ورغم أن ثمَّة صنوف من الاحتلال تكافئ فعليا "الموت العنيف" للدول، مثل غزو الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان قبل عقدين، غير أن واشنطن لم تُخطِّط لضمِّ أراضي أيٍّ منهما إليها، بل إسقاط النظامين الحاكمين فحسب، مع الحفاظ على حدودهما الدولية. والحق أن غياب الدوافع التوسُّعية لا يجعل خرق سيادة دولة ما أمرا أخف وطأة، لكنه يُشكِّل فارقا مُهما في فهم النظام الدولي الحالي. فعلى كُل مساوئ أغلب الحروب بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الخرائط في مُعظمها ظلَّت كما هي.
ظهور مبدأ "وحدة الأراضي الوطنية"

ما الذي أدى إلى الانحسار المُفاجئ للغزو التوسُّعي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها؟
إنها المبادئ التي تُسطِّر فعليا معايير السلوك المقبول من اللاعبين الدوليين من نوع معيَّن، كما يقول أستاذا العلوم السياسية "مارثا فينرمور" و"كاثرين سيكينك"، وفي حالتنا اليوم فإن هؤلاء اللاعبين هم الدول القومية. لقد أدرك القادة الذين بلوَروا المبدأ الرافض للغزو التوسُّعي أن مُعظم الصراعات، بما فيها الحرب العالمية الثانية، نشبت من أجل الأرض، ومن ثمَّ فإن تدشينهم مبدأ ضد استيلاء دولة على أرض دولة أخرى، أتى جزءا من مشروعهم الأوسع من أجل السلام الدولي بعد عام 1945. وقد نظرت الولايات المتحدة، التي خرجت من الحرب آنذاك أقوى من كُل حلفائها، إلى الالتزام بذلك المبدأ الجديد ضد الغزوات التوسُّعية بوصفه ضمانة للاستقرار الدولي، ومن ثمَّ ضمَّنت المبدأ في ميثاق الأمم المتحدة، كما ضمَّنته أيضا الدول المُستقِلة حديثا في مواثيق المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية.
تلتزم الدول بالمبادئ الدولية لأسباب عديدة. فمنها مَن يلتزم لأنه لا يمتلك ببساطة طموحات توسُّعية، ومنها مَن يلتزم لأن المبادئ باتت جزءا من رؤيته للعالم بشكل يصعُب معه تصوُّر خرقه، ومنها مَن يخاف العقوبات الدولية أو أن يردعه طرف أقوى. كما أن هناك مَن يلتزم من الدول، رُغم قوته الهائلة، لأنه يعلم علم اليقين بأن الصراع على الأرض كان أحد الأسباب الكُبرى للحروب، ولذا نظرت تلك الدول إلى استقرار النظام الدولي باعتباره جزءا من مصلحتها بوصفها قوى كُبرى.
رُغم فوائده الجمَّة، فإن مبدأ "وحدة الأراضي الوطنية" ورفض الغزو التوسُّعي كانت له تبعات غير مقصودة، إحداها ترسيخ الحدود الدولية بصورة خلقت ظروفا مواتية للدول الفاشلة وانهيارها، حسبما قال أستاذ السياسة "بواز أتزيلي"، إذ إن "ثبات الحدود" كما يُسمِّيه حرَّر قادة الدول الضعيفة من عبء الانتباه لحدودها. على سبيل المثال، نجح ديكتاتور زائير (الكونغو الديمقراطية حاليا)* الشهير "موبوتو سيكو" في تركيز جهوده على استخراج الموارد الطبيعية من أجل مصلحته الشخصية، دون أن يلتفت إلى الحاجة إلى بناء جيش قوي يحمي بلاده، لأنه ببساطة لم يستشعر تهديدا لحدودها رُغم ضعفها.

نجح "موبوتو سيكو" في تركيز جهوده على استخراج الموارد الطبيعية من أجل مصلحته الشخصية، دون أن يلتفت إلى الحاجة إلى بناء جيش قوي يحمي بلاده. (رويترز)
وساهم انحسار الغزو التوسُّعي أيضا في نمو "الحروب التي بلا نهاية" كما أشارت أستاذة علم الاجتماع "آن هيروناكا"، فبدلا من حل النزاعات من أجل السيطرة الإقليمية بالاستحواذ على الأراضي مباشرة، ينزع القادة الانتهازيون إلى التدخُّل في الحروب الأهلية للدول الضعيفة لتمديد أمد الصراع فيها وتقويض حكوماتها غير المستقرة (بالنظر إلى صعوبة الاستيلاء على أراضيها جُملة واحدة في النظام الدولي الحالي)*، وهو ما فعلته جنوب أفريقيا في أنغولا في الثمانينيات مثلا، (وكذلك إيران في العراق، وباكستان في أفغانستان، وغيرها)*.
ليست مُصادفة إذن أن مبدأ نبذ الغزو التوسُّعي ظهر إلى النور بعد الحرب العالمية الثانية، إذ إن فظائع تلك الحرب، مع حلول عصر القوة النووية، حفَّزت القوى الكُبرى على تجنُّب أي حروب مستقبلية بينهم. وعلاوة على ذلك، قلَّصت العولمة من المزايا الاقتصادية للغزو التوسُّعي، فالتجارة المتزايدة بين الدول أتاحت لها حرية الوصول إلى مواردها دون اللجوء إلى القوة. فالأمر لم يكُن مجرد تأمين للحدود، بل إن الدولة الوطنية نفسها باتت سلعة قيِّمة، ويُعزَى ذلك جزئيا إلى أن قادة الدول المستقلة حديثا بعد الحرب وثقوا في المبدأ الجديد، وفي أن دولهم الوليدة بمأمن عن السقوط. بيد أن مواطني تلك الدول الوليدة، الذين يقبع الكثير منهم في دول الاتحاد السوفيتي السابق، هُم الأكثر قلقا اليوم على مستقبل بلدانهم وهُم يشاهدون ما يجري في أوكرانيا.
الخرائط الهشَّة
يُسلِّط الغزو الروسي لأوكرانيا الضوء اليوم على تداعي مبدأ نبذ الغزو التوسُّعي، الذي يكمُن مصيره جزئيا في مسار الحرب الحالية، وإلى أي مدى سيخرق بوتين هذا المبدأ في أوكرانيا. فإذا ما نجح بوتين في إسقاط النظام الأوكراني واستبدل به نظاما مواليا له، يكون قد أجرى عملية تغيير سافِر للنظام السياسي في البلاد، ووجَّه ضربة قاصمة للشعب الأوكراني، لكن دون أن يُشكِّل تحديا لمبدأ نبذ الغزو التوسُّعي، إذ إن أوكرانيا ستبقى كما عهدناها، ولكن تحت السيطرة الفعلية غير المباشرة لروسيا. وبالمثل، إذ حاول بوتين ضمَّ القرم ودونيتسك ولوغانسك بينما غضَّ العالم الطرف عن ذلك، يكون قد أضعف مبدأ وحدة الأراضي الوطنية لكن دون أن ينسفه تماما، لأن مُعظم الأراضي الأوكرانية ستظل موحَّدة تحت سلطة كييف.

الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"ولكن هنالك أسباب منطقية للقلق من أن تذهب طموحات بوتين إلى ما هو أبعد من تلك الأهداف المحدودة، فالرجل يتطلع إلى ما هو أكثر من تنصيب نظام موالٍ له في إحدى الجمهوريات السوفيتية السابقة أو الاستحواذ على أجزاء من البلد، وذلك وفقا لما تشي به تصريحاته المتشكِّكة في شرعية وجود أوكرانيا بوصفها دولة مستقلة. ولربما يسعى في الأخير إلى إعادة رسم خارطة أوروبا واستعادة جزء من مجد الإمبراطورية الروسية. وإذا ما ذهب بوتين إلى هذا الحد البعيد، فإن مصير مبدأ وحدة الأراضي الوطنية سيعتمد بدرجة كبيرة على ردة فعل العالم.
لحُسن الحظ، فإن ردود فعل دول العالم المختلفة على الغزو الروسي تُشير إلى أن هنالك اتفاقا غالبا على حماية ذلك المبدأ (فالدول الكُبرى الغربية مُعادية الآن لروسيا، في حين تخشى الدول الأصغر من مصير أوكرانيا)*، وقد تجسَّد هذا الاتفاق في سيل العقوبات غير المسبوقة على روسيا، وحملات التبرُّع من أجل الدعم والإغاثة، وكذلك تزويد أوكرانيا بالسلاح من جانب الدول الأوروبية. إذا ما فتر هذا الدعم، فإن الدول المجاورة لأوكرانيا، مثل مولدوفا وبولندا ورومانيا، قد تشعر بالقلق حيال سيادتها الوطنية، والحق أنها قلقة بالفعل.
إن حماية سيادة أوكرانيا أمر لا يستحق على الأرجح إشعال حرب عالمية ثالثة، لا سيما وقد تتفاقم إلى مواجهة نووية، فليس ضروريا أن يدفع العالم هذا الثمن الفادح من أجل التمسُّك بمبدأ نبذ الغزو التوسُّعي فحسب. بيد أننا يجب ألا نغفل الكُلفة الدموية لغض الطرف تماما عمَّا يجري، بينما تحاول الدول الغربية الآن أن تُحقِّق توازنا بين ردة الفعل الحازمة تجاه الغزو الروسي والنأي بنفسها عن مُفاقمة الصراع إلى ما لا تُحمَد عُقباه.
يلفت النظر هُنا ما حلَّ بالاتهامات الموجَّهة إلى روسيا بارتكاب جريمة العدوان على دولة أخرى. فحقيقة أن روسيا -العضو الدائم بمجلس الأمن- تستطيع استخدام حق النقض "الفيتو" لإلغاء قرار إحالتها إلى المحكمة الجنائية الدولية، يكشف لنا هشاشة مُقلقة في مبدأ نبذ الغزو التوسُّعي، وهي أنه يصعُب الحفاظ على المبادئ الدولية حين تُصِرُّ الدول الكبرى على كسرها. إذا فشل المجتمع الدولي في التمسُّك بذلك المبدأ، فإن الدول الواقعة على تخوم القوى الكُبرى ستواجه خطر الفناء أكثر من غيرها، وأحد أكثر الجوانب إثارة للقلق إذا ما عُدنا إلى عالم "موت الدول بالعُنف" هي آثار حملات الغزو على المدنيين. إن القوى الراغبة في الاستيلاء على أرض ما تخوض عادة حملة استهداف شعواء، شبيهة بما يجري الآن في "خاركيف" و"ماريوبول"، من أجل صد المقاومة وإفراغ المُدن من سُكَّانها. في قول آخر، إذ ما انتفى مبدأ وحدة الأراضي الوطنية، فلن نشهد معه تزايد نشوب الحروب فحسب، بل واشتداد عُنفها.
بيد أن المجتمع الدولي إذا أخفق في مهمِّته تلك، فإن الأمل من أجل أوكرانيا (ومَن على شاكلتها من دول)* لن ينقشع، إذ يُنبئنا التاريخ بأن نصف الدول التي ماتت بالعُنف منذ عام 1816 عادت إلى الحياة من جديد، وأحد المؤشرات المهمة على إمكانية عودة دولة ما بعد موتها هو أن تتمخَّض عنها حركة مقاومة وطنية، وهي حركات يصعُب على الدول الغازية أن تتنبَّأ بقوتها، إذ إن قِلة من حملات الغزو والاحتلال فقط هي التي نجحت بتحقيق أهدافها السياسية البعيدة في نهاية المطاف. بيد أن الدول الطامحة لغزو واحد من جيرانها اليوم على مستوى العالم لعلها استقت درسا مما يجري، وهو أن بالإمكان الإفلات دون عقاب من عملية غزو توسُّعي.
هل يعود التاريخ خطوة إلى الخلف؟

يبدو مريحا لنا أن نعتقد بأن المبادئ تدوم بعد أن تُرسى دعائمها، بيد أنها في الحقيقة لا تدوم إلى الأبد. ولننظر مثلا كيف انحسرت واختفت مبادئ وأعراف دولية عديدة طيلة تاريخنا القريب. إن الناس لا يحلُّون خلافاتهم اليوم بخوض المبارزات كما فعلوا قديما، والحكومات لم تعُد تُصدر بيانات رسمية بشن الحرب كما في السابق، والاغتيالات العلنية لقادة الدول التي سادت السياسة الدولية في حياة ميكيافيللي مثلا نُبِذَت تماما مع حلول القرن السابع عشر (وإن استمرت الاغتيالات السرية). إذا ما لقي مبدأ نبذ الغزو التوسُّعي مصيره مثل سابقيه إلى مقابر الأعراف العتيقة؛ فإن التاريخ يكون إذن قد خطا خطوة إلى الوراء، وسيكون العالم على موعد مع العودة إلى عصر قاسٍ هو عصر الموت العنيف للدول. ولا يعني هذا -مجددا- أن المبدأ دشَّن عالما من السلام في المقام الأول، فقد نشبت حروب لا حصر لها منذ عام 1945، بيد أن صنفا مُعيَّنا من الحروب بين الدول لحل النزاعات بشأن الأراضي والسيطرة عليها قد انحسر بالفعل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إذا ما عاد هذا النمط من الصراعات، سيتكبَّد المدنيون في الأخير مآلات تحوُّل كهذا.
ولننظر إلى العشرات من النزاعات حول الأرض الكائنة اليوم، فأرمينيا وأذربيجان طرفان في صراع مُجمَّد حول إقليم "ناغورني قره-باغ"، كما أن مصير تايوان بالتحديد مثار قلق لصُنَّاع القرار في الدول الكُبرى، فما قاله بوتين عن شرعية وجود أوكرانيا بوصفها دولة يُشابه ادعاءات الصين بأنها وتايوان بلد واحد. إذا ما أصبح مقبولا في ليلة وضحاها أن نستولي على الأرض بالقوة، فإن قادة الدول العالقة منذ زمن في صراعات حول الأرض قد تستخدم القوة لحلِّ الصراعات، ولربما تحاول ابتلاع شعوب ذات سيادة.
لقد ساعدتنا المبادئ الدولية والمؤسسات القانونية الكائنة في الحيلولة دون تفاقم الصراعات حول الأرض، وفي طرح مسارات غير عنيفة لإدارتها وحلِّها. على سبيل المثال، حلَّت محكمة العدل الدولية نزاعا بين دولتَيْ السلفادور والهندوراس عام 1986، وحلَّت نزاعا آخر بين البحرين وقطر في التسعينيات، كما حلَّت الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية نزاعا قصيرا بين الإكوادور وبيرو عام 1998. (وتلك الدول الصغيرة في الأخير حفَّزها حجمها الصغير وكُلفة الحرب بالنسبة لها وهيمنة القوى الكبرى عليها في جلبها إلى طاولة الحوار، في حين تبدو النزاعات بين الدول الأكبر حجما، وفي ظل انحسار هيمنة القوى الكبرى الغربية في بعض مناطق العالم، أصعب من أن تُحَل في ردهات المحاكم الدولية)*.
إن الحرب الروسية في أوكرانيا لها ما بعدها، وسيتجاوز ذلك بكثير كلًّا من روسيا وأوكرانيا بحد ذاتهما. إذا ما انحسر مبدأ وحدة الأراضي الوطنية، فإن الغطاء سينكشف عن النزاعات القائمة حول الأراضي بطول الكرة الأرضية وعرضها، وسيجعل الملايين من المواطنين عُرضة لاستهداف بالعُنف أكثر من ذي قبل. في اللحظة الراهنة، تبدو مآلات الحرب منحصرة في أوكرانيا وروسيا والدول التي استقبلت لاجئين أوكرانيين، بيد أن الطريق الذي شقَّته الحرب قد يودي بمبدأ وحدة الأراضي الوطنية ونبذ الغزو التوسُّعي ليصبح إحدى ضحايا الحرب الجارية، وسيتعيَّن على الدول بعدئذ أن تُعِدَّ العُدَّة للذبِّ عن حدودها.
——————————————————————————–
هامش: (*) ملاحظات المترجم
ترجمة: نور خيري
هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs
المصدر : الجزيرة نت