..[ البســـالة ]..

..[ البســـالة ].. (https://www.albasalh.com/vb/index.php)
-   قســــم دســـاتير الدول (https://www.albasalh.com/vb/forumdisplay.php?f=80)
-   -   الدستور constitution (https://www.albasalh.com/vb/showthread.php?t=7921)

الباسل 09-02-21 08:23 PM

الدستور constitution
 
الدستور

الدستور constitution، هو المادة التي من خلالها تستوحى الأنظمة والقوانين التي تسير عليها الدولة لحل القضايا بأنواعها.

تعريفات

يعرف الدستور على أنه مجموعة القواعد التي تنظم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها، أي تلك التي تتعلق بالتنظيم السياسي». أو أنه «وثيقة أساسية أقرتها سلطة خاصة وفق إجراءات خاصة لتحديد وتنظيم شؤون الحكم وعلاقته مع المواطنين.
وهو أيضا القانون الاسمى بالبلاد وهو يحدد نظام الحكم في الدولة واختصاصات سلطاتها الثلاث وتلتزم بة كل القوانين الأدني مرتبة في الهرم التشريعي فالقانون يجب أن يكون متوخيا للقواعد الدستورية وكذلك اللوائح يجب ان تلتزم بالقانون الأعلى منها مرتبة اذا ما كان القانون نفسه متوخيا القواعد الدستورية. وفي عبارة واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية اذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية.
وكلمة دستور ليست عربية الأصل ولم تذكر القواميس العربية القديمة هذه الكلمة ولهذا فإن البعض يرجح أنها كلمة فارسية الأصل دخلت اللغة العربية عن طريق اللغة التركية، ويقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام.
وفي المبادئ العامة للقانون الدستوري يعرف الدستور على أنه مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز الإطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية.

نشأة الدساتير

تعبّر هذه الأساليب عن انتصار إرادة الشعوب وانتقال السيادة من الحاكم إلى الأمة أو الشعب الذي أصبح وحده صاحب السيادة في الدولة, ولهذا فإن دساتير هذه المرحلة تتميز بطابعها الديمقراطي, نظراً لانفراد الشعب بممارسة السلطة التأسيسية الأصلية, حيث يتولى بمفرده ــ ودون تدخّلٍ أو مشاركةٍ من جانب الحكَّام ــ وضع تنظيمه الدستوري الذي يرتضيه, ويلتزم بقواعده أفراد الجماعة حكَّاماً ومحكومين على السواء .
وقد جرى العمل على إتباع أحد أسلوبين لوضع الدساتير في ضوء احتكار الأمة أو الشعب للسلطة التأسيسية، فإما أن يتم وضع الدستور من قبل هيئة منتخبة من الشعب يطلق عليها اسم الجمعية التأسيسية، وإما أن يتم طرح مشروع الدستور على الشعب في استفتاء عام لأخذ موافقته عليه، وهو ما يطلق عليه اسم الاستفتاء التأسيسي.

أسلوب الجمعية التأسيسية

يعتبر أسلوب الجمعية التأسيسية هو أحد الأساليب الديمقراطية المتبعة في وضع وانشاء الدساتير، من خلال بيان مضمون هذا الأسلوب، والأسس الفكرية التي يستند إليها، وانتشار هذا الأسلوب، وأنواع الجمعيات التأسيسية، وأخيراً تقدير هذا الأسلوب، وذلك وفق الآتي:


مضمون أسلوب الجمعية التأسيسية
تعود أصول فكرة الجمعية التأسيسية L'assemblée constituante إلى مبدأ سيادة الأمة Le principe de la souveraineté nationale، الذي ينكر أن تكون السيادة في الدولة لغير الأمة، وتعتبر هذه الفكرة في جوهرها تطبيقاً حقيقياً لنظام الديمقراطية التمثيلية أو النيابيةLa démocratie représentative.
ومن مقتضى هذا الأسلوب الديمقراطي في وضع الدساتير أن تقوم الأمة صاحبة السيادة ومصدر كل السلطات, بتفويض ممارسة سيادتها لممثّلين عنها ( وهؤلاء يشكِّلون هيئةً يُطلق عليها اسم المجلس التأسيسي أو الجمعية التأسيسية أو المؤتمر الدستوري ) يتولون باسمها ونيابةً عنها وضع قواعد نظام الحكم في البلاد, بحيث يُعدّ الدستور الذي يصدر عن هذه الهيئة المنتخَبة الممثِّلة للأمة وكأنه صادرٌ عن الأمة بمجملها, وعلى ذلك يكتمل الدستور ويصبح نافذاً بمجرد وضعه وإقراره من قبل هذه الهيئة، ما دامت الأمة قد فوَّضتها بذلك, مما لا يتطلب بعد ذلك عرض وثيقة الدستور على الشعب لاستفتائه فيها أو أخذ موافقته عليها, إذ أنه بمجرد إقرار الهيئة المذكورة للوثيقة الدستورية في صيغتها النهائية, تصبح هذه الوثيقة نافذةً ودون أن يتوقف ذلك على إقرارٍ من أي جهةٍ كانت.


الأسس الفكرية التي يستند إليها أسلوب الجمعية التأسيسية
كان لفلاسفة القانون الطبيعي وكتَّاب القرن الثامن عشر فضل الدعوة إلى هذا الأسلوب الديمقراطي في وضع الدساتير, فقد اعتبروا الدستور بمثابة تحقيقٍ لفكرة العقد الاجتماعي la Contrat social الذي ينشئ الجماعة السياسية ويؤسِّس السلطة العامة فيها, ومن ثم لا يمكن أن يكون الدستور إلا من وضع جميع أفراد الجماعة, أي من صنع الشعب في مجموعه, لا من صنع فئة معينة منه . كما أنهم نادوا بالأخذ بهذا الأسلوب وضرورة جعل الدستور من صنع الشعب بحجة أن الدستور هو مصدر السلطات العامة جميعاً بما فيها السلطة التشريعية . ويترتب على ذلك عدم إمكان إصدار الدستور بواسطة السلطة التشريعية, لأن هذه الأخيرة تستمد سلطتها ووجودها من الدستور, ومن ثم لا يجوز لها أن تضع الدستور أو أن تعدله, فهل يعقل أن تقوم هذه السلطة التي يؤسِّسها الدستور ويهبها الحياة, أن تقوم هي بوضعه ؟! ومن ذلك يخلص هؤلاء الكُتَّاب والفلاسفة إلى ضرورة إتباع وسيلة الجمعية التأسيسية التي تختارها الأمة خصيصاً لوضع الدستور( ).


انتشار أسلوب الجمعية التأسيسية
تُعدّ المستعمرات الأمريكية الشمالية الثائرة ضد الاستعمار الإنجليزي أول من أخذ بهذا الأسلوب في وضع دساتيرها عقب استقلالها عن التاج البريطاني في عام 1776, حيث قامت معظم هذه الولايات بانتخاب جمعية نيابية عُرفت باسم Convention ( أي المؤتمر ) من أجل وضع الدستور الخاص بها, ثم صدر بعد ذلك دستور الاتحاد الفيدرالي عام 1787 بنفس الأسلوب, أي بواسطة جمعية نيابية منتخبة من الشعب الأمريكي اجتمعت في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا وأصدرت الدستور الحالي للولايات المتحدة الذي جاء في مقدمته: ﴿ نحن شعب الولايات المتحدة, رغبةً منا في إنشاء اتحادٍ أكثرَ كمالاً، وفي إقامة العدالة، وضمان الاستقرار الداخلي، وتوفير سبل الدفاع المشترك، وتعزيز الخير العام وتأمين نِعَم الحرية لنا ولأجيالنا القادمة، نرسم ونضع هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية ﴾, وقد أطلق على الجمعية النيابية التي تولت وضع الدستور الاتحادي اسم ﴿ مؤتمـر فيلادلفيا الدستوري ﴾ Philadelphia Constitutional Convention . وقد انتقل هذا الأسلوب من الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرنسا بعد قيام الثورة الفرنسية في عام 1789, وذلك عند وضع أول دساتير الثورة في عام 1791, ثم أخذت به أيضاً في وضع دستورَيْ سنة 1848 وسنة 1875, غير أن الجمعيات المنتخبة التي كانت تمارس نيابةً عن الشعب الفرنسي صلاحية السلطة التأسيسية ( أي مهمة وضع أو تعديل الدستور) كانت تعرف اصطلاحاً باسم "الجمعية التأسيسية" Assemblée constituante بدلاً من اسم "المؤتمر" Convention الذي كانت تستخدمه الولايات الأمريكية.
كما شاع استخدام أسلوب الجمعية التأسيسية خارج فرنسا, فطبقته بلاد كثيرة عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية, فأخذ به دستور فيمار الألماني في سنة 1919, والدستور النمساوي في سنة 1920, والدستور الاسباني في سنة 1931, والدستور الياباني في سنة 1947، والدستور الإيطالي في سنة 1947، والدستور الهندي في سنة 1949 .
ومن دساتير الدول العربية التي صدرت وفقاً لأسلوب الجمعية التأسيسية نذكر على سبيل المثال : دستور الجمهورية السورية الصادر في سنة 1950, وكذلك الدستور الحالي للجمهورية التونسية الصادر في سنة 1959.

أنواع الجمعيات التأسيسية

الجمعيات التأسيسية ليست كلها على نمط واحد, إذ يمكن التمييز ـ من زاوية المهمة الموكلة إليها ـ بين نوعين رئيسيين لهذه الجمعيات:


الجمعيات التأسيسية على النمط الأمريكي
الجمعيات التأسيسية على النمط الأمريكي L'assemblées constituante de type américain ، وهي الجمعيات التي ينحصر عملها في وضع الدستور فقط, دون أن تملك الحق في مباشرة أي صلاحيات أخرى, وبوجه خاص صلاحيات السلطة التشريعية, وبمعنى آخر, فهي ﴿جمعيات تأسيسية مخصَّصة ﴾ Assemblées constituante ad hoc , يتم إنشاؤها لغرض محدّد بالذات ألا وهو وضع الدستور, وينتهي دورها وتزول من الوجود بمجرد انتهاء عملها وإنجاز المهمة الموكلة إليها, ومثالها مؤتمر فيلادلفيا la convention de Philadelphie الذي تولى وضع الدستور الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1787.
ولاشك أن هذا النوع من الجمعيات التأسيسية له فوائدٌ تُحْمَد, فمن ناحية أولى يتيح هذا التخصص للجمعية التأسيسية فرصة التركيز في عملها, مما يوفّر لمشروع الدستور الذي تقوم بإعداده ما يستحقه من تأمّلٍ, وما يحتاجه من بحثٍ ودراسة, كما أنَّ اقتصار عمل الجمعية التأسيسية على وضع الدستور يجنبنا مخاطر الاستبداد الذي ينجم عن تركيز السلطات la concentration des pouvoirs بيد أعضاء الجمعية, وتركهم يفعلون ما يشاؤون تحت شعار كونهم نواباً عن الأمة.


الجمعيات التأسيسية على النمط الفرنسي
الجمعيات التأسيسية على النمط الفرنسي L'assemblées constituante de type français، وهي تلك الجمعيات التي لا ينحصر عملها في مجرد وضع الدستور, بل يكون لها وظيفة مضاعفة, حيث تتولى من ناحية أولى مهمة وضع دستور البلاد, وتقوم من ناحية أخرى بمباشرة اختصاصات السلطة التشريعية من سن القوانين ومراقبة عمل الحكومة .
ونقابل مثل هذا النوع من الجمعيات ـ بصورة أساسية ـ في أعقاب قيام الحركات الثورية,حيث يسند للجمعية التأسيسية ـ بسبب التغيير الجذري الشامل الذي تحدثه الثورة في بنية المجتمع ـ ليس فقط وضع الدستور للبلاد, وإنما أيضاً مباشرة اختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية ريثما يتم تشكيل السلطات المختلفة في الدولة بعد وضع الدستور الجديد, ولذا توصف مثل هذه الجمعيات بأنها ﴿جمعيات تأسيسية عامة ﴾, وهو الأسلوب التقليدي المتبع في فرنسا.
وجدير بالذكر أن هذا النوع من الجمعيات التأسيسية التي تمارس وظيفة مزدوجة, له مضارٌ لا تُحمد عقباه, فمن ناحية أولى, يمكن أن يشتّت الدور الإضافي الذي تنهض به الجمعية التأسيسية جهودها ويؤخّر بالتالي انجازها لعملها الأساسي المتمثل في وضع الدستور وإقراره, ومن ناحية أخرى فإن تركيز السلطات التشريعية والتأسيسية بين أيدي نفس الأشخاص قد يؤدي إلى ديكتاتورية الجمعية la dictature d'une assemblée.


وهذه الحقيقة غير خافيةٍ على أحد, فطبيعة النفس البشرية أثبتت عبر القرون, ومن خلال التجارب المستمرة, أن الاستبداد قرين الاستئثار بالسلطة, فليس أخطر على الحرية, وأقرب إلى الطغيان والاستبداد من جمع السلطات وتركيزها في يدٍ واحدة, ولو كانت هذه اليد هي قبضة الشعب نفسه, أو مجلس منبثق عنه. وقد أثبت التاريخ جديَّة هذه المخاوف, وحسبنا هنا أن نشير إلى تلك الجمعية التأسيسية التي انتخبت في فرنسا في عصر الثورة وعرفت باسم شهير La Convention Nationale, وقد جمعت في قبضة يدها فضلاً عن السلطة التأسيسية ( سلطة وضع الدستور ) السلطتين التشريعية والتنفيذية, وقد اتخذت من الإجراءات الاستبدادية ما لا يُعرف له مثيل في تاريخ الملوك والقياصرة المستبدين, وكذلك كان شأن الجمعية التأسيسية التي انتخبت في فرنسا عام 1848 إذ كانت بيدها أيضاً سلطة دكتاتورية, من أجل ذلك كان بعض أساتذة الفقه الدستوري الفرنسي يحاربون فكرة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور الجديد ( وهو دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة لعام 1946 ) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.


تقدير أسلوب الجمعية التأسيسية
أن هذا الأسلوب على الرغم من أنه يعدّ تطبيقاً سليماً للديمقراطية النيابية, إلا أنه يؤخذ عليه أنه يؤدي إلى تحجيم دور الشعب وحصره في إطارٍ ضيق يقتصر على المساهمة السلبية التي لا تتجاوز اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية دون أن يتدخل الشعب في تحديد اتجاهات الجمعية أو التأثير بالإيجاب في مضمون الدستور الذي يتحدد مصيره بالكامل من قبل أعضاء الجمعية النيابية المنتخبة .
ولا يقلّل من هذه المخاوف أن انتخاب الشعب لأعضاء الجمعية إنما يتم على أساس اتجاهاتهم المعلنة بالنسبة للمبادئ التي تحكم التنظيم الدستوري, لأن هذه الاتجاهات فضلاً عن كونها التزاماً أدبياً واهياً, فإنها تنصب على العموميات دون النظر إلى التفصيلات؛ وهو ما يؤكّد أن الدستور يتم وضعه بعيداً عن رقابة الشعب الذي يعطي الجمعية تفويضاً على بياض . ومما يزيد الأمر خطورةً, أن انتخاب الجمعية التأسيسية خاصةً في الدول الحزبية سوف تحكمه ذات الأسس التي تسيطر على الانتخابات التشريعية, مما قد يؤدي إلى تحويل الجمعية التأسيسية من هيئة يُفترض فيها الحياد وغَلَبة الطابع الفني إلى جماعةٍ تسيطر عليها النزعات السياسية, ويحكم سير العمل فيها الاتفاقات الحزبية التي تستهدف تحقيق مصالحٍ وأهدافٍ ذات طابعٍ حزبيّ ضيّق.


وتجدر الإشارة إلى أن الفقه الدستوري يتطلب توافر شروط معينة لعدّ الدستور الذي تضعه الجمعية التأسيسية ديمقراطياً, وهذه الشروط تتمثل في الآتي:
1 ــ يجب أن تكون الجمعية التأسيسية منتخبة بواسطة الشعب, لا أن يُعيَّن أعضاؤها من قبل الحكومة أو قادة الانقلاب .
2 ــ يجب أن يكون الانتخاب ديمقراطياً, وبمعنى آخر يجب أن يتم انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية وفقاً لمبادئ الاقتراع العام, الحُرّ, المتساوي, السري, المباشر ( أي على درجة واحدة ), كما يجب أن يتم فرز وإحصاء الأصوات الانتخابية المدلى بها في صناديق الاقتراع تحت إشراف ورقابة القضاء. ولهذا قيل بأن سلامة هذا الأسلوب ( أسلوب الجمعية التأسيسية ) تتوقف على صحة العملية الانتخابية ودقة التمثيل النيابي .
3ـ ولكي يكون الانتخاب حراً بالمعنى الصحيح, فإنه من الضروري أن يكون هنالك خيارات متعددة أمام الناخبين . وهذا ما توفّره الأحزاب السياسية les partis politiques في الدول الديمقراطية. وهو ما يعني إتاحة الفرصة أمام جميع الأحزاب السياسية القائمة ـ دون استثناء ـ للمشاركة في عملية انتخاب الجمعية التأسيسية .
4 ـ يجب أن تكون الحريات العامةles libertés publiques في الدولة مصانة ومكفولة, وإلاَّ فإنَّ اشتراك الأحزاب السياسية المختلفة في الانتخابات سيكون بلا معنى, لأن هذه الانتخابات ستجرى في جوٍ من القمع والكَبْت للحريات .
5ـ وبالإضافة إلى ما سبق, ينبغي على الجمعية التأسيسية ـ التي تتوافر فيها الشروط التي ذكرناها آنفاً ـ أن تمارس عملها بحريّةٍ وحيادٍ تامّين, أي أن تكون بمنأى عن كل الضغوطات السياسية les pressions politiques التي قد تؤثر في عملها .

أسلوب الاستفتاء التأسيسي

إنَّ الديمقراطية في معناها الحرفي تعني "حكم أو سلطة الشعب"؛ ولهذا فقد عرَّفها البعض بأنها « حكم الشعب بالشعب وللشعب », وهو ما يعني أن الشعب في الحكومات الديمقراطية هو صاحب السيادة ومصدر كل السلطات فيها, وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن يباشر الشعب بنفسه وبشكلٍ مباشرٍ جميع مظاهر السيادة.
ولمَّا كانت هنالك صعوبات تقنية أو فنية des difficultés techniques تحول دون تطبيق نظام « الديمقراطية المباشرة » في دول عالمنا المعاصر, فكان لا بد من الالتجاء إلى نظام آخر بديل, فكان نظام « الديمقراطية النيابية », الذي من مقتضاه أن يقوم الشعب صاحب السيادة بإلقاء عبء الحكم ومباشرة السلطة على هيئات يختارها, ويترك لها مباشرة تلك السلطة, فالشعب هنا لا يُقرّر بنفسه, وإنما يقتصر دوره على اختيار نوابه الذين سيقرّرون باسمه ونيابةً عنه . وقد كان أسلوب الجمعية التأسيسية ــ السابق دراسته ــ تطبيقاً حقيقياً للنظام النيابي « الديمقراطية النيابية», غير أن هذا النظام الأخير تعرَّض لانتقاداتٍ كثيرةٍ, نظراً لأنه يبتعد كثيراً عن ﴿ المَثَل الأعلى للديمقراطية التي تفترض ممارسة الشعب لسيادته بنفسه ﴾ « l'idée démocratique exige que le peuple exerce lui-même sa souveraineté ».


ولذلك تلجأ بعض الأنظمة الديمقراطية الحديثة إلى إشراك الشعب إشراكاً فعلياً في ممارسة السلطة . وتحقيقاً لهذه الغاية, تقوم هذه الأنظمة أساساً على الأخذ بالنظام النيابي (الديمقراطية النيابية) مع الرجوع إلى الشعب في بعض الأمور المهمة كي يمارسها بنفسه مباشرة, فتُبقي على الهيئات النيابية المنتخبة من الشعب والتي تمارس السلطة باسم الشعب, مع الأخذ ببعض مظاهر (الديمقراطية المباشرة) التي تجعل السلطة في يد الشعب يمارسها بنفسه؛ وهذا هو النظام الوسط الذي يجمع بين الديمقراطية النيابية والديمقراطية المباشرة, ولذلك يسمى بنظام « الديمقراطية شبه المباشرة » .
وحاصل القول, أنه نتيجةَ استحالة تطبيق الديمقراطية المباشرة, وبسبب العيوب التي شابت الديمقراطية النيابية, برزت فكرة « الديمقراطية شبه المباشرة » التي تُشرك الشعب في ممارسة السلطة بجوار الهيئة النيابية المنتخبة, وتجعله رقيباً عليها, وعلى السلطة التنفيذية عن طريق مظاهر معينة.
ومن أهم مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة « الاستفتاء الشعبي », الذي يتنوع من حيث الموضوع المعروض على التصويت الشعبي إلى ثلاثة أنواع هي: ( الاستفتاء الدستوريConstitutional Referendum, والاستفتاء التشريعي Legislative Referendum, والاستفتاء السياسي Political Referendum ).
ويتضح من التعريف السابق أن الاستفتاء الدستوري ينقسم إلى قسمين : « استفتاء تأسيسي » يتعلق بوضع دستور جديد للدولة, و « استفتاء تعديلي » يتصل بتعديل الدستور القائم, سواء بالتغيير في بعض مواده أو بالإضافة أو الحذف . ولمَّا كان النوع الثاني (الاستفتاء التعديلي) يتصل بموضوع تعديل الدساتير, فإننا سنقصر حديثنا هنا على (الاستفتاء التأسيسي), وذلك من خلال بيان مضمون هذا الأسلوب, وانتشاره, وتقديره كواحد من الأساليب الديمقراطية المتبعة في وضع الدساتير .


مضمون أسلوب الاستفتاء التأسيسي
يجمع الفقه الدستوري على أن الاستفتاء التأسيسي Le referendum constituent يُعدّ من أكثــــر الأساليب الديمقراطيــة التي تتبعها الدول المعــاصرة في وضع دساتيرهــا وقواعد نظام الحكم فيها؛ وتعود أصول فكـرة الاستفتاء التــأسيسي إلى « مبدأ السيادة الشعبية » Le principe de la souveraineté populaire .
وتعتبر فكرة الاستفتاء التأسيسي من أهـم مظـاهر أو تطبيقات نظام « الديمقـراطية شبه المباشرة ». وقد ثبت من خلال التجربة أن أسلوب الاستفتاء التأسيسي قد استُخدم بهدف أخذ رأي الشعب إما في مسألة جوهرية يتوقف عليها وضع الدستور, كما حدث في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها بالنسبة للاستفتاء العام الذي جرى في آذار سنة 1979 بخصوص تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية, أو في إقرار مشروع دستور تضعه جمعية تأسيسية منتخبة (كما حدث بالنسبة لدستور الجمهورية الفرنسية الرابعة لعام 1946)أو لجنة حكومية (كما حدث بالنسبة لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لعام 1958).


ويمكن تعريف الاستفتاء التأسيسي بأنه ﴿ ذاك الاستفتاء الذي ينصبّ على مشروع دستور معين لحكم الدولة, فيأخذ المشروع صفته القانونية ويصدر إذا وافق عليه الشعب, وإذا رفضه زال ما كان له من اعتبار بصرف النظر عمَّن قام بوضعه ولو تعلَّق الأمر بجمعية تأسيسية منتخبة من الشعب ﴾.
وعلى ذلك, يمكن القول بأن أسلوب الاستفتاء التأسيسي يمرّ بمرحلتين :المرحلة الأولى, هي مرحلة إعداد مشروع الدستور, ويتولى القيام بهذه المهمة إما جمعية تأسيسية ينتخبها الشعب أو لجنة فنية تعيّن الحكومة أعضاءها. ويعدّ ما تضعه هذه الجمعية أو تلك اللجنة من قواعد نظام الحكم في الدولة مجرد مشروع للدستور يفتقر إلى صفَتَيْ النهائية والنفاذ. والمرحلة الثانية, هي مرحلة سريان ونفاذ الدستور , وتبدأ هذه المرحلة بمجرد اقتران مشروع الدستور بموافقة الشعب بعد عرضه عليه في استفتاء عام .
وبذلك يكمن الفرق بين أسلوب الجمعية التأسيسية وأسلوب الاستفتاء الدستوري التأسيسي : فإذا كان الشعب بموجب الأسلوب الأول لا يُقرّر بنفسه دستوره, وإنما يقتصر دوره على اختيار نوابه الذين سيقرّرون باسمه ونيابةً عنه دستور البلاد؛ فإن الشعب بموجب الأسلوب الثاني هو الذي يقرر دستوره بنفسه من خلال الموافقة أو عدم الموافقة على مشروع الدستور المعروض عليه؛ ويترتب على ذلك نتيجة مهمة مفادها أن الدستور ــ الذي يوضع وفقاً لأسلوب الجمعية التأسيسية ــ يستكمل وجوده قانوناً ويصبح نافذاً بمجرد إقراره في صيغته النهائية من قبل الهيئة المنتخبة الممثِّلة للأمة, ودون أن يتوقف ذلك على إقرارٍ من أي جهةٍ كانت, في حين أن الدستور ــ الذي يوضع وفقاً لأسلوب الاستفتاء التأسيسي ــ لا يستكمل وجوده قانوناً ولا يصبح نافذاً إلا إذا أقرَّه الشعب في استفتاءٍ عام .


انتشار أسلوب الاستفتاء التأسيسي
بدأت فكرة الاستفتاء التأسيسي بالظهور مع حركة تدوين الدساتير في بعض المستعمرات الأمريكية الشمالية عقب استقلالها عن بريطانيا العظمى في عام 1776, ولم يكن يُنظر آنذاك إلى الاستفتاء الشعبي على أنه مجرد وسيلة فنية ممكنة لوضع الدساتير, وإنما كتعبير مباشر عن ممارسة فكرة السيادة الشعبية. ففي عام 1778, قام المجلس التشريعي المحلي Provincial Assembly لولاية ماساشوستس State of Massachusetts ــ تحت ضغط المزارعين والبلدات الواقعة غرب الولاية ــ بإعداد دستورٍ عرضه على التصويت الشعبي لإبداء الرأي فيه, فرفضه الشعب, لأن المجلس التشريعي هو من قام بإعداد وثيقة الدستور, وكان من المفترض أن يقوم بهذه المهمة مؤتمر خاص Special Convention يُنتخب خصيصاً لهذا الغرض, وليس المجلس التشريعي, ولهذا سُحِبَ مشروع الدستور, وقام الشعب بانتخاب مؤتمر دستوري Constitutional Convention تولى وضع دستور جديد, وافق عليه الشعب في استفتاء عام جرى في حزيران 1780.
وتأكَّد ظهور الاستفتاء التأسيسي كوسيلة من الوسائل الديمقراطية لوضع الدساتير بصورة واضحة في الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية المعروفة باسم La Convention Nationale في أولى جلساتها بتاريخ 21 أيلول عام 1792, وقرَّرت فيه أن « لا وجود لأي دستور إلا ذلك الذي يقبله الشعب », وتنفيذاً لهذا الإعلان خضع للاستفتاء الشعبي دستور 24 حزيران لسنة 1793, ودستور رقم 5 فريكْتدورللسنة الثالثة لإعلان الجمهورية, ودستور 22 فريمير للسنة الثامنة, ثم تحول الاستفتاء بعد ذلك من حيث الواقع ــ خلال الإمبراطوريتَيْن الأولى والثانية, وفي ظل دستور سنة 1870 ــ إلى استفتاء شخصي أو استرآس Plébiscite يُطلب فيه من الشعب التعبير عن ثقته في شخص رئيس الدولة وفي النظام السياسي الذي يقترحه . ثم عاد الاستفتاء إلى الظهور في صورته الحقيقية في دستورَيْ الجمهوريَّتَيْن الرابعة لعام 1946 والخامسة لعام 1958.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 والاستفتاء التأسيسي آخذ في الانتشار في بلاد العالم المتقدِّم والمتخلِّف على السَّواء, خاصة تلك التي نشأت من تفكّك إمبراطوريات ما قبل هذه الحرب, فقد قام على أساسه دستور جمهورية فيمار Weimar Republic الألماني لسنة 1919, ودستور اسبانيا لسنة 1920, ودستور النمسا لسنة 1920, ودستور ايرلندا الحرة لسنة 1937, وكافة الدساتير الجمهوريَّة في مصر وآخرها الدستور الحالي لسنة 1971 الذي نص في المادة رقم/193/ منه على أن : « يُعمل بهذا الدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء ».
ومن الدساتير الحديثة التي صدرت وفقاً لأسلوب الاستفتاء الدستوري, دستور الاتحاد الروسي (روسيا الاتحادية) الذي وافق عليه الشعب في استفتاء عام جرى في كانون الأول سنة 1993, وقد جاء في القِسم الثاني من هذا الدستور ( بعنوان الأحكام الختامية والانتقالية, أن « دستور الاتحاد الروسي سيدخل حيز التنفيذ لحظة نشره بصورة رسمية عقب إعلان نتائج الاستفتاء العام, كما أن اليوم الذي سيجري فيه الاستفتاء في عموم البلاد ـ وهو 12 كانون الأول 1993 ـ سيكون هو تاريخ تبني دستور الاتحاد الروسي ».


وكذلك أيضاً دستور الاتحاد السويسري لسنة 1999 ( وهو الذي حلَّ محل الدستور الاتحادي الصادر في 29/5/1874 ), الذي أقرَّ مسودته البرلمان الاتحادي في 18 كانون الأول عام 1998, ثم وافق عليه الشعب السويسري ( بأغلبية 59% "نعم" مقابل 41% "لا" ) في استفتاء عام جرى بتاريخ 18 نيسان سنة 1999, ودخل حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني سنة 2000 ( )؛ كما أن دستور جمهورية العراق الدائم لسنة 2005 صدر وفقاً لهذا الأسلوب, حيث نص في المادة /143/ منه على أن « يُعدّ هذا الدستور نافذاً, بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام, ونشره في الجريدة الرسمية, وتشكيل الحكومة بموجبه » .
أما بالنسبة لطريقة وضع دستورنا الحالي الصادر في سنة 1973, فيمكن القول بأنه وضع بطريقةٍ ديمقراطيةٍ, فبناءً على طلبٍ من رئيس الجمهورية الراحل حافظ الأسد " رحمه الله "، شُكِّلت في 26 آذار عام 1972 لجنة برئاسة فهمي اليوسفي رئيس مجلس الشعب مهمتها وضع مشروع دستور دائم للبلاد . وخلصت هذه اللجنة بعد دراسةٍ استغرقت مدة عامٍ كاملٍ تقريباً، إلى وضع مشروع دستور الجمهورية العربية السورية، ثم عرض على مجلس الشعب, فأقرَّه بعد مناقشاتٍ طويلة،في جلسته المنعقدة بتاريخ 30/1/1973 وتاريخ 20/2/1973 .
وبتاريخ 3/3/1973 أصدر رئيس الجمهورية المرسوم رقم/199/ المتضمن دعوة المواطنين للاستفتاء على الدستور المذكور بتاريخ 12/3/1973 وفقاً لأحكام المرسوم التشريعي رقم/8/ تاريخ 1/3/1973 الناظم لأحكام الاستفتاء, وبعد أن اقترن الدستور بتأييد أغلبية ساحقة من هيئة الناخبين ــ وفقاً لنتيجة الاستفتاء المعلنة بقرار وزير الداخلية رقم 166/ ن تاريخ 13/3/1973 ــ أصدر رئيس الجمهورية المرسوم رقم /208/ القاضي بنشر الدستور في الجريدة الرسمية واعتباره نافذاً من تاريخ 13/3/1973.


تقدير أسلوب الاستفتاء التأسيسي
لا شك أن الاستفتاء الدستوري التأسيسي يعد أكثر الوسائل ديمقراطيةً في وضع الدساتير, فهو أصدق الأساليب تعبيراً عن الرأي الحقيقي للشعب, وبالتالي يفضل على أسلوب الجمعية التأسيسية, لأن النواب في هذه الحالة قد يحلون إرادتهم محل إرادة الجماهير الشعبية, وقد لا يحسنون التعبير عن الإرادة الحقيقية للشعب .
غير أننا نعتقد أن الاستفتاء الذي يرى فيه بعض الساسة ورجال الفقه الدستوري ــ إنْ صدقاً أو نفاقاً ــ أنه قمَّّة الديمقراطية, هو في حقيقة الأمر سلاح خطير ذو حدين؛ ففي الدول المتقدمة التي تمارَس فيها الديمقراطية ممارسةً جادّة, وتتعدد فيها الأحزاب السياسية ذات الجذور الشعبية, وتتمتع فيها الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى بالقدر الكافي من الحرية, يعتبر الرجوع إلى الشعب لاستفتائه في أمر من الأمور تأكيداً لمفهوم الديمقراطية وإعمالاً لها . أما في الدول المتخلفة, أو التي مازالت تفتقد الوعي السياسي لسببٍ أو لآخر كانتشار الأمية فيها, أو لعدم تمرُّسها على الحكم الديمقراطي, أو لحرمانها منه طويلاً, وحيث تحتكر الدولة فيها الصحافة وسائر وسائل الإعلام وتملك توجيهها كيفما تشاء, فإن الالتجاء إلى الاستفتاء في مثل هذه الدول كثيراً ما يكون هو السبيل إلى مزيد من الحكم المطلق أو إلى مزيد من الانتقاص من الحريات العامة باسم الديمقراطية والإرادة الشعبية المزعومة!!


والواقع أن غرابة نتائج الاستفتاءات التي تجري في دول العالم الثالث عموماً, تثير التساؤل عن جدوى هذه الاستفتاءات, وتدعو إلى الدهشة إذ كانت تربو في معظم الأحيان على نسبة 95 % ؛ ومن هنا, فإننا نعتقد أن وسيلة الاستفتاء الشعبي في هذه الدول لا تعتبر وسيلة معبِّرة بصدق عن رأي الشعب؛ فتاريخ الاستفتاء في هذه الدول يؤكّد أنه كان يطبَّق كمظهرٍ بلا جوهر لإضفاء نوعٍ من الشرعية الصوريَّة على موضوعه. ولهذا يطلق بعض الفقهاء الفرنسيين على هذا النوع من الاستفتاءات اصطلاحLe Plébiscite Constituent أي « الاستفتاء السياسي » تمييزاً له عن « الاستفتاء التأسيسي » Le Referendum Constituent؛ فالاستفتاء السياسي إذن يستخدم لاستفتاء الشعب في مسألة تتصل بوضع الدستور بصورة تجعل من المحتَّم على الشعب أن يُقرّ ما يُسْتَفتى فيه, فالسيادة الشعبية هنا لا تلعب دوراً إيجابياً, بل سلبياً, وهي لا تقرّر شيئاً, بل تقبل ما يُعرض عليها في ظروفٍ كثيراً ما يتعذَّر عليها فيها أن تتصرف على نحوٍ آخر, ولهذا يطلق عليه البعض اسم « التصديق الشعبي ».
وعلى ذلك, فإن المعيار الحاسم للقول بأن دستوراً ما قد وضِعَ بأسلوب الاستفتاء الدستوري أو التأسيسي وليس بأسلوب التصديق الشعبي أو الاستفتاء السياسي، لا يعتمد على التسمية التي تعطيها له السلطة الحاكمة, إذ قد تعمد هذه السلطة إلى تجنّب استخدام اصطلاح الاستفتاء السياسي رغم انطباقه على مضمون الاستفتاء المراد اللجوء إليه, كما أنه لا يعتمد أيضاً على الجهة أو الهيئة التي تولت وضع مشروع الدستور المطروح على التصويت الشعبي ( هل هي جمعية تأسيسية منتخبة، أو لجنة حكومية، أو حتى الحاكم نفسه ), وإنما يعتمد بشكل أساسي على الظروف الواقعية التي جرت فيها عملية الاستفتاء, فنقول إن هناك استفتاء دستوري أو تأسيسي إذا كانت إرادة الشعب حرة في الموافقة أو عدم الموافقة على مشروع الدستور المعروض عليه، ونكون أمام استفتاء سياسي أو تصديق شعبي إذا كانت إرادة الشعب مسلوبةً أو غير حرةٍ، بحيث يوضع الدستور في ظروف تُحتّم على الشعب الموافقة شبه التلقائية .


ولهذا , فإن الفقه الدستوري في غالبيته متفقٌ على أن الاستفتاء حتى يكون ــ بحقّ ــ الأسلوب الديمقراطي الأمثل لوضع الدساتير, فإنه من الضروري أن تتوافر له المقومات أو الضمانات التي تحقق له هذه الأفضلية على غيره من الأساليب المتبعة في وضع وإنشاء الدساتير, وهذه المقومات أو تلك الضمانات تتمثل في الآتي:
1ـ أن يجري الاستفتاء في مجتمع سياسي يكون فيه الأفراد على درجة مناسبة من الوعي والنضج السياسي تسمح لهم بتفهم شؤونهم العامة, والاشتراك الجدي في مباشرة السلطة التأسيسية, والمساهمة الفعَّالة والإيجابية في وضع قواعد نظام الحكم في الدولة. فليس من المقبول استفتاء شعب أُمّي لا يعرف حتى القراءة والكتابة وهي مفاتيح العلم المعتادة بين الناس, إذ إن الاستفتاء هو طلب الفتوى, ولا يتصوَّر أن تُطلَب الفتوى من جاهلٍ لا علم له.
2ـ يجب أن يكون الاستفتاء مسبوقاً بمناقشات كافية لكل وجهات النظر من مختلف فئات الشعب وقطاعاته, وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن لا يُطلب من الشعب المشاركة في عملية الاستفتاء إلا بعد انقضاء فترة كافية على إعلان مشروع الدستور المقترح على الرأي العام بواسطة أجهزة الإعلام المختلفة (كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والانترنت ... الخ), حتى تتاح الفرصة الكافية أمام المواطنين للإطلاع على مشروع الدستور المقترح للوقوف على ما ينطوي عليه من المزايا والعيوب .
3ـ يجب أن يُجرى الاستفتاء في جوً من الديمقراطية السليمة, بحيث يتمتع فيه المواطنون بالقدر الكافي من الحريات العامة, خاصةً حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وحرية الاجتماع . وهذا يستلزم بطبيعة الحال إتاحة الفرصة أمام الجميع أفراداً وأحزاباً من الموالاة أو المعارضة للتعبير عن آرائهم بحرية تامة, بعيداً عن أجواء الخوف والقمع . ولذلك لا يجوز استبعاد الاتجاهات المعارضة أو اضطهادها أو حرمانها من حرية التعبير عن آرائها.
ولكي يستطيع الفرد أن يُكَوِّن رأياً مستنيراً يتعيَّن أن تكون وسائل الإعلام حرةً ومستقلة ومحايدة, حتى يستطيع أن يزن الأمور بناءً على حقائق, أمَّا وضع رقابة على وسائل الإعلام أو جعلها تكتسي طابع الإرشاد والتوجيه والإقناع برأي واحد دون سواه, فمن شأنه أن يحول دون الارتقاء بمستوى تفكير المواطنين, وتنمية الوعي السياسي لديهم, وزيادة قدرتهم على تحمّل المسؤولية, والاهتمام بالشؤون العامة .
4ـ وأخيراً, يجب لضمان نزاهة عملية الاستفتاء ذاتها, من حيث استعمال وسائل الدعاية والإعلام, وحرية وسرية التصويت, وأمانة فرز وحساب الأصوات المعبَّر عنها في الاستفتاء لمعرفة نتيجته النهائية, أن يجري الاستفتاء تحت إشراف ورقابة الهيئات القضائية في البلاد, أو على الأقل تحت إشراف جهات أو هيئات أخرى ــ محلية أو غير محلية ـ تكون مستقلة ومحايدة . فمِمَّا لا شك فيه أن تزييف نتائج الاستفتاء يُفقده كلَّ قيمةٍ حقيقية .
القانون الدستوري, دمشق, طبعة 2009, تأليف الدكتور حسن مصطفى البحري أستاذ القانون الدستوري بجامعة دمشق/كلية الحقوق.


أنواع الدساتير
تقسم الدساتير من حيث تدوينها أو عدم تدوينها إلى دساتير مدونة و غير مدونة، ومن حيث طريقة تعديلها إلى دساتير مرنة و دساتير جامدة.
تختلف الدساتير وتتعدد أنواعها باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى تلك المجموعة التي تبين نظام الحكم ومظاهره في الدولة.
على أن أهم التقسيمات التي ينتهجها الفقه الدستوري في شرح أنواع الدساتير تنطلق من زاويتين، تتعلق الأولى بالكتابة وتُميز بين دساتير مكتوبة وعرفية، والثانية تتعلق بالثبات أو التعديل وتميز بين دساتير جامدة ومرنة.


الدساتير العرفية
الدساتير المكتوبة والدساتير العرفية: كانت الأنظمة الدستورية قديماً بكليتها عرفية، ثم أخذت الشعوب تنتزع السلطة من حكامها انتزاعاً، وتضطرهم إلى إصدار الوثائق القانونية المكتوبة التي تضمن حرية الشعب وتكفل مشاركته في السلطة، وكانت هذه الوثائق مقصورة على ما يواجه النزاع بين الحاكم والمحكومين.
والدساتير العرفية constitution coutumiéres: هي الأحكام المتعلقة بتنظيم السلطات العامة وحريات الأفراد مما لم ينص عليه في قانون مكتوب، وإنما في التقاليد والأعراف والسوابق.


الدساتير المكتوبة
الدساتير المكتوبة constitution ecrites: هي الدساتير المدونة والموضوعة من قبل سلطة تأسيسية مخصوصة لذلك، سواء صدرت بوثيقة واحدة، أو عدة وثائق.


الدساتير المدونة وغير المدونة
يعتبر الدستور مدونا إذا كانت غالبية قواعده مكتوبة في وثيقة أو عدة وثائق رسمية صدرت من المشرع الدستوري.


الدساتير غير المدونة
وهي عبارة عن قواعد عرفية استمر العمل بها لسنوات طويلة حتى أصبحت بمثابة القانون الملزم و تسمى أحيانا الدساتير العرفية، نظرا لأن العرف يعتبر المصدر الرئيسي لقواعدها ، ويعتبر الدستور الإنجليزي المثال الأبرز على الدساتير غير المدونة لأنه يأخذ غالبية أحكامه من العرف، وبعضها من القضاء ، وان وجدت بعض الأحكام الدستورية المكتوبة مثل قانون سنة 1958 الذي سمح للنساء بأن يكن عضوات في مجلس اللوردات.

الدساتير المرنة
الدساتير المرنة: هي التي يمكن تعديلها بنفس الإجراءات التي يتم بها تعديل القوانين العاديةأي بواسطة السلطة التشريعية وأبرز مثال لها هو الدستور الإنجليزي.


الدساتير الجامدة
هي التي يستلزم تعديلها إجراءات أشد من تلك التي تم بها تعديل القوانين العادية .

مقارنة بين أنواع الدساتير

وقد أحاطت بكلا النوعين اعتبارات ومزايا متباينة:


فالفقيه الألماني أيسمن Aiesman، يحدد أبرز الاعتبارات التي تدعو إلى كون الدستور مكتوباً بما يأتي:
ـ القانون المكتوب أفضل دائماً من العرف، ولذلك فإن الأحكام الدستورية، وهي أخطر القواعد الحقوقية يجب أن تكون مكتوبة.
ـ إن الدساتير أملتها السيادة القومية فهي في الواقع تجديد للعقد الاجتماعي، أو تعديل لبنوده، وينبغي أن تعرف هذه التعديلات بوضوح عبر الكتابة.
ـ إن الدساتير المكتوبة المنسجمة والواضحة هي أفضل طريقة لتعميم التربية السياسية في البلاد حيث يعرف المواطنون حقوقهم وواجباتهم.
ـ إن الأعراف تكون في بدء نشأتها مضطربة غامضة، أما الكتابة فتمتاز بالصراحة والوضوح، ويضطر الحكام بالتالي للتقيد بالنصوص الدستورية المكتوبة، أما الأعراف فيسهل التهرب منها والتحايل عليها.


ويجدر بالذكر هنا أن أول دستور مكتوب في العالم كان دستور فرنسة عقب ثورتها الكبرى وقد صدر في 3 أيلول 1791م.
أما دُعاة الدساتير العرفية فقد حددوا مزاياها بأنها ليست من صنع رجل أو مجلس، ولكنها من صنع التاريخ والوسط السياسي، فهي تنشأ معه، وتنمو مُتّبعةً سُنّة التدرج والارتقاء، كما أن هذه المرونة تستتبع الاستقرار، لأن التطور الهادئ الذي يحققه العرف من شأنه أن يكفل للمؤسسات السياسية استقراراً لا تستطيع الكتابة كفالته.
يبقى القول إن التمييز بين دساتير مكتوبة ودساتير غير مكتوبة، تقسيم نسبي فما من دستور إلا ويشمل أحكاماً مكتوبة وأخرى غير مكتوبة، فالدستور الإنكليزي نموذج الدستور العرفي في العالم، يشمل وثائق رسمية هامة، اعتبرت جزءاً لا يتجزأ منه، كالعهد الأعظم Magnacharta لعام 1215م، ووثيقة الحقوق Bill of rights لعام 1698م.
2- الدساتير الجامدة والدساتير المرنة: ومناط هذا التمييز ما يعرف بالسمو الشكلي للدستور، الذي يكرس تفوق الدستور من الناحية الشكلية، ويجسد قدسيته وقيمته القانونية بإخضاع إصداره وتعديله لبعض القيود الشكلية تجعل المساس به أمراً عسيراً وكسبه بالتالي استقراراً خاصاً.
أما الدساتير المرنة constitution souples فهي التي يخضع تعديلها إلى ذات الإجراءات التي يجب اتباعها لتعديل القوانين العادية، فهذه الدساتير تستطيع الهيئة التشريعية بيسر وسهولة تعديلها أو إبطالها، وخير مثال لها الدستور الإنكليزي الذي يقوم على ضروب من الأعراف والسوابق والذي كثيراً ما يطالبه البرلمان بالتعديل، حتى قيل إن البرلمان الإنكليزي قادر على فعل كل شيء إلا أن يقلب الرجل امرأة.
لكن هذا لا يعني أن ثمة تلازماً بين الدستور العرفي، ومرونة الدستور أو جموده فالدساتير المرنة يمكن أن تكون مكتوبة ويمكن أن تكون عرفية.
كما أنه من الدساتير المرنة، الدساتير المكتوبة التي سكتت عن أسلوب تعديلها فعدم النص على آلية التعديل يفيد بإمكان تحقيقه كالقوانين العادية.
أما الدساتير الصلبة أو الجامدة constitution rigides وهي الطاغية في دول العالم فهي تلك التي لا يمكن تعديلها أو تنقيحها إلا باتباع إجراءات خاصة أكثر شدة وتعقيد من تعديل القوانين العادية.


ولابد من الإشارة إلى أن صلابة الدستور لا تعني خلوده، فالغرض الأساسي من هذه الصلابة، كفالة الاستمرار والاستقرار للأحكام الدستورية، والنأيُ بها عن الأهواء السياسية والحزبية في المجالس التشريعية، بالنظر لخطورتها وعُلوها على سواها من قواعد قانونية، فالدستور من الناحية الحقوقية، قانون، والقانون بطبيعته صك دائم التطور، ومن الناحية السياسية يحدد تنظيم الدولة في ظروف سياسية واجتماعية معينة ومتى تعدلت هذه الظروف وجب تعديل أحكامه.
وقد جاء في دستور فرنسة الأول لعام 1791م: «أن الأمة لها الحق الذي لا يَبْلى في تغيير دستورها، لكن وفق الشكل الذي نص عليه الدستور».
ومع تقرير مبدأ تعديل الدساتير الصلبة بإجماع الفقه، بدر الخلاف حول السلطة المخولة هذا التعديل، فقد أنكر بعضهم وأشهرهم ڤاتيل Vattelعلى أعضاء الهيئة التشريعية أن يعدلوا الدساتير، لأن المشترعون الأعضاء، يستمدون سلطتهم من الدستور ولا يستطيعون تعديله إلا بتهديم أساس سلطتهم، وقال آخرون: إن التعديل صلاحية معقودة للسلطة التي يعينها الدستور، وثم من قال بأن الأمة تستطيع تعديل الدستور متى أرادت لأنها غير مقيدة بشيء وتستطيع أن تتجاوز الأشكال التي يعينها الدستور، وبما أن المجالس التشريعية تقوم مقام الأمة وتمثلها، فلها حق تعديل الدستور.
وقد ميز الفقه الدستوري في الدساتير الصلبة بين نصوص يُحظر تعديلها إطلاقاً، ونصوص تقبله بشروط خاصة.


أساليب وضع الدستور

يرتبط ذلك إلى حد كبير بظروف تاريخية من ناحية، وبمدى تبني أسس الديمقراطية[ر] واستقرارها من ناحية أخرى، كما أن هذه الظروف التاريخية والأسس الديمقراطية مرتبطة بفكرة السيادة في الدولة وتحديد صاحبها الحقيقي.

وتقسم أساليب وضع الدستور إلى طائفتين:1- الأساليب غير الديمقراطية: وهي التي لا يقوم الشعب فيها بوضع الدستور إنما يقوم الحاكم بوضعه منفرداً(منحة) أو بالاشتراك مع الشعب (عقد).
أ ـ المنحة: وفيها يتنازل الحاكم عن بعض سلطاته إلى شعبه، وفي هذه الحالة يكون الدستور الناجم عن هذا التنازل وليد إرادة منفردة للحاكم، وغالباً ما يأتي هذا التنازل نتيجة ضغط شعبي واسع، ومن أمثلته دستور «موناكو» عام 1812م ودستور «مصر» لعام 1923م، والقانون الأساسي لشرق الأردن لعام 1928م.
ويتسم هذا الأسلوب بأنه نهائي فيما نجم عنه بمعنى أنه «لا يجوز سحب أو استرداد الدستور الممنوح من الحاكم لصالح الشعب أو انتقاصه، لأن التنازلات المتضمنة في المنحة قد أصبحت حقوقاً مدنية للشعب، ولا يجوز المساس بها أو الاعتداء عليها، وهي للأمة، وليست حقوقاً جديدة يتفضل بها الحاكم، وإنما إعادة لحقوق طبيعية للأمة كانت محرومة منها».
ب ـ العقد: وقد كان هذا الأسلوب خطوة إلى الأمام تجاه الديمقراطية حيث ينشأ الدستور فيه باتفاق بين الحاكم والأمة، وتظهر فيه إرادة الأمة إلى جانب إرادة الحاكم، ويتجسد هذا الأسلوب بإقدام الأمة على انتخاب جمعية تأسيسية لوضع مشروع الدستور الذي يعرض في خطوة تالية على الحاكم ليوافق عليه ويصدقه ويصبح نافذاً، أو قد تعهد الأمة إلى ممثليها في المجلس التشريعي المنتخب بإعداد مشروع الدستور ليعرض على الحاكم فيما بعد للموافقة، وقد تستفتى الأمة بطريقة مباشرة على مشروع دستور ليجري رفضه أو إقراره فإذا ما رفضه الشعب أُلغي برمته، وإذا ما لاقى القبول وجبت له مصادقة الحاكم كي ينفذ.


2- الأساليب الديمقراطية: وتشتهر بأسلوبين رئيسين:أ ـ أسلوب الجمعية التأسيسية: assemblee constituante ومضمونه أن يقوم الشعب بانتخاب هيئة خاصة تتولى وضع الدستور باسمه ونيابة عنه دون أن يتوقف ذلك على تصديق أو موافقة أحد آخر. ولا شك أن انتخاب أعضاء هذه الهيئة أو الجمعية هو العنصر الجوهري في اعتبارها تأسيسية وصالحة لوضع الدستور، هذا وينتهي عمل الجمعية بانتهاء مهمتها في صياغة الدستور وإقراره، ومن أمثلة هذا الأسلوب الدستور السوري لعام 1950م ودستور اليابان لعام 1947م والدستور الاتحاد الأمريكي عام 1787م.
ب ـ أسلوب الاستفتاء الشعبي le referendum: وفيه يباشر الشعب بنفسه سلطاته من دون مشاركة أحد، ومعناه أن يتولى الشعب وحده الموافقة أو عدمها، على مشروع دستور معين «فإذا وافق عليه يصبح نافذاً ذا قوة قانونية بغض النظر عن الجهة التي قامت بصياغته وإعداده سواء كانت هيئة تمثيلية أو لجنة فنية أو حكومية أو فرداً واحداً».
ويتميز هذا الأسلوب من أسلوب الجمعية التأسيسية وغيرها في أن للشعب الكلمة الأولى والأخيرة وبشكل مباشر في تقدير مصير مشروع الدستور الذي يُعرض عليه.
العرف الدستوري وعلاقته بالدستور

غالباً ما يكون الدستور المكتوب من عمل الفقهاء والمُنَظّرين المهتمين بالبلاغة القانونية والتوازن الشكلي، أكثر من اهتمامهم بفعالية الدستور العلمية، ولذلك تُظهر الحياة السياسية ما هو اصطناعي في الدستور، وتؤدي إلى إدخال بعض الاستعمالات والعادات التي تكمل الدستور أو تعدله، وهذا ما يدعى بالعادة أو العرف الدستوري lacoutume constitutionelle الذي يتميز من الدستور العرفي بأنه لا يقوم إلا في البلاد التي تنتهج دستوراً مكتوباً، أما الدستور العرفي فيتكون بُرمته من مجموعة أعراف وسوابق تنظم عمل السلطات العامة، وحقوق وواجبات المواطنين، فالعرف الدستوري «اصطلاح يُطلق على الأوضاع التي دَرَجت السلطات العامة على انتهاجها في مزاولة منفصلة لنشاط معين يتصل بمسألة دستورية، وينشأ من تكرار هذا السلوك على مر الزمن قاعدة غير مكتوبة يكون لها قوة القاعدة الدستورية».
تختلف الرقابة على دستورية القوانين في طبيعتها بين رقابة سياسية ورقابة قضائية:
1- الرقابة السياسية: وهي التي تتولاها هيئة سياسية بمعنى الكلمة، تحت حجة أن الرقابة على دستورية القوانين وإن كانت قانونية في موضوعها، إلا أنها سياسية في نتائجها، كما أن الهيئة التي ستضطلع بنظر القوانين والحكم عليها بالإلغاء أو النفاذ وفقاً لدستوريتها ستكون في مركز الصدارة في الدولة ومثل هذه الهيئة لا بد أن تكون سياسية.
وقد طبقت هذه الرقابة للمرة الأولى في دستور السنة الثامنة للثورة الفرنسية (دستور 1793م) بإنشاء مجلس الشيوخ الخاص بحماية الدستور، لكنها باءت بالإخفاق لوقوع المجلس أداة طيّعة في يد الامبراطور آنذاك.
ويؤخذ حالياً بها وبشكلٍ جزئي في فرنسة (دستور 1985م) عن طريق المجلس الدستوري الذي تنحصر سلطته في رد القانون إلى البرلمان في حال عدم دستوريته لتعديله، وإلا يُعرض على الشعب لاستفتائه في قبول التعديل أو رفضه.


2- الرقابة القضائية: وهي الأشهر والأجدى بحسبان أن الرقابة عمل قانوني في جوهره، وليس يجاري القضاء في هذا العمل أي سلطة أخرى، لأن تكوين القاضي يدفعه إلى عدم التحيّز كما أن الإجراءات القضائية بما يتوافر لها من علانية، وما تحتمه من تبادل اللوائح وتعليل الأحكام توفر الضمانات للوصول إلى حكمٍ عادل في القانون موضوع الرقابة.
ويجدر بالذكر أن هذه الرقابة كانت ابتكاراً أسلفه القاضي الأمريكي مارشال Marshal عام 1852م مقيماً إياها على أساس «أن الحق ناشئ عن تمازج فكرتين سلطان القضاء ومبدأ سيادة الدستور، ومهمة القضاء هي تطبيق القانون في القضايا المعروضة عليه، فإذا وجد في حكم قضية معروضة، تنازعاً بين نص دستوري ونص قانوني وجب على القاضي أن يطبق أحد النصين، وبما أن النص الدستوري هو الأعلى وجب تطبيقه وإعماله».
والرقابة القضائية قد تنعقد صلاحيتها للقضاء العادي كما هي الحال في الولايات المتحدة، أو لقضاء خاص من هيئة خاصة تدعى المحكمة الدستورية أو المجلس الدستوري كما هي الحال في فرنسة.


انتفاء الرقابة

هناك دول غيبت من نظمها القانونية مبدأ الرقابة على دستورية القوانين بذريعة أن ليس للمحاكم حق تقدير دستورية القوانين من عدمها وأن وظيفتها هي تطبيق القوانين لا الحكم عليها، وأبقت على بعض الصيغ التي تعبر عن ضرورة احترام الدستور في القوانين قبل إقرارها، كما هو الأمر في سورية حيث تنظر المحكمة الدستورية بمشروعات القوانين المحالة عليها من مجلس الشعب لتبت دستوريتها دون أن يكون لرأيها إلزام على مجلس الشعب ومن الدول التي تنتفي فيها الرقابة الدستورية تونس والعراق والأردن.

انقضاء الدساتير

تنتهي الدساتير عادة بأحد الأسلوبين:
1- الأسلوب العادي أو القانوني: ويقصد به إلغاء الدستور وانتهاء العمل به بهدوء وبغير عنف والاستعاضة عنه بدستور آخر جديد، وهذا يجب أن يتم وفقاً للأصول والإجراءات التي يتم بها إنشاء الدستور بإجماله، لا تعديله إذ يمتنع على السلطة التي تملك تعديل الدستور جزئياً، أن تعدله كلياً وتلغيه، لأن حق التعديل الكلي للدستور وإلغاؤه لا يملكه إلا الأمة، فالأمة وحدها التي تستطيع إلغاء الدستور باعتبارها صاحبة السيادة في الدولة.


2- الأسلوب الواقعي أو الثوري: وهو الأوسع انتشاراً ويتم بالثورة أو الانقلاب وهما ظرفان واقعيان يختلفان سياسياً في حقيقتهما، ذلك أن الانقلاب يقوم به أحد ذوي النفوذ أو السلطان في الدولة كإجراء يهدف إلى تغيير في شؤون الحكم دون اتباع لأحكام الدستور. أما الثورة فهي حركة اجتماعية مفاجئة تتحقق بقوة الشعب من غير مراعاة الأشكال القانونية الموضوعة، وتستهدف إقامة نظام قانوني يحل محل نظام آخر.
ورغم هذا الاختلاف السياسي بين طرفي الانقلاب والثورة فهما من الوجهة الدستورية مفهوم واحد في أثرهما على إنهاء الدساتير، وهذا ما حدا بالفقه الدستوري إلى توحيد الاصطلاح عليهما «بالثورة» وأثرها في إنهاء الدساتير.


ومما لاشك فيه أن نجاح الثورة أو إخفاقها لا يؤثر في وجود الدولة، وإنما يؤثر في نظام الحكم فيها، لكن نجاحها يؤدي إلى سقوط فوري للدستور القائم متى تناقضت أحكامه مع أهداف الثورة مفسحاً في المجال لتولي الحكومة الفعلية مقاليد الحكم بدلاً من الحكومة القانونية والسقوط الذاتي للدستور لا يحتاج إلى تشريع يقرره، وخاصة إذا كانت الثورة شاملة، والإعلان عن سقوطه بعد نجاح الثورة لا يعني أكثر من تقرير كاشف ومؤكد لحالة واقعية ترتبت فعلاً

المصدر : موسوعة المعرفة


الساعة الآن 05:59 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir