عرض مشاركة واحدة

قديم 17-08-24, 07:54 AM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

بين إقبال والمودودي

وما كان لي وأنا في ربوع إقبال إلا أن أزور آثار الشيخ أبي الأعلى المودودي (1903-1979م)، وهو شخصية علمية كانت ذات صلة وثيقة بإقبال، ولها بصمتها الفكرية الباقية في باكستان، وفي أرجاء العالم الإسلامي. يقع بيت المودودي في حي متواضع من أحياء لاهور، وهو فيلا بيضاء أنيقة، تدل على حياة أسرة متوسطة الحال. وفي حديقة البيت الأمامية ضريح العلامة المودودي وزوجته السيدة الفاضلة محمودة بيغُم، وإلى جانب البيت شيَّدت ابنة المودودي مسجدا متوسط الاتساع.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

عند ضريح العلامة المودودي في حديقة بيته بلاهور (الجزيرة)
بعد زيارة الضريحيْن والدعاء للراحليْن، دلفتُ إلى مكتب الشيخ المودودي، وهو مكتب صغير داخل مسكنه، ويضم مكتبته الشخصية، وبعض الأدوات التي يستخدمها في الكتابة، فسجلتُ فيديو من داخل المكتب، جالسا على الكرسي الذي كان العلامة المودودي يجلس عليه وهو يكتب، أو يستقبل زواره في مكتبه. وتحدثتُ في الفيديو عن هذا المجتهد المجدد، وعمَّا يدين له به المسلمون من إسهام في بناء الوعي الإسلامي المعاصر.
كما تحدثت فيما بعد إلى جمع من فضلاء لاهور عمَّا أدين به للمودودي وتراثه الفكري، مع تركيز خاص على كتابه "الخلافة والملك" الذي كان من الكتب التي أعانتني في فهم أزمة الشرعية السياسية في التاريخ الإسلامي. ويمكن القول إن هذا الكتاب مِن أثمن ما خطَّه قلم المودودي، وقد كان ملهما لي في كتابة كتابي: "الخلافات السياسية بين الصحابة"، وكتابي "الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية" الذي تكرمت الجماعة بنشر طبعة أوردية له، من ترجمة البحَّاثة الدكتور محيي الدين غازي.

ورأيي أنه لو لم يتخطَّف الموت إقبالًا عام 1938، بعد أول تعارف جدِّيٍّ بينه وبين المودودي، لربما كانا أنتجا معا عملا جليلا في خدمة الرسالة الإسلامية. ولربما تحولا ثنائيا فكريا متكاملا، على نمط الثنائيّ السياسي، إقبال وجناح، الذي سنتحدث عنه لاحقًا.

لقد اشترك إقبال والمودودي في رؤية الخطر المتعاظم على مسلمي شبه القارة الهندية، في ختام الحقبة الاستعمارية البريطانية. ولاحظ كلاهما بقلق بالغ إحساس الهندوس الواضح في تلك الفترة بأن مستقبل الهند أصبح بأيديهم، دون اعتبار للمسلمين، الذين كانوا صفوة المجتمع وحكام معظم البلاد لقرون. كما لاحظ كلاهما أن العلاقة بين الهندوس والمسلمين بدأت تتحول تدريجيا -عشية رحيل المستعمرين البريطانيين- علاقة محكوم بحاكم، وتابع بمتبوع، أكثر مما هي علاقة شركاء في الوطن والتاريخ.

أما إقبال فقد أدرك ذلك الخطر الداهم من احتكاكه المباشر مع النخبة السياسية الهندوسية، ولقاءاته ومراسلاته مع المهاتما غاندي (1869-1948م) وجواهر لال نهرو (1889-1964م) وغيرهما من الساسة الهندوس، ففهم سعيهم إلى تفتيت الكتلة البشرية الإسلامية في الهند، وحرمانها من التحول قوة سياسية ذات شأن. وأما المودودي فقد أدركه خلال أسفاره داخل الهند، وملاحظاته اليومية الذكية. ففي حديث له عام 1970م يتذكر المودودي أنه فهم في زيارة له لدلهي عام 1937 مخاطر "الإحساس بالهزيمة" لدى بعض المسلمين. ويذكر أنه في أحد أسفاره بالقطار آنذاك لاحظ التعامل الاستعلائي الفظَّ من طرف أحد القادة الهندوس مع المسلمين، فأحسَّ بجرح في الكرامة، ولم يستطع النوم لعدة أيام، حزنا على حال المسلمين.
وقد أُعجِب إقبال في وقت مبكر بكتاب "الجهاد" الذي أصدره المودودي وهو لا يزال شابا في الـ23 من عمره، كما كان إقبال قارئا منتظما لأعداد مجلة "ترجمان القرآن" التي كان يُصدرها المودودي، فعرف قيمة هذا الباحث الصاعد والقلم المتمكن. والتقى الرجلان لقاءين: أولهما كان لقاء عابرا عام 1929 أثناء زيارة إقبال لحيدر أباد، حيث كان المودودي يقيم. والثاني، وهو الأهم، حين تواصل إقبال مع المودودي بشأن وقف علمي إسلامي مهم، كان إقبال يرجو أن يكون بذرة لتجديد الفقه الإسلامي.


أدرك كل من إقبال والمودودي أن مصير المسلمين في الهند سيكون في أقاليمها الشمالية الغربية، حيث تتركز الكثافة السكانية الإسلامية، وأن حيدر أباد التي كان يقيم بها المودودي لن تكون جزءا من الدولة الإسلامية المنشودة، نظرا لقلة عدد سكانها المسلمين مقارنة بالهندوس. فدعا إقبالٌ المودوديَّ للانتقال إلى إقليم البنجاب، للتعاون معه في التخطيط للنهضة الإسلامية، من خلال إشراف المودودي على وقف علمي إسلامي أوقفه أحد أثرياء المسلمين في البنجاب، هو تشودري علي نياز (1880-1976م)، بنصيحة من إقبال، وسجَّله باسم "صندوق دار الإسلام". وقد أراد إقبال أن يكون هذا الوقف مؤسسة علمية متخصصة في التخطيط الفكري للنهضة الإسلامية، وتجديد الفقه الإسلامي.

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

إقبال والمودودي.. شخصيتان متكاملتان، لكن لكل منهما منهج وطريقة ومزاج (الجزيرة)
وقد كتب إقبال إلى شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي (1881-1945م) يوم 05 أغسطس 1936م رسالة بهذا الشأن، طالبا منه "التكرُّم بإرسال رجل عالِم مصري متنوِّر، على نفقة جامعة الأزهر، ليُساعدنا في تحقيق رسالتنا الواعدة. وينبغي أن يكون ماهرًا في العلوم الشرعية، وفي تاريخ التمدُّن الإسلامي، ويجب أيضا أن يكون متمكّنًا من اللغة الإنجليزية". لكن شرط التمكُّن من اللغة الإنجليزية أعاق الشيخ المراغي عن تلبية هذا الطلب، فكتب في جوابه لإقبال يوم 21 أغسطس 1937م، معبِّرا عن غبطته بفكرة تأسيس هذا الوقف العلمي الإسلامي، ومعتذرا: "وإنّي آسف جدًّا، إذ أصرِّح لكم بأنه لا يوجد عندنا أحد من علماء الأزهر قادرٌ على اللغة الإنجليزية؛ فلمْ تدخل اللغة الإنجليزية الأزهر إلا في السنة الماضية لطلاب الكليات. ولا أظن أني أستطيع إجابة طلبكم إلا بعد عودة البعثة التي أُرسلَت في العام الماضي إلى إنجلترا".
ويبدو لي ردُّ الشيخ المراغي منطقيا، إذ إن نافذة الأزهر على الثقافة الغربية آنذاك كانت نافذة فرنسية في المجمل، بينما كانت نخب المسلمين في شبه القارة الهندية متمرسة باللغة الإنجليزية. لكن إقبالًا وجد ضالَّته التي يبحث عنها في مصر قريبة جدًّا منه، فاتَّجه إلى أبي الأعلى المودودي، ذلك العالِم الشاب الذي التقاه إقبال في حيدر آباد عام 1929، واطَّلع على كتابه "الجهاد" وبعض مقالاته، وأدرك أهليته لقيادة هذا المشروع العلمي الإسلامي الطموح. فكان اللقاء الثاني بينهما في شهر مارس 1938م، لوضع اللمسات الأخيرة على المشروع الذي تقرَّر أن يتولى المودودي إدارته. لكن المنيَّة تخطَّفت إقبالًا في الشهر الموالي (أبريل 1938م)، وهو ما خلَّف حزنا عميقا وفراغا كبيرا في نفس المودودي، فكتب في تأبينه أنه فَقَد "عِمادَه الروحي" بوفاة محمد إقبال.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

الشيخ المراغي راسله إقبال بشأن وقف "دار الإسلام" (مواقع التواصل)
ويعتقد المودودي أن أعظم ما يَلفت النظر في شخصية إقبال هو أن عقله تضلَّع بالفلسفة الغربية، لكن قلبه ظل مسلمًا، عميق الإيمان، عزيز النفس، وأن إقبالًا كان كلما زاد اتساع معرفته بالثقافة الغربية زاد اقتناعه بعظمَة الرسالة الإسلامية. ويمكن اعتبار إقبال والمودودي شخصيتين مختلفتين، لكنهما متكاملتان. فأولوية إقبال كانت النظر البعيد في سبل إنقاذ الحضارة الإسلامية في الهند، من خلال التعاون بين مختلف مكونات المسلمين، مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسية، ومستوى التزامهم بالدين، وبناء دولة قوية للمسلمين تكون درعا لهم، لأنهم يواجهون معركة وجودية. فلا مستقبل لحضارة حُرمتْ مظلة الدولة وقوة السلاح في نظر إقبال. أما المودودي فكان تركيزه على الجانب النوعي والمعياري، والسعي لبناء نموذج نقيٍّ للحياة الإسلامية المعاصرة، وصيانة معالم الإسلام من الانطماس، خصوصا في أجواء الثقافة الهندوسية التي تكاد تبتلع المسلمين، وهجمة الثقافة الغربية الغازية التي تكاد تشوش وجدانهم. فلا تناقض بين رؤية إقبال والمودودي للغايات البعيدة، لكن لكل منهما منهج وطريقة ومزاج.
ويمكن القول إن إفراط المودودي في المعيارية الصلبة انتهى بمشروعه إلى بناء نخبة إسلامية نوعية، لكنها منفصلة إلى حد بعيد عن خضمِّ المجتمع العريض، كما هو واضح من ضعف الأداء السياسي للجماعة الإسلامية في باكستان، خصوصا في العقود الأخيرة. ويكفي أن نعرف أن الجماعة لم تظفر في الانتخابات الأخيرة بمقعد واحد في برلمان باكستان، الدولة الإسلامية التي يتجاوز عدد سكانها مئتين وأربعين مليونا. أما إقبال فقد تحقق حلمُه السياسي في بناء دولة للمسلمين في الهند خلال فترة وجيزة (وإن كان ذلك بعد وفاته بتسعة أعوام)، بفضل قدرته على بناء المساحات المشتركة مع الجميع، وهذا هو جوهر العمل السياسي. فليست السياسة -في اعتقادي- هي "فنُّ تحقيق الممكن" فحسب، بل هي أيضا "فنُّ بناء المساحات المشتركة".

ثم إن فكر إقبال المفتوح ساح مع الهواء والضياء في كل طبقات المجتمع الباكستاني، بل وفي كل أرجاء العالم، بخلاف فكر المودودي الذي ظل محصورا في النخب الإسلامية. ولعل هذه المقارنة تُرجع إلى الأذهان مقارنة المستشار طارق البشري (1933-2021م) بين حسن البنَّا (1906-1949م) وسيد قطب (1906-1966م) إذ قال: "إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله… فكر حسن البنا فكر انتشار وذيوع، وارتباط بالناس بعامة، وهو فكر تجميعٍ وتوثيقٍ للعُرَى. وفكر سيد قطب فكرُ مجانبةٍ ومفاصلةٍ، وفكرُ امتناعٍ عن الآخرين. فكر البنَّا يزرع أرضًا، وينثر حبًّا، ويسقي شجرًا، وينتشر مع الشمس والهواء. وفكر سيد قطب يحفر خندقًا، ويبني قلاعًا ممتنعةً عالية الأسوار".
ولإنصاف المودودي و"الجماعة الإسلامية" التي أسسها، يجب التنويه بأن الجماعة نجحت نجاحا عظيمًا في العمل الخيري والاجتماعي، وفي استقطاب الشباب، وصيانة عقيدتهم وهويتهم. وقد رأيت مشاهد باهرة من حيوية شباب الجماعة في مؤتمر كراتشي. كما أني اطلعتُ على أياديها البِيض في المجتمع الباكستاني من خلال زيارة "مؤسسة الخدمة الخيرية" التابعة للجماعة. لكن الجماعة الإسلامية في باكستان تشبه بعض شقيقاتها من الجماعات الإسلامية العربية، في عجزها عن ترجمة إنجازاتها الثقافية والاجتماعية إلى رأسمال سياسي، فظل خطابها السياسي نخبويا منبتًّا عن المدافعات السياسية الواقعية، وبعيدا عن التمكُّن في الفضاء السياسي. وهذا ما كان يخشاه إقبال، وهو أن يبقى "نور السماء" دون أثر على "أرض البشر":
أيها المسلم يا نورَ السماءْ … كيف لا تشرقُ في أرض البشرْ؟
يتبع....

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس