إن تقدير الموقف بصورة عامة هو مجموعة الأعمال التي تشمل جمع المعلومات حول العناصر التي ستؤثر على اتخاذ القرار وتحليلها، وتقديمها إلى القائد المسؤول عن اتخاذ القرار. وتشمل هذه العناصر على صعيد تقدير الموقف العملياتي أو التكتيكي ما يلي: دراسة قوات العدو وقوات الصديق، والحالة النفسية للقوات المقاتلة، وطبيعة مسارح المعارك المنتظرة، وحالة الطقس، والزمن المتوفر، ومستوى الشؤون الإدارية (الحالة اللوجستية) للأنساق المحاربة، وكلما صَغُرَ النسق الذي يقدر الموقف ضاقت العناصر التي تدخل في هذا التقدير.
ويتم تقدير الموقف بعد تلقي المهمة القتالية واستيعابها كما أسلفنا وهو يُنفَّذ من قبل هيئات الأركان على مستوى اللواء (ومن قبل القادة أنفسهم في الكتيبة والسرية والفصيلة والجماعة). ثم يطرح رؤساء أقسام (شعب) الأركان وقادة الأسلحة المعاونة تقديراتهم الخاصة حول الموقف القتالي أمام القائد أو رئيس أركانه، ويقوّمون الاقتراحات التي تأخذ قيمة استشارية فقط، وتكون أرضية موضوعية للقائد الذي سيتخذ القرار. ويكون تقويم هذه التقديرات في اجتماع (مؤتمر) خاص يُعقد لهذه الغاية، ويستمع فيه القائد أو رئيس أركانه للتقديرات المختلفة بشكل مفصل مدعوم بالبيانات والخرائط والجداول، ولكن ظروف المعركة خصوصاً في الشروط الحالية المعاصرة قد تُجبر القائد أو رئيس أركانه على سماع تقارير ضباط الأركان وقادة الأسلحة المعاونة بشكل منفرد، وتكون التقارير في هذ الحالة قصيرة وسريعة وتُركز على النواحي العملية فقط.
ونظراً لأهمية تقديرالموقف، فلا بأس من أن نستعرض هذه العملية بشيء من التفصيل، حيث يتضمن تقدير الموقف تقدير كل من: العدو، والصديق، والجوار، والفصل، والزمن، والطقس.
أ تقدير العدو
من الضروري تكوين فكرة عن العدو، إذ إن الهدف المفترض تحقيقه على الأرض يتجسد قبل كل شيء بالحصول على نتيجة من النتائج ضد هذا العدو، خصوصاً وأن العمل العسكري يستهدف العدو لا الأرض التي يقف عليها. وتستند دراسةالعدو إلى أربعة أسس هي:
(1) الفكرة التي كوّنها القائد مسبقاً عن عدوه.
(2) المهمة التي يُفترض أن أن تعد على ضوء هذه الفكرة.
(3) الأرض التي ستُنفذ عليها المهمة القتالية.
(4) المعلومات المتوفرة عن العدو في اللحظة التي يبدأ فيها
التخطيط للمهمة.
ورغم احتمال قبول وضع العدو في الفترة بين وضع الخطة وتنفيذها، واستناداً إلى هذه الأمور التي لا تخلو من عنصر الشك، يكوّن القائد فكرة صحيحة إلى حدٍّ ما عن العدو، ويسعى لاستخلاص ما يمكنه استخلاصه حول إمكانات خصمه لمقاومة المهمة ومنع تحقيقها أثناء مرحلة التنفيذ. والسؤال الأساسي الذي يطرحه القائد في هذه المرحلة هو: في الوضع العام الذي أعرفه جيداً، كيف سيستخدم العدو إمكاناته لمقاومة تنفيذ مهمتي؟ (أي أن القائد يضع نفسه مكان العدو).
ولكي يُجيب على هذا السؤال فإن عليه كما أسلفنا أن يضع نفسه في موضع العدو، وأن يفكر بعقلية العدو ووفق عقائده القتالية، وأن يتخذ القرارات المفترضة نيابةً عنه.
ومن المؤكّد أنه سيصل بعد ذلك إلى عدّة احتمالات، ولكن عدد الاحتمالات ودرجة صحتها يتعلقان، قبل كل شيء، بمدى فهم القائد لأساليب العدو وطرائق تفكيره، وكلما نقص عدد الاحتمالات زادت إمكانية استخدامها لأنها تكون في هذه الحالة أقرب ما يمكن من الواقع.
ب تقدير الصديق
ويُقصد بذلك دراسة (الأنا) أي إمكانات وكفاءات الوحدة أو القطعة التي يقودها ووسائط التعزيز (التجحفل) الملحقة بها. والغاية من ذلك هي أن القائد عندما يصل إلى معرفة ما يريد عمله، وكيفية تحقيق هذه الإرادة، ورد فعل العدو خلال التنفيذ المفترض، وأسلوب معالجة المواقف المحتملة الناجمة عن رد فعل العدو، وينتقل القائد في هذه المرحلة الراهنة إلى السؤال الهام التالي: هل أستطيع تنفيذ ما أريد تنفيذه، وهل تسمح لي وسائلي التي هي تحت تصرفي بذلك؟
وتجيب دراسة "الوسائط المتوفرة" على هذا السؤال؛ وتتضمن هذه الدراسة قيام القائد (مستعيناً بضباط الأركان المختصين) بتقدير مطالبه القتالية والإدارية والتقنية، ومقارنة هذه المطالب مع الإمكانات التي يملكها، وتقدر المطالب بعدد الوحدات والأسلحة المشتركة في العمل القتالي، والدعم الناري المطلوب لتنفيذ المهمة القتالية، والوحدات الاحتياطية اللازمة لتوسيع عمل الوحدات المشاركة في القتال ودعمها ومساهمتها في أمن العملية (حيطة المعركة)؛ والمطالب الإدارية والفنية اللازمة للقوات المشاركة في المعركة.
ولا يتعرض القائد لأية صعوبة إذا كانت هذه الوسائل متلائمة مع احتياجات العمل القتالي المزمع تنفيذه، أما إذا كانت هذه الوسائل غير كافية، وكانت المهمة محددة من قبل النسق الأعلى المباشر، فإنه يتوجه بطلب وسائل إضافية من قبل رئيسه الأقدم لملاءمة الوسائل مع المهمة القتالية. فإذا تعذّر تأمين الدعم كلياً أو جزئياً، ترتب عليه مراجعة خطته وإعادة النظر فيها وإيجاد الوسائل التي تؤمن تنفيذ المهمة بالوسائل المتوفرة، أما في الحالات الخاصة التي يُحدد فيها القائد مهمته بنفسه، ثم يجد أن وسائله لا تؤمن له تحقيق المهمة، فإن عليه أن يُقلّص حجم المهمة التي اختارها لنفسه، حتى تُصبح متلائمة مع وسائله المتاحة والمتوفرة.
ج تقدير الجوار
بعد دراسة العدو والصديق (الأنا) ينتقل القائد ومعاونوه إلى دراسة الجوار الذين سوف يقاتلون إلى جواره من اليمين أو من اليسار أو في الأمام إذا كان ترتيب القطعة أو الوحدة في النسق الثاني من التشكيلة القتالية ويخرج بعد هذه الدراسة باستنتاجات حول مسألة التعاون مع الجوار في التنفيذ الأمثل لإنجاز المهمة القتالية الموكولة إليه، وأفضل الطرق والأساليب لتحقيق هذا التعاون المنشود.
د. دراسة الأرض
من المعروف أنه على الأرض ترتسم المرحلة المهمة القتالية وتتجسد، ومن أجل فهم المهمة بشكل جيد يتوجب فهم ودراسة الأرض التي تُنفذ عليها. وليس للأرض عادة قيمة ذاتية، ولكن وجود الخصم (العدو) عليها هو العامل الذي يُحدد قيمتها ويعطيها القدرة على منع القائد القائم بالتخطيط من اعتماد التسهيلات التي تقدمها هذه الأرض.
وتتم دراسة الأرض بكل تفاصيلها في أرض العدو وفي أرض الصديق، وما تقدمه هذه الأراضي من تسهيلات لحركة ومناورة القوات ودرجة الاجتياز أو الصعوبة فيها بالنسبة للدبابات والآليات المدرعة والعربات القتالية الأخرى. ويستخلص القائد من هذه الدراسة الوافية للأرض الميزات العسكرية التي يمكن الإفادة منها وكذلك السلبيات الواجب عليه تجاوزها، سواءً أكانت هذه السلبيات طبيعية أم من صنع العدو (هندسية) كالموانع والخنادق وما شابه ذلك؛ وتتم دراسة الأرض من زاوية:النار، والحركة، والاختفاء، والحماية، والتمركز ... إلخ.
ه دراسة الطقس والفصل والزمن
ثمة عوامل أخرى تُؤخذ بالحسبان عند تقدير الموقف أيضاً هي:
(1) دراسة الطقس : يؤثر الطقس (الأحوال الجوية) علي تنفيذ المهام القتالية؛ لذلك يتعين على القائد أن يدرس هذه العوامل الجوية ودرجة تأثيرها على تخطيط وتنفيذ المهمة فيما بعد، وذلك من حيث: درجة الحرارة والرطوبة، وهل الطقس ماطر أم غائم أم صحو (مشمس)؟ وكذلك وجود الضباب وشروط الرؤيا في ذلك الطقس الراهن، وتأثير ذلك على وسائط الصراع المسلح النارية التي بحوزة القطعة أو الوحدة، وعملها أثناء سير الأعمال القتالية.
(2) دراسة الفصل : وذلك من حيث: الفصل شتاءً أم صيفاً، والعوامل المناخية والفيزيائية المؤثرة على الأفراد والآليات ووسائط الصراع المسلح، والتدابير اللازمة لتجاوز الصعوبات (أو الإشكاليات) التي يسببها الطقس على عمل القطعات والوحدات المقاتلة.
(3) الزمن : يُقصد بالزمن هنا: الساعات المتوفرة لعمل القائد والوحدات ليلاً أم نهاراً، ساعات إضاءة أو ساعات مظلمة، وتأثير ذلك على عمل القائد والأركان وعلى عمل المرؤوسين أيضاً، وأثناء سير الأعمال القتالية فيما بعد.
4. إجراء الاستطلاع الشخصي
بعد الانتهاء من تقدير الموقف القتالي بعوامله الخمسة سالفة الذكر، يجري القائد الاستطلاع الشخصي بقصد توثيق قراره المبديء المتخذ على الخريطة أو على مخطط (مشروع قرار) على الأرض، حيث يتم هذا الاستطلاع من نقطة و احدة على مستوى الوحدات ومن عدة نقاط توقف على مستوى التشكيلات (لواتء فما فوق) والتشكيلات الكبرى. وفي الحالة الأخيرة، على أركان القطعة أو التشكيل تنظيم خطة إجراء هذا الاستطلاع.
ويحضر الاستطلاع مع القائد كل من: أركانه، ومعاونيه، وقادة الوحدات المرؤوسة، و يجب أن يتم الاستطلاع بصورة سرية ومخفية عن أنظار العدو، من أجل تحقيق المفاجأة، وتوجيه الضربة المباغتة للعدو فيما بعد. وعقب انتهاء عملية الاستطلاع الشخصي والتي هي بمثابة تدقيق القرار (النظري) المتخذ على الأرض يمكن للقائد رفع قرارها إلى القائد الأقدم من أجل المصادقة عليه.
5. اتخاذ القرار
بعد أن يستمع القائد إلى تقارير مساعديه المختصين، ويدرس كافة المعطيات المطروحة أمامه والأهداف التي ينوي تحقيقها، ويدقق ذلك على الأرض كما أسلفنا في عملية إجراء الاستطلاع الشخصي فإنه يقوم باتخاذ القرار، الذي يرفعه إلى القائد الأقدم للموافقة عليه. وقد تتم عمية الرفع والموافقة عن طريق البرقيات اللاسلكية المشفرة (القيادة السرية) إذا كانت ظروف القتال تُجبر على ذلك، أمافي الأنساق الصغرى التي يقدر القائد الموقف القتالي فيها بنفسه، فإنه يتخذ القرار بعد تقدير الموقف ويرفعه إلى روسائه للموافقة عليه، ولا يصبح القرار قابلاً للتنفيذ إلا بعد الحصول على موافقة قائده الأعلى المباشر الذي يحق له أن يرفض القرار أو يعدّله (جزئياً)، أو يصادق عليه مباشرة.
وبعد الحصول على الموافقة المذكورة، إمّا خطيّاً أو بواسطة الاتصال اللاسلكية، يمكن للقائد أن يعلن قراره للمرؤوسين والمنفذين، حيث يستند القائد إلى هذا القرار ويعطي الأوامرالشفهية الكفيلة بتحقيقه، ويتابع مع ضباط أركانه الإشراف على تنفيذ هذه الأوامر.
والقائد هو الشخص الوحيد كما بيّنا في أول هذه المقالة المسؤول عن اتخاذ القرار وعن النتائج التي تترتب عليه، وهو يسمع قبل اتخاذ القرار تقديرات معاونيه وتوصياتهم، ولكنه غير ملزم بالأخذ بها. و قد يتخذ في بعض الحالات قرارات معاكسة (مغايرة) لكل التوصيات والمقترحات، لأن العوامل التي توثر على القرار لا تقتصر على المعلومات فحسب، بل تشمل طبيعة القائد (نفسه) وحالته النفسية وخبرته العسكرية (القتالية) وتصوّره الشخصي لطبيعة المعركة القادمة.
ويتحمل القائد وحده المسؤولية الكاملة في حالة الفشل الناجم عن خطأ القرار، ولا يشاركه المساعدون (وضباط الأركان) في تحمّل أعباء هذه المسؤولية، إلا إذا ثبت أن المعلومات والتحليلات التي قدموها كانت خاطئة بشكل أثّر على صحتة القرار وعرّض القائد للخطأ الناجم عن اعتماده على معطيات غير صحيحة.
ولقد أطلق أحد القادة العرب (المجربين) على عملية اتخاذ القرار اسم: "الولادة"، ونصح مساعديه بالتروي عند اتخاذ القرار، فقال: "فكّر ثم فكّر ثم فكّر، ناقش واستشر ثم قرّر". كذلك فإن أحد المدربين في دورة القيادة والأركان كان ينصح طلابه من الضباط (القادة) أن يضرب الطاولة عند إعلانه القرار المتخذ، كما يفعل القاضي عند إعلانه للحكم النهائي في قضية من القضايا. ويأمرهم أن يرفعوا أصواتهم عند عبارة: {أنا قررت} كي يكون ذلك مؤثراً في آذان المنفذين، مما يرسّخ القرار في أذهانهم، فيندفعون إلى تنفيذه بجرأة وشجاعة وإقدام.
6. محتوى القرار القتالي
هنا قد يتساءل سائل: ماذا يتضمن القرار القتالي؟ أو بصورة أخرى: ما هي محتويات القرار القتالي؟
يتضمن قرار القائد المتخذ حول المعركة ستة بنود (أو ست فقرات) أساسية هي:
1. فكرة العمل: وهي تتضم الفقرات الفرعية التالية:
أ. تسلسل تدمير العدو.
ب. بأية قوى ووسائط يجب تدمير العدو.
ج. اتجاه توجيه الضربة الرئيسة (في الهجوم)، أو اتجاه تركيز الجهود الرئيسة (في الدفاع).
د. المهام القتالية للتشكيل (أو القطعة أو الوحدة).
2. ترتيب القتال المتخذ: (تشكيل المعركة). ويقصد بذلك الوظيفة التي ستتخذها القطعة أو الوحدة عند تنفيذها للمهمة القتالية، على سبيل المثال:
أ. على نسقين.
ب. أو على نسق واحد (مع إبقاء احتياط في الخلف).
3. توزيع المهام القتالية على المنفذين: قادة الوحدات المرؤوسة، والمُفرزة، والداعمة (مثل: الطيران والمدفعية والهندسة والكيمياء ..إلخ).
4. نظام التعاون: ويتضمن الخطوط الأساسية أو الإطار العام للتنسيق بين الوحدات المرؤوسة (المُنفذة) والداعمة والمعززة، وتعاون الوحدات الفرعية (الأساسية) فيما بينها.
5. تنظيم الحيطة: بأنواعها: القتالية، والإدارية، والفنية (اللوجستية)، بصورة مختصرة.
6. نظام القيادة: ويشمل: مراكز القيادة والسيطرة، وأماكن توضعها أثناء تنفيذ المهمهة، وتنقّلها المحتمل خلال المعركة.
ساعة رفع القرارات من قبل القادة المنفذين، وساعة بدء الجاهزية من قبل الوحدات المنفذة.
الخلاصة
تعرّفنا من خلال هذه المقالة على عملية اتخاذ القرار القتالي من قبل القائد التكتيكي (جماعة، فصيلة، سرية، كتيبة)، وهي عملية ذهنية تتم وفق تسلسل منهجي وموضوعي هذا من الوجهة المثالية (النموذجية) المطلوبة من أجل الوصول إلى قرار حكيم وصائب ومُعلّل ومنطقي؛ لكن ظروف المعركة الحديثة وديناميكية الأعمال القتالية المتبدلة والسريعة، قد لا تسمح بإعطاء القائد الوقت المريح لإنجاز عملية اتخاذ القرار وفق التسلسل الذي تحدثنا عنه في هذه المقالة، مما يضطره إلى أن يستعين بوسائط القيادة الفنية (المبتكرة): الحواسب والرادارات والاستطلاع الجوي والفضائي والآلات الحاسبة، التي توفر له المعلومات وتجري الحسابات بصورة سريعة، إن لم نقل بصورة فورية. وقد تتم هذه العملية والقائد في عربة القيادة في حالة المسير، وعندئذٍ يستعمل الاتصالات السريعة والخطية (المرمَّزة) ويرسل المراسلين على الآليات المتحركة لجلب المعلومات وسماع الآراء والمقترحات. ومع ذلك كله يبقى القرار حقاً من حقوق القائد الميداني لا ينازعه في صلاحية اتخاذه أحد