
والمغرب أيضا
وغير بعيد من لأندلس؛ شهدت بلاد المغرب الأقصى بعض تلك الخيانات الشنيعة التي فتحت الأبواب أمام الأعداء، في مقابل مكاسب رخيصة؛ ولعل أشهرها ما وقع في عهد الدولة السعدية (956-1065هـ/1549-1655م) أيام السلطان المتوكل (ت 982هـ/1574م) الذي ارتقى العرش بعد وفاة والده عام 982هـ/1574م، لكن عمّيه المعتصم عبد الملك السعدي (ت 986هـ/1578م) وأحمد السعدي (ت 1012هـ/1603م) رفضا ذلك، واستنجدا بالدولة العثمانية التي كانت آنذاك تحكم الجزائر، فأمدته بقوات عسكرية استطاع بها السيطرة على معظم البلاد.
هرب المتوكل إلى طنجة التي كانت خاضعة لاحتلال البرتغاليين، وطلب العون منهم فاشترطوا عليه التنازل عن مدن الساحل المغربي كلها. يقول صاحب كتاب ‘تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية‘ -وهو مؤلف مجهول توفي بعد مطلع القرن الـ11 الهجري- إن البرتغاليين "قالوا لمولاي محمد: نحن خارجون وأنت معنا، فإن ظفرنا بالبلاد فلا قِسْم لنا معك فيها إلا السواحل، وما دونها فهو لك، فأنعم لهم بذلك وتعاهدوا عليه، فعند ذلك حلفوا لهم في صُلبانهم وحلف لهم هو على ما ذكر".
وكان السلطان المخلوع المتوكل قد تنازل عن مدينة أصيلا للبرتغاليين عربونَ صداقة، وفي أثناء ذلك أرسل إليه علماء المغرب رسالة شديدة اللهجة يتهمونه فيها بالخيانة والكفر والتحالف مع الأعداء؛ ومما جاء فيها: "اتّفقتَ معهم (= البرتغاليين) على دخول أصيلا وأعطيتهم بلاد الإسلام، فيا لله ويا لرسوله هذه المصيبة التي أحدثتَها وعلى المسلمين فتقتها، ولكن الله تعالى لك ولهم بالمرصاد، ثم لم تتمالك أن ألقيتَ نفسك إليهم، ورضيت بجوارهم وموالاتهم…؛ وأما قولك في النصارى (= البرتغاليين) إنك رجعتَ إلى أهل العُدْوة (= الأندلس) -واستنكفتَ أن تُسمّيهم بالنصارى- ففيه المقت الذي لا يخفى"!
انطلق تحالف المتوكل مع جيش البرتغاليين -بقيادة ملكهم دون سباستيان (ت عام 986هـ/1578م)- فتوغّلوا في الأراضي المغربية للقضاء على السلطان الجديد عبد الملك السعدي، والتقى الجانبان عند ضفة ‘وادي المخازن‘ يوم 30 جمادى الأولى عام 986هـ/1578م، حيث دارت إحدى ملاحم التاريخ الإسلامي الكبرى؛ فقُتل فيها المتوكل وحليفه دون سباستيان وخصمهما السلطان عبد الملك، فسميت هذه الوقعة: ‘معركة الملوك الثلاثة‘.
انهزم البرتغاليون هزيمة ساحقة في هذه المعركة، وأمر السلطان الجديد المنصور أحمد السعدي "بسلخ جلد ابن أخيه مولاي محمـد وحشوه تِبْنًا، وأرسله إلى مراكش فطيف به ليُعاينه الناس على تلك الحالة ويعتبرون به، فمن يومئذ سُمي ‘المسلوخ‘" جراء خيانته وبيعه لوطنه ومحالفته لأعداء أمته.
تلك بعض مشاهد بارزة من ظاهرة خيانة الحكام للأمة في تاريخنا القديم؛ رأينا فيها أشكالا قاتلة من التحالف مع العدو، على حساب مصالح الأمة وعزّتها، وبدافع من الأنانية السياسية المقيتة. واللافت أن عاقبة كثير من هؤلاء السلاطين كانت خُسرانًا مبينا في دنياهم الفانية؛ قتلا أو طردًا ونفيًا أو احتقارًا من العدو الذي خدموه، ولعنة ومقْتاً في نفوس الشعوب وصفحات التاريخ!!
المصدر : الجزيرة نت