قصة العلاقة الغامضة.. لماذا دعمت بريطانيا إقامة إسرائيل؟
قبل شهر من دخول بريطانيا محتلة إلى فلسطين والقدس عام 1917، كان وزير خارجيتها بلفور قد أعلن عن وعده بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. (الجزيرة)
"إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا.. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون بمنزلة حاجز يمنع الخطر العربي ويحولُ دونه".
(رجل المال اليهودي البريطاني اللورد روتشيلد في خطابه لوزير الخارجية السير بالمرستون، مارس/آذار 1840)
دخلت بريطانيا محتلة إلى فلسطين والقدس في أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1917، وقبل هذا الانتصار العسكري بشهر كامل أعلن وزير الخارجية البريطانية اللورد بلفور وعده الشهير بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ولما نجحت بريطانيا في إعلان احتلالها الذي استمر 31 عاما حتى مايو/أيار 1948، فقد عملت طوال هذه الفترة بكل قوتها، ورغم المقاومة العربية الشرسة في فلسطين وانتفاضاتها المتوالية، من أجل تنفيذ وعدها، وذلك عبر فتح باب الهجرة لليهود ودعمهم وإنشاء المستوطنات لهم، وإمدادهم بالسلاح والتغاضي عن ممارساتهم العنيفة. وفشلت فيما بعد الدول العربية السبع، مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان والسعودية واليمن، في مهمة إنقاذ فلسطين التي أطلقوا جيوشهم نحوها في مايو/أيار 1948.
ورغم تحرر معظم دول العالم من الحقبة الاستعمارية القديمة التي بدأت في القرن التاسع عشر، ومنها منطقتنا العربية، فإن فلسطين تحديدا لا تزال خاضعة لهذا الاحتلال منذ عام 1917؛ إذ لم يكن خروج البريطانيين من فلسطين سنة 1948 سوى إيذان بتسليمها للحركة الصهيونية التي سرعان ما أعلنت عن قيام دولتها "إسرائيل" فوق الأراضي الفلسطينية المُغتصبة.
ولكن السؤال الذي طالما حارَ المؤرخون والباحثون في الإجابة عنه: لماذا دعمت بريطانيا الحركة الصهيونية دعما غير محدود، وكانت ولا تزال بجوار الولايات المتحدة أكبر داعمي إسرائيل حتى يومنا هذا؟ وما السر الذي جعل الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، وآخرهم جو بايدن، ومن قبلهم الإمبراطورية البريطانية، يعلنون دون مواربة أنه إذا لم تكن توجد إسرائيل لاخترعوها وأوجدوها؟
أحلام العودة القديمة
تُعَدُّ إجابة هذا السؤال مركبة، وهي في جانب منها تتعلق بالتراث الديني البروتستانتي تحديدا، وتاريخ العلاقات الإسلامية بالغرب في زمن الحروب الصليبية، حيث تجمعت المصالح الدينية والسياسية والثقافية والإستراتيجية معا لإنشاء إسرائيل ودعمها من قِبَل البريطانيين ثم الأميركيين فيما بعد.
لكننا يجب أن نرجع قليلا لفهم منطق "أرض الميعاد" لما له من أهمية في هذا الصدد. لقد استطاع اليهود إنشاء مملكة قديمة بعد زمن موسى -عليه السلام- في عصر حفيديه داود وسليمان -عليهما السلام-، وانقسمت مملكتهم بعد وفاة سليمان إلى مملكة الشمال "إسرائيل" ومملكة الجنوب "يهوذا"، وذلك قبل الميلاد بألف عام ونيف. ولكن هجوم الآشوريين القادمين من العراق بقيادة سرجون الثاني سنة 721 ق.م، ثم هجوم البابليين بقيادة نبوخذ نصَّر سنة 586 ق.م، أدى إلى تدمير هذه الممالك، واستعبادهم وسوقهم أسرى إلى بابل، ومنذ ذلك التاريخ وحلم العودة يراود بعضهم.
يُمكن وصف حلم العودة التاريخي هذا بأنه الأساس الفكري التراثي لنشأة الحركة الصهيونية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر على يد ثيودور هرتزل الصحفي النمساوي، الذي سبقه العديد من المحاولات المتواضعة، مثل حركة المكابيين التي أعقبت العودة من السبي البابلي، وكان أول أهدافها العودة إلى "أرض صهيون" وبناء "هيكل سليمان"، وكذلك حركة باركو خبا وحركة موزس الكريتي، وكلها حركات نشأت في القرون الخمسة الأولى من الميلاد. ولكن نلاحظ خفوت هذه الأحلام لمدة ألف عام، قبل أن تعود على يد "ديفيد روبين" وتلميذه "سولومون باروخ" في القرن السادس عشر الميلادي، وحركة "منشه بن إسرائيل"، وهي النواة الأولى التي وجَّهت خطط الصهيونية وركزت على أساس استخدام بريطانيا قاعدة لتحقيق أهدافها[1].
وقد توالت المحاولات الفكرية والعملية لبعث الحركة الصهيونية، حتى نجحت مع هرتزل ومَن جاءوا من بعده. وقد رأينا في مقالة سابقة كيف حاول هرتزل عن طريق الإمبراطور الألماني وليام الثاني وغيره من أصدقائه المقربين التوسط لدى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لكي يسمح بالاستيطان اليهودي الممنهج في فلسطين في مقابل إغراءات مالية ضخمة رفضها كلها السلطان العثماني. وكانت وفاة هرتزل عام 1904 ثم الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وخلعه، واشتعال الحرب العالمية الأولى بين دول الحلفاء ودول المحور، السبب الأبرز في تغيُّر الخارطة السياسية للشرق الأوسط، وظهور اتفاقية سايكس-بيكو لتقسيم أراضي الدولة العثمانية في الأقطار العربية فيما بين بريطانيا وفرنسا، القوتين العظميين آنذاك.
الأبعاد الدينية في دعم بريطانيا لليهود
كانت السياسة البريطانية الخارجية قد بدأت في التشكُّل تجاه الدولة العثمانية والشرق الأوسط منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي مع الحملة الفرنسية على مصر، وأطماع الفرنسيين الواضحة التي كانت تتعارض مع البريطانيين وقتذاك. فقد بحث الإنجليزُ مبكرا عن آلية للتدخل في السياسة الداخلية للدولة العثمانية، وكان هناك قانون الامتيازات أو قانون المِلَل الذي سمح بمقتضاه السلطان سليمان القانوني للفرنسيين برعاية وحماية الكاثوليك في أراضي الدولة العثمانية، ثم بعد عدة قرون سُمح للروس بحماية الأرثوذكس القاطنين أيضا في أراضي الدولة العثمانية، ولذا وجد البريطانيون ضالّتهم في رعاية اليهود القاطنين في أراضي الدولة العثمانية بوصفها إحدى أهم أدوات التوسع الاستعماري في الأقطار العربية مستقبلا[2].
ولئن اتخذت بريطانيا اليهود حُجَّة للتدخل في الشؤون العثمانية في الأقطار العربية، فإنه لا يمكن التغاضي عن الأسباب الروحية والدينية التي جعلت كبار الساسة البريطانيين إبان الحرب العالمية الأولى وما بعدها يدعمون الحركة الصهيونية بحماسة منقطعة النظير، وهو أمر أقرَّه حاييم وايزمان حين قال في مذكراته: "لم يخطر على بال بعضهم أن رجالات من أمثال بلفور وتشرشل ولويد جورج كانوا متدينين في أعماق قلوبهم، ومؤمنين بالتوراة، ويعتقدون أن عودة اليهود إلى فلسطين واقعية وحقيقية، لذلك فإنهم جعلوا ينظرون إلينا نحن الصهاينة ممثلين لفكرة يحترمونها احتراما عظيما"[3].
هذا الاعتراف الواضح من وايزمان يجعلنا ننظر إلى البروتستانتية وما أحدثته من تغييرات عميقة في تطور المسيحية في عصورها الأخيرة، وكذلك الأنجليكانية في بريطانيا باعتبارها نتاجا لحركة الإصلاح البروتستانتي، فقد رفض هؤلاء احتكار الكنيسة البابوية الكاثوليكية في روما لتفسير النص المقدس، كما رفضوا "صكوك الغفران"، وقالوا بضرورة الحرية الدينية، وأن يتمكن علماء اللاهوت من تفسير وترجمة النصوص المقدسة إلى لغاتهم الأوروبية المحلية وليس اللاتينية القديمة فقط.

لم تكن الأسباب الدينية هي المحرك الوحيد لكبار الساسة البريطانيين أمثال بلفور (يمين) ولويد جورج في دعمهم للحركة الصهيونية، إذ كانت هناك أسبابا إستراتيجية. (شترستوك)