سطوة الجغرافيا السياسية
وبمنطق الجغرافيا السياسية، تواجه باكستان تحدِّياتٍ جسيمةً، تستلزم تعاونًا بين نخبها المدنية والعسكرية، وتعاليًا على الأنانية السياسية والحزازات الصغيرة التي تستنزف هذا البلد الكبير. ومن هذه التحديات الخلافُ الحدودي المزمن مع أفغانستان، وحالة الفوضى السياسية والغموض الإداري في المناطق القبَلية الرابطة بين البلدين. فليس من مصلحة باكستان ولا أفغانستان استمرار هذا الخلاف المزمن، بل تقتضي مصلحة البلدين تجاوزه بسرعة، وتحويل تلك المنطقة الحدودية الملتهبة إلى مساحة الْتِحام، ومصدرِ وئامٍ، بين الشعبين الشقيقين، اللذين تجمع بينهما أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا.
خارطة كشمير (الجزيرة)
لقد كان إقبال يحمل تقديرا خاصا للشعب الأفغاني، وقد طفح شعره بالثناء على شجاعة الأفغان وشهامتهم، فهم الشعب الذي "تسري دماء الأُسُود في عروقه" حسب تعبيره. وأفغانستان هي الجار الشقيق والوطن الثاني من منظور إقبال. فمن الوفاء لرسالة إقبال أن تكون العلاقات بين باكستان وأفغانستان علاقاتٍ أخويةً واستراتيجيةً، خصوصا وأن باكستان وأفغانستان تقعان في قلب "اللعبة الكبرى" للسيطرة على آسيا والعالم. وقد أشرنا في صدر هذه الحكاية إلى أن الأسد الباكستاني المتحفِّز يحمل أفغانستان على ظهره، ويبدو أن هذه الصورة ليست مجرد تعبير مجازي.
فليس أمام باكستان إلا أن تَحْمل وتتحَمَّل الأوضاع الأليمة التي مرَّ بها الشعب الأفغاني منذ عام 1979، وتوثِّق علاقاتها الاستراتيجية بأفغانستان. فنهوض أفغانستان من كبوتها الطويلة، ودخول باكستان معها في حلف إستراتيجي -بالتعاون مع العملاق الصيني الصاعد- مفتاح لنجاح البلدين في التعاطي مع المعضلات الداخلية والمخاطر الخارجية، خصوصا مع ما يشهده النظام الدولي اليوم من انزياح القوة ورحيلها من الغرب الأطلسي إلى الشرق الأوراسي، تلك الظاهرة التي دعوناها "شروق الشرق وغروب الغرب" في دراسة خاصة بهذا العنوان.
أما التحدي الثاني أمام باكستان فهو -بمنطق الجغرافيا السياسية- أكبر وأخطر، وهو خلاف السيادة بينها وبين الهند على إقليم جامو وكشمير، الذي تدين الغالبية الساحقة من سكانه بدين الإسلام، وكان يُفترض أن يكون جزءا من دولة باكستان في لحظة ميلادها عام 1947، لولا أن حكومة الهند آنذاك، وحاكم الإقليم هاري سينغ (1895-1961) -وهو غير مسلم- قد أعاقا ذلك المسار المنطقي. فالخلاف على إقليم جامو وكشمير خلاف قديم ترجع جذوره إلى الحرب التي نشبت بين الدولتين بعد تأسيسهما مباشرة، وانتهت بتقاسم السيطرة عليه بينهما، ثم لحقت الصين بهذا الخلاف فضمَّت جزءا من الإقليم بعد هزيمتها للهند في الحرب الحدودية بينهما عام 1962.
نهر السند.. شريان الحياة الباكستاني العابر من الهند (شترستوك)
فالصراع على هذا الإقليم صراع ثلاثي، أطرافه دول نووية ثلاث، هي الهند وباكستان والصين، ويكفي ذلك دلالةً على أهميته وخطورته، حتى وإن كانت باكستان والصين متفقتان في منظورهما للموضوع، ضمن تفاهماتهما الاستراتيجية الكبرى في أكثر من قضية حيوية. ولا تزال باكستان تطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، الداعية إلى إجراء استفتاء شعبي في كشمير، لتقرير مصير الإقليم طبقا لإرادة أهله، بما يضمن حقوقهم الإنسانية والسياسية. وهو استفتاء يؤمن القادة الباكستانيون بأنه سيقود سكان الإقليم -ذوي الغالبية المسلمة- إلى اختيار الانضمام لجمهورية باكستان الإسلامية.
على أن موضوع جامو وكشمير يحمل لباكستان مخاطر استراتيجية جمَّة، تتجاوز قضايا الهوية والانتماء. فكشمير تقع على الخريطة في موقع لرأس من الأسد الباكستاني المتحفز، وسيطرة الهند على كامل الإقليم تعني تهشيم رأس ذلك الأسد، وفتح حدود مباشرة بين الهند وأفغانستان (ومن وراء أفغانستان دول آسيا الوسطى) وإغلاق الحدود المباشرة بين باكستان والصين، وهذا يعني تطويق باكستان جغرافيَّا، وخنْقها استراتيجيًّا، ويستحيل أن تقبل باكستان بذلك. كما يترتب عليها تسلُّق الهند عبر جبال الهيمالايا إلى إقليم التِّبت داخل الأراضي الصينية، ومن المستحيل أن تتسامح الصين أيضا مع ذلك.
والأهمّ من كل هذا بالنسبة لباكستان أن استمرار سيطرة الهند على القسم الأعظم من إقليم كشمير تعني استمرار تحكُّمها في مياه الأنهار التي تتغذَّى منها باكستان، وهي أنهار تتفرع من نهر السند، الذي ينبع من هضبة التبت في الصين، ويتدفق عبر الأراضي الهندية والباكستانية نحو 3000 كيلومتر، إلى أن يصبَّ في بحر العرب. ومعظم هذه الأنهار المتفرعة من نهر السند تمرُّ من إقليم جامو وكشمير. وقد بدأت حكومة مودي في الهند خلال الأعوام الأخيرة بناء السدود، وفرض القيود على تدفق مياه تلك الأنهار إلى باكستان، مخالفة بذلك اتفاقية تقاسم المياة الموقَعة بين البلدين منذ مطلع السيتينيات من القرن العشرين. وذلك خطر استراتيجي على دولة باكستان وشعبِها، يتفاقم يوما بعد يوم.
فالصراع بين الهند وباكستان على إقليم جامو وكشمير -من المنظور الباكستاني- ليس مجرد صراع على قطعة من الأرض، بل هو قضية موت وحياة للأمة الباكستانية كلها، بسبب ارتباطه بشريان الحياة الباكستاني، وهو نهر السند وفروعه التي تعبر ذلك الإقليم. ويمكن اعتبار تحكُّم الهند في مصادر المياه المتدفقة إلى باكستان شبيها بتحكم أثيوبيا بمصادر المياه المتدفقة إلى مصر، وتلك مقارنة يفهم القارئ العربي معناها ومغزاها.
ومهما يكن من أمر، فإن دولة باكستان الإسلامية التي دعا إليها ونظَّر لها الشاعر الفيلسوف محمد إقبال ليست من نمط الدول الضعيفة، الممزَّقة سياسيًّا، المنكشفة استراتيجيًّا. فلم يحلُم إقبال بمجرد مأوًى جغرافيٍّ لمسلمي القارة الهندية في شكل دولة من أي نوع، بل طمح إلى أن تكون تلك الدولة قوية مزدهرة، مستقلة القرار، مبنية على القيم السياسية الإسلامية من العدل والشورى والمحاسبة، ذات شعب متعلِّم، ومؤسسات ديمقراطية راسخة، وذات مكانة ريادية في العالم الإسلامي. ومن هذا المنظور يمكن القول إن حلم إقبال لم يتحقق بشكل كامل حتى الآن.
وداعٌ وأُمْنياتٌ أربع
بعد زيارتي التي لم تتجاوز أسبوعا واحدا، ودَّعتُ إقبالًا ولاهور بقلب مُثْقلٍ بالذكرى، مفعَمٍ بالحنين، وبنفسٍ مَطويَّة على فخر واعتزاز بما تحقَّق من حُلم الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وحزنٍ وأسى على الإمكان المهدَر الذي لا يزال يمنع تحقيقه كاملًا.
وهنا أختم حكايتي -التي طالت- بأمنيات أربع:- أن تتحول العلاقة المدنية العسكرية في باكستان إلى علاقات سويَّة، بتوقُّف الجيش الباكستاني عن أي تدخل في السياسة، سرًّا أو علنًا، وانصرافه إلى مهمته الدستورية، وتحرُّر النخبة السياسية الباكستانية من الأنانية السياسية، لكي تُحسن احتواء الجيش، وتحييده سياسيا، دون اصطدام مباشر به، لكي يتمكن الأسد الباكستاني المتحفِّز من النهوض من عثراته المتكررة.
- وأن تعي النخب السياسية والعسكرية الباكستانية حجم التحديات التي تواجهها باكستان، سواء منها المعضلات البنيوية المزمنة في الداخل، أو مخاطر الجغرافيا السياسية المحدقة من الخارج، وأهم هذه الأخيرة إدارة العلاقة مع الهند -الخصم التاريخي الدائم- بحكمة وقوة وحزم في ملف جامو وكشمير، واحتواء الشقيق الأفغاني ضمن منظور استراتيجي يخدم الطرفين.
- وأن يدرك العرب قيمة الأسد الباكستاني على الضفة الشرقية لبحر العرب. فباكستان دولة فتيَّة قوية، ذات موقع إستراتيجي بالنسبة للعالم العربي، بحكم إطلالتها على بحر العرب، وقربها من مدخل الخليج، فضلا عن الأرحام الدينية والإنسانية والتاريخية التي تربطها بالعالم العربي. ومهما يكن لديها من معضلات بنيوية، لا تخلو الدول العربية من مثلها، فإن لديها إمكانا كامنا عظيما، وإنما القوة الإمكان.
- وأن تتعاون المؤسسات الأكاديمية والثقافية العربية، من جامعات ومراكز أبحاث وهيئات ثقافية، مع "أكاديمية العلامة إقبال" في لاهور، وتستفيد من جهدها الرائع، خدمةً للقارئ العربي، وتوسيعًا لمعرفته بالشاعر الفيلسوف محمد إقبال، الذي طالما أسَرَ قلوب العرب بفكره النيِّر، وشِعْره العذب، وروحه المتوثِّبة.
فلم يكن إقبال أحْرصَ على شيءٍ منه على أن تلامس كلماته وجدان الناس، وتحرِّك شغاف قلوبهم، بعد رحيله عن الدنيا، وأن تهزَّ روحُه المتوثِّبة أجيال المسلمين في الزمن الآتي. لقد كان ذلك هَمَّه الأهمَّ الذي عبَّر عنه في "جناح جبريل" بهذه المناجاة:خشوعي في عذاباتي .. ووَثْبِي في طموحاتي
وفكري وهْوَ بستانٌ .. ونفسي وهْـيَ مِرْآتي
وقلبي وهْوَ ميـــــــــــدانٌ .. تضجُّ به عراكــــــــاتي
ودَرْوشَتي التي تبدُو .. نصيبي من معاناتي
سألتكَ أن تُعتِّقَهــــا .. وتمْزُجَـها بآهَــــــــــاتي
وتَسقِيها لقافلــــــتي .. بموكبِ جيلنا الآتي
المصدر : الجزيرة نت