وفي ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر أن أمير دمشق والأردن للعباسيين مالك بن طَوْق (ت 260هـ/874م) كان "من الأسخياء المشهورين"؛ فكان "إذا جاء شهر رمضان نادى منادي مالك بن طوق بدمشق كل يوم على باب ‘الخضراء‘ -بعد صلاة المغرب- وكانت دارُ الإمارة في ‘الخضراء‘ في ذلك الزمان: الإفطار رحمكم الله، الإفطار رحمكم الله؛ والأبواب مفتحة فكل من شاء دخل بلا إذن، وكان لا يمنع أحدًا من ذلك".
ولقد ساهم أهل الخير واليسار وصغار الأمراء والوزراء في إطعام الصائمين؛ فهذا حماد بن أبي سليمان الكوفي (ت 120هـ/739م) -وهو شيخ الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م)- كان "يُفطّر كل ليلة في شهر رمضان خمسمئة إنسان، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا، وأعطاهم مئة مئة"؛ طبقا لما أورده الشَّجري الجُرْجاني (ت 499هـ/1106م) في ‘ترتيب الأمالي الخميسية‘.
ويحدث أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) -في ‘يتيمة الدهر‘- عن أن الوزير البويهي الصاحب ابن عبّاد (ت 385هـ/996م) كان "لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد -كائنا من كان- فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صِلاته وصدقاته وقُرُباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يُطْلق (= يُنفق) منها في جميع شهور السنة".
حفاوة فاطمية
وسار بعض قضاة وعلماء الأندلس على الدرب ذاته، مثل قاضي مالقة محمد بن الحسن النُّباهي (ت 463هـ/1072م) الذي يقول عنه أبو الحسن النُّباهي (ت 793هـ/1391م) في ‘تاريخ قضاة الأندلس‘: "كان في كل رمضان يحذو حذو صهره القاضي بقرطبة أحمد بن زياد (اللخمي ت 326هـ/938م)، فيدعو بدار له تُجاور المسجد عشرةً من الفقهاء في طائفة من وجوه الناس، يفطرون كل ليلة عنده، ويتدارسون كتاب الله بينهم ويتلونه".
واستمر جريان هذه العادة الحميدة حتى إن ابن الأثير يقول -في تاريخه- إن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ/1225م) أمر في رمضان سنة 604هـ/1207م "ببناء دُور في المحالِّ (= الأحياء) ببغداد ليُفطر فيها الفُقراء، وسُميت ‘دُور الضيافة‘، يُطبخُ فيها اللحم الضأن، والخُبز الجيد، عمل ذلك في جانبيْ بغداد (= الرصافة والكرخ)، وجعل في كلّ دارٍ من يُوثقُ بأمانته، وكان يُعطي كلّ إنسانٍ قدَحًا مملوءًا من الطبيخ واللحم، ومَنًّا (‘المَنُّ‘ كيلٌ قديم يساوي 40 غراما تقريبا) من الخُبز، فكان يُفطرُ كلَّ ليلةٍ على طعامه خلقٌ لا يُحصون كثرة".
وكذلك فعل بعده حفيدُه الخليفة المستنصر (ت 640هـ/1242م)؛ فقد قال ابن شمائل البغدادي الحنبلي (ت 739هـ/1338م) -في ‘مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع‘- إنه كانت له أوقاف "على ‘آدُرِ المضيف‘ (= دُور الضيافة) التي أنشأها في محالّ بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان".
ولئن دعا الراشدون والأمويون والعباسيون الناسَ إلى طعامهم وشرابهم؛ فقد كانت عادة ملوك الفاطميين تفريق الطعام على طبقات الناس في القاهرة من المطابخ المخصصة التي أنشؤوها لذلك.
وقد بدأت هذه العادة منذ عصر المعز لدين الله الفاطمي (ت 365هـ/977م)؛ إذْ يقول المقريزي -في ‘المواعظ‘- نقلا عن المؤرخ ابن أبي طَي (ت 630هـ/1233م): "عمِل المعز لدين الله دارا سماها: ‘دار الفَطرة‘، فكان يعمل فيها من الخُشْكَنَانَج (= خبز يُعمل بالزبد والسكر واللوز)، والحلواء… والكعك والتمر والبُنْدق شيء كثير، من أوّل رجب إلى نصف رمضان، فيفرّق جميع ذلك في جميع الناس الخاص والعام على قدر منازلهم في أوانٍ لا تُستعاد" ممن أرسلِت إليهم من المحتاجين.
ويحدثنا المقريزي أيضا عن صنائع القائد العسكري الفاطمي ثم الأيوبي لؤلؤ الحاجب الأرمني (ت 598هـ/1203م) قبل رمضان وفيه؛ فيقول إنه "كان يفرق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قُدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتل للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جَرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرب إليهم الطعام والوَدَك (= الشحم المُذاب)، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء -مع كثرتهم- لا يزدحمون لعلمهم أن المعروف يعمّهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله"!وقد لفت نظرَ ابن بطوطة بعض العادات الحميدة لدى أهل دمشق في شهر رمضان، ولا سيما تشاركهم الطعام طوال رمضان؛ حيث يقول: "ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يُفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة؛ فمَن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يُفطرون عنده، ومَن كان من التجار وكبار السُّوقة صنع مثل ذلك، ومَن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كلّ ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعا".
وفي مصر؛ يخبرنا المقريزي كذلك -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- أن السلطان المملوكي الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1399م) اعتاد "طوال أيام إمارته وسلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان [ذبح] خمس وعشرين بقرة، يتصدّق بها -بعدما تُطبخ ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي- على أهل الجوامع والمشاهد والخَوَانِك (= جمع خانْكَاه/خانْقَاه: خلوة ومدرسة للصوفية) والرُّبُط وأهل السجون؛ لكل إنسان رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقيّ البُرّ (= القمح)، سوى ما كان يُفرّق في الزوايا [للصوفية] من لحم الضأن، فيُعطي في كل يوم لكل زاوية خمسون رطلاً وعدة أرغفة خبز، وفيهم من يُعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم".

وقد حرص كثير من الخلفاء والملوك والسلاطين على رفع المظالم وإقامة العدل، والتيسير على الناس في رمضان، والسير على درب من سبقوهم في الإنشاء والتعمير لمؤسسات البِرّ في هذا الشهر المبارك.
فقد ذكر المؤرخ ابن طَيْفُور -في ‘كتاب بغداد‘- أن الخليفة العباسي المأمون رُفعت إليه شكوى "في شهر رمضان أن التُّجار يعتدون على ضعفاء الناس في الكيل، فأمر بقفيزٍ (= مكيال) يسعُ ثمان مَكَاكِيك (= جمع مَكُّوكٍ: مكيال قديم لأهل العراق) مُرسل، وصيّر في وسطه عمودًا وسُمي الملجم، وأمر التّجار [أن] يُعيّروا (= يضبطوا) مكاكيكهم عليها صغارها وكبارها، ففعلوا ذلك ورضي الناس".
ومن القصص الدالة هنا ما يحكيه المقريزي -في ‘المواعظ‘- من أن أمير مصر أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م) رأى "الصنّاع يبنون في الجامع (= جامعه الشهير بمصر) عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سُنّة إلى اليوم (= عصر المقريزي في القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي) بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم؛ فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفِّر العمل علينا. وفرغ منه (= الجامع) في شهر رمضان سنة خمس وستين ومئتين (265هـ/879م)".
ومن المعروف أن أقدم جامعة أنشئت في العالم الإسلامي كانت ‘مسجد القرويين‘ الشهير في فاس بالمغرب، والذي بُني من حُرّ مال المرأة الصالحة فاطمة بنت محمد الفِهري (ت نحو 265هـ/879م)، وقد أمرت بأن تكون بداية تأسيسه في رمضان رغبة في مضاعفة الأجر.
وفي ذلك؛ يقول المؤرخ ابن أبي زرع (ت 726هـ/1326م) -فيما يعزوه إليه أبو العباس الناصري (ت 1315هـ/1897م) في ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- إن فاطمة هذه "مات زوجها وإخوتها فورثت منهم مالاً جسيمًا، وكان من حلال، فأرادت أن تنفقه في وجوه الخير، وكانت لها نيّة صالحة، فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه عند الله، فاشترت البقعة من ربّها، وشرعت في حفر أساس المسجد وبناء جدرانه، وذلك يوم السبت فاتح رمضان المعظم سنة خمس وأربعين ومئتين (245هـ/859م)".
ولقد سار السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) على درب هؤلاء، فكان آية في النشاط والعمل طوال العام وفي رمضان أيضًا؛ ففي عام 588هـ/1192م رحل "إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسواره، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس"؛ وفقا لرواية ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) في ‘مسالك الأبصار‘.
كما بنى الأمير المملوكي سيف الدين صُرْغَتمُش الناصري (ت 759هـ/1358م) مدرسته التي لا تزال شاهدًا على الإتقان والإبداع في العمارة المملوكية بالقاهرة؛ يقول المقريزي في ‘المواعظ‘: "وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمئة (756هـ/1355م)، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلّها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا".

ولئن انشغل العلماء والفقهاء بأعمالهم وعبادتهم وتنافسوا فيها خلال رمضان؛ فقد تنوعت مجالس الأمراء فيه فكان بعضهم يحب قضاء يومه الرمضاني في سماع قصص الأولين وأخبارهم الغريبة والمستطرفة من الأخباريين والمؤرخين، فقد "كان أمراء بني الأغلب [في تونس] يرسلون إلى إسحق (بن عبد الملك المَلْشُوني المتوفى بعد 226هـ/841م وكان عارفا بأخبار الأولين) فيكون عندهم في رمضان، فيُحدّثهم بتلك العجائب حتى يقطع بهم طول النهار"؛ حسب تعبير أبي العرب التميمي في طبقاته.
ويذكر المقريزي -في ‘الخطط‘- أن خليفة الفاطميين كان يجلس بعد انتهاء الآكلين من "أسْمَطة رمضان.. في الرَّوْشَن (= شُرفة القصر) إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشرا، ويطربون بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم [إذا انتهوا] حضر بعدهم المؤذنون، وأخذوا في التكبير وذِكْر فضائل السحور، وختموا بالدعاء، وقُدِّمت المخادُّ للوعاظ فذكروا فضائل الشهر".
وقد دأب سلاطين المماليك وأمراؤهم في مصر والشام على إقامة مجالس الحديث النبوي الشريف في رمضان، ولعل بداية ذلك كانت على يد السلطان الأشرف شعبان (ت 775هـ/1373م) كما قد يُفهم من قول المقريزي في ‘السلوك‘: "وفيه (= رمضان سنة 774هـ/1372م) استجدّ السلطان [الأشرف شعبان] عنده بالقصر -من قلعة الجبل- قراءة كتاب ‘صحيح البخاري‘ في كل يوم من أيام شهر رمضان، بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم؛ تبرّكًا بقراءته".
ويقول الرحالة المقدسي إن ملوك السامانيين في خراسان كان من عادتهم في ليالي رمضان عقد "مجالس… للمُناظرة بين يدي السلطان، فيبدأ هو فيسأل مسألة ثم يتكلّمون عليها". كما ينقل الثعالبي -في ‘يتيمة الدهر‘- عن الوزير البويهي الصاحب ابن عبّاد أنه قال: "حضرت مجلس [الوزير] ابن العميد (ت 360هـ/972م) عشية من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي".
ومثلهم في ذلك سلاطين المماليك الغورية في الهند، فقد اعتاد السلطان محمد بن تغلق شاه (ت 752هـ/1351م) مسامرةَ العلماء في هذا الشهر، يقول عنه العُمري في ‘مسالك الأبصار‘: "والعلماء تحضرُ مجلسه، وتُفطر في شهر رمضان عنده، ويأمر صدر جهان كل ليلة واحدًا ممن يحضر بأن يذكر نُكتة (= قضية علمية أو أدبية)؛ ثم تتجاذب الجماعة أطراف البحث فيها بحضرة السلطان، وهو كواحدٍ منهم، يتكلم معهم، ويبحث بينهم، ويردّ عليه".
كما كانت حلقات العلم والتدريس والتأليف والوعظ على حالها من النشاط والتوقد في هذا الشهر الفضيل؛ فقد كان عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) يصوم ويُفطر بمدينة البصرة في بعض السنين، وكان من عادته أن يقوم في الناس خطيبًا يُلقي فيهم كلمة موجزة بعد صلاة العشاء، فقال لهم ليلة فيما أورده الحافظ ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘: "مِلاك أمركم الدين، ووصْلتكم الوفاء، وزينتُكم العلم، وسلامتكم الحِلم، وطَوْلُكم (= غِناكم) المعروف؛ إن الله كلّفكم الوُسْع، اتقوا الله ما استطعتم". ثم سأله أحد الحاضرين عن أشعر الناس في زمنهم، فاسترسل ابن عباس في الحديث معهم حول الشعر والشعراء.
ويبدو أن عادة تناول الشعر والأدب في الجوامع في ليالي رمضان ظلت باقية على مرّ الزمان؛ إذ حكى الأديب جمال الدين بن ظافر الأزدي (ت 613هـ/1216م) -في ‘بدائع البدائه‘- قائلا: "اجتمعنا ليلةً في رمضان بالجامع، فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد وُقِد (= أُضيء) فانوس السُّحور، فاقترح بعض الحاضرين على الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي -المنبوز (= الملقَّب) بـ‘النعجة‘- أن يصنع فيه [شعرا]، وإنما طلب بذلك تعجيزه؛ فصنع وأنشد:
وَنجمٍ من الفانوس يُشْرِق ضـوؤُه ** وَلكـــــــنّه دونَ الْكَوَاكِب لَا يَسْري
وَلم أرَ نجماً قَطُّ قبْلَ طـــــــلوعه ** إِذا غَار يَـنْهَى الصائمين عَن الفِطرِ
فانتدبتُ له من بين الجماعة؛ وقلتُ: هذا تعجب لا يصح، لأني والحاضرين قد رأينا نجوما لا تدخل تحت الحَصْر ولا تُحصى بالعدّ، إذا غابت تَنهى الصائمين عن الفطر، وهي نجوم الصباح؛ فأسرف الجماعة بعد ذلك في تقريعه، وأخذوا في تمزيق عرضه وتقطيعه؛ فصنع وأنشد:
هَذَا لِوَاء سُحورٍ يُستضاء بِهِ ** وعسكرُ الشُّهبِ فِي الظلماء جَرّارُ
والصائمون جميعا يهتدون به ** ”كأنه عَـــلَــمٌ في رأســـه نارُ”"!
وكان أمراء دولة الأراتقة التركمان -في ديار بكر وماردين ومناطق شمال الموصل- يحبون سماع الأدب، وقراءة الأشعار بعد إفطارهم؛ فابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) يروي -في ‘فوات الوفيات‘- عن الشيخ الواعظ ناشِب بن هلال الحَرّاني (ت 591هـ/1195م) قوله: "قصدتُ ديار بكر مكتسباً بالوعظ، فلما نزلتُ قلعة ماردين دعاني صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق (ت 547هـ/1152م) للإفطار عنده في شهر رمضان، فحضرت عنده فلم يرفع مجلسي ولا أكرمني، وقال بعد الإفطار لغلام عنده: آتنا بكتاب، فجاء به، فقال: ادفعه إلى الشيخ ليقرأ فيه، فازداد غيظي لذلك وفتحت الكتاب وإذا هو ديوان امرئ القيس (ت 540م)، وإذا في أوله:
ألا عِمْ صباحًا أيها الطَّللُ البالي ** وهل يَعِمَنْ مَنْ كان في العُصُر الخالي
فقلتُ في نفسي: أنا ضيف وغريب وأستفتح ما أقرأه على سلطان كبير وقد مضى هزيع من الليل:
ألا عِمْ صباحاً أيها الطلل البالي!!…؛ فقلتُ [على البديهة]:
ألا عِمْ مساءً أيها الملكُ العالي ** ولا زلتَ في عزّ يدومُ وإقبالِ
ثم أتممتُ القصيدة، فتهلّل وجه السلطان لذلك ورفع مجلسي وأدناني إليه، وكان ذلك سبب حظوتي عنده".
تلك بعض مشاهد وعادات استقبال المسلمين -بمختلف أجيالهم وأحوالهم- لشهر رمضان المبارك على مرّ العصور والأزمان، وهي تكشف لنا أن هذه الأمة لم تعرف -في العموم- الكَلَل والمَلَل في هذا الشهر الفضيل، فقد كان بنوها -في غالب أحوالهم- ما بين عبادة وإنفاق وتعليم وإنشاء وتعمير، وتنافس على الصالحات بين مختلف طبقاتهم وألوانهم وأمصارهم وأعصارهم.