![]() |
"من أحرق مدينتي؟".. قصة القاهرة التي احترقت لتحرق أحلام الغزاة والطغاة
"من أحرق مدينتي؟".. قصة القاهرة التي احترقت لتحرق أحلام الغزاة والطغاة https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=970%2C545 زفرةُ خذلان تلك التي بدأت كل شيء، أطلقها أحدهم ذات مرة في غفلة من نفسه، فاتسع صدره مقدار بوصتين، ويقولون إن عدة زفرات مماثلة قد لحقت بها. قد يزفر أحدهم فيتسع صدره، وربما يزفر ثانية فيحوي العالم بين جنبيه. شاع الأمر في المدينة، وأصبح عادة ونهجا لسكانها، يتشاركه الجميع ولكن لا يفصحون عنه. لم يطل الأمر كثيرا حتى تجمعت الزفرات، فكونت سحابة من الغضب، وبسطت ظلها على جسد المدينة. الجزيرة الوثائقية كانت حاضرة، وبدورها تلقفت ذكريات ذلك الثائر المهمش، وبثتها فيلما بعنوان "من أحرق مدينتي؟"، والجميع يعرف الجواب، لكن الحاكمين الجدد يريدونه مجهولا ومتآمرا وشريرا، حتى يلصقوا به كل خيباتهم. المدينة التي تحترق ثم تُبعث من جديد.. حديث الراوي ولدتُ كالآخرين في إحدى زوايا المدينة، عشت فيها طويلا ولم أكد أعرف غيرها، ثم كبرت ولم أعرف عن مدينتي الكثير حتى كشفت لي ذات مرة عن أجرأ أحلامها، لكنها لم تعد بتحقيقها، بينما تكفلت لحظة جماعية بتغيير كل شيء، فرفعتنا عن الأرض لتعلمنا كيف يكون الارتطام، وكانت كفيلة بأن تعلمني الشك في كل شيء، في حاضرنا المُعاش أو ماضينا المحكي. قرأنا في كتب المدرسة إشارات عن المتآمرين أصحاب الأصوات النشاز، وعندما جاءت لحظتنا وجدتُهم يشيرون إلينا، فشككت في كل شيء، وأخذني ذلك إلى تتبع سيرة المتآمرين، حتى وقعت على أكابرهم، أولئك الذين أحرقوا القاهرة في يناير/كانون ثاني 1952، ولأن الذاكرة تبقي على ما تخفيه الكتب فلم يكن لي من سبيل سوى استنطاق من عاشوا الحريق ونجوا من ألسنته. كانت الإجابات مشوّشة ومتباينة؛ بعضهم قال إنهم أذناب الإنجليز، وآخر قال إنهم الموساد والصهيونية العالمية، وقال ثالث: هم الإخوان، ورابع: بل هم بقايا النظام الملكي، لا إنهم وفديّون، بل هم مندوبو الأحزاب الثورية، طابور خامس، ماسونية، "شوّية حرامية وبلطجية". المهم أن سبعين عاما مضت وما زال أهل مدينتي يفتشون عن الفاعل. حملة "نابليون".. أوهام التنوير على فوهات المدافع علّة مدينتي سورُها، إذ يقدّمه الحاكم حصنا، ويراه الساكنون سجنا لا تفتح بواباته إلا ليلا، فلا يتجاوزه القاطنون إلى الخارج ولا يعرفون ما وراءه، يألفون وجوه بعضهم فقط، ويطرقون سبلا مكررة بين البيت والمسجد والسوق. مدينتي أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، ولكن دون بساط سحري. جاءها المحتل قبل 200 عام محمولا على البحر، وفتح أبوابها على عوالم لم يألفها ساكنوها، ففتحوا عيونهم على ثقافة فرنسا وحضارتها، ولكنهم عاينوا قذائفها ونيرانها، قدّم لهم "نابليون" التنوير فوق فوهات المدافع، وخلط لهم الفنون والعلوم بأكياس البارود، ونصب مدافعه فوق مآذن المساجد، وقضى على ثورة المشايخ، ونصّب نفسه حاكما على ما بقي من المدينة المحروقة. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C345 حملة نابليون على مصر أول غزوة للبغاة في أرض الكنانة لكنّ انتفاضات مدينتي خيّبت آماله، وأسقطت أحلامه من أعلى مئذنة، ثم ظهر من خلف الكواليس قائد آخر، يأمل أن يخلف "نابليون" في أحلامه، وبرغم مجيئه ضمن جيش العثمانيين لتخليص مدينتي من الغزو الفرنسي، فإن أحلام نابليون راودته أيضا فنصب نفسه حاكما على المدينة، وهو حلم لا يتحقق إلا بحد السيف وقطع الرقاب. كانت مذبحة القلعة تذكرة عبور إلى أوروبا، وباب زويله هو الشاهد، ورؤوس المعارضين المعلَّقة عليه عبرة الحاكم الجديد لمن يعتبر. هذا هو محمد علي الكبير، مؤسس تاريخ مدينتي الحديث، وباني جيشها ودولتها. ثم توارثها أبناؤه وأحفاده من بعده، وكانت تخرج الأوامر من القصر، فتتوجه البعثات إلى مدينة النور باريس، على نفس البحر الذي حمل المدافع إلى مدينتي. أحفاد محمد علي.. باريس الشرق على ضفاف النيل كان إسماعيل أصغر أحفاد السلطان الكبير من ضمن المبتعثين إلى باريس، وتنقل بين مدن أوروبا حتى توحَّد مع نسيجها، ثم عاد إلى مدينتي بنفس الأحلام وبرغبة جامحة في بناء باريسه على ضفة نيلنا، وخلال سنوات قليلة ارتدت مدينتي زيّها الفرنسي، زي لم يشبه الزي القديم في شيء، كانت متفردة وشبيهة بنفس الوقت، ربما هو الوصف الأقرب لما أصبحت عليه المدينة. ثمة تعديل جيني في الشفرة الوراثية لمدينتي، فقد باتت أكثر تسامحا وانصهرت في بوتقتها جميع الأجناس والأعراق، كانت جميلة ونظيفة، شوارعها واسعة وحدائقها غناء. كنت ترى فيها أحياء خاصة لليونانيين، وأخرى للإيطاليين، وكنت تميز اليهود عن غيرهم، ولكن لا تستطيع دخول أماكنهم. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C366 الخديوي إسماعيل الذي تربى في كنف فرنسا وعاد ليحول مصر إلى باريس الشرق ثم جاء المستعمر الإنجليزي ليكمل اللوحة، ويلعب على وتر التباين والاختلاف، فصرت ترى مارشات الجنود تعبر شوارع مدينتي، وأعياد الإنجليز حاضرة في كل زقاق، مما خلق واقعا طبقيا جديدا وتوترا جمعيا لا يمكن إغفاله، وما بدا أنه انسجام تحوّل إلى هوة طبقية لا يمكن ردمها بين مرتدي الأحذية وبين ماسحيها. حرافيش المدينة يَحْيَون في ركنها القديم فهم يشبهونه ويشبههم، والوافدون استقروا في المدينة، وكان يدور صراع بين الفئتين على مدار اليوم، وتتعمق المواجهات لتصبح قتالا في أكثر الأحيان، أما الحدث الذي سد طريق العودة فهو توقيع النحاس باشا عام 1936 على معاهدة الحماية البريطانية، مما شرع الوجود الإنجليزي على أرض مصر. هجمات الفدائيين.. ثأر القاهرة لمجازر الإسماعيلية ثار الشعب واستعر غضبه بعد توقيع معاهدة الحماية البريطانية، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية أسكت الطرفين في مصر ونزع فتيل حرب محلية تأجلت إلى حين. كانت المعاهدة تنص على أن مدتها عشرون عاما، ويمكن للطرفين إعادة المفاوضات حول بنودها بعد مضي عشر سنوات، وهذا ما فعله النقراشي باشا عندما خاطب الإنجليز عام 1946 للتفاوض من جديد، الأمر الذي رفضه الطرف الإنجليزي. كان هذا الرد كفيلا بإثارة الشارع المصري من جديد، فأسقط معاهدة 1936 من خلال مظاهرات خرجت في كافة أرجاء القطر المصري بزخم بشري لا محدود، وظهر هنالك ما عرف بحركة الفدائيين، وكانت أكثر محاضنهم مدن القناة، حيث كانت تفجيراتهم واقتحاماتهم لمعسكرات الإنجليز وقطاراتهم تلقى ترحيبا شعبيا منقطع النظير. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C360 النحاس باشا يوقع على معاهدة الحماية البريطانية لمصر سنة 1936 وانخرطت في مجاميع الفدائيين مختلف قطاعات الشعب، بمن فيهم بعض رجال الجيش المصري، وكانوا يسببون أرقا لا ينقضى للمستعمر الإنجليزي، الأمر الذي حدا بالجنود المحتلين إلى إحراق قرى وأحياء بأكملها، بحجة وجود "مخربين" في هذه القرى، مثلما حدث في "كفر أحمد عبده" في السويس، وذهب ضحيته الكثير من الشهداء. وفي الإسماعيلية كانت الدبابات والرشاشات الإنجليزية تعيث فسادا في أجساد الفدائيين والشرطة على حد سواء، واكتفت الحكومة المصرية بدفع الشرطة بأسلحتهم البدائية لمواجهة جيش مدجج بأحدث الأسلحة، الأمر الذي أسفر عن مجزرة راح ضحيتها المئات من أفراد الشرطة قتلوا بدم بارد. "الشعب يريد إسقاط النظام".. ما أشبه الليلة بالبارحة رغم كل جرائم الإنجليز فإن الحكومة المصرية لم تحرك ساكنا، الأمر الذي أثار حنق الثوار والفدائيين، ودعاهم إلى التصعيد ضد الحكومة والإنجليز معا، وزاد في جذوة الثورة انضمام كثير من رجال الشرطة والجيش لصفوف الفدائيين، فكان حريق القاهرة في 26 يناير/كانون ثاني 1952 نتيجة طبيعية لهذا الوضع المأزوم. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C347 ملايين المصريين يجوبون أنحاء القاهرة يوم 26 يناير/كانون ثاني 1952 بالمظاهرات والهتافات الداعية إلى جلاء المحتل في صباح ذلك اليوم كانت ملايين المصريين تجوب أنحاء القاهرة بالمظاهرات والهتافات الداعية إلى جلاء المحتل، ورافقها إحراق المحلات والبنوك والفنادق التي يشغلها الإنجليز والفرنسيون، وكانوا يتجنبون معابد اليهود لا يحرقونها. وارتفع صوت الشعب: "الجلاء الجلاء" و"يسقط يسقط الاستعمار". ما أشبه الليلة بالبارحة، وكأن سيناريو 1952 قد أعيد بحذافيره في 25 يناير 2011، يومان جمعهما المكان، وانكمش بينهما الزمان فصارا يوما واحدا، وعلا هتاف المتظاهرين: "الشعب يريد إسقاط النظام". لكن هذه المرة لم يكن هنالك "خواجات" أجانب في مواجهة الثائرين، بل جباه سمر من أبناء جلدتهم رهنوا أنفسهم أدوات قمع بيد النظام الحاكم المستبد. سردية العسكر.. حوادث ضد المجهولين الأشرار ها نحن صرنا وحيدين أطرافا مترامية، لا نتفق إلا على الخوف ولا نثق إلا بمن أخفقوا معنا، نُبقي على إرث لا وريث له، ونستبدل ذاكرة البشر بذاكرة الأماكن، لأن الشوارع تحفظ ما حدث بذاكرتها، ولافتاتها تروي التاريخ أفضل مما تفعل الكتب. لم يكن الأمر استبدال لافتة بلافتة بل استبدال سردية بسردية، وكانت أكثر لحظاتنا فتوّة هي ذاتها اللحظات التي طُمس فيها جانب آخر من تاريخ المدينة. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C341 انقلب العسكر على النظام الملكي في مصر سنة 1952 لتتحول منذ ذلك اليوم وحتى يومها هذا إلى جمهورية البؤساء يبدو أن ميدان التحرير قد استخدم أكثر من مرة لطمس فئة لم يكن مرغوبا فيها، ولتظهر إلى الواجهة فئة أخرى أبدعت في استخدام الجموع البشرية لصالحها. ففي 1952 استبدل الضباط الأحرار اسمه القديم ميدان الخديوي إسماعيل إلى ميدان التحرير، لا لشيء إلا لطمس الفترة الملكية وإعادة تشكيل المدينة حسب أجندة الحاكمين الجدد، الضباط الأحرار. في المرتين جاء العسكر وأطفأوا الحريق، أو هكذا أوهموا جموع الثائرين، ولكنهم لم يقولوا قط من الذي تسبب في الحريق، ولم تتوجه أصابع الاتهام إلى أحد، وطويت صفحة الحريق وسجّلت الحادثة ضد أشرار مجهولين. لكن جموع الثائرين والناس أجمعين رأوا أحلامهم وآمالهم تتبدد أمام أعينهم، عندما لم يحصلوا من الثورة إلا على ندوب الحروق على أجسادهم. "نحن الذين أحرقنا البلد".. فوضى الأبطال والهوامش مكثتُ عامين أبحث عن الأصوات الضائعة في صفحات الجرائد وهوامش الكتب وفي أزقة القاهرة، غير أني لم أجد سوى أشباح بدون ذاكرة، أو مذكرات مكتوبة بغير صاحب، وصار حلمي أن ألقى واحدا فقط من الذين أحرقوا المدينة، حتى عثرت بعد عامين كاملين على ضالتي. تحدّث إليّ الحاج محمد مسلّم رمضان: نحن الذين أحرقنا البلد، كنا نحرق الشركات الأجنبية، وكان في قلوبنا غل كبير لما حصل في الإسماعيلية، حينها قلنا إن النار هي التي تطفئ النار، وأصبحنا نحرق كل شيء أجنبي، أنا شخصيا أحرقت محل "جروبي" لأنه كان إنجليزيا، ولما نزل الجيش إلى الشارع جمعنا أنفسنا وتوكلنا على الله وتركنا المكان. نحن معشر الشعب هم من ثرنا، ولم يثر أحد غيرنا. https://doc.aljazeera.net/wp-content...size=640%2C360 أحد الثوار الذي أحرقوا المصالح البريطانية بمصر سنة 1952 هنا تتبدل كل الأدوار، فيتحول أصحاب الهوامش أبطالا، ويتخذ الحريق تأويلا جديدا لمستقبل لا يختلف كثيرا عن الماضي. ستون عاما مضت على مدينتي كما سرديتان لحكاية واحدة. احتلال وقمع، فغضب وانتفاضة، ثم مدينة محترقة. ثم حظْر تجوال، ودبابات تحوم في الطرقات ثم تحكم البلاد. مسرح الأحداث واحد والرواية واحدة، حكايتهم هي حكايتنا، والأسى يكمن في درايتنا بذلك، فمثلما تحوّل الأبطال لهوامش تحولت الثورة إلى مؤامرة. سنمدّ كافة الخطوط على استقامتها، ربما يمنحنا هذا جوابا لما ستؤول إليه حكايتنا، وما سيذكرنا عليه التاريخ. المصدر : الجزيرة الوثائقية |
|
الساعة الآن 01:18 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir