17-08-24, 07:51 AM
إحصائية العضو
في ضيافة أحفاد إقبال بعد زيارتي "جاويد منزل" و"مزار إقبال" مع حفيد إقبال، المحامي منيب إقبال، ببيته في لاهور (الجزيرة) في لاهور، أصبحتْ أولويتي اللقاء بأحفاد العلامة محمد إقبال. فسعدتُ وتشرفتُ بلقاء ثلاثة منهم: منيب إقبال، وإقبال صلاح الدين، ويوسف صلاح الدين. وكلهم من أعيان المجتمع الباكستاني ذوي المكانة. وهم -إلى ذلك- يتَّسمون بسَعة الثقافة، والتمرّس بتراث جدهم العظيم. ولا بد من التوقف هنا للتعبير عن عميق الشكر والعرفان بالجميل لصديقي الصحفي الباكستاني حذيفة فريد، ولإدارة العلاقات العامة في الجيش الباكستاني، خصوصا الرائد عبد القادر، على كرَم الضيافة في لاهور، وعلى المساعدة الثمينة في ترتيب زياراتي لأحفاد العلامة إقبال. وقد استقبلني أحفاد إقبال كلُّهم برحابةٍ وتواضعٍ وكرَم نفسٍ. أما منيب فهو حفيد إقبال من جهة ابنه جاويد، وهو محامٍ مرموق بالمحكمة العليا. وقد زرتُه في بيته بلاهور، فاستقبلني ببِشرٍ وكرَم، وحدَّثني عن رؤية إقبال لمستقبل الأمة الإسلامية، وكان حديثه مفعما بالحماس والذكرى. كما أهداني منيب -مشكورا- صورًا لجدِّه إقبال مُستنسَخة من ميكروفيلم أصليّ عمره يناهز مئة عام، ونسخةً من مراسلات مهمة بين إقبال وصديقه الزعيم السياسي التاريخي محمد علي جناح (1876-1948م). وكان من ضمن أسئلتي لمنيب: لو افترضْنا أن إقبالا رجع إلى الحياة اليوم، فما الذي سيُفرحه من واقع باكستان والعالم الإسلامي، وما الذي سيخيِّب ظنَّه، بناء على الرؤية التي صاغها في شعره وفكره؟ فجاء رده مفاجئا وظريفا، إذ قال: "لو عاد إقبال إلى الدنيا اليوم فسيبتهج كثيرا، لأنه سيراني ويدرك أني حفيدهُ". ويشير منيب هنا إلى شَبَه الملامح الواضح بينه وبين جدِّه محمد إقبال، وهذا أمر لاحظتُه لأول وهلة حينما رأيتُه. فالعينان الواسعتان العميقتان، والأنف الصَّقْري المعقوف، والشَّعَر السَّبْط المنسدِل إلى الخلف.. ملامح جامعة بين منيب وجدّه إقبال. مع إقبال صلاح الدين وحذيفة وعبد القادر ببستان إقبال (الجزيرة) ويبدو أن ما يجمع بين الجَدّ والحفيد في الفكر لا يقل أهمية، فقد كان حديث منيب إقبال إليَّ منصبًّا على ضرورة الوحدة الإسلامية التي نادى بها جدُّه إقبال، ونظَّر لها تنظيرا عمليا دون استئسار للتاريخ الإمبراطوري القديم، أو سعي إلى استنساخه. فقد دعا إقبال تارة إلى تأسيس "كومنويلث" للدول الإسلامية، وتارة إلى بناء "عصبة أمم إسلامية" تضمن التعاون والتناصر، مع احترام سيادة الدول، وخصوصيات الشعوب. ولستُ أدري ما إذا كانت فكرتا إقبال عن الكومنويلث الإسلامي وعصبة الأمم الإسلامية هي التي ألهمت الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري (1895-1971م) تأليفَ كتابه "فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية"، وأوحتْ للمفكر مالك بن نبي (1905-1973م) تأليف كتابه: "فكرة كومنويلث إسلامي"، أم أنه "اتَّفق توارُد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر" حسب تعبير الحريري في مقاماته. ومن أحفاد إقبال الذين سعدتُ بلقائهم إقبال صلاح الدين، حفيد إقبال من جهة ابنته منيرة. وهو -شأنه شأن ابن خاله منيب- يحمل الكثير من ملامح جده إقبال. وقد أسَّس إقبال صلاح الدين مركزا ثقافيا متخصصا في شرح فلسفة إقبال، وتقديمها إلى الناس، سماه "بستان إقبال". ويمكن اعتبار "بستان إقبال" تركيبا من المركز التعليمي والمتحف الفني، فجدرانه الداخلية تغطيها لوحات بديعة، بعضها تجسيد لبعض أفكار إقبال عن معنى الحياة ومغزى الوجود، وبعضها صور لإقبال ولأناس كانوا قريبين منه، وبعضها صور لمسودات أشعاره بخطه الجميل. مسودة قصيدة لإقبال في "بستان إقبال" (الجزيرة) وقد استقبلني إقبال صلاح الدين في "بستان إقبال" ببِشْر وترحاب، وأهداني نسخة من كتاب خاله جاويد إقبال: "الإسلام وهوية باكستان"، وتكرَّم بالحديث إليَّ عن بعض ما سمِعَه من والدته منيرة وخاله جاويد عن حياة إقبال. كما أفاض في الحديث عن فلسفة إقبال السياسية، وثورته الفكرية على أنماط الظلم والاستبداد والفساد، وأرجع واقع المسلمين المزري اليوم إلى خنوعهم للظلم السياسي. وقد بدا لي إقبال صلاح الدين مثل جدِّه محمد إقبال ذا رُوح ثورية متوثِّبة. فكأنما كنتُ -وأنا أستمع إليه- أقرأ فصولا من كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" للفيلسوف السياسي السوري عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م). وكانت نبرتُه المتمردة واضحة، حتى في مزاحه مع فريق إدارة العلاقات العامة في الجيش الباكستاني الذي تكرَّم -مشكورا- بتسهيل تنقُّلاتي في مدينة لاهور، ولقاءاتي بأحفاد إقبال. كما سعدتُ أيضا بلقاء حفيد ثالث للعلامة إقبال، وهو يوسف صلاح الدين، شقيق إقبال صلاح الدين. فاستقبلني بكرم في بيته التاريخي المعروف في باكستان باسم "بارود خانه" بمعنى "بيت البارود" أو "قصر البارود". وهو منزل تاريخي بديع التصميم، تداولته أيدي الحكام والأمراء خلال القرون الثلاثة الماضية من تاريخ مدينة لاهور، سِيخًا ومسلمين وبريطانيين، حتى تملَّكه شراءً في منتصف القرن الـ19 جدُّ يوسف صلاح الدين وإقبال صلاح الدين من جهة الأب. أما أصل التسمية "بارود خانة" فيرجع إلى أن بعض الأمراء كانوا قد خصَّصوا قسما من المبنى لتخزين الأسلحة والبارود، على عادة بعض الملوك الأقدمين. صورة من داخل "بارود خانة" (نقلا عن رسالة ربيعة قُرَشي) ويعتبر "بارود خانة" مَعْلما تاريخيا في مدينة لاهور القديمة، ووجهة سياحية لنخبة المجتمع، من السياسيين والمثقفين والفنانين، وموقعه قريب من المعالم التاريخية الكبرى في لاهور، مثل مسجد "بادشاهي" و"مزار إقبال". كما يُعتبر "بارود خانة" نموذجا للعمارة الكلاسيكية العريقة في لاهور. وقد خصَّصت الباحثة ربيعة قُرَشي الفصل الرابع من رسالتها للماجستير المعنونة: "البيوت التقليدية ذات الأفنية المفتوحة في لاهور" لوصف هذا البيت العريق، وهي الرسالة التي قدَّمتها بقسم العمارة في "جامعة ولاية كنساس" الأميركية عام 2015. واعتبرت هذه الباحثة "بارود خانة" نموذجا مثاليا لبيوت لاهور العريقة، مطبِّقة في دراستها مفهوم "الجمال العميق" ومفهوم "الاستدامة". ويُعدُّ يوسف صلاح الدين أحد وجوه الحياة الفنية والإعلامية في لاهور، فهو يقدِّم برامج في القنوات التلفزيونية، وينظم أنشطة فنية في بيته التاريخي الذي أصبح وجهة لنجوم السينما من داخل باكستان ومن خارجها، حتى وُصف البيت بأنه "أعظم وجهة لنجوم بُولِيوُود". وقد ذهب بعض النُّقَّاد إلى أن الأوْلى بيوسف أن لا يُوغل كثيرا في الطريقة التي يقدِّم بها رسالة إقبال، لكي يصونها عن الابتذال، ويحفظ عليها ما تحمله من معاني القوة والعزة الإيمانية. فقد نبَّه إقبال في ديوانه "جناح جبريل" إلى أن قدَر الشعوب يبدأ بالسيوف، وينتهي بالدفوف:فانظرْ إلى قَدَر الشعوب وكيف يبدأ بالسيوفْ فإذا انتهى فإلى المزامير الشَّجِيَّة والدُّفوفْ لكن يوسف في حديثه إليَّ يرى أن ما يفعله هو تقديم رسالة إقبال وروحِه الإسلامية إلى الشباب والجمهور المعاصر في قالَب فنيٍّ قريبٍ من القلوب، بعيدًا عن التجريدات الفلسفية، والتعقيدات الفكرية. وهو يذهب إلى أن الإسلام لم ينتشر في أرجاء العالم بجدَل المتكلمين، ولا بتفريعات الفقهاء، وإنما انتشر بالروح الصوفية الطليقة، والتعبيرات الفنية الجميلة. وقد أنتج يوسف بصوته قراءات شعرية جميلة لبعض قصائد إقبال، بعد إخراجها في قالَب تمثيلي، متعاونا في ذلك مع مركز "بستان إقبال" الذي يديره شقيقه إقبال صلاح الدين. وليد إقبال مع عمران خان (نقلا عن صفحة وليد على إكس) (تويتر) ووددتُ لو كنت تشرفتُ بلقاء حفيد رابع لإقبال هو وليد إقبال، نجل جاويد إقبال، وشقيق منيب إقبال. لكن منعني من السعي إلى ذلك قِصر مدة زيارتي لباكستان، واقتصارها على لاهور وكراتشي، وكون وليد يقيم في العاصمة إسلام آباد، وهو غارق في المعترك السياسي هذه الأيام. فوليد إقبال شخصية قانونية وسياسية بارزة في باكستان. وقد تخرَّج في القانون والفلسفة من جامعتَي هارفارد الأميركية وكمبريدج البريطانية، وعمل محاميا عدة أعوام، استمرارًا لتقليد العائلة: فجده محمد إقبال عمل محاميا، وأبوه جاويد إقبال كان قاضيا بالمحكمة العليا الباكستانية، ووالدته نصيرة إقبال كانت قاضية بالمحكمة العليا في إقليم البنجاب. وفي العَقد الأخير بدأ وليد إقبال ينصرف عن المحاماة إلى العمل السياسي، فالتحق بـ"حركة الإنصاف الباكستانية"، وهي الحزب السياسي الذي أسسه رئيس الوزراء السابق عمران خان، ويعتبره كثيرون فاتحة تحوُّل سياسي في البلاد، قد يخرجها من سطوة الوصاية العسكرية، وجمود الأحزاب العائلية. وحصل وليد على عضوية مجلس الشيوخ الباكستاني في ختام عام 2018م، وهو يرأس الآن لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشيوخ. وقد برهن لي تتبُّعي لمحاضرات وليد إقبال على أنه مثقف ثقافة واسعة عميقة، وأنه متمرِّس بتراث جده محمد إقبال، وله مشاركات في عمل "بستان إقبال" و"أكاديمية إقبال"، وإسهامات في المؤتمرات التي تتناول حياة إقبال وشعره وفكره. في رحاب أكاديمية إقبال في لاهور تكرَّم الأستاذ زبير مالك بترتيب لقاء لي مع مدير أكاديمية إقبال، الدكتور عبد الرؤوف رفيقي. فاستقبلني الدكتور عبد الرؤوف بكرم وترحاب، وحدَّثني عن تاريخ الأكاديمية ومنجزاتها العلمية. ورويتُ له قصة رحلتي إلى قرطبة، فاعتبرها دليل تعلُّقٍ صادقٍ بالشاعر الفيلسوف، واستلهامٍ لروحه المشْرِقة. وطلب مني رابط الفيديو الذي أقرأ فيه قصيدة "مسجد قرطبة" داخل المسجد. تقع أكاديمية إقبال في مبنى من طوابق عدة، وهي تشمل مكاتب الإداريين والباحثين، وحجرات الوثائق، ومكتبةً ضخمةً. وقد رافقني الدكتور عبد الرؤوف -بتواضعٍ وسماحةِ نفسٍ- في جولة بمكتبة الأكاديمية التي تضم بين جنبيها نفائسَ من الكتب والرسائل الجامعية والوثائق عن إقبال وشعره وفكره، في عشرات اللغات، وإن كان الغالب عليها هو الأوردية والفارسية والإنجليزية، بحكم مركزية هذه اللغات في حياة إقبال، وفي تاريخ المسلمين بشبه القارة الهندية. وكنتُ قد حصلتُ على أكثر منشورات أكاديمية إقبال بالإنجليزية على موقع الأكاديمية، بعد أن وفرتْها الأكاديمية -مشكورة- للباحثين في الإقباليات. لكن كانت تنقصني "الأعمال الشعرية الكاملة" لإقبال في ترجمتها الإنجليزية التي جمعتْها الأكاديمية وحرَّرتْها ونشرتْها، فحصلتُ على هذه الغنيمة الثمينة في هذه الزيارة، كما حصلتُ في مكتبة الأكاديمية على بضع دراسات فرنسية عن إقبال لم أطَّلع عليها من قبل. وقد أخذني الدكتور عبد الرؤوف في جولة داخل "إيوان إقبال" الموجود مع أكاديمية إقبال في العمارة ذاتها. وهو مجمَّع ثقافي، تابع لوزارة التراث الوطني الباكستانية، يُعنَى بتقديم تراث إقبال إلى الجمهور العام في قالب ثقافي وفني. ويضم الإيوان بين جنبيه مساحات للإيجار، منها قاعة مؤتمرات ضخمة، تستأجرها المؤسسات العلمية والثقافية لتنظيم نشاطاتها، وهو ما يوفر دخلا ماليا للإيوان ولأكاديمية إقبال. وقد كانت قاعة المؤتمرات مزدحمة يوم زيارتي للإيوان بعدد وافر من النسوة اللائي يحضُرْن دروسا في صحيح البخاري في قاعة الإيوان الكبرى. ويضم الإيوان كذلك مَعْرضا فنيا، يقدم نبذة عن مراحل حياة إقبال وفكره وشعره في شكل لوحات فنية. وبعض هذه اللوحات تقدم لزوار المعرض شخصيات قديمة وحديثة أثَّرت في حياة إقبال. ومن هذه الشخصيات هنودٌ مثل سيد أحمد خان (1817-1898م)، وعربٌ مثل ابن رشد وابن خلدون (1332-1406م)، وفُرْسٌ مثل جلال الدين الرومي (1207-1273م) وسعدي الشيرازي، وأفغانٌ مثل جمال الدين الأفغاني (1838-1897م)، وغربيون مثل توماس أرنولد (1864-1930م) أستاذ إقبال الأثير على قلبه، الذي أهدى إليه رسالته للدكتوراه عن "تطوّر الميتافيزيقا في بلاد فارس". وقد طلب مني مدير أكاديمية إقبال، الدكتور عبد الرؤوف رفيقي، المشاركة في ندوة بأكاديمية إقبال عن تاريخ الإقباليات العربية. فوجدتُ من دواعي الغبطة أن أتحدث إلى جمع من المثقفين والأكاديميين الباكستانيين عن أصداء إقبال في الأدب العربي، ومسارب انتقال أشعاره وأفكاره إلى بلاد العرب -ترجمةً وشرحًا وتحليلًا- حتى أصبحت جزءا عضويا من نسيج الثقافة العربية. وشارك في الندوة التي انتظمت يوم 05 يناير/كانون الثاني 2024م أفاضلُ من الباحثين الباكستانيين، منهم: الشاعر والباحث الضليع في دراسة الإقباليات الدكتور سعادات سعيد، والأستاذ الدكتور مَظْهر مُعين مدير مركز الثقافة الإسلامية في لاهور، إلى جانب الباحث المصري عثمان عبد الناصر الذي يُعِدُّ شهادة الدكتوراه في باكستان. وقد سعدتُ بوجود هذا الباحث المصري الشاب الذي يتابع التقاليد المصرية العريقة في الاهتمام بدراسات الإقباليات. وحين قدَّم مداخلته بلغة الأوردو غبطتُه على تمكُّنه من قراءة نصوص إقبال الأصلية دون ترجمة. مدير أكاديمية إقبال، د. رفيقي، يقدِّم لندوة الإقباليات العربية (الجزيرة) بدأتُ محاضرتي بالحديث عن علاقة المحبة المتبادلة بين إقبال والعرب، فقد كان إقبال متعلقا تعلقا وجدانيا عميقا بالجزيرة العربية، لأنها مهدُ الإسلام، ومنها هبَّت نسائمه على القارة الهندية. بل إن إقبالًا كان يعتبر نفسه مجرد "نسيم حجازي" وأن لحنه "لحن حجازي" قادم من هذه الأرض المباركة، فهو القائل:أنا أعجميُّ الحُبِّ إلا أنَّني … أطلقتُ في الحرَم الشريف لساني كمْ ثوبِ إحرام على مُتضرِّعٍ … مزَّقْـتُه باللـحن من ألحاني وهو القائل:صوتُ قيثارتي التي سمعُوها … أعجميٌّ لكنَّ لحْني حِجازِي ومن آخر ما صاغه قلم إقبال من شعر أبيات يرثي فيها نفسه، باعتباره نسيمًا هبَّ على بلاد الهند من أرض الحجاز، ويتمنى أن يَخلُفه من يحمل نسيم الحجاز إلى العالَـمين:نغماتٌ مضيْنَ لي هل تعـودُ؟ … أنسيمٌ من الحجاز يعودُ؟ آذنَتْ عِيشتي بقُرْب رحيلٍ … هل لعلم الأسرار قلبٌ جديدُ؟ وكنت قد قرأت لأحد المؤلفين الهندوس -منذ مدة مديدة- كلاما يسخر فيه من إقبال، قائلا ما معناه: إن إقبالًا رجل ظمآن يبحث عن الماء في صحراء العرب، وهو جالس على ضفاف نهر الغانج في الهند! وقد نسي هذا الكاتب المغرور أن الكثافة القاتمة على ضفاف الغانج لا تساوي شيئا في نظر إقبال أمام صفاء الصحراء العربية ونقائها التوحيدي، وأن صحراء العرب عند إقبال هي النبع الذي استقت منه كل الإنسانية، فارتوت بماء الإسلام الزلال. وما أكثر ما اتَّخذ إقبال من أرض العرب وتاريخِهم رموزا شعرية، على نحو ما نجد في قوله في ديوان "صلصلة الجرس":ما زال قيسٌ والغرام كعهده … ورُبوعُ ليلَى في ربيع جَمالها وهضابُ نجدٍ في مراعيها المَها … وظِباؤُها الخَفِرات ملءُ جبالها والعِشقُ فيَّاضٌ وأمَّة أحمدٍ … يتحفَّزُ التاريخ لاستقبالها وإذا كان إقبال قد أحبَّ العرب وبلادهم، فإن العرب بادلوه حُبًّا بحبٍّ، وتداولوا أشعاره وأفكاره في كل نادٍ. وهنا دلفتُ في محاضرتي إلى تاريخ الإقباليات بالعربية: ترجمةً لشعر إقبال، وتأليفا عن سيرته. وقدمتُ تقييما شخصيا وجيزا لحال هذه الدراسات اليوم، وما تحتاج إليه من تطوير، لتواكب الثورة التي حدثت في باكستان في مجال الإقباليات خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصا بعد الجهود الرائعة التي بذلتها في هذا المضمار أكاديمية إقبال في لاهور. فأشرت إلى اكتشافي المبكر لإقبال منذ نحو ربع قرن، من خلال كتابين وجيزين وقيِّمين جدا، وهما: نجيب الكيلاني كتب عن إقبال بلغة مشرقة وبيان عذب (مواقع التواصل) كتاب "إقبال: الشاعر الثائر" من تأليف الطبيب الأديب المصري نجيب الكيلاني (1932-1995م) الذي كان رائدا من رواد الأدب الإسلامي في الثمانينيات والتسعينيات، من خلال ديوانيْه: "أغاني الغرباء" و"عصر الشهداء"، ورواياته العديدة التي تحمل هموم المسلمين عبر العالم في قالب فني بديع، من رواية "ليالي تركستان" عن محنة المسلمين في الصين منتصف القرن العشرين، إلى رواية "عمالقة الشمال" عن مقاومة المسلمين في نيجيريا لسياسات التفريق والتمزيق الاستعمارية. ويمكن اعتبار كتاب الكيلاني عن إقبال مدخلا وجيزا، صِيغَ في لغة مشرقة وبيان عذب، بقلم عملاق من عمالقة الأدب العربي في القرن العشرين. وقد حصل الكيلاني على جائزة الدولة في مصر عن كتابه هذا عام 1957، قبل أن يتعرض للاعتقال السياسي والتعذيب البشع عدة سنين، على نحو ما صوَّره في مذكراته، وفي روايته "رحلة إلى الله". أبو الحسن الندوي، كتب عن إقبال بطلب من علي الطنطاوي (الجزيرة) وكتاب "روائع إقبال" من تأليف العلامة الهندي أبي الحسن الندْوي (1913-1999م)، وهو أحد أعلام الفكر الإسلامي، والضليعين بالأدب العربي، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية في دمشق. وقد كتب الندوي كتابه هذا بطلب من الداعية الأديب السوري علي الطنطاوي (1909-1999م) الذي وجه رسالة إلى الندوي عبر مجلة "المسلمون". وفي هذه الرسالة -التي أورد الندوي مقتطفات منها في مقدمة كتابه- يشكو الطنطاوي غموض بعض الترجمات العربية لشعر إقبال، وعجْز القارئ العربي عن تذوقها، ويطلب من الندوي أن ينتقي جملة من قصائد إقبال، ويسكب عليها من بيانه العربي، قائلا: "هل لك أن تختار من شعر إقبال ما يجعلنا نتذوق طعم أدبه، ونُلمّ بطريقته، ونتجلَّى أسباب عظمته. فإنَّ ما قرأنا من كلامه مترجَما إلى العربية لم يعرِّفْنا به، ولم يدلَّنا عليه… فهل لك أن تضيف يا أخي، يا أبا الحسن، إلى مآثرك هذه المأثرة…". وتحدثتُ في المحاضرة أيضا عن شغفي بشعر إقبال، لأني وجدت فيه جمالا آسرًا وحياة نابضة، وصف العلامة الندوي أثرهما في نفسه بقوله: "وجدتُه شاعر الطموح والحب والإيمان، وأشهدُ على نفسي أني كلما قرأتُ شعره جاش خاطري، وثارت عاطفتي، وشعرتُ بدبيب من المعاني والأحاسيس في نفسي، وبحركة الحماسة الإسلامية في عروقي…"، وهذا الشغف هو الذي حملني إلى قرطبة، ثم إلى لاهور. وبعد زيارتي "أكاديمية إقبال" زرت أيضا مؤسسة "بَزْمِي إقبال" (مجلس إقبال)، وسعدتُ باستقبال كريم من مدير المؤسسة، الدكتور تحسين فراقي، وعدد من الباحثين العاملين بالمؤسسة. وقد تركز حديث الدكتور فراقي على ضرورة التعاون بين مؤسسته والهيئات الثقافية العربية. و"مجلس إقبال" هو مؤسسة ثقافية تابعة لحكومة البنجاب الإقليمية، تهتم بمدارسة تراث إقبال ونشره، مثلها مثل "أكاديمية إقبال". فرسالة الدكتور رفيقي على المستوى العالمي هي رسالة الدكتور فراقي على المستوى المحلي. يتبع ...
فانظرْ إلى قَدَر الشعوب وكيف يبدأ بالسيوفْ فإذا انتهى فإلى المزامير الشَّجِيَّة والدُّفوفْ
أنا أعجميُّ الحُبِّ إلا أنَّني … أطلقتُ في الحرَم الشريف لساني كمْ ثوبِ إحرام على مُتضرِّعٍ … مزَّقْـتُه باللـحن من ألحاني
صوتُ قيثارتي التي سمعُوها … أعجميٌّ لكنَّ لحْني حِجازِي
نغماتٌ مضيْنَ لي هل تعـودُ؟ … أنسيمٌ من الحجاز يعودُ؟ آذنَتْ عِيشتي بقُرْب رحيلٍ … هل لعلم الأسرار قلبٌ جديدُ؟
ما زال قيسٌ والغرام كعهده … ورُبوعُ ليلَى في ربيع جَمالها وهضابُ نجدٍ في مراعيها المَها … وظِباؤُها الخَفِرات ملءُ جبالها والعِشقُ فيَّاضٌ وأمَّة أحمدٍ … يتحفَّزُ التاريخ لاستقبالها
يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية