عرض مشاركة واحدة

قديم 22-10-24, 10:22 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ملاحقات أمنية
لقد كان أخطر تحدٍّ يواجهه المنصور هو الاطمئنان إلى عدم وجود مشايعين للنفس الزكية من داخل رجال دولته وعماله، وقد استطاع بأسلوبه الأمني البارع أن يضع تحت متابعته اللصيقة واليه على المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي (ت بعد 145هـ/763م)، مما مكّنه من الاطلاع على عدم إخلاص مدير مكتب الوالي، فقد "كان كاتبُ زياد يتشيع، فبلغ ذلك المنصور فكتب إليه أن نحِّ كاتبك حفصاً فنحّاه عنه"؛ وفقا للأصفهاني الذي يفيدنا بأن المنصور اتهم زيادا نفسه بمناصرة الثائرين، وقال له: "قتلني الله إن لم أقتلك! حذرتَ ابنيْ عبد الله حتى هربا مِن بعدِ ما ظهرا"!!
والحق أن زيادا سمح للنفس الزكية بأن يأتي للمدينة سرا وأن يأخذ البيعة من الناس، ولذلك عزله المنصور، وكذلك فعل اثنان من الولاة الذين عينهم على المدينة خلفا للحارثي، ولم يقم بمهمة ملاحقة الثوار والتضييق عليهم سوى واليه الثالث رياح بن عثمان بن حيّان المري (ت 145هـ/763م)، الذي ذكّر أهل المدينة بهزيمة أجدادهم أمام جيش ابن عمه مسلم بن عُقبة المري (ت 64هـ/685م) في واقعة الحَرّة، وهدّدهم بإعادة نكبتها قائلا حسب البلاذري: "يا أهل يثرب لا مُقام لكم فارْبَعُوا (= تمهّلوا)، أنا ابن عمّ مسلم بن عقبة الشديدِ الوطأة كان عليكم، الوبيلِ (= الثقيل) الوقعة بكم، الخبيثِ السيرة فيكم، ثم أنتم اليوم عَقِبُ الذين حَصَدَهم السيفُ، وأيْمُ اللهِ لأحصدنّ منكم عَقِبَ الذين حَصَدَ، ولألبِسنّ الذلَّ عَقِبَ مَنْ ألبَسَ"!!
ولكن المنصور اتخذ من الخطر المتوقَّع من رجال دولته فرصة للإيقاع بخصمه وإخراجه من مختبئه؛ فالطبري يخبرنا أنه "كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسنِ قوّادِه يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه"، ويبدو أن هذه الحيلة انطلت على النفس الزكية حين صدق تلك الرسائل الملغومة "فكان محمد يقول: لو التقينا [جيشَ المنصور] مالَ إليّ القوادُ كلُّهم"!!


ولم يَقْصُر المنصور أسلوبه الأمني ولا متابعة جهاز الاستخبارات عنده على تحصين موظفي دولته؛ بل إنه مارسه على نحو مكثف ومنوّع على قوى المجتمع الأهلي في المدينة وخارجها، بحيث كان يبعث إلى الشخصيات العلمية البارزة التي عُرفت باستقلالها عن السلطة رسائلَ ينتحلها على لسان النفس الزكية لكشف ما قد يكونون عليه من التفاف حوله وتأييد لثورته، خاصة تلك التي كانت ذات تأثير على الرأي العام المسلم.

ومن ذلك أن المنصور وجّه رسالة مزيفة إلى زعيم تيار المعتزلة بالبصرة عمرو بن عُبيد (ت 144هـ/762م) ليختبر مدى ولائه النفس الزكية، ولما سلّمه الرسالة نظر فيها وأدرك ما وراءها من مكيدة، فأعاد الرسالة إلى الرسول وقال له: "قل لصاحبك: دعنا نجلس في هذا الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا في عافية"؛ حسبما يرويه ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) في كتابه ‘عيون الأخبار‘. وقد تحققت أمنية ابن عُبيد إذْ وافاه أجله في السنة التي سبقت اندلاع الثورة بالمدينة!!
وبالمثل اختبر المنصورُ أيضا ولاء أحد عظماء علماء السُّنة وهو سليمان بن مهران الكوفي المشهور بـ"الأعمش" (ت 148هـ/766م)، والذي يضفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه "الإمام شيخ الإسلام، شيخ المقرئين والمحدِّثين". ولكن الأعمش -الذي كان ذا خبرة سياسية وأمنية اكتسبها في دهاليز السلطة الأموية- لم يقع في الشَّرَك الذي نُصب له، بل واجهه بروح فكاهة لاذعة كان معروفا بها! فقد ذكر الطبري أنه "كَتَب أبو جعفر إلى الأعمش كتابا على لسان محمد (= النفس الزكية) يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قال: قد خبرناكم يا بني هاشم فإذا أنتم تحبّون الثريد! فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قال: أشهد أن هذا كلام الأعمش"!!
ومن اللافت فعلا ذلك الجهد الأمني الدقيق الذي بذله المنصور للكشف عن القوى الكامنة التي تؤيد الثورة سرا، فقد جدّ في توظيف أجهزة استخباراته وتنويع الواجهات التي تعمل تحت لافتاتها لكشف الخلايا الثورية، فـ"وَضَعَ على محمد وإبراهيم الأرصاد" أي الجواسيس، و"كان المنصور يدسّ قوما يتّجرون في البلدان ويتعرفون الأخبار"؛ طبقا للبلاذري.
ومن وقائع ذلك أنه بعث أحد جواسيسه "إلى المدينة ليعلمَ عِلْمَ محمد (= النفس الزكية)، فقِدَمها متنكِّرا فجعل يبيع العطر ويدسّ غلمانا يبيعون العطر ويسألون عن الأخبار، وكان يبذل [المالَ] ويعطي في طلبه ويكتب بالأخبار" إلى المنصور وهو بالعراق. كما يخبرنا الذهبي -في السِّيَر‘- أن المنصور وظف في ملاحقاته للثوار مماليكَه المتخفين في زي الرعاة من البدو، "فاشترى.. رقيقا من [عند] العرب، فكان يعطي الواحد منهم البعيرين، وفرّقهم في طلبه (= النفس الزكية) وهو مختفٍ"!!
بل إن المنصور وظف النساء في ملاحقاته الاستخبارية للنفس الزكية ومناصريه، خاصة أنهن كُنّ قادرات -بخلاف الرجال- على الدخول إلى أعماق البيوت، فكانت النساء المُخبِراتُ يدخلن الدُّورَ مستأمَناتٍ ويَخرجهن بأدقّ أخبار أهلها. ومن أغرب القصص في ذلك ما حكاه إبراهيم بن محمد البيهقي (ت نحو 320هـ/933م) -في ‘المحاسن والمساوئ‘- من أن المنصور أجرى بنفسه مرة تحقيقا أمنيا مصحوبا بتعذيب مع جارية لأحد العلويين، طالبا منها معلومات عن قائد الثورة النفس الزكية.


لكن الجارية صمدت في التحقيق و"أبت إلا الجحود، فقال لها [المنصور]: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسودّ وجهُها وتغيرت! فقالت: نعم يا أمير المؤمنين..! قال: ... هي والله أمتي ابتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر..، أمَرْتُها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرف أخباركم! ثم قال: أوَتعرفين فلانا البقّال؟ قالت: نعم..، قال: هو والله مُضاربي (= مستثمِرٌ لي) بخمسة دنانير..، فأخبرني أن أمَةً (= خادمة) لكم يوم كذا وكذا من شهر كذا صلاة المغرب جاءت تسأله حنّاء ووَرَقاً، فقال لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضِيَاعه (= مزارعه) بناحية البقيع وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساءُ ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المَغيب، فأُسْقِط في يدها (= فُوجِئت) وأذعنت بكل ما أراد" المنصور البوحَ به من معلومات!!

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
جبهة واسعة
عمل محمد النفس الزكية على بناء جبهة ثورية عريضة، ومراكمة الزخم الكبير الذي تركه الإمام زيد الذي نظرت إليه جموع الأمة باعتباره أستاذه الثائر الكبير، وقد كانت تسود قطاعا معتبرا من تلك الجموع مشاعرُ تذمُّر ومواقف احتجاج سلمي عارم على السلطة، وكانت تحاول ترشيد المسار السياسي بالعودة به إلى ما قبل المُلك العضوض، واستئناف النهج الراشدي في الحكم.

وقد قوّى من ذلك الشعور أن الثورة جاءت في وقت تحولات ضخمة تمرّ بها الأمة عبر الانتقال من دولة إلى أخرى، وبالفعل نجح النفس الزكية في أخذ البيعة له من الأقطار المركزية ذات الأهمية، والتي حددها هو بقوله في خطبته أمام أهل المدينة: "إني لم أخرج حتى بايعني أهل الكوفة وأهل البصرة وواسط، والجزيرة (= شمالي العراق) والموصل". ويلخص ذلك قول الأشعري -في ‘مقالات الإسلاميين‘- إن النفس الزكية "بويع له في الآفاق"، وهو ما يوحي بمقبولية عموم الناس للنفس الزكية ورضاهم به وبيعتهم له.
وفي المدينة مهد دولة الإسلام؛ استطاع النفس الزكية تشكيل جبهة ثورية واسعة ضمَّت عددا من البيوتات ذات الوزن الكبير في المجتمع القرشي؛ فالطبري يعُدّ ضمن "مَن استنصر مع محمد... آل الزبير... وآل عمر" ابن الخطاب، ويذكر من الكُتل المنخرطة في صفوف جيش الثورة عدةَ "قبائل من العرب، منهم: جُهَينة ومُزَينة وسُلَيم وبنو بكر وأسلم وغِفَار".


ومن اللافت أن النفس الزكية نجح في استقطاب أبرز وجهاء مجتمع أهل المدينة؛ فالطبري يروي أنه "خرج معه.. وجوهُ أهل المدينة وأهل بيته" الطالبيين، وابن الطقطقي يؤكد أنه حين ثار "تبعه أعيان المدينة ولم يتخلف عنه إلا نفر يسير". وهو ما يؤكده الإمام ابن كثير بقوله -في ‘البداية والنهاية‘- إن النفس الزكية لما أعلن ثورته في المدينة خطب في الناس "وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل".

وأما الجناح العراقي من الثورة؛ فيذكر البلاذري أن قائده إبراهيم بن عبد الله حين أعلن الثورة تجهز لمحاربة جيش المنصور "فخرج في عشرين أو أكثر" كلهم من أعيان قبائل البصرة. ويقدّر الأصفهاني -في ‘مَقاتل الطالبيين‘- أن "ديوانه (= سجلّ الجنود) قد أحصى أربعة آلاف" مقاتل في البصرة وحدها، بل إن البلاذري يضاعف هذا العدد قائلا إنه "كان مع إبراهيم أحد عشر ألفا: سبعمئة فارس والباقون رجّالة"!!
والأهم من كل ذلك أن هذه الثورة نالت دعم طلائع العلماء خاصة في المدينة النبوية، وبعبارة ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- فقد شاركَ فيها "جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم". وهذا يعزز القول بأن ثورة زيد وابنه يحيى ثمّ النفس الزكية لم تكن ثورات مذهبية أو طائفية، بل كانت ثورة لقطاع عريض من جماهير الأمة ضد جور بني أمية، ثم ما بدا أنه انحراف مبكر للحكم العباسي نحو الممارسات الأموية، وأن تلك الثورات هي استكمال لثورات الحسين وابن الزبير والفقهاء الذين خرجوا مع القائد الأموي القوي عبد الرحمن بن الأشعث الكِنْدي (ت 85هـ/705م).
لقد أورد الإمام المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- قائمة بأسماء نحو ثلاثين من علماء ووجهاء مجتمع المدينة النبوية انخرطوا في صفوف ثورة النفس الزكية، كما ذكر غيره من المؤرخين أسماء أخرى غيرها. وسنكتفي بأمثلة من كل ذلك مركّزين على أبرز العلماء الذين بايعوه ودعموا ثورته فخرجوا معه إما في المدينة نفسها أو مع أخيه إبراهيم في البصرة، وبعضهم شارك في تحضيرات الثورة ولكنه مات قبيل انطلاقها؛ فمن هؤلاء حسب ترتيب وفياتهم:
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

إسناد علمائي
1- عبد الواحد بن أبي عون الدوسي (ت 144هـ/762م)، وصفه الإمام جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) -في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘- بأنه كان "من ثقات أصحاب الزُّهْري (الإمام ابن شهاب الزهري المتوفى 124هـ/743م)...، استشهد به البخاري (ت 256هـ/870م)، وروى له ابن ماجه (ت 273هـ/886م)". وذكر ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- صلته بثورة النفس الزكية فقال إنه كان مقربا من والده عبد الله بن الحسن "فاتهمه أبو جعفر في أمر محمد بن عبد الله أنه يعلم علمه، فهرب منه" وظل مختفيا حتى مات قبل انطلاق الثورة بسنة.

2- محمد بن عجلان القرشي (ت 148هـ/766م)، ترجم له الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال إنه "الإمام القدوة الصادق بقية الأعلام...، وكان فقيها مفتيا، عابدا صدوقا، كبير الشأن، له حلقة كبيرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثم ذكر أنه ثار مع النفس الزكية على المنصور، فلما فشلت الثورة "همَّ والي المدينة جعفر بن سليمان (ت 174هـ/790م) أن يجلده، فقالوا له: أصلحك الله! لو رأيتَ الحسن البصري (ت 110هـ/728م) فَعَلَ مثلَ هذا أكنت تضربه؟! قال: لا! قيل: فابنُ عجلان في أهل المدينة كالحسن في أهل البصرة! وقيل: إنه همَّ بقطع يده حتى كلّموه، وازدحم على بابه الناس، قال: فعفا عنه"!!


3- الفقيهُ المحدّثُ عبد الله بن يزيد بن هُرْمُز (ت 148هـ/766م) الذي كان شيخا للإمام مالك بن أنس، ويذكر الطبري أنه جهّز نفسه للقتال رغم كِبَر سنّه فسُئل عن ذلك فقال: "قد علمتُ كِبَرَ سِنّي، ولكن يراني الجاهل فيقتدي بي"!! والنزعة الثورية عند هذا الإمام عريقة النشأة حتى إنه كان يربّي عليها تلامذته الذين سار بعضهم على طريقه فيها، فالطبري يروي بسنده إلى الإمام مالك بن أنس أنه كان يقول: "كنتُ آتي ابنَ هرمز فيأمر الجارية فتُغلق الباب وتُرخي الستر، ثم يذكر [صلاحَ] أولِ هذه الأمّة، ثم يبكي حتى تخضل لحيته! قال: ثم خرج مع محمد" النفس الزكية!!


4- الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م) صاحب المذهب المعروف، وكان من أهم الداعمين للثورة بالمال والفتوى لثورة زيد بن علي. يقول الإمام الزمخشري (ت 538هـ/1143م) في تفسيره ‘الكشاف‘: "وكان أبو حنيفة -رحمه اللَّه- يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ.. وحمْل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمِّي بالإمام والخليفة". ويبدو أن مقتل زيد لم يجعل أبا حنيفة يتخلى عن ميراثه الثوري؛ إذ يروي الزمخشري أيضا أنه "قالت له امرأة: أشرتَ على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنيْ عبد اللَّه بن الحسن حتى قُتل! فقال: ليتني مكانَ ابنِكِ"!!

ويقول الشهرستاني في ‘المِلَل والنِّحَل‘: "وكان أبو حنيفة... على بيعته (= النفس الزكية) ومن جملة شيعته، حتى رُفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبد حتى مات في الحبس". ويرى البعض أن وفاة أبي حنيفة لم تكن طبيعية بسبب موقفه الثائر هذا، فالإمام السيوطي يروي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن المنصور ربما "قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه"!!


5- عبد الحميد بن جعفر الأنصاري (ت 153هـ/771م) الذي يصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه "الإمام المحدِّث الثقة". ويفيدنا الطبري بأن النفس الزكية حين وزّع المسؤوليات بين رجالات ثورته "ولَّى عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقال: أكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه".


6- الفقيه المحدث أبو بكر عبد الله بن أبي سَبْرة (ت 162هـ/780م) الذي وصفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه "الفقيه الكبير قاضي العراق... كان مفتي أهل المدينة". وكان هذا الإمام عاملا للمنصور على جمع أموال الزكاة فلما ثار النفس الزكية بالمدينة انضم إليه، ثم إنه "دفع إليه ما كان معه من المال (= الزكوات)، وقال: استعن به على أمرك! فلما قتل محمد قيل لأبي بكر: اهرب! فقال: ليس مثلي يهرب، فأخِذ أسيرا فطُرح في حبس المدينة" حتى أطلق سراحه لاحقا؛ طبقا للبلاذري.


7- الإمام عبد الله بن جعفر بن المسوّر الزُّهري (ت 170هـ/787م) الذي سبق أن ذكرنا تلمذتَه على النفس الزكية، ويخبرنا المؤرخ ابن سعد أنه "كان عالما بالمغازي والفتوى، وكان عبد الله بن جعفر من ثقات محمد بن عبد الله بن حسن (= النفس الزكية)، وكان يعلم علمه..، فلما خرج محمد بن عبد الله خرج معه"، وقد عيّنه مشرفا "على ديوان العطاء" أي وزيرا للمالية في حكومة الثورة؛ وفقا لابن الأثير.

ويضيف ابن سعد أن ابن المسوّر كان أهم عناصر شبكة المخبرين الذين اعتمد عليهم النفس الزكية في مواجهة الرصد الأمني الحثيث الذي أداره ضده المنصور بكثافة وكفاءة عاليتين، فكان "إذا دخل المدينة مستخفيا جاء حتى ينزل في منزل عبد الله بن جعفر، ويغدو عبد الله فيجلس إلى الأمراء ويسمع كلامهم والأخبار عندهم وما يخوضون فيه من ذكر محمد بن عبد الله وتوجيه من توجّه في طلبه [للقبض عليه]، فينصرف عبد الله فيخبر محمدا ذلك كلَّه..؛ فلما قُتِل محمد بن عبد الله اختفى [عبد الله بن جعفر] فلم يزل مستخفيا حتى استُؤمن له فؤُمِّن".


8- إمام دار الهجرة مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) صاحب المذهب المعروف، فالطبري ينقل "أن مالك بن أنس استُفتي في الخروج مع محمد (= النفس الزكية)، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر [المنصور]! فقال: إنما بايعتم مُكرَهين، وليس على كل مُكرَه يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته".

وبسبب موقف مالك المؤيد للثورة؛ اعتَقله والي المدينة وأمر بضربه حتى انخلعت كتفُه وحُمل مغشيا عليه، لكنه رفض التراجع عن موقفه وقال في ذلك مقولته التي سجلها التاريخ في وجوب معارضة العلماء للسلطة إذا انحرفت: "ضُربتُ فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب (ت 93هـ/703م) ومحمد بن المُنْكَدر (ت 130هـ/749م) وربيعة [بن عبد الرحمن (ت 136هـ/754م)]، ولا خير في من لا يُؤذَى في هذا الأمر"؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مشاركة معتزلية
وبالنسبة لموقف تيار المعتزلة -الناشئ حينها- من ثورة النفس الزكية؛ فيمكن القول إنهم استقر رأيهم -بعد فشل أغلبية الثورات السابقة على الأمويين- على رفض الثورة إلا بعد التأكد من إعداد العدّة التي تضمن النجاح وتعطي غلبة الظن بالنصر، وأرجحية تحقُّق المصلحة على المفسدة. فشيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهَمَذاني (ت 415هـ/1025م) يقول في كتابه ‘تثبيت دلائل النبوة‘:
"وما يحل لمسلم أن يُخَلّي أئمةَ الضلالة وولاة الجور إذا وَجَد أعواناً، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين [ابنا علي ابن أبي طالب]، وكما فعل القُرّاء حين أقاموا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحَرّة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية (ابن أبي سفيان المتوفى 60هـ/681م)، وكما فعل عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م)، وكما فعل يزيد بن الوليد (بن عبد الملك الأموي المتوفى 126هـ/744م)؛ فيما أنكروه من المنكر" على حكّام عصورهم.
ومع ذلك الموقف المتحفظ من الثورات؛ فإن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنهم كانوا يؤيدون إسناد منصب الخليفة إلى النفس الزكية حتى قبل سقوط الدولة الأموية، وقد سبق القول بأن الطبري علّل انشغالَ المنصور -حين تولى الخلافة- بموضوع النفس الزكية بأن "أبا جعفر كان عقد له [البيعة] بمكة في أناس من المعتزلة".


ولكن يبدو أن تلك البيعة لم تكن محل اتفاق بين زعماء المعتزلة؛ فإمامهم واصل بن عطاء (ت 131هـ/750م) كان يرى أحقية النفس الزكية في الخلافة بحكم أهليته ومصداقيته، وذلك ربما بسبب قرب واصلٍ من الهاشميين وخاصة زيد بن علي الذي يُعَدّ النفس الزكية امتدادا له في خطه الثوري.

وأما الرجل الثاني في زعامة المعتزلة عمرو بن عُبيد فقد مال موقفه الأصلي إلى الحياد، ولكن يبدو أنه كانت له علاقة قديمة بالمنصور أثرت في موقفه فأقعدته عن دعم النفس الزكية، بل إن الشهرستاني يؤكد أنه "والَى المنصورَ وقال بإمامته".
وقد أمدّنا الأصفهاني -في ‘مَقاتل الطالبيين‘- بما يشبه "المحْضر" لمداولات جرت بين زعماء المعتزلة لاتخاذ موقف رسمي من ثورة النفس الزكية؛ فقد ذكر أنه اجتمع "واصل بن عطاء وعمرو بن عُبيد في بيت عثمان بن عبد الرحمن المخزومي (ت بعد 130هـ/749م) من أهل البصرة، فتذاكروا الجور، فقال عمرو بن عبيد: فمَن يقوم بهذا الأمر ممن يستوجبه وهو له أهل؟ فقال واصل: يقوم به والله من أصبح خيرَ هذه الأمة: محمد بن عبد الله بن الحسن!
فقال عمرو بن عبيد: ما أرى أن نبايع، ولا نقوم إلا مع مَنْ اختبرناه، وعرفنا سيرته! فقال له واصل: والله لو لم يكن في محمد بن عبد الله أمرٌ يدل على فضله إلا أن أباه عبد الله بن الحسن -في سنّه وفضله وموضعه (= مكانته)- قد رآه لهذا الأمر أهلا، وقدَّمه فيه على نفسه؛ لكان ذلك يستحق ما نراه له، فكيف بحال محمد في نفسه وفضله؟!".
ويبدو أن الرأي الداعي إلى مناصرة النفس الزكية في ثورته هو الذي غلب داخل التيار المعتزلي، وخاصة بعد وفاة عمرو بن عبيد الذي سبق إعلان الثورة بسنة واحدة، وهذا ما يفسر مقولةَ المنصور: "ما خرجتْ عليّ المعتزلةُ حتى مات عمرو بن عبيد"؛ حسبما جاء في كتاب ‘فضل الاعتزال طبقات المعتزلة‘ للمؤرخ المعتزلي أبي القاسم البَلْخي (ت 319هـ/931م).
وتؤكد المصادر التاريخية للمعتزلة وغيرهم مناصرتَهم للثورة وقتالهم في صفوفها عندما اندلعت أحداثها، ولاسيما في معقلهم البصرة التي خرج فيها إبراهيم أخو النفس الزكية؛ فمؤرخهم البَلْخي مثلا يقول: "خرجتْ المعتزلةُ مع إبراهيم بن عبد الله... فيهم بشير الرحال (ت 145هـ/763م) فقُتلوا بين يديه صَبْراً، وذلك أن أصحابه انهزموا ووقف هو والمعتزلة وبشير الرحال". وهو ما يؤيده البلاذري بقوله: "وقُتل إبراهيم وصبَر [معه] بعضُ الزيدية فقتلوا"!!
وانخراط المعتزلة في ثورة النفس الزكية ثابت حتى في مصادر خصومهم ممن ألفوا في تاريخ الفِرَق؛ فهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يؤكد حصولها بقوله في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘: "ثم خرج بعد محمد بن عبد الله أخوه إبراهيم... بالبصرة فغَلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد (= المناطق الزراعية جنوبي العراق)، وشَخَص (= انتقل) عن البصرة في المعتزلة -وغيرهم من الزيدية- يريد محاربة المنصور... [فحارب جيشَه] حتى قُتل، وقُتلت المعتزلة بين يديه"!!
ونلاحظ هنا أن الأشعري جاعل مشاركة المعتزلة في الثورة جزءا من مشاركة تيار الزيدية العام فيها، نظرا ربما للعلاقة الخاصة التي تربط الجماعتين والتي لخصها المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- بقوله إن الزيدية "يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلا في مسألة الإمامة، وأُخِذَ مذهبُ زيد بن علي عن واصل بن عطاء". كما يعترف بمناصرة المعتزلة للنفس الزكية شيخُ الشافعية باليمن يحيى بن أبي الخير العمراني (ت 558هـ/1163م)، بتأكيده -في كتابه ‘الانتصار في الرد على المعتزلة القَدَرية الأشرار‘- أن النفس الزكية وإخوانه لما ثاروا على العباسيين "تابَعَهم أكابرُ المعتزلة"!!
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


إعلان متعجل
يذكر أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في كتابه ‘البصائر والذخائر‘- أنه "رأى المنصورُ -فيما يرى النائم- كأنه قد صارع محمدا (= النفس الزكية)، وأن محمدا قد صرعه وقعد على صدره، فأهمَّه ذلك وبقي واجِماً، وجمَع العابرين (= مفسري الرؤيا)، فكُلٌّ وقَفَ [عن تعبير رؤياه]، فسأل جدَّ أبي العَيْناء فقال: إنك تغلبه وتظهر عليه! قال: وكيف؟! قال: لأنك كنت تحته والأرض لك، وكان من فوقك والسماء له، فسُرِّي عنه" وزال غمُّه!!
وبغض النظر عن مدى دقة هذه الرواية؛ فإن حكايتها تقدّم مفتاحا لفهم هاتين الشخصيتين المتصارعتين على إحدى أخطر صفحات التاريخ الإسلامي. فطبقا لما قد تشير إليه هذه الرؤيا؛ فإن الأرض للمنصور بكل ما تعنيه من قوة وغلبة ودهاء، والسماء للنفس الزكية بكل ما تشير إليه من أخلاقية ومثالية وسموّ نفس.
وإذا كان امتلاك قوة الدولة بكل أجهزتها هي نقطة القوة عند المنصور، فإن الدعوة إلى العدالة والميراث الثوري الزيدي والتفاف العلماء هي مرتكز قوة خطاب النفس الزكية؛ ولذلك حين استخدم المنصور المتاحَ لديه من الوسائل لإخماد هذا الحريق؛ فإن النفس الزكية رفض حتى قتل جواسيس خصمه، كما عارض اغتيال المنصور حين همّ به أتباعه أثناء زيارته لمكة سنة 140هـ/758م، وقال لهم النفس الزكية: "لا والله! لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه، فنَقَض أمرَهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه" من تدبير الاغتيال؛ وفقا للطبري.


وقد لعب المنصور على الحس الأخلاقي العالي عند النفس الزكية من أجل الضغط عليه، ومحاصرته لجره إلى المكان والزمان المناسبيْن له وإجباره على الظهور المتسرع، بحيث لا يترك لحركته أي فرصة لاتخاذ قرارات متحررة من ضغط الملاحقة له ولآل بيته، فأمر المنصور سنة 144هـ/762م واليَه على المدينة بترحيل والد النفس الزكية وإخوانه إليه في العراق، فأمر جنوده بذلك فـ"حَملوا آلَ حسن في القيود إلى العراق...، جُعلوا في المحامِل ولا وِطاء تحتهم"؛ طبقا للذهبي. ويذكر ابن الطقطقي أن المنصور "أخذ مشايخ السادات منهم (= آل حسن)... فحبسهم عنده وماتوا في حبسه" بالعراق.

وهكذا نجحت خطة المنصور بإحراج خصمه وإخراجه قبل نضج الظروف المُنْجِحة لثورته وخطته؛ فابن الطقطقي يحدثنا أن النفس الزكية لما "علِم بما جرى لوالده ولقومه ظهر بالمدينة وأظهر أمره" قبل الأوان المخطط له. وهو ما يؤكده أيضا وبصراحة الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) بقوله -في ‘المنتظم‘- إن المنصور "أحرَج محمدا حتى عزم على الظهور، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم"!!
ورغم الرصد الأمني الكثيف والضاغط من المنصور؛ فقد استطاع النفس الزكية مباغتة السلطات العباسية في المدينة النبوية بظهوره المفاجئ في شوارعها في أول ليلة من رجب سنة 145هـ/763م، معلنا الثورة في جيش عديده "مئتان وخمسون رجلا"؛ وفقا للطبري الذي ينقل في الوقت نفسه عن أحد قادة الثورة أنه "اجتمع مع محمد جمعٌ لم أرَ مثله ولا أكثر منه، إني لأحسب أنا قد كنا مئة ألف"!!
ولعل التفاوت الهائل بين التقديرين يفسَّر بأن الأول كان يمثل عدد جنود الثورة لحظة إعلانها، بينما يقدم الرقم الثاني -إن صحَّ ولم يكن مبالغة كالعادة في مثله- تقديرا لعددهم ساعة اصطدامها بالجيش العباسي، وما بين هاتين اللحظتين هو مجمل عمر هذه التجربة الثورية الخاطفة، فقد "مكث محمد بن عبد الله من حين ظهر إلى أن قُتل شهرين وسبعة عشر يوما" ختمها مقتلُه في منتصف رمضان من السنة نفسها؛ طبقا للطبري.
يتبع...

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس