بل إن الصليبيين شرعوا يتحينون الفرصة للهجوم على ثغر دمياط شمالي مصر فيما عُرف بالحملة الصليبية الخامسة (615-618هـ/1218-1221م)؛ فحسبما يرويه جرجس ابن العميد (ت 671هـ/1272م) -في كتابه ‘أخبار الأيوبيين‘- فإنه في سنة 615هـ/1218م "زحفت الفرنج على دمياط وحاصروها أشد حصار وملكوا بَرّ دمياط، فرحل السلطان الملك الكامل عن دمياط ونزل قريبًا منهم، وجرت بينهم وقائع كثيرة وحروب عظيمة..، فالتقاهم الملك الكامل بعساكره.. فكسرهم وأسَرَ جماعة كثيرة".
بيد أن الكامل هذا سرعان ما أضاع حسن بلائه في دمياط بارتكابه خطيئة سياسية كبرى بتحالفه مع الصليبيين، سعيا منه لدعم موقفه السياسي أمام أخويْه في الشام؛ إذ قام سنة 626هـ/1229م بتسليم بيت المقدس إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (ت 648هـ/1250م) فيما عُرف بالحملة الصليبية السادسة.
وقد تحدث المؤرخ ابن الأثير عن أثر تلك الخطيئة في نفوس المسلمين حينها؛ فقال: "وتسلّم الفرنجُ البيتَ المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسّر الله فتحه وعوده إلى المسلمين"!! ثم تبعه في تصوير هذا الأثر المؤرخ الواعظ سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘؛ فقال: "ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المآتم…؛ [فـ]ـيا خجْلة ملوك المسلمين"!!
والغريب أن السلطان الكامل كان واعيا بالعواقب الفظيعة لسلوكه هذا؛ فقد راسل -قبل فترة قليلة من عقد اتفاقه مع فريدريك- أخاه الملك الأشرف موسى، مبررا له سعيه لضم الشام إلى مملكته بمصر؛ فقال فيما نقله عنه ابن الأثير: "إنني ما جئتُ إلى هذه البلاد (= الشام) إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه…، وأنت تعلم أن عمّنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضِّي الأعصار وممرّ الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادّخره عمُّنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى"؟!!
وبعد وفاة هذا الثلاثي المتخاذل والمتقاتل؛ ورث بعض إخوتهم وأبنائهم ما كانوا عليه من تنازع سلطوي وصراع مقيت، فوقع كثير منهم في خطيئة خيانة الأمانة بالتحالف والتعاون مع الصليبيين، وهي ظاهرة تأذى منها كثيرا مشروع المقاومة طوال مراحله المختلفة حتى قيام دولة المماليك، وكان فيها خروج على التلاحم العام في المقاومة الذي ضمّ الجميع بمن فيهم -أحيانا عديدة- المسيحيون من مواطني البلاد الإسلامية.لقد كان أحد هؤلاء الأمراء الواقعين في خيانة المقاومة: الصالحُ إسماعيل بن العادل (ت 648هـ/1250م) الذي تولى دمشق وجنوب الشام بعد وفاة أخيه الأشرف موسى سنة 635هـ/1237م. وقد لخص لنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- ما كان عليه هذا الملك من خيانة وبؤس سياسة؛ فقال: "إسماعيلُ نصَرَ الكافرين، وسلّم إليهم القلاع، واستولى على دمشق سرقة، وحنث في يمينه، وقتلَ من الملوك والأمراء من كان ينفع في الجهاد"!!

جيل متألق
بارتقاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل الأيوبي (ت 647هـ/1249م) سدة الحكم بمصر؛ يبدأ عصر جديد بالاعتماد على العنصر التركي في بنية الجيش الأيوبي، وتعود مصر مجددا إلى سابق قوتها أيام جدّه صلاح الدين. فقد جمعَ الصالح "من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه"؛ طبقا لقريبه المؤرخ الملك المؤيّد الأيوبي (ت 732هـ/1332م) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.
وقد استطاع المماليكُ -بما تميزوا به من تربية عسكرية ودينية متينة– الثباتَ بقوة في معركة المنصورة بمصر سنة 647هـ/1249م أمام الصليبيين بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م)، مما أدى إلى هزيمته وأسره ومقتل نصف جيشه الذي جاء ضمن الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م).
وينقل الأمير المملوكي المؤرخ ابن أيبك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- عن شاهد عيان في معركة المنصورة الفاصلة؛ قوله إن المماليك "أحيوا في ذلك اليوم الإسلام من جديد، بكل أسد من الترك قلبه أقوى من الحديد؛ فلم تكن إلا ساعة وإذا بالإفرنج قد ولَّوا على أعقابهم منهزمين، وأسُود الترك لأكتاف خنازير الإفرنج ملتزمين"!!
وقد حمل سلاطين المماليك -منذ مؤسس دولتهم الفعلي الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م)- مشعلَ الجهاد المتواصل ضد الصليبيين لاقتلاعهم من الساحل الشامي برمته؛ منطلقين في ذلك من واقع سيطرتهم القوية والمركزية على وحدة مصر والشام.
فخلال الفترة 659-690هـ/1261-1291م تمكّن المماليك من تحرير جميع المدن والقلاع والموانئ الإسلامية من احتلال الصليبيين، التي عجزت أجيال مشروع التحرير السابقة عن انتزاعها من براثنهم، وبذلك أعادوا إلى هذا المشروع وهَجَه الذي خبا خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
يقول المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في ‘المنهل الصافي‘: "كان الملك الظاهر [بيبرس].. ملكاً شجاعاً مقداماً، خبيراً بالحروب ذا رأي وتدبير وسياسة ومعرفة تامة. وكان سريع الحركات.. نالته السعادة والظَّفَر في غالب حروبه، وفتح عدة فتوحات من أيدي الفرنج"؛ ثم ذكر المؤرخ من هذه الفتوح أكثر من 14 موضعا شاميا كان معقلا للصليبيين.
على أن قمة إنجازات الظاهر بيبرس -الذي أطلق شرارة مطاردة الصليبيين سنة 663هـ/1265م- كانت إسقاطه إمارة أنطاكية الصليبية سنة 666هـ/1268م، وهي ثانية إمارات الصليبيين تأسيسا؛ وكان تحريرها أعظم إنجاز للمسلمين بعد استعادة صلاح الدين القدس قبل نحو قرن.
وقد لاحظ المؤرخ ابن واصل حجم الإنجاز الهائل المتحقق في أيام بيبرس حين قارنه بأعمال نور الدين وصلاح الدين، بل وفضله عليهما لتضاعف أعباء الاحتلال في عصره بـالعدوان المغولي؛ فقال: "رحم الله الملك الناصر صلاح الدين.. فلم يؤيد الإسلام بعد الصحابة.. برجل مثله ومثل نور الدين محمود بن زنكى..؛ فهما جددا الإسلام بعد دروسه..، ثم أيد الله الإسلام بعدهما بالملك الظاهر ركن الدين (= بيبرس)، وكان أمره أعجب! إذ جاء بعد أن استولى التتر (= التتار) على معظم البلاد الإسلامية، وأيس الناس أن لا انتعاش للملة؛ فبدد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية، وملك من الفرنج أكثر الحصون الساحلية"!!

تقويض كامل
ولما توفي بيبرس؛ حمل خليفتُه السلطانُ المنصور قلاوون الألفي (ت 689هـ/1290م) رايةَ المواجهة لتصفية بقايا الوجود الصليبي بالشام فاستولى على عدة حصون صليبية، ثم ختم حياته بإنجازه الأعظم عندما أسقط رابعة الإمارات الصليبية تأسيسا وهي طرابلس الشام التي حررها سنة 688هـ/1289م. وبصنيعه هذا أكمل المنصور قلاوون تفكيك إمارات الصليبيين الأربع التي تشكلت منها "المملكة اللاتينية في الشرق" أو "المملكة المقدسة" في بلاد الشام زهاءَ قرنين!!
يقول الملك أبو الفداء الأيوبي مؤكدا -في تاريخه- أنه حضر تحرير طرابلس: "لما نازلها السلطان نصبَ عليها عدّة كثيرة من المجانيق الكبار والصغار ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها.. بالسيف ودخلها العسكر عنوة، فهرب أهلها إلى الميناء فنجَى أقلهم في المراكب، وقُتل غالب رجالها.. وغنِم منهم المسلمون غنيمة عظيمة".
ثم استعد السلطان قلاوون لاستعادة آخر وأكبر معاقل الصليبيين بالشام في عصره، وهي إمارة عكّا التي لم تكن أصلا ضمن إماراتهم الأربع الأولى، وإنما تشكلت من فلولهم التي سمح صلاح الدين بخروجها من القدس وغيرها من المعاقل التي فتحها على الساحل.
وقد التقت هذه الفلول لاحقا في صور كما يقول ابن الأثير فـ"اجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم"؛ ثم هاجموا منها عكا بدعم من قادة الحملة الصليبية الثالثة التي وصلت عكا سنة 587هـ/1191م يتزعمها الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد (ت 596هـ/1199م)، فاحتلوها بعد حصار مرير وأمعنوا في أهلها قتلا وتنكيلا، وأسسوا فيها إمارة صليبية خامسة عاشت قرنا كاملا.
لكن قلاوون مات سنة 689هـ/1290م وهو على رأس جيشه متجها من القاهرة إلى عكا لفتحها، فاضطلع بمهمة تحريرها بعده ابنه السلطان الأشرف خليل. وفي فجر 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م، وبعد حصار دام أسبوعين؛ وقع الهجوم الهائل على أسوار المدينة فكان التحرير والانتصار الباهر. ويصف لنا الدواداري -في ‘كنز الدرر‘- أجواء هذا الحدث التاريخي الحاسم؛ فيقول إن الأشرف "زحف عليها (= عكا) بالجيوش بكرةَ النهار قبل طُلوع الشمس، وضُربت الكُوسات (= آلات نحاس تقرع بقوة لإخافة الأعداء) مع طبلخانات (= طبول) الأُمراء، مع صراخ الأبطال وصهيل الخيل وقعقعه السلاح؛ فخُيّل لأهل عكا [من الفرنج] أن القيامة قد قامت في تلك الساعة!! فلم تطلُع الشمس من الأبراج إلا والسناجق (= الأعلام) السلطانية الإسلامية على.. الأبراج، والفرنج.. قد ولَّوْا الأدبار وركنوا إلى الفرار"!!
وبسحق الصليبيين في عكا في جمادى الأولى سنة 690هـ/1291م؛ تُطوى صفحة دموية استمرت قرنين كاملين من الحروب الصليبية فـ"تكاملت بذلك جميع البلاد الساحلية للإسلام، وطُهِّر الشام من الفرنج بعد أن كانوا قد أشرفوا على مُلك دمشق وملك مصر"؛ وفقا للمؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) في تاريخه.
المصدر : الجزيرة نت - محمد شعبان أيوب