا لتجربة دولة المماليك صعودا فازدهارا وانحسارا فاندثارا، بوصفها مرآة تعكس -بقوة وأمانة- سنن الله في الحضارات قياما وأفولا.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

محمد شعبان أيّوب
12/8/2025

"من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمانَ بإحياء رَمَقِه، وتلافَى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم -من هذه الطائفة التركية (= المماليك) وقبائلها الغزيرة المتوافرة- أمراءَ حامية وأنصارا متوافية، يُجْلَبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مَقَادَة (= قَيْد) الرق الذي كَمُنَ اللطفُ في طيّه، وتعرّفوا العز والخير في مغبّته، وتعرّضوا للعناية الربانية بتلافيه"!!
يقدّم هذا النصُّ المؤثرُ أحدَ المداخل التاريخية الثمينة التي يمكن بها مقاربة فهم واستيعاب ظاهرة المماليك؛ ففي هذا النص قدّم قاضي القضاة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في تاريخه- تقييمَه الكليَّ لأثر "دولة المماليك" (648-923هـ/1250-1517م) في الحضارة الإسلامية، واضعا إياها في السياق العام لحركة التاريخ الإسلامي في لحظةٍ أوشكت فيها الأمة الإسلامية على الانهيار تحت وطأة الاجتياح المغولي الذي أسقط بغداد سنة 656هـ/1258م، ليأتي ظهور الدولة المملوكية كـ"لطف إلهي" يحيي الأمل ويحمي قلب الإسلام.
فعلى أيدي عبيدٍ جُلبوا من أعماق آسيا الوسطى؛ قامت دولةٌ صارت درعَ الدين وسيفَه، ليس فقط بصدّها للمغول وقضائها على الصليبيين بل بجعلها القاهرة سلطانيا وعمرانيا هي "حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوّها، وتزهر الخوانق والمدارس بآفاقها، وتضيء البدور والكواكب من علمائها"!!
إنه الوصف الباهر الآسر الذي خلّد به ابن خلدون -في كتاب رحلته- لحظةَ دخوله القاهرة المملوكية وهي تعيش ذروة مجدها، عندما وطئت أرضها قدماه سنة 784هـ/1382م لاجئًا من صراعات سياسية مريرة أرهقته في الغرب الإسلامي إفريقياً وأندلسياً.
والواقع أن ابن خلدون إنما كان يصف ثمار مسار طويل شقته دولة المماليك (648-923هـ/1250-1517م) في قلب العالم الإسلامي تاريخا وجغرافيا؛ فقد برزت هذه الدولة -التي تحوّل فيها الجنود العبيد من الأتراك والشراكسة إلى سلاطين وقادة أفذاذ عبر الخضوع لنظام تربوي وعسكري صارم- قلعةً حضارية تحمي ديار الإسلام من هجمات الأعداء غربا وشرقا.
لقد تمكن المماليك -قبل أن ينالهم الضعف والتفكك جرّاءَ التهاون في التكوين التربوي وصراعات العرش- من إحراز انتصارات عسكرية باهرة؛ فإذا كان قد قُدِّر للدول التي سبقتهم (السلاجقة والزنكيون والأيوبيون) أن تواجه عدواً خارجياً واحداً هو القوى الصليبية، فإن المماليك قد هيّأهم قدرُهم لمواجهة قوتين عالميتين وحشيتين: المغول والصليبيين.
فقد أوقفت دولة المماليك المد المغولي المدمر وطهّرت الساحل المصري والشامي من بقايا الصليبيين، وكانت هذه الانتصارات الباهرة على القوى الباغية الغازية لبلاد الإسلام هي الرهان الذي كسب به هؤلاء الأرقاء حق تمثيل المجتمعات الإسلامية في تلك الحقبة الخطيرة.
وهكذا تأسست شرعية حكم المماليك على "شرعية الإنجاز" باعتبارهم حماة الإسلام العظام الذين قدموا نموذجا جهاديا ملحميا، يعكس قوة الارتباط والانضباط ويمتزج فيه الإيمان بالفروسية والتربية بالسياسة. وقد تجاوب حينها الفقه السياسي مع هذه الحالة وتفهمها وواكبها بالتكييف الفقهي المناسب لروح ذلك العصر، وذلَّلَ العلماءُ سُبُلَ التعاون مع سلاطينهم عبر الشراكة التي عقدوها مع النخب العلمية والفكرية.
وإلى جانب جذوة الجهاد المتقدة أضاءت مصابيح الاجتهاد؛ فكانت حواضر هذه الدولة -كالقاهرة ودمشق والقدس والحرمين الشريفين وغيرها- تموج بحياة علمية ثرية وزاخرة جعلت منها مراكز راسخة للثقافة والمعرفة، وتزينت سماواتها بقباب المساجد العامرة والمدارس الزاهرة والمنشآت الإدارية والخدمية الفخمة.
ففي ظلال هذه الحياة العلمية؛ ازدهر العرفان والعمران بفضل موارد الأوقاف السخية التي عززتها شبكة واسعة من الأنشطة التجارية الهائلة، وضمنت للعلماء والأدباء حياة كريمة تقترن باستقلالية -في الرأي والموقف- غير منقوصة، وتركت للمماليك إرثًا عمرانيا وثقافيًا غنيا وفتّانا لا تزال شواهده -من مقتنيات وعمران- ماثلة للعِيان في القاهرة ودمشق وحلب وغيرها من الحواضر والأمصار.
لكن هذا الإشعاع الحضاري -الذي بدا متوهجا وخالدًا وهو في ذروة عزه ومجده- سرعان ما خبا تدريجيا تحت وطأة عوامل فتاكة من الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية التي استنزفت قوى الدولة، وأنواع مظالم الفساد الإداري والمالي الذي عصف بفاعلية المؤسسات، والأزمات الاقتصادية والصحية التي فتكت بروابط المجتمع؛ فاختلت بذلك موازين حكم الدولة وشُلّتْ إنتاجية مؤسساتها بسبب ظهور أجيال من القادة ضعيفة عسكريًا وأخلاقيًا وإداريا، كما تفككت -جرّاء فسادهم وسوء سياساتهم- شبكات الحماية المجتمعية من تجارة وأوقاف وغيرها.

وبسبب كل ذلك دخلت القاهرة -ومعها الشام والحجاز- في مرحلة متقدمة من مراحل الأفول الحضاري، لاحظها مؤرخو العصر المملوكي ونظروا إليها بوصفها أثرا للحكم السيئ وانعكاسا للتدبير السياسي العليل؛ فانهيار الحواضر الكبرى والعواصم لا يعني تهدُّم جدرانها بتوالي الضربات القواصم، ولكنها تموت حين ينهار بناؤها الأخلاقي، ويتحلل قوامُها المجتمعي، وينحدر نظامها السياسي على النحو الذي صوّر به -في مؤلفاته- مؤرخُ القاهرة تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) النخبةَ العسكرية المملوكية التي كانت تحيا -في عصره- أسوأَ أطوارها وأدوارها!!
وفي تلك اللحظة الحرجة من عمر الدولة المملوكية؛ كانت هناك قوى إقليمية ودولية تراقب وقائع موت سريري لدولة عظيمة داخل حلتها المعمارية الزاهية، وكان في طليعة تلك القوى الصفويون القابعون في الشرق، والبرتغاليون الرابضون في الغرب، وكلتا القوتين كانت تتطلع لوراثة المكانة الحضارية لدولة المماليك، وكل منهما يطمح لاختطاف خطوط التجارة والسيطرة على حركة الموانئ؛ فجاء العثمانيون فرسموا خطوطا من نار بين مصر والشام والحجاز، والصفويين من جهة، وبينها وبين القوى الأوروبية من جهة أخرى.
وكان من أبرز العوامل التي سهلت مهمة العثمانيين فشلُ المماليك المزمن في امتلاك قوة بحرية متماسكة وضاربة، وهو ما تجلى في هزيمتهم السريعة أمام أساطيل البرتغاليين في البحر الأحمر؛ فقد أضرت بالدولة المملوكية نزعة الانكفاء والاكتفاء وعدم مجاراة التطورات العلمية العالمية من حولها، وهو ما تجلَّى في جمودهم على صعيد التسليح العسكري الذي انعكس في رفضهم للتوسع في امتلاك واستخدام تقنية الأسلحة النارية، مما جعلهم ينكسرون -على نحو مدهش وفاجع- في مواجهة العثمانيين المدجَّجين بالمدافع.
لقد تخطى المماليك بأمتنا مرحلة من أشد مراحلها خطورة، وكانوا -وفقا للتوصيف الخلدوني- بمثابة "لطف من الله" قيّضه لحفظ ما تبقى من حضارة الإسلام في لحظة وهن شامل، رغم الإشكالات الجسيمة التي شابت ممارساتهم في شؤون الحكم؛ إنه لطف تجسد في هؤلاء الغرباء الذين جاؤوا ولم يعرفوا لهم أبًا ولا أهلًا سوى الإسلام والسيف، ومجاهدة الأعداء، وتشييد القباب العظيمة.
وبذلك فإن قصة المماليك ليست مجرد سيرة دولة سادت ثم بادت، أو فصلا من رواية تاريخية قرأته أمتنا طوال نحو ثلاثة قرون ثم طوته؛ بل هي مرآة تعكس -بقوة وأمانة- سنن الله تعالى في الأمم والمجتمعات وهي تخوض حركة التاريخ وتسلك دروب الحضارات صعودا وأفولا، ونموذج تطبيقي حي للدورة الحضارية التي تحدث عن قواعدها ابن خلدون بإسهاب وإعجاب في "المقدمة"، وفصلّها -في فصول تاريخه- بأمثلة واقعية عديدة.
لقد كانت تجربة الدولة المملوكية -التي تقدم هذه المقالةُ أبرزَ ملامحها ومعالمها ودلالاتها- دعوةً للتأمل في عوامل القوة والضعف التي تحدد مصائر الشعوب والأمم وأعمار الدول والممالك؛ لاسيما حين تبني دعائمَ عمرانها على شرعية التغلب بالقوة فتحمل -منذ نشأتها- بذور ضعفها وانحلالها، وتشيع فيها المآثم الأخلاقية والمظالم الاجتماعية من فساد واستبداد واستعباد.
ولذا فإن الخبرة التاريخية المملوكية تؤكد أن الاستباحة الخارجية تأتي دائما نتيجة طبيعية للانحلال الداخلي؛ إذْ طالما كانت الصراعات الداخلية هي البوابة العريضة المشرعة للتدخلات الخارجية، وفي هذا الملمح تحديدا يكتسي الدرس المملوكي دلالات خاصة للحظتنا الراهنة التي تلتقي مع تلك الحقبة في قواسم عديدة، ولاسيما على صعيد ثلاثية: التناحر الداخلي تظالما وتفككا وتخلفا، والتدافع الإقليمي انقساما طائفيا (سُنَّة وشيعة) وتنافسا عرقيا (أقاليم العرب والفُرْس والتُرْك)، والتصارع الدولي غزواً واحتلالا!!
إن صفحة "تراث" يسعدها أن تقدم لقرائها الكرام هذه المقالة الضافية -التي تأتي في ظلال الذكرى الـ800 لنشأة دولة المماليك- لتبسط في طياتها قراءة موجزة لكنها مركَّزة لتجربة دولة المماليك صعودا فازدهارا ثم انحسارا فاندثارا.
والواقع أن الصفحة حاولت -من خلال النصوص المطولة التي أنتجتها ضمن مقالات عدة نشرتها عن ظاهرة المماليك- أن تحرر هذه الظاهرة من الصورة النمطية المتداولة اليوم عن عموم المماليك باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكَرّ وفَرّ، أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ فبخلاف النظرة النمطية الشائعة عنهم نجد أن كثيرا منهم جمعوا ببراعة بين القلم والسيف وآخَوْا بنجاح بين الكِتاب والرِّكاب، فكان منهم العلماء والأدباء بقدر ما كان منهم الفرسان والأمراء!!
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


نشأة عباسية
قبل ثمانية قرون؛ نشأت دولة مهمة في منطقة قلب العالم الإسلامي -التي تُعرف اليوم بالشرق الأوسط- عرفت بدولة المماليك، وكان لظهورها واستمرارها ثم ضعفها ونهايتها قصة مثيرة تؤكد لنا ما توقّعه المؤرخ الحضاري وليُّ الدِّين ابن خَلْدُون (ت 808هـ/1406م) حين انتبه -في كتابه ‘المقدمة‘- إلى أن بداية وهن الدول يبدأ مع شيوع الترف فيها، فإذا أهلها "ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنّقوه (= تأنّقوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة".
وقد عاش المماليكُ هذه الحقيقة في مبتدئهم ومنتهاهم، واللافت أن ابن خلدون جاء إلى مصر -في عام 784هـ/1383م- لاجئاً من كروب السياسة في منطقة الغرب الإسلامي، وصادف مقدمه إليها السنة الأولى من العصر الثاني للدولة المملوكية (784-923هـ/1382-1517م) الذي قادها فيه "المماليك الجَرَاكسة/الشَّرَاكسة".
وقد أفضى إلينا هذا القاضي المؤرخ بحديث فريد عن هذه المرحلة من حياته وحياة المماليك دولة ورعية؛ فقد أخذته القاهرةُ المملوكية -التي رآها في ذروة مجدها الإسلامي والحضاري عند دخولها- فوصفها بأنها "حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين (= جمع إيوان: مجلس بثلاثة جدران ومفتوح على صحن مبناه) في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه"!!
رأى ابن خلدون إذن القاهرة في لحظة انتقالها إلى عهد جديد إثر صراع مرير بين صنفيْ المماليك: الأتراك والشراكسة، وكان الأتراك في الأصل سادة للشراكسة، وقد وصف ابن خلدون سيطرتهم العددية بقوله إن "أكثر.. التُّرْك الذين بديار مصر من القفجاق".
وفي هذا العهد الجديد تغيرت أهم القواعد الأخلاقية والعسكرية التي قامت عليها الدولة المملوكية، كما لاحظ ذلك تلميذه الإمام المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1442م) -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘- الذي وصف هذا العهد بأنه شهد "سِني الحوادث والمحن التي خربت فيها ديار مصر، وفنيَ معظم أهلها، واتَّضَعتْ بها الأحوال، واختلت الأمور خللا أذِنَ بدمار إقليم مصر".
والواقع أن ذلك المجد الراسخ -الذي لاحظه ابن خلدون لحظة اختياره مصر المحروسة وطنا بديلا له- كان يخفي وراءه ضعفا دفينا ظلت ملامحه تتبدَّى وتزداد، منبئةً عن مقدمات وأسباب ونتائج جعلت الأتراك العثمانيين -في نهاية المطاف- يسحقون هذه الدولة المملوكية، ويستولون على أقطارها -حين طمحوا إلى السيطرة عليها- في ظرف أشهر معدودات على يد السلطان سليم الأول (ت 926هـ/1520م).

يرجع تأسيس دولة المماليك إلى فئة "المماليك الأتراك" وهم العبيد البِيضُ المجلوبون من بلاد "ما وراء النهر" (نهر جيحون) في آسيا الوسطى، وتعود ظاهرة جلبهم إلى فترة مبكرة من عمر الحضارة الإسلامية، لاسيما في العصر العباسي بدءا من أيام الخليفة المهدي (ت 169هـ/787م) وابنه هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، ثم تعاظم حضورهم في عهد المأمون العباسي (ت 218هـ/833م) وأخيه وخليفته المعتصم (ت 227هـ/842م) ثم الواثق بالله بن المعتصم (ت 232هـ/847م).
ويحدثنا ابن خلدون -في تاريخه- عن تدرُّج هؤلاء المماليك الأتراك في سلّم المجتمع الإسلامي، بداية من عملهم في الصنائع والمهن، ومرورا بانخراطهم في الجيوش جنودا مقاتلين، ودخولهم دواوين الحكم مديرين مدبّرين وكَتَبَة مثقفين، وانتهاء بتبوّئهم أعلى مناصب السلطة العسكرية والسياسية قادةً وأمراء وسلاطين.
فهو يذكر أن الخلفاء العباسيين استكثروا من جلب المماليك الأتراك وكانوا "يسلمونهم إلى قَهارمة (= خبراء) القصور وقَرَمَة (= سادة) الدواوين، يأخذونهم بحدود الإسلام والشريعة، وآداب الملك والسياسة، ومِراس الثقافة (= التدريب العسكري) في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح، والبصر بأمور الحرب والفروسية، ومعاناة الخيول والسلاح، والوقوف على معاني السياسة"، حتى إذا أتقنوا تلك الفنون "ملئوا منهم المواكب في الأعياد والمشاهد، والحروب والصوائف والحراسة على السلطان، زينةً في أيام السلم وإكثافا لعصابة الملك".
ثم لم تمض سوى عقود على حشود هؤلاء المماليك المجلوبين والمدرَّبين حتى "سَمَوْا في دُرَج الملك، وامتلأت جوانحهم من الغزو، وطمحت أبصارهم إلى الاستبداد؛ فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء، وقعدوا بدست (= كرسي) الملك ومدرج النهي والأمر، وقادوا الدولة بزمامهم وأضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم، وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل (الخليفة العباسي المتوفى 247هـ/861م) وما حصل بعدها من تغلب الموالي واستبدادهم بالدولة والسلطان، ونَهَجَ (= هَيّأ) السلفُ منهم في ذلك السبيلَ للخلف واقتدى الآخر بالأول، فكانت لهم دُوَلٌ في الإسلام متعددة تعقب غالبا دولة أهل العصبية وشوكة النسب"؛ وفقا لابن خلدون.
وبذلك مثَّل العصر العباسي الحقبة الأولى لصعود نجم "المماليك الأتراك" العسكري ثم السياسي في سماء العالم الإسلامي، حين شكّلوا عماد الجيوش العباسية مما فتح لهم باب النفوذ الطاغي على بلاط الخلافة في بغداد، بدءا من منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي حين أقدم قادتهم على تنفيذ أولِ عمليةِ قتلٍ لخليفةٍ عباسيٍ باغتيالهم المتوكل.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

(رويترز)

تجربة أيوبية

أما عصر الصعود الثاني للمماليك الأتراك فكان في آخر الدولة الأيوبية؛ وذلك عندما استجدت أسباب داخلية شهدها بيت الحُكم بعد وفاة السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب (ت 589هـ/1193م)، وأدت إلى انقسام الدولة إلى أجزاء يحكمها الأبناء ثم الإخوة والأحفاد، مما أجَّجَ نارَ صراعٍ بين هذه الأجنحة أدى تفاقمُه إلى سقوط الدولة الأيوبية في مصر بأيدي هؤلاء المماليك سنة 648هـ/1250م، ثم في بلاد الشام جرّاء الاجتياح المغولي سنة 657هـ/1259م.
فقد كان كل فريق يدعم موقفه بالجنود المرتزقة، وأكثر من اعتمد على هؤلاء الجنود كان السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، فقد اعتمد على بقايا جنود الدولة الخوارزمية الهاربين من بطش المغول بعد وفاة سلطانهم الأخير جلال الدين خوارزمشاه مِنكُوبِرْتي (ت 628هـ/1231م)، وإثر انتهاء تمرد هؤلاء الخوارزمية لاح للصالح نجم الدين أن يتوسع في شراء المماليك الأتراك القِفْجاق/القِبْجاق من منطقة وسط آسيا، وكذلك من دولة خانات "القبيلة الذهبية" المغولية، وذلك بعد أن "انفضّ عشيره وخذله أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده"؛ طبقا لابن خلدون.
ولهذه الأسباب؛ فإن نجم الدين أيوب "اشترى من المماليك التُّرك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتّى صاروا معظمَ عسكره، ورجّحهم على الأكراد وأمَّرهم، واشترى -وهو بمصر- خَلْقًا منهم، وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه (= بلاطه)، وسمّاهم «البحرية»"؛ كما يخبرنا مؤرخ الأيوبيين ابن واصل الحَمَوي (ت 697هـ/1298م) في كتابه ‘مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب‘.
على أن وفاة السلطان نجم الدين أيوب -في أثناء الحملة الصليبية السابعة على مصر- بمدينة المنصورة أدت إلى خُلُوّ الساحة من قائد يدير المعارك، وهو ما جعل فرقة المماليك العسكرية تُبدي صلابة وجسارة في مواجهة الفرنج الصليبيين؛ فقد أبادوا قواتهم واجتاحوا معاقلهم.
ولئن كان قادة المماليك -الذين عُرفوا من ذلك التاريخ بـ"المماليك البحرية" لكونهم نشؤوا وتخرجوا في جزيرة الروضة وسط نهر النيل بالقاهرة- قد احترموا تولي تُورانْشاه بن الصالح أيوب (ت 648هـ/1250م) السلطةَ خلفا لوالده؛ فإنهم رأوا فيه طيشا وتهوُّراً اعتقدوا بسببه أنه سيبدد المكتسبات السياسية والعسكرية التي ترتبت على هزيمتهم للصليبيين، وما تلاها من أسْرهم لقائد الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م) ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م) واعتقاله بمدينة المنصورة.
ولذا أسرع قادة المماليك -الذين خافوا من تخلُّص تورانْشاه منهم قبل تنحيتهم إياه عن العرش- إلى القضاء عليه وإنهاء حُكمه، ثم أعلنوا تنصيب زوجة السلطان الراحل نجم الدين أيوب "الملكة عصمة الدين أم خليل شجرة الدر الصالحية (ت 655هـ/1257م)، فأقاموها في السلطنة وحلفوا لها" بالولاء والطاعة؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘.
ومن لحظة ارتقاء "عصمة الدين شجرة الدر" سدّةَ العرش بدأت بالفعل دولة سلاطين المماليك (648-923هـ/1250-1519م)؛ طبقا لرأي المقريزي الذي يقول في تاريخه ‘السلوك‘: "وهذه المرأة -شجرة الدر- هي أول من مَلَكَ مصر من ملوك الترك المماليك"!!
وعندما لم يُعجِب الخليفةَ العباسي الأخير ببغداد المستعصم بالله (ت 656هـ/1258م) ما حدث في مصر من تولية امرأةٍ منصبَ السلطنة، أرسل "من بغداد كتابا إلى مصر وهو يُنكر على الأمراء ويقول لهم: «إن كانت الرجال قد عُدِمتْ عندكم فأعلمونا حتى نسيِّر إليكم رجلا»" تجعلونه سلطانا عليكم؛ وفقا للمقريزي. وعندها تنازلت شجرة الدر عن العرش، وتزوجت قائد الجيش الأمير عز الدين أيْبَك التركماني (ت 655هـ/1257م)، ليكون بذلك أول سلاطين دولة المماليك من الرجال.
لقد رصد الإمام المحدِّث المؤرخ بدر الدين العَيْني (ت 855هـ/1451م) -في كتابه ‘عِقد الجُمان‘- هذا التحول التاريخي في انتقال حكم مصر من الأيوبيين إلى مماليكهم؛ فقال: "وكان ذلك انتهاء الدولة الأيوبية بالديار المصرية وابتداء الدولة التركية وظهور مُلك [المماليك] البحرية".
ومنذ تلك اللحظة؛ حمل المماليكُ على عاتقهم مهمةَ قيادة قلب العالم الإسلامي بأضلاعه المركزية الثلاثة (الحجاز ومصر والشام)، وحماية الحرميْن الشريفين والمسجد الأقصى المبارك؛ مؤمِّنين تلك المنجزات بفرض سيطرة مؤسستهم البحرية الإسلامية على البحرين: الأحمر والأبيض والمتوسط.
وقد أرجع ابن خلدون -في تاريخه- سياقَ تحمُّل المماليك لمهمة حماية قلب العالم الإسلامي إلى لحظة الصدمة المغولية التي روّعت الأمة الإسلامية "فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رَمَقِه، وتلافَى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه، بأن بعث لهم -من هذه الطائفة التركية وقبائلها الغزيرة المتوافرة- أمراءَ حامية وأنصارا متوافية، يُجْلَبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مَقَادَة (= قَيْد) الرق الذي كَمُنَ اللطفُ في طيّه، وتعرّفوا العز والخير في مغبّته، وتعرّضوا للعناية الربانية بتلافيه"!!
ثم وصف العطاءَ العظيم الذي قدمته أجيالهم الأولى للعالم الإسلامي بقوله إنهم كانوا "يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع، ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة، ولا كَسَر من سَوْرتها (= شِدتها) غزارة الترف...، عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية، فلا يزال نَشْوٌ (= فَرْع) منهم يُردف نَشْواً، وجيل يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغَناء والدولة ترفّ أغصانها من نضرة الشباب"!! وهكذا إذن كان "لملوك التُّرْك بمصر… الفضل والمزية بما خصهم الله من ضخامة الملك وشرف الولاية بالمساجد المعظمة وخدمة الحرمين"؛ طبقا لابن خلدون.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

(غيتي إيميجز)

تكوين متين

وقد اتكأت إنجازات المماليك في هذا الطور التاريخي -الذي تواصل نحو ثلاثة قرون (648-923هـ/1250-1517م)- على سلسلة من السلاطين (نحو 50 سلطانا) والأمراء، الذين تولوا سُدّة الحُكْم وشتى مناصبه السياسية والعسكرية والإدارية، بعد أن خضعوا في تنشئتهم لنظام تكويني تربوي صارم يشبه برامج التكوين العسكري اليوم في أقوى المدارس والمؤسسات العسكرية.
ويمدنا الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بملامح هذا النظام التربوي والعسكري الصارم، الذي كان يخضع له المماليك في قلعة الجبل بالقاهرة، ويبدو أنه لم يكن سوى نسخة أخرى مطورة من نظام تنشئة المماليك الأتراك في عصر صعودهم الأول أيام قوة الخلافة العباسية، وقد سبق لنا التعرض لمعالم منهاجهم التكويني نقلا عن ابن خلدون.
يقول المقريزي شارحا النظام التأهيلي للمماليك في عصر صعودهم الثاني: "كانت للمماليك بهذه الطِّباق (= الثُّكْنات) عادات جميلة، أوّلها أنه إذا قدم بالمملوك تاجرُه عَرَضَه على السلطان وأنزله في طبقة جنسه، وسلَّمه لطواشيّ (= خادم/مشرف) برسْم (= بغرض) الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كلّ طائفة (= مجموعة عرقية) لها فقيه يحضُر إليها كلّ يوم ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى ومعرفة الخط، والتمرّن بآداب الشريعة ومُلازمة الصلوات والأذكار".
ثم يضيف المقريزي: "وكان الرسم (= العادة) إذْ ذاك ألا تَجلب التجارُ إلا المماليكَ الصغار، فإذا شبَّ الواحد من المماليك علَّمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدّمة، فإذا صار إلى سنّ البلوغ أخذ في تعليمه أنواع الحرب مِن رَمْي السهام ولَعِب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كلَّ طائفة معلمٌ (= مدرِّب) حتى يبلغ [الفتى المملوكُ] الغايةَ في معرفة ما يحتاج إليه" من فنون الحرب ومهارات القتال.

وهو يشيد بهذه الطريقة التي اتُّبِعت بصرامة شديدة طوال العصر المملوكي الأول في دولة المماليك البحرية (648-782هـ/1250-1380م)، إذْ جمعت بين الآداب الشرعية والفنون الأدبية والعلوم العسكرية والتربية الأخلاقية؛ فيقول: "فلا يبلغ [الفتى المملوكُ] هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلامِ وأهلِه بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النُّشّاب (= السِّهام)، وحسُن لَعِبُه بالرمح، ومَرِن على ركوب الخيل. ومنهم من يصيرُ في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر"!!
ثم يحدثنا المقريزي عن الرقابة الصارمة المفروضة على أدق تفاصيل حياة هؤلاء الفتيان المماليك، والتي يعهد بأمرها إلى ثلاثة أشخاص مسؤولين جميعا عن كل فتى مملوك؛ فيقول: "ولهم أزِمّة (= مشرفون) من الخُدّام وأكابر يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عَثر أحد من مؤدّبيه –[المدرس] الذي يعلّمه القرآن أو الطواشيّ (= كبير الخدم) الذي هو مُسلَّم إليه أو رأس النَّوْبَة (= القائد العسكري) الذي هو حاكم عليه- على أنه اقترف ذنبا أو أخلّ برسم (= ترتيب وظيفي)، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جُرْمِه"!!
وقد لاحظ المقريزي -ببصيرته التاريخية الفذّة- أثر تلك التربية الشاملة والصارمة في تكوين سلاطين المماليك الأولين، وتعاظم قوة دولتهم سياسيا وعسكريا؛ فسجل ذلك -في ‘المواعظ والاعتبار‘- مشيدا ببراعتهم السياسية ومهارتهم العسكرية واستقامتهم الأخلاقية: "فلذلك كانوا سادةً يُدبِّرون الممالك، وقادةً يجاهدون في سبيل الله، وأهلَ سياسةِ يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارَ أو تعدّى"!!

يتبع...

 

 


 

الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس