بإعلان سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابل منتصف آب/أغسطس 2021، استعاد العالم مشاهد رجال ذوي هندام بدوي يتمنطقون بأسلحة رشاشة وقنابل، يحطمون أصناما بوذية ويغطون وجوه النساء ويقطعون رؤوس الرجال، لكن للعرب سببا آخر يذكرهم بأفغانستان وحركة طالبان، هو رجل اسمه أسامة بن لادن.
قبل عشر سنوات من الدخول الاستعراضي لمقاتلي حركة طالبان إلى عاصمة أفغانستان -الذي يأتي بعد عشرين سنة من خروجهم منها تحت وابل القصف الأمريكي حينها-؛ كانت واشنطن تعلن بكثير من الفخر، تمكّنها من قتل الرجل الذي ارتبط اسمه بأحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وهو الرجل الذي بسببه خرجت أمريكا في كبرى حروبها منذ حرب فيتنام كي تسقط حكم طالبان التي آوته في أفغانستان.
واليوم، وبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي أنهى 20 عاما من الاحتلال والحرب الطاحنة، ومن بين ألغاز كثيرة ينطوي عليها هذا الانسحاب ومعه السيطرة السهلة والشاملة لحركة طالبان على مجموع التراب الأفغاني، يبقى اسم أسامة بن لادن أكبر ألغاز هذا الملف، بعدما كان تحالفه مع طالبان وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول المنسوبة إليه سببا في الغزو الأمريكي لأفغانستان.
فهل كان هذا العربي سببا في تقوية شوكة طالبان بتحالفه معها منتصف التسعينيات؟ أم تراه كان سببا في جر نقمة العالم الغربي عليها وإسقاط حكمها عام 2001؟ هل كان مؤسس وزعيم شبكة القاعدة ساذجا ومتهورا جنى على نفسه وعلى حركة طالبان حين استدرجها إلى مستنقع حروب دولية؟ أم تراه كان يجرّ وراءه -عن علم أو عن جهل- أعين الوكالات الاستخباراتية إلى قلب كابل ثم جبال تورا بورا؟
أبناء حصن باهشن.. رحلة من حضرموت إلى الساحل السعودي
منذ التحاقه بأفغانستان واستقراره فيها رفقة جيشه المكون من مقاتلي القاعدة منتصف التسعينيات، وإلى غاية إعلان مقتله تزامنا مع ثورات الربيع العربي، لم يكن أي من أيام المنطقة العربية يمر يوم دون مشاهدة صورته أو سماع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه تحت اسم "القاعدة". هكذا كان قليل الظهور كثير الحضور، يهدد ويتوعد فينفذ ثم يختفي.
تعود أصول أسامة بن لادن إلى أسرة يمنية الأصل سعودية التشكل والثراء. بدأت قصتها الحديثة ذات يوم من أواخر عشرينيات القرن الماضي، عندما غادر محمد بن عوض بن لادن واثنان من إخوته، وثلاثتهم عمال بناء؛ قريتهم الصغيرة المسماة حصن باهشن، في أقصى وادي دوعان بالجنوب اليمني. وكانت تلك القرية تبدو كسجن معزول حسب وصف الرحالة البريطاني "فريا ستارك" الذي زار حضرموت سنة 1932، لما تميزت به من موقع قابع في أعالى المرتفعات.
وجد محمد بن لادن في جدة السعودية أحد أبناء العمومة الحضرمية، فقدم له المأوى والزاد، بل وساعده في الحصول على عمل وآزره إلى أن أصبح قادرا على تلبية حاجاته والقيام بشؤونه بشكل مستقل، فانبرى على الفور لممارسة مهنته وموهبته المتمثلة في بناء آجر البناء وتركيبه بمهارة، وعلى فترات متقطعة كان يحمل قفة ويأخذ وجهة مرسى مدينة جدة، ليعمل حمالا يفرغ شحنات السفن ويشحنها بأخرى.

هاجر والد أسامة بن لادن من اليمن إلى السعودية، وكان تاجرا ذكيا استغل ظهور النفط ليثري منه
ظهور النفط.. تذكرة بن لادن إلى عالم الثراء
سارع بن لادن الأب إلى خدمة تحالف وجده قائما في بلاد الحجاز، بين جد المملكة السعودية محمد بن سعود الذي كان حاكم إحدى الواحات الصحراوية في نجد وسط البلاد، مع المذهب الإسلامي الجديد الذي أسسه محمد بن عبد الوهاب الفقيه السني.
لم يكن زحفُ آل سعود على أرض الحجاز يحمل تطلعات اقتصادية بالحجم الذي نراه اليوم، وكان صراعا قبليا تقليديا يبغي السيطرة على المواقع الاستراتيجية والتاريخية، ولم يبدأ تحول المنطقة من دولة قحط إلى دولة نفط إلا مع نهاية عقد الثلاثينيات.
باكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية عام 1938، والبدء في استغلاله بواسطة الشركة الأمريكية (ARAMCO) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وإبرام ما يعرف باتفاق السفينة "كوينسي" السعودي الأمريكي، وعنوانه النفط مقابل الحماية.
كان محمد بن لادن من أوائل العمال في شركة "أرامكو" السعودية الأمريكية، وهناك أبان عن علو كعبه وقدرته على خدمة جميع الأطراف، مع حس فطري ميال إلى النظام الصارم والفعالية والموهبة الهندسية، حتى تمكن عام 1935 من تأسيس شركته الخاصة بدعم من بعض مشغليه الذين توسموا فيه النجاح، والقدرة على الاستفادة والإفادة دون شروط.

عاش بن لادن حياته في مدينة جدة وتخرج من جامعة الملك عبد العزيز
أسامة.. سلفي في كلية الاقتصاد والإدارة
تلقى الطفل أسامة تعليمه الابتدائي والثانوي بمدينة جدة حيث كان يقيم، ومكث فيها لولوج جامعة عبد العزيز متخصصا في الاقتصاد وإدارة الأعمال ليتخرج منها بشهادة البكالوريوس، بينما كان كثيرا ما يتعقب آثار والده في رحلة "الشتاء والصيف" نحو الشام، ليس بغرض التجارة، وإنما ليقضي عطلته رفقة خاله ناجي في اللاذقية.
كان التيار السلفي حينها آخذا في الانتظام من خلال ظهور عدد من الجمعيات الإسلامية، وآلة الدعوة إلى المذهب الجديد آخذة في الدوران، من خلال عمليات طباعة واسعة لكتب السلف، بعدما شهد النصف الأول من القرن العشرين إعادة طبع ونشر عدد كبير من الكتب القادمة من العصور الأولى للإسلام، وتتوزع على مختلف حقول الفكر والفقه والتفسير والحديث والعقائد.. وفي هذا السياق، عُرف الطفل أسامة بن لادن بين أبناء عشيرته بالتزامه العميق بمقتضيات الدين.

زلزلت ثورة الخميني كل كراسي الحاكمين العرب وأدخلت الشك والخوف إلى نفوسهم
ثورة الخميني.. إعصار فارسي يزلزل العروش العربية
قبل أن تكون المشكلة الأفغانية مطية جهادية وأرضا لتحالفات عجيبة وحروب بالنيابة، كانت ملفا سياسيا دوليا تمخضت تناقضاته عن تجربة قتالية فريدة من نوعها، بدأت قصتها بانقلاب داخلي عام 1978 صعد على إثره الحزب الشيوعي لأول مرة إلى الحكم بأفغانستان، مما أشعل فتيل مواجهات داخلية انتهت بطلب الشيوعيين نجدة الجيش السوفياتي الذي لم يتأخر في دخول ساحة المواجهة عام 1979.
وبعد الضبابية التي أحاطت بمشاركة أسامة بن لادن في حرب الإخوان المسلمين على النظام السوري البعثي العلماني، وبعد تضارب المصادر حول حقيقة ميولاته وقناعاته الفكرية والدينية؛ فإن صفحة جديدة ستفتح بعد العام 1979، لتتقاطع المصادر المتناولة لشخصية بن لادن، وتبدأ المعطيات الموثوقة في معانقة التحليلات الموضوعية للمحيط الإقليمي والدولي.
فتلك السنة كانت استثنائية بكل المقاييس، ولم تكن لتسمح باستمرار التردد أو إخفاء القناعات الحقيقية، فهو عام الثورة الخمينية في إيران الشيعية الفارسية؛ الثورة التي لم تطوح بعرش الشاه فقط، بل زلزلت كل كراسي الحاكمين العرب وأدخلت الشك والخوف إلى نفوسهم، إنها حركة سياسية معارضة ترفع علم الدين وتدخل قصر الحكم فوق أكتاف الجماهير.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية حينها في عز حربها الباردة، عملاقا ينزف من جرحه الفيتنامي الذي لا يندمل، فأعقبته هذه الطعنة المفاجئة ضد حكم الشاه محمد رضا بهلوي الذي كان درَكي واشنطن بالمنطقة وخديمها المطواع.

وجد بن لادن طريق الجهاد ميسرة في أفغانستان فكان يجمع العتاد والرجال إليها
مسرح أفغانستان.. تحضير الخشبة لدخول الشيخ المجاهد
في الجهة الأخرى لبلاد فارس وأفغانستان، كان الرئيس الباكستاني ضياء الحق يراقب بطموحات كبيرة لمد إمبراطوريته في آسيا الوسطى، واحتواء طموحات البشتون الأفغان للتحالف مع بني عمومتهم داخل باكستان.. عوامل وأخرى اجتمعت لتتفق على بعث الجهاد الإسلامي المنسي منذ الحروب الصليبية، وكان ميدان ذلك جبال أفغانستان التي دكها الاتحاد السوفياتي بدون رحمة.
شرعت المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي إي" في إعداد خشبة المسرح لدخول الممثلين، ولكل دور معلوم، فكانت المفاجأة أن توافد الراغبون في التمثيل من كل المدارس "المسرحية"؛ فالصيني يريد إضعاف صديقه اللدود والحد من طموحاته، فجاء حاملا عدته العسكرية مستعدا للبيع؛ وجاء الباكستاني وسيطا ودليلا عارفا بمتاهات المنطقة جغرافيا وإثنيا.
أما العرب فهم متلهفون لتصدير مجاهديهم والتخلص من إزعاجهم، فتحولت السفارات الباكستانية في الدول العربية إلى وكالات أسفار مفتوحة، ونظيرتها السعودية بنوكا إسلامية تقرض المجاهدين "قرضا حسنا"، فتمنحهم تذاكر السفر بتخفيضات كبيرة، وتضمن لهم تكاليف الوصول إلى جبهة القتال، وأما إسرائيل الصهيونية اليهودية فكانت على أهبة الاستعداد أيضا لدعم "المجاهدين" بمنحهم ما تراكم في خزائنها من خردة السلاح السوفياتي الذي غنمته من حروبها ضد العرب.
وفي هذا الخضم، اضطلع الشيخ أسامة بن لادن بدور هام في تمويل وتشجيع آلاف المجاهدين للالتحاق بأفغانستان، وذلك في رحلاته المتكررة بين أرض الجهاد والجزيرة العربية، وبدأت صفحات الجرائد والمجلات بالمنطقة العربية تقدمه بطلا مستعدا للتضحية من أجل قضية عادلة.

وقفت الدول العربية ومن ورائها أمريكا في أفغانستان ضد روسيا في دعم المجاهدين وإرسالهم إلى بيشاور
إسلام أباد.. حامل مفاتيح الخزينة يبدأ المعركة
توجه أسامة بن لادن إلى العاصمة الباكستانية إسلام أباد بعيد اندلاع الحرب في أفغانستان عام 1979، وكانت مهمته آنذاك السهر على تنسيق الحملات الدولية لجلب المقاتلين وتعبئة الدعم المادي، فقد فرض هذا الشاب نفسه تدريجيا كحامل لمفاتيح خزينة التمويل غير المباشر للجهاد الأفغاني، من خلال مساهمته المباشرة كرجل ثري، ومساهمة عائلته التي باتت ترى في ابنها رمزا للبطولة ومصدرا للفخر.
لم تتردد العائلة الثرية في تلبية طلبات ابنها بإرسال الآليات والجرافات لإقامة المعسكرات والمخيمات والأنفاق والمستشفيات، ومستودعات السلاح والتحصينات؛ ثم قنوات الدعم العربي الرسمي والشعبي التي تصب في إسلام أباد وبيشاور وجيوب بائعي السلاح من الصين إلى إسرائيل، فكان يعود من رحلاته المتكررة إلى السعودية مثقلا بالأموال.
أهم تطور في هذا المسار الهادئ، أن أسامة بن لادن كان يرسل الوافدين للتدرب على القتال في معسكرات قادة الحرب في أفغانستان، أمثال ربّاني وقلب الدين حكمتيار، إلى أن شرع أواسط الثمانينيات، في إقامة معسكراته الخاصة في أفغانستان، وبدأ بذلك في تأسيس جيشه الخاص.
