مسودة قانون لتجنيد الحريديم في الجيش يثير الجدل بإسرائيل (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي - عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 1 - عددالزوار : 21 )           »          مقال في "نيويورك تايمز": ترامب فوق القانون (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          الجنرال محمد إدريس ديبي - رئيس المجلس الانتقالي في تشاد (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 2417 )           »          الجيش الأحمر.. قصة منظمة زرعت الرعب في ألمانيا واغتالت شخصيات هامة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          البنتاغون: إسرائيل ستشارك في تأمين الميناء المؤقت بغزة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          جرائم الحرب (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          جرائم ضد الإنسانية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          التطهير العرقي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          تنظيم الدولة يتبنى هجوم موسكو وسط إدانات دولية ونفي أوكراني بالضلوع فيه (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 2 - عددالزوار : 63 )           »          احتكاك عسكري بين روسيا وأميركا في القطب الشمالي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          صحيفة روسية: الناتو مستعد للحرب ضد روسيا منذ 10 سنوات (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          ولاية ألاسكا.. تنازلت عنها الإمبراطورية الروسية واشترتها أميركا (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 65 )           »          حزب الله يستهدف موقع رادار ومنصتين للقبة الحديدية الإسرائيلية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          بعد عامين من إنشائه.. ما هو حال قراصنة "جيش أوكرانيا الإلكتروني"؟ (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »         



 
العودة   ..[ البســـالة ].. > جـناح التــاريخ العسكــري و القيادة > قســـــــم الــقائد والقــــيادة
التعليمـــات قائمة الأعضاء وسام التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة
 


أيام في العراق

قســـــــم الــقائد والقــــيادة


إضافة رد
 
أدوات الموضوع

قديم 29-03-09, 06:31 AM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي أيام في العراق



 

أيام في العراق (1) ـ عراقيون: الحكومة وإيران وسورية وأميركا سبب خراب العراق
المدينة التي اخترعت فيها أول ساعات لقياس الزمن بات الزمن مقسما فيها حسب عدد التفجيرات والجثث المتناثرة
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةعراقيون ينظرون الى الدمار أثر انفجار سيارة مفخخة ادى الى مقتل أكثر من 20 وجرح ما لا يقل عن 60 شخصا في حي كرادة ببغداد في يوليو الماضي (أ.ف.ب)
بغداد: معد فياض
ما من عراقي يلتقي مواطنه، في أي مكان أو زمان، إلا وطرح عليه السؤال الأزلي «شكو.. ماكو». وحسب الباحث الآثاري العراقي فوزي رشيد فإن البابليين كانوا يتبادلون هذا السؤال بمثابة التحية. وفي العراق اليوم وبعد أكثر من أربع سنوات على غزو العراق وسقوط النظام السابق يتردد هذا السؤال أكثر من ذي قبل. «الشرق الأوسط» قامت بجولة في العراق وعايشت حياة العراقيين في بغداد والنجف وكركوك وكردستان عن قرب، وزارت مواقع ساخنة متحدثة إلى المواطنين وعدد من المسؤولين. وبدءاً من اليوم ننشر سلسلة حلقات عن الحياة اليومية للناس وعن أبرز القضايا، مع صور عدد من المدن والمواقع.
دخان أم غبار ذلك الذي يلف بغداد؟ بغداد التي انتجت آلاف الكتب العلمية والادبية والفنية تنام اليوم وسط طبقة داكنة لا تستطيع ان تعرف ان كانت غبارا أم دخانا.
دخان التفجيرات المتلاحقة التي تمزق جسد المدينة، التي ارادها ابو جعفر المنصور يوم بناها ان تكون واحدة من اجمل حواضر الدنيا، يغطي كل شيء، حتى ان تمثال بانيها (المنصور) لم يسلم من عبوة ناسفة مزقت جسده النحاسي بتهمة طائفية مقيتة. دخان يزكم الأنوف ويعمي العيون ويغشي العقول. دخان الصراعات السياسية والتمزق الطائفي والتناحر المذهبي يعصف ببغداد.
أم هو غبار الخراب الذي لا يتوقف، وغبار تهديم مجتمعات كانت متصاهرة ومتناغمة ومتحابة حتى أيقظت فيها الطائفية واندلعت فيها الحروب.
بالحذر والريبة تهبط الطائرة القادمة من عمان الى بغداد.. لا صباح في المدينة، ولا مساء ايضا.. لا وقت في المدينة التي اخترعت فيها اول الساعات التي تقيس الزمن، هنا الزمن مقسم حسب عدد التفجيرات والجثث المتناثرة والعيون الدامعة.. الساعة الآن 10 تفجيرات و45 جثة متناثرة و30 جريحا. في الانواء الجوية يقولون ان الشمس حمراء تعكس لون الدم في شوارع العاصمة العراقية، والرياح تسير بعكس ما يشتهيه شعب مدينة كان اسمها دار السلام.
طائرة متعبة مستأجرة من جنوب افريقيا للخطوط الجوية الاردنية نقلتنا عند الساعة الثامنة صباحا الى بغداد.. تدور الطائرة عدة مرات وبشكل حلزوني لتهبط ضمن مربع آمن في المطار الذي كان يحمل اسم «مطار صدام الدولي».
عندما يدخل المسافر الى قاعة المطار لا يسمع صوت نداءات تخبر المسافرين والمسقبلين بمواعيد الطيران او الهبوط. فالاجهزة الامنية، العراقية منها والاميركية، تمنع وصول أي عراقي الى المطار ما لم يحمل تذكرة وجواز سفر. المستقبلون ينتظرون عادة في ساحة تقع بالقرب من موتيل عباس بن فرناس، ونقطة الانتظار هذه كانت قد تعرضت للقصف مرات عديدة، وهي الساحة ذاتها التي يتعرض فيها المسافر لاجراءات تفتيش دقيقة للغاية.
عربات حمل الأمتعة مصنوعة محليا من حديد رخيص، ورغم ذلك فإنها معروضة للايجار بأسعار عالية قد تصل الى 5 دولارات، والعامل الذي تستأجر منه العربة لا يساعد بحمل او دفع العربة فهذا لا يدخل في صلب مهماته او اختصاصه،على المسافر نفسه ان يدفع العربة حتى بوابة القاعة.
خارج المطار وجدت سائقا بدا في أواخر الاربعينات من عمره وكم استغربت عندما اخبرني فيما بعد بانه لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، «ولكن الزمن الصعب هو الذي شيب شعرنا وارواحنا مبكرا».. هكذا علق. طرحت عليه السؤال الازلي العراقي «شكو، ماكو»، فاجاب وشبه ابتسامة فوق وجهه «كل شي أكو، سيارات مفخخة، عبوات ناسفة، انتحاريون، قناصة، انفجارات بالجملة، جثث في الشوارع كل يوم، الاسعار في ارتفاع». قلت: «كل هذا يوجد عندكم.. اذن ما هو الذي لا يوجد (بمعنى آخر اذا كان هذا هو الأكو، فماذا عن الماكو)» اجاب على الفور وكأنه توقع سؤالي مسبقا، فقال «ماكو حكومة، ماكو أمل، ماكو أمان، ماكو استقرار».
واضاف: «تصور نحن تحمسنا للانتخابات وخرجنا منذ الفجر مع عوائلنا لانتخاب ممثلينا في البرلمان. الذين انتخبناهم دافعوا اولا عن حقوقهم ورواتبهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية واجازاتهم ونسوا الشعب الذي يمثلونه، عمليا نحن قمنا بتحويل مواطنين عاديين الى مواطنين من الدرجة الممتازة، المصيبة اننا لم نعد نرى هؤلاء النواب ولا نستطيع الاتصال بهم لايصال مشاكلنا لهم، ولا ندري كيف يمثلوننا. أغلب اعضاء مجلس النواب (البرلمان) يقيمون في مجمع القادسية ذات الفلل الراقية التي بناها صدام حسين لوزرائه وقادته السياسيين والعسكريين، وقسم آخر من ممثلي الشعب العراقي يقيمون في المنطقة الخضراء خلف جدران الكونكريت، اما القسم الثالث فقد اختاروا الاقامة في فندق الرشيد وذلك عندما يصلون الى بغداد قادمين من فللهم في عمان. اما القلة النادرة من النواب المقيمين في مناطق سكنية محمية ببغداد فهؤلاء احاطوا شوارعهم بعوارض كونكريتية وحواجز واسلاك شائكة وحمايات مخولين باطلاق النار في أي لحظة.. وهؤلاء من المستحيل ان يصلهم مواطنهم الذي انتخبهم».
السائق ذكر انه خريج معهد المهن الصحية واختصاصه معاون طبي وله اهتمامات موسيقية منذ طفولته حيث يعزف على القيثارة الغربية ويعرف اسماء غالبية المغنين في العالم، وكان يحمل ثلاث هويات شخصية، اثنتان منها مزورتين، ذلك ان اسمه الاصلي سامي، وهو مسيحي، لكنه يحمل هوية تحمل اسما شيعيا وأخرى تحمل اسما سنيا.
توقفت السيارة ثلاث مرات في الطريق الذي يربط المطار بمركز المدينة. فطريق المطار، والى فترة قريبة، كان يسمى بطريق الموت، وكان يعد واحدا من اكثر الشوارع خطورة في العاصمة العراقية، لكن القوات الأميركية دججته الآن بالدوريات المسلحة، وبدا آمنا بعض الشيء. وكان هذا الشارع في الماضي يعد واحدا من أجمل شوارع بغداد، واكثرها تحريما على العراقيين، بسبب الاستخدام المستمر له من قبل الرئيس السابق صدام حسين للذهاب والاياب من مجمع قصوره في منطقة الرضوانية القريبة من المطار.
لكن هذا الشارع يبدو اليوم كغيره من شوارع بغداد مهملا، تنتشر الحفر على اديمه مثل بثور الجدري فوق الوجه، بسبب الانفجارات التي خلفتها قنابل الهاون او العبوات الناسفة، وكذلك السيارات المفخخة، بينما تحولت الحدائق الى مستنقعات يستوطن بها البعوض وانواع لا تحصى من الحشرات وتزدحم بالقصب البردي، وتنبعث منها رائحة عفنة.
توقف السائق في انتظار مرور دورية اميركية مكونة من المدرعات وعربات همفي، حيث كانت كل عربة تحمل على مؤخرتها عبارات التحذير من الموت السريع، اذا غامر أحدهم واقترب لأقل من 200 متر (انتبه قوة مميتة لا تقترب اكثر من 200 متر وإلا سيطلق عليك النار).
«هؤلاء لا يمزحون ولا يعرفون معنى المزح»، علق السائق، وواصل قائلا «قبل ايام اطلقوا النار على جارنا (ابو محمد) وهو رجل كبير في نهاية الستين من عمره في نهاية شارع حيفا وبالقرب من ساحة الطلائع عندما كان في طريقه الى محل ابنه الخاص ببيع المواد الاحتياطية».
كان علينا ان نتأخر ثلاث مرات في طريق المطار بسبب مفاجآت الارتال الاميركية، حيث كلما مر رتل نتوقف ما بين 10 دقائق الى 15 دقيقة. كانت هناك عوائق اخرى هي نقاط التفتيش ومواكب المسؤولين الذين تنطلق سيارات حماياتهم في مقدمة الموكب لتقطع السير وسط زخات من الرصاص يرميها فريق الحماية لاجبار بقية السيارات على التوقف.
كانت هناك نقطة تفتيش في منطقة الحارثية مقابل معرض بغداد الدولي، توقفت السيارة في طابور طويل جدا قبل ان يصل دورنا، طلب الشرطي البطاقات الشخصية، تفرس في وجوهنا جيدا بينما انشغل زميله بتفتيش صندوق السيارة، اعاد الينا بطاقاتنا الشخصية وسمح للسيارة بالمرور، عندها سألت السائق اذا كانت هناك نقاط تفتيش تابعة للميليشيات المسلحة في شوارع بغداد، أجاب: الآن أقل من الماضي بكثير. الماضي يعني قبل تطبيق الخطة الامنية التي تحمل اسم «فرض القانون»، ثم تابع قائلا «في السابق كانت تتوزع نقاط التفتيش التابعة للميليشيات في جميع الشوارع من غير ان نميز بين هذه المجموعة او تلك، اما اليوم فان غالبية نقاط التفتيش حكومية اما نقاط الميليشيات فتتوزع في داخل الاحياء والشوارع الفرعية. اي انها اعادت توزيعها ولم تنسحب او تختفي».
عندما تتجول في شوارع بغداد وتسأل الناس عمن يقف وراء سوء الاوضاع الامنية تتباين الآراء وتتقاطع أحيانا. البعض يقول ان دول الجوار هي التي تتسبب بكل هذه الفوضى الامنية، ودول الجوار المعنية هنا وحسب مساهمتها في تردي الأوضاع الامنية هي ايران بالدرجة الاولى، وتجد في بغداد من يقسم بأغلظ الأيمان بانه تعرض للتحقيق على أيدي ضباط ايرانيين في معتقل ملجأ الجادرية الذي افتضح امره في عهد حكومة الجعفري، وانه عذب باقسى الاساليب على ايدي ضباط لا يجيدون اللغة العربية مثل اجادة اللغة الفارسية.
الى ابعد من ذلك يؤكد ضابط سابق في وزارة الداخلية العراقية يحمل لقب النعيمي انه طورد وفصل من الوزارة وتم اغتيال شقيقيه بعد تعذيبهما حيث وجدت جثتاهما مع 14 جثة اخرى عند تخوم بلدة زرباطية الواقعة عند الحدود العراقية الايرانية والسبب كان هو فضحه لوجود طابق كامل في الوزارة تعمل فيه عناصر ايرانية. كذلك يشير البعض إلى سورية ويقولون إن لها يدا في تمرير الارهاب والارهابيين الى الاراضي العراقية. وهناك أيضا بين العراقيين من يحمل القوات الاميركية مسؤولية كل ما جرى وما يجري بدءا بحل الجيش العراقي والقوات الامنية الاخرى وصولا الى تحميلهم مسؤولية التفجيرات والانهيار الأمني في بغداد وغيرها من المدن العراقية. اصحاب هذا التفسير او الاجابة يؤكدون ان «اميركا تريد ان تبقي العراق غارقا في الفوضى والخراب حتى تبقى فترة اطول فيه مستفيدة من النفط العراقي ومسيطرة على بقعة استراتيجية مهمة في المنطقة».
الدكتور العزاوي (فضل نشر لقبه دون اسمه لاسباب امنية) استاذ في جامعة يؤمن، ومعه عدد من المثقفين والاكاديميين العراقيين، بان «ما ارادت الولايات المتحدة تحقيقه قد تحقق»، ويقولون ان «اميركا جاءت ليس حبا في عيون العراقيين وانما للقضاء على العراقيين وتدمير البلد وتجزئته خشية من قوة وثراء هذا البلد وعقول اهله المبدعة». ويتساءل الدكتور العزاوي قائلا «لصالح من حملات قتل الاساتذة والاطباء وتهجير العقول العراقية وافراغ البلد من العلماء والمفكرين والمبدعين»، معتبرا ان كل ما يحدث ياتي «لصالح اسرائيل».
ومن الغريب ان تجد في الشارع العراقي عامة والشارع البغدادي خاصة كل هذا الخليط من الافكار ونقيضها في آن واحد، فمن يتهم ايران ويرفض تدخلها في الوضع الداخلي تجد من يناقضه ويناصر ايران معتبرا اياها الملاذ الآمن للشيعة. ومن يتهم سورية يقف بوجهه من يدافع عنها باعتبارها فتحت ابوابها لكل العراقيين الذين لجأوا اليها. ومن يلقي بمسؤولية ما حدث وما يحدث على اكتاف القوات الاميركية سيواجه من يعتبر القوات الاميركية محررة للعراق ولولاها لما تم تغيير نظام الحكم السابق.
إلا ان اشد ما يقلق العراقيين في بغداد هو غياب معالم الحكومة عن الشارع وغياب سيادتها وسيادة قوانينها عن الحياة العامة. وفي هذا الصدد تقول ايمان الشكرجي، وهي موظفة في وزارة المالية: «كيف نطمئن على حياتنا ونحن نخشى على انفسنا من اجهزة الدولة سواء من الشرطة او الحرس الوطني، وعندما يخاف المواطن على حياته من اجهزة الدولة الامنية او من الدولة ذاتها فكيف له ان يؤمن بالدولة او بالحكومة ويثق بها». وتضيف هذه الموظفة التي تسعى للحصول على تقاعدها قبيل ان تتم الخمسين من عمرها لتترك العراق مع عائلتها «عندما تكون الحكومة ذاتها تخشى الشعب وتنأى عنه خلف الجدران الكونكريتية بحراسة القوات الاميركية في المنطقة الخضراء، والشعب ينأى بنفسه عن الحكومة لانه لا يؤمن بها، فكيف سيكون الوضع الامني او وضع الشارع العراقي. انا شخصيا اخشى مراجعة مركز للشرطة حتى لو سرقوا كل ما في بيتي، والان لو تعرضت للاعتداء او للقتل في الشارع لما وجدت أي فرد يهب ولو للمساعدة البسيطة بمن فيهم الشرطة».
وليس غريبا أن تجد الناس في بغداد تحذرك من الذهاب إلى مركز الشرطة إذا واجهتك مشكلة، ويقولون لك: من سيضمن خروجك من مركز الشرطة؟ ستتحول الى سلعة تباع وتشترى ويقايضون بك مقابل فدية لا يعلم الله مقدارها، أو هل ستنتهي القصة عند حد دفع الفدية أم لا».
ويقر اللواء محمد نعمة مدير عمليات وزارة الداخلية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن «عمليات الخطف لم تنته لكنها قلت بشكل كبير وبنسبة تفوق النصف». ويقسّم نعمة المجموعات التي تقوم بعمليات الاختطاف الى «ثلاث مجموعات، الاولى يسميها الصداميين، والثانية التكفيريين والثالثة عصابات الجريمة المنظمة من اصحاب السوابق» خاصة اولئك الذين اطلق النظام السابق سراحهم قبيل دخول القوات الاميركية الى العراق وغالبيتهم كانوا محكومين بالاعدام او بالسجن المؤبد لاقترافهم جرائم بشعة، مشيرا الى ان «غالبية الجماعات التي تقوم بخطف الاشخاص تقتل ضحاياها بعد ان أخذ الفدية المالية، ذلك لانهم يتبعون طريقة اسهل في التخلص من الضحية او لان الضحية كان قد شاهد وجه احد الخاطفين وتعرف عليه».
وفي بغداد تستمع يوميا لقصص كثيرة من العراقيين عن حوادث الخطف التي يخطط لها والتي تعود باموال طائلة للخاطفين. المهندس سعد حسين، صاحب معمل اثاث في الكرادة، قال لي انه كان قد تعرض لمحاولة اختطاف لكنه قاوم بشدة وتمكن من الهرب بعد ان اصيب بطلق ناري في ساقه الايسر، لكن الامر لم ينته مع هذا المهندس عند هذا الحد، وكما يقول «لقد خطفوا شقيقي بعد يومين من حادث محاولة اختطافي وطالبوني بدفع مائة الف دولار، وهي فدية مضاعفة عني وعن شقيقي الذي اطلقوا سراحه بعد اسبوع بعد ان توصلنا الى حل مع العصابة ودفع مبلغ 75 الف دولار».
لكن الحظ لم يحفظ حياة زوج منتهى الرحماني، 40 سنة، ولها ثلاثة ابناء وبنت حيث دفعت مبلغ 35 الف دولار فدية من اجل اطلاق سراح زوجها لكن العصابة التي اختطفته قامت ببيعه الى احدى الجماعات المسلحة بعد ان وجدوا في جيبه بطاقة هوية اميركية تسمح له بدخول المنطقة الخضراء وهذا يعني انه يعمل مع القوات الاميركية، وعلى ما يبدو فان الجماعة الثانية قتلته اذ لم يعد منذ اكثر من عام على اختطافه.
لكن مفاجآت الشارع البغدادي لا تتعلق فقط بقصص الاختطاف والقتل العشوائي والتفجيرات والسيارات المفخخة، بل هناك مفاجآت حياتية تشعرك بأن الحياة تجري في هذه المدينة كما تجري مياه نهر دجلة. بغداد لا يمكن ان تتخلى عن عاداتها الثقافية، هذا ما اكده الفنان التشكيلي المعروف نوري الراوي الذي ما يزال يرسم بغداد ونواعير راوة واحلام العراقيين في محترفه وبيته بحي الحارثية بجانب الكرخ بالرغم من كبر سنه ومتاعب الحياة البغدادية. الكثير من الرسامين لم يتخلوا عن صالات عرضهم ومحترفاتهم بالرغم من التفجيرات ومحاولات الاغتيال والاختطاف التي تستهدفهم، ومن بين ابرز هؤلاء الفنان التشكيلي فهمي القيسي الذي يعرض اعماله في محترفه بحي الكرادة مازجا ذاكرة التراث بألوان الحياة المعاصرة، كذلك الفنان قاسم سبتي في صالته حوار بحي الوزيرية والتي تحولت الى مركز ثقافي يجمع المثقفين العراقيين كل يوم، والفنان التشكيلي ضياء الخزاعي والفنان عبد القهار عبد الشداد واستاذ الخزف ماهر السامرائي.. اسماء كثيرة تؤكد اصرارها على الاستمرار في الحياة داخل العراق وعدم مغادرته رغم كل شيء.
والتقت «الشرق الأوسط» المسرحي العراقي يوسف العاني الذي بلغ الثمانين من عمره وهو اكثر التصاقا بالمدينة التي ولد وعاش فيها واستمد من حياة اهلها قصص مسرحياته التي قدمها لما يقرب من نصف قرن على مسرح بغداد ضمن فرقته «المسرح الفني الحديث»، والفنانة المسرحية شذى سالم التي تزاوج بين وقوفها فوق خشبة المسرح كممثلة متمكنة وبين قاعة المحاضرات في اكاديمية الفنون الجميلة كاستاذة تحمل شهادة الدكتوراة معبرة كشقيقتها الفنانة سهى سالم ووالدهما الفنان المسرحي الكبير طه سالم عن اصرارهم على ان تنتصر الحياة في بغداد وان لا يتركوها لاعداء الحياة.
إرادة الحياة يراها الزائر أيضا في طلبة المدارس والجامعات من الجنسين ومن مختلف الأعمار وهم يتحدون السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والانتحاريين خلال توجههم كل صباح الى مدارسهم وجامعاتهم.
الدكتور عقيل مهدي، عميد اكاديمية الفنون الجميلة التي تقع في الضفة الشرقية قريبا من جسر الحديد الذي فجره انتحاري، تحدث لنا عن مصاعب العمل قائلا «التوجه الى الاكاديمية او الى أي كلية يعد مغامرة بطولية، العمل وسط مثل هذه الظروف حيث لا توجد اية ضمانات امنية ولا خدمات يعد مغامرة بطولية من قبل الاساتذة والطلبة في آن واحد، طلبتنا يصرون على ان ينجزوا دراستهم وتقديم اعمالهم الابداعية سواء فوق خشبة المسرح او في صالات العرض التشكيلي او في قسم السينما والتلفزيون بالرغم من كل المخاطر التي تحيط بهم».
كذلك تقول لمياء فاضل، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية بجانب الكرخ، عن مدى استجابة الطلاب للحضور الى المدرسة واستيعاب المواد التعليمية «إن موضوع اصرار الطلبة على الحضور يثير استغرابنا حقا، ذلك ان اطفالا بعمر الست سنوات وحتى الثانية عشرة سنة نجدهم يقاومون كل المخاوف من اجل وصولهم الى المدرسة واستيعاب المواد التعليمية بجد وباجتهاد كبيرين». * (غدا) أين يقضي البغداديون أماسيهم؟

 

 


 

   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:35 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (2) أين يقضي البغداديون أماسيهم؟
عند الساعة الثامنة تتحول المدينة التي كانت تضم أكثر من ستة ملايين نسمة إلى مدينة أشباح باستثناء نقاط التفتيش > حفلات الأعراس تنتقل إلى عمان ودبي وأربيل
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةالمطاعم والمقاهي في العراق لم تنج من التفجيرات (رويترز)
بغداد: معد فياض
أشياء كثيرة تغيرت في العراق منذ الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين، ولعل أكثر ما يسمعه المرء من العراقيين اليوم هو شكواهم من انعدام الأمن والأوضاع المعيشية والسياسية والإقتصادية إضافة إلى بروز النزعة الطائفية. وفي الحلقة الثانية من سلسلة الحلقات التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن الحياة في العراق من خلال زيارة بعض المواقع الساخنة، والحديث مع الناس، نتناول كيف تغير نمط الحياة اليومي بفعل الأحداث ونتعرف على بعض التفاصيل اليومية للناس العاديين. ولهذا الغرض عايشت «الشرق الأوسط» ليوم كامل الحياة مع عائلة في بغداد لتتعرف على مشاغلها وهمومها ومتاعبها.
يسرع آخر المتأخرين في شوارع بغداد إلى بيته عندما تتجاوز الساعة السادسة مساء. عند الرابعة يعود الجميع الى أسرهم، وقبل ذلك بساعتين تكون النساء من الموظفات قد وصلن إلى بيوتهن بالفعل. أما طالبات الجامعة فيصلن إلى منازلهن عند الواحدة. لا مساء في بغداد، ولا ليل في مدينة ألف ليلة وليلة. عند الساعة الثامنة تتحول المدينة التي كانت تضم أكثر من ستة ملايين نسمة إلى مدينة أشباح باستثناء نقاط التفتيش. لا احد يسهر في المدينة التي لم تكن تعرف معنى النوم.
يمكن أن نعد المناطق التي تغامر محلاتها ومطاعمها ومقاهيها بالسهر حتى الثامنة مساء، على اصابع اليد الواحدة، وهي تحديدا الكرادة داخل، وشارع الكندي، والكاظمية، وفي احيان قليلة شارع فلسطين، او بعض مناطق هذا الشارع.
مشاغل العائلة العراقية لا تحصى، من البحث عن قنينة غاز بسعر 20 الف دينار للقنينة الواحدة، إلى البحث عن ليتر نفط بسعر عشرة آلاف دينار لليتر الواحد، والبحث عن بنزين لمولدات الكهرباء بسعر 20 الف دينار لليتر الواحد، وانتهاء بانتظار ما لن يأتي إلا بشق الأنفس، وهو الماء. وتبدأ المسرحية اليومية المؤلمة بعدم وصول التيار الكهربائي، الذي يأتي لساعتين يوميا في أفضل الاحوال حيث يسمونه هناك «الوطنية»، إذ عندما يأتي تيار الوطنية تسارع العائلة إلى إنزال «عتلة» أو ذراع تأمين ملحقة بصندوق توزيع التيار للبيت، وعادة ما يكون موقع هذا الصندوق خارج البيت قريبا من باب السياج الخارجي. وخلال الساعتين يعيش البيت حالة انذار قصوى حيث يتم تشغيل غسالة الملابس وماطور نقل الماء الى الخزان فوق سطح البيت، والثلاجة، والفريزر، واجهزة تبريد البيت (ايركوندشن) او(ايركولر)، وهذه الثانية لا تحتاج إلى طاقة كهربائية عالية. ومع هذه الفعاليات هناك مهرجان غسل ارضية البيت وتنظيفه ثم وقوف طابور افراد العائلة امام الحمام لاخذ دوش سريع او بما يسمح به الوقت تناسبا مع عدد افراد العائلة.. وكل ذلك يجب ان يتم خلال ساعتين، هذا اذا حالف الحظ هذه العائلة او تلك واستمر التيار الكهربائي لساعتين كاملتين. ولا احد يعرف متى ستأتي ساعتا الحظ، فاحيانا يكون موعد منطقة ما مع التيار الكهربائي الحكومي (الوطنية) خلال ساعات الصبح الاولى، او خلال فترة الظهيرة او المساء، ولكن من سوء حظ اي منطقة ان يأتي التيار الكهربائي ما بين الساعة الثالثة والخامسة فجرا حيث يكون الجميع نياما وقلما تقوم اية عائلة بفعالياتها البيتية المعتمدة على التيار الكهربائي في هذه الفترة الصباحية المبكرة فتضيع عليها فرصة ثمينة لذلك اليوم. ومع انقطاع التيار الكهربائي، فإن جام غضب الأسر ينصب على الحكومة «التي لا ندري اين تذهب بأموال الشعب ولا تهتم بموضوع الخدمات»، حسب ما يقول أحد أفراد العائلة التي عايشنا معها يومها. وصيف بغداد قاس للغاية في العادة حيث ترتفع درجات الحرارة خلال شهري يونيو(حزيران) ويوليو(تموز) الى اكثر من 50 درجة مئوية وعادة ما يرافق انقطاع التيار الكهربائي انقطاع الماء، وحتى في فترات العام الأخرى تكون درجة الحرارة عالية نسبياً إلا في فصل الشتاء حيث تنخفض درجات الحرارة بشدة مما يجعل الناس أيضا في حاجة ماسة إلى الكهرباء.
وهناك خيارات اخرى في موضوع الكهرباء وهي خيارات تهم من هو متمكن ماديا ويستطيع توفير مولد للطاقة الكهربائية وشراء طاقة كهربائية من مولدات تابعة لأشخاص آخرين. وسعر الامبير يتراوح ما بين 20 الى 30 الف دينار ولفترة محدودة كي لا تتعب المولدات. وعندما يتم تشغيل مولد الكهرباء البيتي لا بد من انزال «العتلة» الاولى في صندوق توزيع الطاقة الكهربائية، ورفع ثانية يكون لونها غير لون الاولى كي لا يحصل تداخل وتحترق الاجهزة الكهربائية في البيت. واذا ما جاء التيار الكهربائي من المولدات الخاصة والتي تتوزع بين الاحياء السكنية، فإن هناك «عتلة» ثالثة يجب معالجتها. الكهرباء في العراق تحولت الى تجارة، ما عليك سوى ان تشتري مولدات كبيرة للطاقة الكهربائية وتبيع كهرباء حسب الامبير وتجني الارباح، وكلما ارتفعت درجة الحرارة او ساءت امور تيار الكهرباء الحكومي (الوطنية) فإن سعر الامبير يرتفع، وما على المواطن الا ان يذعن لهذه الاسعار لانقاذ عائلته ونفسه من حر صيف العراق الساخن جدا، أو برد الشتاء القارس.
مسرحي عراقي معروف قال «لقد كان الاعلام المعارض لصدام حسين يقول، ان النظام السابق كان يشغل العراقيين بموضوع الكهرباء ويعاقب الشعب حتى لا يطالب بحقوق سياسية او حياتية اضافية، وكنا نؤمن بهذا الرأي باعتبار ان العراق بلد نفطي وغني وبامكانه ان يوفر الخدمات للناس، ولكن ماذا يجري اليوم؟».
ويضيف «اذا كنا نؤمن بما كان يقوله الاعلام المعارض الذي كان يقوده ذات الاشخاص الذين يقودون البلد اليوم، فكيف نبرر غياب جميع الخدمات اليوم، وهذا يعني ان الحكومة التي يقولون ان الشعب قد اختارها هي الاخرى تعاقب العراقيين وبقسوة اكبر من القسوة التي كان صدام يعاقبنا بها».
كيف تقضي الأسر العراقية اوقات فراغها بعد الرحلات الماراثونية اليومية وراء متطلبات المعيشة اليومية؟ أين يذهبون في الاماسي مثلا؟ كيف يخصصون بعض اوقاتهم للتسلية البريئة؟ ما هي المجالات المتاحة لهم وما هي اختياراتهم؟ مئات الاسئلة التي تندرج تحت هذا الموضوع تبادرت الى الذهن عندما زرنا بعض العائلات.
لنأخذ عائلة ابو زينب مثلا، وهو رجل متقاعد كان موظفا كبيرا في الخطوط الجوية العراقية، وزوجته كانت موظفة في وزارة الاعلام، ولا يمكن القول عنهما انهما كانا بعثيين بل كانا موظفين متميزين في دائرتيهما، وكانا يتمتعان بدخل معقول، ابنتهما الكبيرة زينب انهت دراسة الاقتصاد في الجامعة المستنصرية وهي مخطوبة منذ عامين من طبيب شاب وتأخر زواجهما بسبب الظروف السائدة في البلد، وابنهما زيد حصل توا على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من الجامعة التكنولوجية ببغداد، وابنتهما الصغيرة زينة، 14 عاما، ما تزال في دراستها المتوسطة. وكان ابو زينب بحكم عمله السابق يتمتع بامتياز الحصول على تذكرة سفر سنوية مجانا الى خارج العراق وتذاكر اخرى بأسعار مخفضة لزوجته وابنائه، ودخلهما الشهري كان كافيا لادارة عائلة غير باذخة لكنها مرتاحة. فجأة وجدت هذه العائلة نفسها تعيش في ظروف صعبة، وما وفروه في سنوات الخير انفقوه في السنوات العجاف.
يقول ابو زينب، الذي رفض نشر اسمه لأسباب امنية، «انا لا استطيع ان اعمل اليوم في اي مهنة، لهذا فكرنا بمشروع بسيط وهو ان نفتح مقهى انترنت نديره انا وابني زيد، لكن المشروع فشل فشلا ذريعا بسبب انقطاع التيار الكهربائي وقلة الزبائن نتيجة الوضع الأمني، وبعنا المقهى بأقل من نصف المبلغ الذي انفقناه لتأسيسه، لا نستطيع السفر الى خارج العراق وليست هناك وظيفة مناسبة لولدي او لابنتي، وانا كنت امضي بعض أوقاتي مع الاصدقاء المقربين في مقهى الحي، لكن المقهى اغلق وتم تحويله الى مطعم للوجبات السريعة وصار شاغلنا هو كيف الحصول على قنينة غاز بسعر معقول، وبنزين لمولد التيار الكهربائي».
اما زوجته ام زينب فتبدو معاناتها اكبر في ظل غياب التيار الكهربائي والماء والحرص على حياة عائلتها، وتقول لـ«الشرق الأوسط» في هذا الصدد «أعيش في قلق كلما خرج ابني مع اصدقائه، وكلما ذهبت ابنتي مع خطيبها الى عائلته، وكلما ذهبت ابنتي الصغيرة الى مدرستها مع ان والدها او شقيقها يقومان بايصالها ذهابا وايابا، وغالبا ما نمنعها من الذهاب للمدرسة لأسبوع او اكثر وحسب الأوضاع الأمنية».
زينب تحدثت من ناحيتها عن صعوبة الخروج مع خطيبها أو زوجها مع وقف التنفيذ كما تقول إذ أنهما عقدا قرانهما بعد اسبوع من خطوبتهما، وكذلك صعوبة الخروج للقاء صديقاتها اللائي تتواصل معهن من خلال الموبايل فقط، بسبب الخوف من الخروج.
وعندما سألناها عن خططها مع خطيبها لاتمام الزواج، قالت «لقد خططنا ان نقيم العرس في احدى محافظات كردستان وغالبا في اربيل كون خطيبي قد وجد عملا هناك، كما يفكر والدي بالانتقال الى هناك حيث الاوضاع اكثر استقرارا، وقد يجد شقيقي عملا له ايضا في اربيل لكثرة المشاريع».
ويذكر ان حفلات اعراس العراقيين تقام حسب الوضع الاقتصادي للعريس، الاغنياء يقيمون حفلات اعراسهم في العاصمة الاردنية عمان او في دبي، والاقل ثراء او من هم فوق الطبقة المتوسطة يختارون احدى مدن كردستان ليقيموا فيها حفلات اعراسهم، حيث بامكانهم دعوة اقاربهم واصدقائهم، اما من ينتسب للطبقة المتوسطة فإما تجده يفضل عدم اقامة أي حفلة والاحتفاظ بالمبالغ التي سيصرفها على الحفل لتعينه في مشواره الجديد او يقيم حفلا بسيطا في بيته او بيت عائلته للمقربين على ان يكون موعد هذا الحفل ما بين الساعة الواحدة وحتى الثالثة ظهرا.
أما زيد فيمضي غالبية وقته أمام جهاز الكومبيوتر وعندما ينقطع التيار الكهربائي عن البيت يذهب الى مقهى للانترنت قريب من الحي الذي يقيمون فيه، ويقول «نحن ننتمي الى جيل مظلوم فقد عانينا في دراستنا حتى انهينا الجامعة، والآن مع اني احمل شهادة البكلوريوس في الهندسة الكهربائية، الا اني لا اجد عملا مناسبا لي، فالدوائر الحكومية تحتاج الى تزكية، والوزارت مقسمة هذه شيعية وتلك سنية واذا اردت العمل في وزارة شيعية فيجب ان احصل على توصية من حزب شيعي، وكذلك اذا اردت العمل في وزارة سنية، وانا من عائلة سنية شيعية ولا نعترف بهذه التصنيفات الطائفية، ثم ان الراتب الشهري للموظف الجديد من حملة شهادة البكلوريوس في الدولة، لا يتجاوز المائتي دولار اميركي وهذا مبلغ لا يسد اليوم النفقات الحياتية لاي شاب عراقي ومتطلباته». ويخشى زيد التنقل كثيرا في بغداد «فالتفجيرات كثيرة وعصابات الاختطاف في كل مكان.. حركتي تقتصر ما بين البيت ومدرسة اختي الصغيرة وكذلك الى مقهى الانترنت القريب للقاء الاصدقاء وتمضية الوقت هناك، والان نخطط للانتقال الى كردستان حيث وعدني احد اصدقاء والدي الذي له شركة مقاولات بناء هناك بعمل معه، ونجد هذا هو الحل الامثل».
يضيف زيد قائلا «هناك ايضا مشكلة الفتيان والمراهقين او من هم في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة، فهؤلاء تركوا مدارسهم من شدة اليأس وفي مقاهي الانترنت يرتادون مواقع ممنوعة اجتماعيا وكل يوم يزدادون نقمة على المجتمع، لأنه لم ينصفهم اذ لا مكان يذهبون اليه ولا حدائق او ملاعب او نواد تلمهم، وعلى وزارات مثل الشباب والعمل والشؤون الاجتماعية والمجتمع المدني ان تنتبه لهؤلاء قبل ان يضيعوا انفسهم لا سيما وان العصابات والمخدرات متوفرة في بغداد اضافة الى ظهور من يسمون انفسهم بالمجاهدين الذين يغرون الفتيان بالعمل معهم كانتحاريين او مجاهدين».
ثمة اماكن نادرة يذهب اليها العراقيون صباحا او ظهرا او مساء حتى الساعة السابعة، وتستطيع العائلة البغدادية ان ترتاد هذه الاماكن اذا كانت تسكن في ذات الحي الذي تقع فيه هذه المقاهي. أحد هذه الاحياء المحظوظة والمستقرة امنيا نسبيا هو الحارثية والذي تقع في شارعه الكندي الكثير من المقاهي والمطاعم العائلية التي تبقى مفتوحة حتى الثامنة مساء. وكذلك حي الحارثية الذي كان مخصصا للقضاة والمحامين وتقيم فيه اليوم أسر سنية وشيعية تعيش منذ سنوات طويلة بمحبة لم يؤثر فيها ما حدث في العراق من تفرقة. ثمة أسر كانت تجلس هناك بعد الساعة الخامسة مساء، عندما اقتربنا من احدها رفض رجل بينهم التصوير وفضل الحديث من غير ذكر الاسماء كاملة، وقدم نفسه على ان اسمه تحسين ويعمل في القطاع الخاص ويسكن في حي الحارثية، ثم قال «ليس هناك من اماكن نذهب اليها مع العائلة سوى هذه المقاهي والمطاعم ونحن هنا لتغيير الجو، نأخذ بعض السندويشات ونشرب الشاي ثم نعود الى البيت». ويشير الى ان «ثمة مكان آخر نذهب اليه احيانا كعائلة لكنني اذهب اليه مع اصدقائي ذلك هو نادي الصيد للسباحة او قضاء بعض الوقت مع اصدقائي هناك».
زوجته رنا قالت «انا كنت موظفة لكن الظروف الأمنية اجبرتني على ان اترك عملي واهتم بأطفالي، اهلي يسكنون في حي الدورة، ومن المستحيل ان افكر بزيارتهم كون الاوضاع هناك متوترة دائما، لكنهم يأتون الينا بين فترة واخرى ونحتفي بهم بالمجيء الى هذه المقهى». ثم تضيف قائلة «هنا اكثر ما يزعجنا هو قيام بعض افراد الحمايات الشخصية او افراد الشرطة برمي الرصاص في الهواء لافراغ الشارع من السيارات، وتسهيل مرور مسؤول ما او لاستعراض القوة امام شعب لم تعد لديه القوة، لكثرة ما عانى من سجون وتعذيب وحروب وقصف». زميل صحافي قال عندما اقترحنا عليه مقابلته في مقهى «لم تعد هناك مقاه تلمنا فقد فجروا مقهى الشاهبندر في شارع المتنبي، والذهاب الى مقهى حسن عجمي في شارع الرشيد يعد اليوم مغامرة»، لهذا اقترح اللقاء في صالة «حوار» للعروض التشكيلية التي تعد اليوم مركزا ثقافيا ومكانا للقاء المثقفين العراقيين. اسس هذه الصالة فنان تشكيلي اسمه قاسم سبتي، قام باستئجار بيت قديم في منطقة الوزيرية التي كانت تعد حيا لغالبية وزراء العهد الملكي ومن هنا جاء اسمها (الوزيرية)، ثم تحولت الى منطقة جامعية حيث تقع كليات الآداب والتربية والصيدلة واكاديمية الفنون الجميلة وكلية التربية الرياضية ومعهد الادارة والجامعة المستنصرية، بينما تحولت غالبية بيوتها الكبيرة التي كان يسكنها الوزراء واغنياء بغداد الى مجمعات لإسكان طلبة جامعة بغداد والمستنصرية.
لكن صالة «حوار» سرعان ما تحولت الى ملتقى للمثقفين العراقيين، خاصة بعد ان أنشأ سبتي في ركن من حديقتها مقهى صغيرا. يقول سبتي «لقد قررت المواصلة رغم كل الضغوط الامنية المحيطة بنا، فأنا أشعر بالسعادة عندما اجد هذا الجمع من المثقفين العراقيين بينهم التشكيلي والمسرحي والموسيقي والاستاذ الجامعي يلتقون هنا سواء خلال عرض تشكيلي او للنقاش او للراحة». ويضيف قائلا «كنا في السابق نقيم اماسي مسرحية وموسيقية، لكن الاوضاع اليوم سيئة للغاية، والضيوف يتركون المكان قبيل حلول المساء، والموضوع بالنسبة لي هو معركة بين من يريدنا ان نصمت ونغلق كل صالاتنا ونرحل وبيننا نحن الذين نريد ان نثبت بأن العراقيين هم بناة حضارة رغم كل الظروف».
الواقع الجديد في بغداد، بل وفي محافظات عراقية اخرى ان العراقيين يقارنون بين ما هم عليه اليوم وبين وضعهم في عهد نظام صدام حسين، ويقول صحافي عراقي لم يكن من المؤيدين للنظام السابق ولم يترك العراق: «لقد كنا نعرف في عهد صدام حسين من هو عدونا، وماذا نفعل حتى لا نتعرض للاعتقال او الاعدام، وعندما تحاشينا ذلك وكأننا كنا نمشي في حقل الغام نجونا واستقبلنا العهد الجديد باعتبار اننا سنعيش في عراق جديد مزدهر بالحرية والخير للشعب الذي عانى الكثير، لكن للاسف ان الوضع الجديد جعلنا نندم لرحيل نظام عرف بدكتاتوريته واجرامه». ويضيف هذا الصحافي الذي هدد اكثر من مرة بالقتل ومن اكثر من جهة قائلا «انا مهدد من قبل المقاومة العراقية لأنني متهم بالعمل لصالح القوات الاميركية وهذا غير صحيح، ومهدد من قبل ميليشيا شيعية بتهمة اني طائفي واكتب ضدهم مع اني شيعي علماني لا اعترف بكل هذه التصنيفات، ومهدد من قبل من يسمون انفسهم بالمجاهدين لأنني وصفتهم بالارهابيين، ومهدد من قبل الحكومة لانني قلت وما زلت بنها حكومة ضعيفة ولم تحقق اي شيء للعراقيين، بل ان الاوضاع تتدهور وتمضي الى الاسوأ كل يوم». قص لنا كاتب عراقي عن كاتب قصة معروف كان مجبرا ان يكتب قصصا ضمن سلسلة كانت وزارة الثقافة والاعلام السابقة تدعمها بقوة وبتوجيه من صدام حسين نفسه تدعى «قصص قادسية صدام»، ومع ان هذا الكاتب كان متزنا وهو كاتب جيد، الا انه تعرض للهجوم من قبل كاتب قصة آخر كان معتقلا في عهد النظام السابق. ويقول هذا الكاتب العراقي ان «القاص الذي كان قد خرج من السجن توا بعد الاحتلال، دخل الى المقهى الذي كان يجلس فيه القاص الاول، وهجم عليه متهما اياه بالصدامي، وهدده بالقتل مما دفع بالقاص الاول الى الاختفاء. ومثل هذه القصص تتكرر في مجالات مهنية اخرى كالاطباء والمهندسين والفنانين وغيرهم، وهذا يعني ان مسلسل من الثأر والانتقام سوف يستمر الى ما لا نهاية، اذا لم يتمتع الجميع بروح التسامح ونسيان الماضي وطي صفحاته والبدء بصفحات جديدة على ان تصدر الحكومة قرارات قوية بهذا الاتجاه، مثلما حدث في اقليم كردستان العراق».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:36 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (3) ـ بغداد.. شوارع مغلقة وجسور مصادرة
بين الرصافة المخربة وجسر الحديد المدمر
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةعناصر من قوات الامن العراقية فوق جسر محمد القاسم للمرور السريع في جانب الرصافة ببغداد بعد تفجيره (أ.ف.ب)
بغداد: معد فياض
تذهب «الشرق الأوسط» في هذه الحلقة الى عمق حياة العراقيين في شوارعها العريقة، فتجول مراسلنا في شوارع: الرشيد، اول شوارع بغداد على الاطلاق، وابو نواس والجمهورية متنقلة بين اسواق بغداد، وجسورها المصادرة.
وتنقل لنا في هذه الحلقة مشاعر العراقيين لدى تفجير الجسر الحديدي، ثاني اقدم جسور العاصمة العراقية. وكأنك ما زرت بغداد اذا لم تزر شارع الرشيد وتضيع في عقوده وحاراته «عقد النصارى» و«حارة اليهود» و«محلة العمار» و«سيد سلطان علي» و«السنك»، وعشرات الأزقة التي تلتوي في جسد المدينة مثل طريق افعى وسط بيوت متلاصقة.. تلك الازقة التي يمكن للمرء ان يضيع فيها عن عمد ليتنفس رائحة بغداد العتيقة المنبعثة من طابوق جدرانها وخشب ابوابها وحديد شبابيكها.
كأنك ما زرت بغداد اذا لم تمر في سوق السراي ومن ثم تدلف يمينا الى شارع المتنبي وتتنفس رائحة الورق هناك. في زيارتي الاخيرة تنفست رائحة الورق المحترق والممزوجة برائحة الاجساد والبارود، حيث لابد من تناول كبة السراي الشهيرة ومن ثم الاسترخاء في مقهى الشاهبندر قبل ان تقطع المتنبي وتقف لعشرات المرات باحثا بين عناوين الكتب لتنتهي ايضا بشارع الرشيد وتختار ان تمضي الى يسار الشارع لتحتار فيما اذا تجلس في مقهى حسن عجمي (مقهى الادباء) او في مقهى الزهاوي الذي لا يبعد عن الاول مسافة ثلاثمائة متر.
حتى تزور بغداد يجب ان تغامر بالسير فوق ارصفتها العتيقة وبين اسواقها وشوارعها التي أرختها روايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومسرحيات يوسف العاني وخليل شوقي وقصائد الرصافي والزهاوي والسياب وملا عبود الكرخي ولوحات جواد سليم وخالد الرحال واسماعيل فتاح الترك وكتابات حسين مردان ومحمد شمسي وسهيل سامي نادر ورياض قاسم وانت تصغي لعزف عود منير بشير ومقامات القبانجي ويوسف عمر وأغاني ناظم الغزالي. يا لهذا الحنين المتعب والقاتل الذي يمشي في دمنا ونحن نقتفي خطواتنا قبل عشرات السنوات وسط زمن ما عاد زمننا وفي بيئة تحولت الى خرائب في ذاكرة اليوم.
كانت بغداد مدينة متلاصقة بقوة كنوع من انواع الدفاع والاحساس بالأمن والاستقرار، عبارة عن احياء سكنية لا تفصل بينها شوارع او طرق عريضة سوى الازقة التي تمشي الى عمق الاحياء فإما ان تصطدم ببيت ولا مخرج لهذا الزقاق او ان يفضي الزقاق الى زقاق آخر حيث تصطف البيوت على جانبي الزقاق بشكل غير منتظم.. تلك هي بيوت بغداد وعوائل بغداد التي يجاور فيها العامل الفقير التاجر الغني ولا شيء يدل على غنى هذا البيت او فقره سوى العمارة الخارجية للدار ونوع خشب الباب المحفور بدقة واشكال الشناشيل والشبابيك التي تطل على الخارج.
ثم جاء الحدث الكبير الذي غير حياة بغداد، غيرها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ذلك هو شق شارع في وسط جسد المدينة الآمنة المتلاصقة، شارع في جهة الرصافة يفصل بين الاحياء ويباعد بين العوائل المتقاربة ويهدد أمن تلك البيوت واستقرارها ويجعلها مكشوفة امام الآخرين.
كانت فكرة شق اول شارع عام في بغداد من ابداع آخر والي عثماني وهو خليل باشا. وكان آخر والٍ عثماني لبغداد غادرها عام 1917 في الحادي عشر من مارس (آذار). وحسبما يذكر الباحث التراثي باسم عبد الحميد حمودي في كتابه «شارع الرشيد» الذي صدر عن دائرة الشؤون الثقافية عام 2002، فان افتتاح «الشارع كان يوم 23 يونيو (تموز) 1916 وهو يوم اعلان الدستور وكان يمتد من الباب المعظم الى منطقة السيد سلطان علي وسمي أول الأمر باسم «جادة خليل باشا» و«الجادة العامة» أو «الجادة» اختصاراً. كانت العربات التي تجرها الخيول (الربلات) هي واسطة النقل المفضلة في شارع الرشيد، والربلات هذه كانت تنقل الناس الى الكرخ ايضاً مروراً بشارع الرشيد بأجرة قدرها ثلاثة فلوس للراكب الواحد.
وكأي حركة جديدة تستهدف للمرة الاولى جسد بغداد فقد وقف ضدها الكثيرون متهمين خليل باشا بشتى التهم، وبانه يريد تفريق بغداد وتدميرها، ولأن الشارع الجديد لم يكن معبدا فقد كانت الاتربة تطير فيه عند مرور أي عربة فيه. وكان موقف الشاعر معروف الرصافي الذي يحتل تمثاله البرونزي اليوم ركنا مهما من اركان شارع الرشيد، قد هجا الشارع مشددا على ذكر مساوئه في قصيدة هذا مطلعها:
* نكب الشارع الكبير ببغداد - ولا تمشي فيه الا اضطــرارا
* تتراص سنابك الخيل فيه - ان تقحمن وعثه والغبــارا
* فهي تحثو التراب فيه على - الأوجه حثوا وتقذف الاحجارا
* لو ركبت البراق فيه أو البر - ق نهاراً لما امنت العثارا
* واذا ما مشيت في جانبيه - فتجنب رصيفه المنهارا
* ودكاكين كالافاحيص تمتد - يميناً بطوله ويسارا. ويدرس الباحث حمودي تاريخ الشارع من ناحية ذكراه في الرواية العراقية، مشيرا الى تراثه الكـبير، وادواره التـاريخية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عشرين رواية وقصة منها يذكر منها: «الرجل الذي ضحك اخيرا» لمحمد جودي محمد، و«النخلة والجيران» لغائب طعمة فرمان، و«صيادون في شارع ضيق» لجبرا ابراهيم جبرا التي نشرها بالانجليزية عام 1960 وترجمها د. محمد عصفور الى العربية عام 1974 فيقول عنها حمودي «هي الرواية الوحيدة التي اعتنت بالمكان ـ الشارع ـ عناية فائقة واتخذته مكانا رئيسا لاحداث». ويذكر الباحث عادل العرداوي بان «تاريخ تبليط الشارع تم اوائل سبتمبر (ايلول) 1926، ثم ينقل لنا مضامين قرارات مجلس امانة العاصمة في منع بعض المهن في الشارع منها مثلا القصابون والصفارون والندافون ومهن اخرى، مشيرا الى ان تعديلات وتوسيعات جرت للشارع في الاعوام 1936، 1946، 1958. وسرعان ما غدا شارع الرشيد الذي يبلغ طوله اليوم 3 كيلومترات و120 مترا، واحدا من اهم شوارع بغداد على الاطلاق بل معلم من معالم العاصمة العراقية ومركز انشطتها الثقافية والسياسية والاقتصادية حيث انطلقت من جامع الحيدر خانة فيه اهم التظاهرات السياسية وجلس في مقاهيه ابرز الكتاب والمعماريين والمسرحيين والشعراء والموسيقيين. وتفرع منه اكبر واشهر اسواق بغداد وهي الشورجة وسوق الصفافير (النحاسين) وسوق السراي وشارع المتنبي، وفيه تأسست اكبر المصارف العراقية وافتتحت اضخم المكتبات كما كان يضم اول واكبر دور العرض السينمائي امثال روكسي وريكس وعلاء الدين، وجميع هذه الصالات اغلقت وتحولت الى مخازن للمواد التجارية او مطاعم. يتميز شارع الرشيد من حيث عمارته باعتماده اسلوب الاعمدة وما من بناية من ابنيته الا وقامت على الاعمدة التي اعتنيَّ كثيرا بشكل تاجها وبنائها، لذا عندما نلقي نظرة عامة على هذا الشارع سنرى مجموعة من الاعمدة الكونكريتية تصطف على جانبيه مثل غابة تحيط بممر ضيق. لكن حال الشارع اخذت بالتدهور تدريجيا بعد ان اهملت امانة بغداد كل مشاريع تطويره التي اقترحها كبار المهندسين العراقيين؛ وعلى رأسهم البروفسور محمد مكية وقحطان المدفعي وعدنان أسود. ومن هذه الخطط اعادة صيانة ابنيته التراثية المهمة، والتي تمثل انموذجا في تاريخ العمارة العراقية، ومنع سير المركبات (السيارات) فيه وجعله للمشاة فقط، تحديد المهن التي تنتشر فيه على ان تكون مهن ثقافية وتراثية وتقليدية. لكن ابنية شارع الرشيد بدأت بالتصدع وبعضها تعرض للانهيار وتغيرت مهن اصحابه او المهن المنتشرة فيه الى محلات للمواد الاحتياطية للسيارات ومحلات سمكرة وحدادة وميكانيك السيارات وغالبية مقاهيه اغلقت وتحولت الى مخازن لبضاعات مختلفة. الشاعر والباحث العراقي الدكتور مالك المطلبي الذي امضى جل عمره ومنذ رحيله من مدينته العمارة الى بغداد في الستينات من القرن الماضي في مقاهي شارع الرشيد ومكتباته برفقة صديقيه (الراحلين)؛ موسى كريدي ومحمد شمسي، يقول «كان هذا الشارع يجمعنا، يضمنا اليه بحنان وقوة، اليوم هناك غربة، فالشارع بدا غريبا حتى عن جسد المدينة ونحن صرنا غرباء عنه كون المقاهي اغلقت والمكتبات ما عاد وجود لها وحلت محلها محلات ميكانيك السيارات». كانت في هذا الشارع محلات تبيع وتصنع المرايا في منطقة باب الآغا، ومنها يتفرع زقاق تخصصت محلاته في صناعة المرايا وبيع الزجاج الخاص بالنوافذ (العراقيون يسمون زجاج النوفذ جام) بالجملة، وسمي هذا الزقاق بـ«عقد (عكد) الجام»، لم يعد وجود لا للزجاج ولا للمرايا التي كانت تعكس آلافا من صور المارة الذين ما عادوا يمرون من هناك بسبب غياب المرايا حيث تحولت محلات صناعتها الى مخازن مختلفة. ازقة شارع الرشيد هي الاخرى اهملت وانتشرت تلال الزبالة في كل مكان، وسوق الشورجة احترق اربع مرات، ومنطقة السنك من الشارع تحولت الى وكر للارهابيين وخطف الناس وصار الشارع مهجورا منذ فترة ما بعد الظهر.
يرتبط شارع الرشيد بشارع شهير آخر وهو واحد من عناوين مجد بغداد، ذلك هو شارع ابو نؤاس الذي يمتد على طول شاطئ دجلة، والذي شهد تاريخ التطور الاجتماعي لبغداد منذ ثلاثينات القرن الماضي حيث كانت البلاجات الخاصة بعوائل بغداد والتي تستقبل البغداديات وقت الفجر قبل ان يزحف الرجال الى تلك البلاجات في فصل الصيف، وتطور شارع ابو نؤاس محتضنا اجمل المقاهي ومطاعم السمك المسكوف بينما الزوارق البغدادية تتهادى في مياه دجلة التي تعكس آلاف الالوان المنبعثة من مصابيح المقاهي والمطاعم.
شارع ابو نؤاس شهد الخراب منذ عهد الرئيس السابق صدام حسين الذي سوره بسياج حديدي ومنع الناس من الوصول الى النهر بسبب وقوع القصر الجمهوري ومعظم قصور وبيوت المسؤولين الحكوميين والحزبيين المقربين من صدام حسين في الضفة المقابلة للشارع.
بل ان صدام حسين اراد في اوائل الثمانينات تغيير اسم الشارع المنسوب لشاعر عباسي معروف (ابو نؤاس) والذي يتوسط تمثاله الذي ابدعه النحات الراحل اسماعيل فتاح، متنزهات الشارع. ففي اوائل الثمانينات اقترح صدام خلال ندوة ضمت المثقفين العراقيين تغيير اسم الشارع كون ابو نواس فارسي الاصل. وكان العراق يخوض حربا مع ايران، واقترح ان يسمى بالشارع العباسي، ويزال تمثال ابو نواس. لم يتحدث أي من الحضور ولم يعترض على مقترح صدام أي مثقف، ومن ذا الذي يعارض مقترحه؟ باستثناء الكاتب الكبير جبرا ابراهيم جبرا لم يعترض أحد. نهض جبرا وطلب حق الكلام شارحا اهمية اسم الشارع الذي صار معلما عراقيا معروفا عالميا، «ثم ان ابو نؤاس شاعر عباسي عاش في بغداد العباسية وتتلمذ في مدارسها، ونظم الشعر العربي في وقت كانت فيه بلاد فارس تابعة للامبراطورية او الخلافة العباسية». صمت الجميع في انتظار ردة فعل صدام حسين الذي عرف من وقف بوجه مقترحه، كان جبرا اديبا عالميا اكثر منه عراقي او عربي ومثله من الصعوبة ان توجه له عقوبة، وافق صدام على ما قاله جبرا، وقال «انا اقترحت لأسمع رأيكم، وراي الاستاذ جبرا صحيح وسيبقى اسم الشارع مثلما هو». وعلى مقربة من تمثال الشاعر ابو نؤاس هناك نصب شهريار وشهرزاد البرونزي والذي نحته الفنان محمد غني حكمت حيث يجلس شهريار مسترخيا بينما تقف بقربه شهرزاد تقص عليه احدى حكايات الف ليلة وليلة. كان الاطفال يتسلقون التمثالين والعوائل تتسابق لالتقاط الصور التذكارية معهما، اما اليوم فقد هجر البغداديون وبالقوة شهريار وشهرزاد التي توقفت والى الابد عن الكلام المباح.
شارع ابو نؤاس مغلق حاليا ومحاط بالاسلاك الشائكة، ومياه نهر دجلة ابتعدت عنه بحاجز من نباتات البردي، لم يعد هناك أي مقهى او مطعم او ناس في هذا الشارع الذي كان يزدحم بالالاف يوميا، وتعرضت حدائقه للجفاف وغابت عنها اشجار النخيل والاشجار الاخرى التي كانت تزين هذا الشارع الذي يعد عصب الحياة الاجتماعية ومكمنَ الترفيه العائلي البريء. بموازاة شارع الرشيد، ونحو الشرق منه افتتح في عهد عبد الكريم قاسم، رئيس اول حكومة في العهد الجمهوري، شارع تميز برفاهية عرضه قياسا لضيق شارع الرشيد، ربط بين ساحة التحرير وساحة باب المعظم مرورا بالميدان، هذا الشارع من مخططات مجلس الإعمار في العهد الملكي لكن افتتاحه صادف العهد الجمهوري فحمل اسم «شارع الجمهورية».
شارع الجمهورية هو الاخر قطع جسد المدينة الى اوصال متباعدة، وقامت ضده احتجاجات شعبية واسعة بالرغم من التعويضات التي منحت للمتضررين من اصحاب العقارات الذين ابتعدوا عن المنطقة واشتروا لهم بيوتا جديدة في المناطق السكنية الحديثة البعيدة عن مركز بغداد. وعلى العكس من عمارة شارع الرشيد فان الابنية في شارع الجمهورية جاءت عالية واختفت الاعمدة منها كطراز مميز، بل على العكس ما ميز الشارع الجديد هو عدم استخدام الاعمدة واعطيت للمعماري العراقي حرية التعبير عن الشكل الخارجي وعكس روحية العمارة العراقية الحديثة. ولعل اشهر عمارة في ساحة الخلاني التي هي جزء من شارع الجمهورية بناية اتحاد الصناعات العراقي التي صممها المعماري رفعت الجادرجي، وهناك بنايتان من تصميم المعمار عدنان أسود، وسرعان ما اتسعت حركة العمارة في هذا الشارع الذي يضم ابنية وزارات واسواقا حديثة ومهمة، ولعل من اهمها سوق الغزل والسوق العربي والطرف الآخر من سوق الشورجة ووزارة التجارة وامانة بغداد.
على ان جميع هذه المناطق تقع في الجانب الشرقي من بغداد او ما يعرف بجانب الرصافة وبين هذه المناطق والشوارع تقع الاحياء السكنية التي تتداخل فيما بينها، ذلك ان بغداد هي عبارة عن احياء سكنية متلاصقة ومدينة افقية عريضة.
يقول الباحث كمال الكرخي «اسمع اليوم عن هجمات تستهدف مناطق شيعية واخرى سنية، وان هناك من يريد عزل الشيعة عن السنة وتكوين احياء سنية واخرى شيعية، وهذا مستحيل لان في كل محل من محلات بغداد السكنية شيعة وسنة ومسيحيين. وكان هناك يهود فكيف لهم ان يميزوا بين عائلة واخرى، وهذا التلاصق نشأ عنه تصاهر عائلي». كان ما يميز بغداد هو اسواقها، ولكل سوق اختصاصه، فعندما تحتاج الى القرطاسية تذهب مباشرة الى سوق السراي، وعندما تريد شراء تحفة نحاسية مشغولة بصورة فنية راقية فهناك سوق الصفافير، لكن هذه الاسواق هي الاخرى غادرتها مهنها وغادرها حرفيوها.
في سوق الصفافير لم نعد نسمع تلك الطرقات المتلاحقة من قبل مطارق النحاسين على صفيح النحاس لتزيينه وتجويله الى قطعة فنية نادرة، يقول عبد العزيز الصفار وهو يجلس وسط هدوء السوق مراقبا ما يحدث حوله «نتذكر ان هذا السوق كان يزدحم منذ الصباح وحتى المساء بالمارة لكن اليوم تحولت محلاته الى مخازن للقماش بعد ان زحف البزازون من سوق دانيال الى سوق الصفافير. كما جاء اليه باعة الفوانيس والمدافئ النفطية وضاع اختصاص السوق الذي يمتد تاريخه الى العصر العباسي. كما تغيرت هوية سوق الخفافين الذي بني في ذات الفترة التي بنيت فيها المدرسة المستنصرية».
جسور مصادرة: كنت أرتشف شايا عراقيا من دكان بغدادي في وقت مبكر من الصباح في انتظار صديق، وهو طبيب جراح في مدينة الطب، لأرافقه الى هناك عندما سمعت انفجارا هز المنطقة. وسماع الانفجارات في بغداد أمر مألوف، بل انه ليس من المألوف ان لا تسمع أي انفجار، لكن يبقى ان نعرف مصدر الانفجار واين حدث وكم هم الضحايا. بعد قليل رن هاتفي الجوال وكان على الطرف الاخر صديقي الطبيب الذي اعتذر عن موعدنا كونه سيتأخر عن عمله وهناك ثلاث عمليات جراحية في انتظاره، سألته ولماذا سنتأخر، اجاب بصوت حزين للغاية «لقد فجروا جسر الحديد الذي اعبر فوقه كل يوم الى عملي وساضطر لاختيار طريق آخر وسيكون الازدحام شديدا». كانت الدموع قد سالت من عيني رغماً عني وانا اسمع هذا الخبر، ذلك اني ارتبط بقصص وحكايات مع هذا الجسر منذ طفولتي، وهو يشكل جزءا مهما من تاريخ وذاكرة غالبية البغداديين، في طفولتي كنت اعبره ويدي معلقة بيد والدي الذي كان يسعده عبور الجسر مشيا في مساءات الصيف، ثم كبرت وصرت أعبره وانا اذهب الى اكاديمية الفنون الجميلة التي امضيت فيها دراستي الجامعية، إضافة إلى سيل من الاحداث والصور والذكريات العاطفية التي امضى غالبية شباب بغداد وقتهم إما فوق الجسر او تحته في حدائق كورنيش الأعظمية. لم تحدث في العراق ردود فعل قاسية وحزينة مثلما حدث مع تفجير جسر الحديد الذي يعد تاريخيا ثاني جسور بغداد بعد جسر الشهداء. وحسب قصة هذا الجسر الذي نفذته شركة بريطانية. ففي أواخر الثلاثينات من القرن الماضي تبلورت فكرة شراء جسر الحديد، والذي كان مقرراً أصلاً تشييده في استراليا حيث لم تتفق الحكومة الاسترالية مع الشركة المنفذة على اقامته هناك لارتفاع ثمنه ولاقى المشروع في العراق اعتراضات كثيرة من قبل الكثير من الاحزاب السياسية آنذاك وحتى من قبل مجلس النواب بسبب كلفته الباهضة. وشيد الجسر واكتمل انشاؤه في بداية الخمسينات. وحسب وثائق امانة بغداد الارشيفية فانه تم الشروع في بناء أول جسر في تاريخ بغداد، وذلك في نهاية الثلاثينات، وهو جسر الشهداء الذي تم افتتاحه عام 1940، ثم افتتاح جسر الحديد عام 1951 وبعده الجسر الثالث وهو جسر الاحرار، وفي عام 1954 تم تشييد جسر الجمهورية الذي يربط الباب الشرقي في الرصافة بمنطقة كرادة مريم في الكرخ.. وفي عام 1957 شيد جسر الائمة الذي يربط الاعظمية في الرصافة بالكاظمية في الكرخ. أما الجسر المعلق في منطقة كرادة مريم فقد تم افتتاحه عام 1964 وهو أول جسر معلق في المنطقة. وأعقبه جسران شيدا خلال العقد السبعيني، هما جسر باب المعظم والذي شيد عام 1977 وجسر المثنى الذي شيد عام 1979 في منطقة صدر قناة الجيش. بينما شهدت الثمانينات اقامة جسر الرشيد في السنك. وخلال التسعينات شيد العراقيون جسر القائد ذي الطابقين، ليكون عدد الجسور في بغداد 12 جسراً. وحسب مسؤول في وزارة الداخلية العراقية، فان اكثر من 68% من شوارع بغداد مغلقة، يضاف اليها الاحياء والشوارع التي اغلقتها الاحزاب واعضاء مجلس النواب المقيمون في هذه الاحياء السكنية ومصادرة الجسر المعلق الذي يقع ضمن المنطقة الخضراء، وجسر الحديد الذي تم تفجيره في الثاني عشر من ابريل (نيسان) الماضي، بينما غالبا ما يتم اغلاق جسري الجمهورية والسنك، واذا اعتبرنا ان جسر الطابقين (كان اسمه جسر القائد ذي الطابقين وتحول بعد 2003 الى اسم جسر الحسنين) شبه مشلول الحركة كونه يؤدي من الجهة الاخرى الى منطقة مشتعلة بالقتال، وهي منطقة الدورة فلم يتبق في داخل بغداد سوى جسر الشهداء العتيق، او اقدم الجسور، وجسر الطلائع في الباب المعظم الذي يتعرض هو الآخر للإغلاق لقربه من شارع حيفا، فلن نحصل خلال اليوم الواحد إلا على جسرين مزدحمين.

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:38 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (4) أهالي الأعظمية يصفون جدارهم بـ «سور الصين العظيم»
بغداد: مناطق ساخنة.. ومناطق أكثر سخونة
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةجندي اميركي يوجه سلاحه نحو بغداد من خلال الهليكوبتر (أ ف ب)
بغداد: معد فياض
بين الدورة، في أقصى كرخ بغداد حيث ينحني نهر دجلة، او يدور، محتضنا جهة الرصافة، ماضيا في جريانه نحو الجنوب، وبين الاعظمية، عروس الرصافة وواحدة من اقدم واجمل احياء بغداد الراقية، من حيث رقي عوائلها، مسافة مؤثثة بالدخان والاسوار الكونكريتية الرصاصية اللون، اسوار.. تفضي الى اسوار.
الدورة محاطة بسور من نار والاعظمية بسور من الكونكريت المسلح بالحديد. ما يربط بينهما وحسب تقسيم القوات الاميركية والعراقية والحكومة ان الحيين السكنيين العتيقين يقطنهما العرب السنة. لكنك عندما تطرح هذا المفهوم على سكان الدورة والأعظمية يسخرون حزنا لهذه الفكرة «السطحية والساذجة» على حد تعبير مهندس يقطن في حي الدورة.
«الشرق الاوسط» وجدت نفسها وخلال زيارة عادية لمنطقة الدورة وسط ساحة قتال حقيقية بين القوات الاميركية ومن يسمون انفسهم بـ«المجاهدين».. في هذه الحلقة من «ايام في العراق» نختصر المسافة بين حصار الدورة وجدار الأعظمية الذي يرفضه اهالي الحي العريق.
كانت الدورة بعيدة عن مركز بغداد الكائن في قلب الرصافة لهذا فكرت الادارة البريطانية بان تبني فيه مصفى نفط الدورة الشهير وهو واحد من اقدم مصافي النفط في العراق، ألحق به وقريبا منه محطة توليد الطاقة الكهربائية، ذلك ان اختيار منطقة بعيدة لتكون مصفى للنفط بحيث لا يؤثر على السكان ولا يتأثر بوجود ناس قريبين منه.
يقال ان الادارة البريطانية هي من منحت الآشوريين ـ او الآثوريين حسب التسمية العراقية، وحسب سامي يعقوب رئيس قسم التصحيح في «الشرق الاوسط» فان الاشوريين لا ينطقون الشين ويتحول الشين عندهم الى ثاء لهذا انقلبت تسمية الاشوريين الى الاثوريين وهم في الواقع ذات القوم ومن بقايا آشور نينوى في شمال العراق ـ المهم ان البريطانيين هم من منح الاشوريين قطع اراض في مقدمة حي الدورة البعيدة وقتذاك عن مركز بغداد لتجنيبهم مشاكل التقسيم العرقي وسمي الحي الذي ما يزال قائما حتى اليوم بحي الاثوريين حيث يقع عند يسار الطريق العام النازل من بغداد باتجاه مصفى نفط الدورة او باتجاه الاحياء السكنية الكثيرة التي نشأت هناك. ويقال ايضا ان الآشوريين كان اغلبهم يعمل في مصفى نفط الدورة واختير لهم هذا الحي ليكونوا قريبين من مكان عملهم.
تقول ام جانيت، وهي قابلة مأذونة «نحن نعيش في هذا الحي منذ اكثر من ستين سنة والآن نهدد بالانتقال الى مناطق اخرى ولا نعرف الى اين نذهب». بينما يشرح صاحب دكان لبيع المواد الغذائية قائلا «انا ولدت هنا وتزوجت وزوجتي أنجبت اولادنا في هذا الحي واليوم يقولون لنا ان لا مكان لنا في الدورة ونحن من اوائل العراقيين الذين سكنوا الدورة ولا يوجد من يدافع عنا او يحمينا، فقد قتلوا ابن جارنا قبل ثلاثة اشهر لا لشيء سوى لأنه صاحب محل حلاقة رجالي، هاجمه المسلحون مساء وأمطروه بالرصاص ومعه اربعة زبائن من شباب الحي».
في عمق الدورة، حيث ينحني نهر دجلة ويدور حول بغداد مثل ام حانية (اخذت منطقة الدورة تسميتها من دوران النهر)، وبمحاذاة جرف نهر دجلة وفي المنطقة التي تسمى (البوعيثة) نسبة الى عشائر تحمل ذات الاسم وتنتمي الى الجبور يقيمون هناك ويعملون في زراعة اراضيهم وتربية ماشيتهم وهم اصحاب اطيان وليسوا فلاحين وينتمون بعمق لهذه المنطقة التي جرد صدام وعائلته غالبيتهم من املاكهم وبنى له ولابنته رغد وبعض اقاربه القصور المطلة على دجلة والحق بها المزارع.
ما بين بداية او الاطراف الغربية التي يقيم فيها الاشوريون وبين العمق الشرقي للدورة الذي يملكه البوعيثة، كانت مناطق زراعية غير سكنية خالية ونائية غير مأهولة ولم يفكر احد بالسكن فيها لبعدها عن بغداد، كانت هناك فقط منشآت مصفى الدورة الذي يرتفع برجه ومنه يخرج لهب لم ينطفئ بالرغم من قصف هذا المصفى لمرات عدة خلال الحروب المتعاقبة سواء من قبل ايران او القوات الاميركية.
فجأة بدأت الدورة تكبر وتتسع من جهتها الغربية القريبة من حي الاشوريين حيث تم تحويل الاراضي الزراعية الى سكنية وتم بناء الاسواق والمدارس والأحياء السكنية التي صارت تزحف باتجاه البوعيثة محيطة مصفى الدورة. حدث هذا بعد ان قامت الدولة بتوزيع الاراضي السكنية على المعلمين والصحافيين والعسكريين فنشأت احياء مثل حي المعلمين وحي الاعلام وحي الضباط.. وهكذا. انتبه لهذه الحركة العمرانية خير الله طلفاح خال صدام حسين ووالد زوجته ساجدة، وكان معروفا بحبه لامتلاك الاراضي حتى ان العراقيين كانوا يقولون سخرية ان الحاج، وهذه كنيته بين العراقيين، لم يكن يملك في بغداد سوى قطعتي ارض هما الكرخ والرصافة. اشترى الحاج، خير الله، غالبية اراضي الدورة من الدولة بعد ان اعتبرت اراضي عسكرية وحسب القانون فان سعر المتر المربع في هذه الحالة يكون 60 فلسا، اي مجانا، ثم باع الحاج هذه الاراضي حسب تسعيرته في المنطقة التي كانت تحمل اسم جمعية خير الله طلفاح وهي اوسع مناطق الدورة وله (خير الله) ولابنائه فيها قصور تطل على دجلة مباشرة.
حسب هذا الايجاز لتاريخ هذه المنطقة التي يرد تعريفها في الاخبار على انها منطقة ساخنة جدا، فان غالبية سكان الدورة هم من السنة والشيعة والمسيحيين بكل طوائفهم، يوجد في الدورة الكثير من مساجد المذهبين الشيعي والسني، كما توجد فيها اكثر من اربع كنائس، احدى هذه الكنائس تدعى كنيسة السيدة مريم العذراء وكان المعماري العراقي المعروف عدنان اسود قد وضع تصميمها ونحت بعض الافاريز الحائطية فيها وتحولت الى قطعة معمارية فنية ابداعية، وللأسف لم تسلم هذه الكنيسة من تفجير دبرته جماعة تكفيرية. كما يعيش فيها الكثير من ابناء الديانتين اليزيدية والصابئة حيث يقع معبدهم (المندي) على مسافة قريبة من الدورة، في حي القادسية على ضفاف دجلة وهذه عادة الصابئة في اقامة معابدهم على ضفاف الانهر لتعميد ابناء الطائفة بماء النهر الجاري.
لم يحدث في تاريخ العراق وفي مختلف مراحله ان تم سؤال العراقي عن دينه او طائفته او مذهبه او قوميته، فعندما تمنح له قطعة ارض كونه موظفا في الدولة او عندما يشتري قطعة الارض السكنية من ماله الخاص، وانا شخصيا كنت من سكنة حي الاعلام في قلب الدورة في بداية الثمانينات وكان لنا جيران من الشيعة والسنة وكنيسة المسيحيين كانت على بعد 500 متر من بيتنا. وحتى اليوم لا احد يعرف كيف تم هذا الفرز الطائفي لسكان الدورة.
تنقسم الدورة طائفيا اليوم كالتالي، حي المهدي في بداية الدورة، شيعة، ثم يأتي حي الاعلام المصنف مع السنة، اما حي الميكانيك فهو مختلط من السنة والشيعة والمسيحيين الذين تم تهجير غالبيتهم بعد تفجير كنائسهم هناك، اما حي المعلمين والبوعيثة فهذه احياء سنية. وعندما نتجه جنوبا وبمحاذاة الطريق الذي يربط بين بغداد واليوسفية باتجاه مدن الحلة او كربلاء والنجف حيث يقع هور رجب تزداد المسألة تعقيدا اذ ان هذا الحي تم توزيع اراضيه لنواب الضباط (رقيب) في الجيش العراقي من غير ان يتم تصنيفهم سواء كانوا من السنة او الشيعة. ويعترف النائب ضابط المتقاعد صالح عبد الله (سني) بان عمليات تهجير قسرية مارستها جهات سنية ضد الشيعة في مناطق واسعة من الدورة التي وقعت تحت سيطرة المسلحين السنة لفترة طويلة، وما زالت بعض المناطق بأيديهم حتى اليوم.
في اليوم الرابع من زيارتي لبغداد هاتفت صديقاً لي وهو صحافي وزوجته كانت زميلة لنا واليوم هي استاذة في كلية الاداب بجامعة بغداد، مضى اكثر من 18 عاما دون ان نلتقي اذ كانا يعملان في ليبيا وعادا قبيل تغيير النظام عام 2002، اصرا على دعوتي لتناول اكلة عراقية وقت الغداء، ذلك ان دعوات العشاء اختفت في بغداد بسبب منع التجوال والظروف الامنية، واتفقنا على زيارتهما يوم السبت مبكرا لأعود مبكرا. عند الساعة العاشرة من صباح السبت كنت اعبر، مع قريب لي ساعدني في تنقلاتي بواسطة سيارته، جسر الطابقين، كان اسمه جسر القائد ذو الطابقين واليوم وبعد سيطرة المجلس الاعلى الاسلامي في العراق والذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم على الجسر من جهة الرصافة (الكرادة) صار اسمه جسر الحسنين ( الامامين الحسن والحسين).
اتجهنا نحو الدورة، لكن ما حدث هو اننا وجدنا انفسنا في ميدان يشبه ميادين المعارك، طائرات هليكوبتر اميركية تحلق بكثافة فوق الجزء الغربي من المدينة بينما دبابات ومدرعات اميركية وعراقية تسد الطرق ورجال من القوات الاميركية والعراقية يتجولون في الشوارع بكامل اسلحتهم وهم يتخذون مواقع احتياطية خشية من هجمات. انزلقنا الى شارع صغير فرعي في حي سكني، كان الشارع خاليا تماما من المارة والدكاكين مغلقة، لكننا كنا نرى ان هناك عيونا تتابع المشهد من خلال فتحات ابواب الحدائق. بعد قليل بدأ اطلاق النار من طرف واحد، اصوات اطلاق النار كانت قريبة وقوية، بعد قليل جاء الرد عليها، ميزنا اصوات اطلاق النار التي ردت كانت تنطلق من رشاشات كلاشنيكوف. وجدنا انفسنا في ورطة حقيقية، كنت اعتقد ان هذه الورطة او المفاجأة هي مجرد صدفة نادرة الحدوث، لكنني عرفت فيما بعد بان هذا المشهد يتكرر في الدورة باستمرار ويكاد يكون يوميا.
عندما حاولت الاتصال بصديقي لاعتذر منه لعدم الحضور للاسباب الراهنة اكتشفت ان هاتفي الموبايل قد مات تماما، لا يتصل ولا يستقبل مع ان هناك اشارة وجود شبكة جيدة، قال لي قريبي «لا تعتمد هنا على اشارة الشبكة فهذه اشارة وهمية او شبكة وهمية»، مشاكل الاتصال بواسطة الموبايل كثيرة ومعقدة اذ تنقطع الاتصالات وفي جميع الشبكات ليوم او اكثر من غير ان تعرف السبب او حتى من غير ان تحصل على ايضاح او اعتذار من الشبكات المعنية التي تحصد ارباحا بملايين الدولارات شهريا.
تجرأ احد السكان وخرج مراقبا الموقف، تشبثنا به ليعلمنا عن طبيعة الحال، دعانا للاستراحة في حديقة منزله بعد ان أطمأن لنا وعرف بأنني صحافي من خارج العراق، سمح لنا بان نذكر لقبه (الجبوري)، مدرس لغة انجليزية متقاعد، قال «كنت اعمل مدرسا في ثانوية الدورة التي تقع بين حي المهدي والميكانيك واليوم لي محل للالبسة النسائية في سوق الدورة»، احضر لنا ولده عرفان الشاي «سالت عرفان عن عمره، قال انا في نهاية دراستي الاعدادية وسامتحن لأحصل على البكالوريا، وراح يشرح لنا ظروف حياتهم الصعبة فالمدرسة تغلق ابوابها لثلاثة ايام او اسبوع احيانا بسبب هذه الظروف. قال «نحن ندرس بلا كهرباء ولا حتى ماء وفي ظروف مستحيلة وعلينا ان نحصل على درجات عالية لندخل كليات مهمة، انا اريد ان ادرس الهندسة الميكانيكية ولكن كيف في ظل هذه الظروف»، اضاف قائلا «نحن حبيسو البيت، عندي حاسوب (كومبيوتر) لكن خدمات الانترنت سيئة هنا، حاليا امضي جل وقتي في الدراسة والله كريم».
قال والده مدرس اللغة الانجليزية السابق «نحن عائلة تتكون من سبعة افراد،، زوجتي ايضا كانت معلمة في مدرسة بلاط الشهداء، هذه المدرسة تعرضت لقصف صاروخي خلال الحرب العراقية الايرانية وراح فيها الكثير من الضحايا من الطالبات والمعلمات، ولي ثلاث بنات وولدان اكبرهم عرفان وأصغرهم آية عمرها تسع سنوات، البنات لا يذهبن الى مدارسهن بسبب سوء الاوضاع الامنية ونخشى ان يتعرضن للاختطاف او القتل لهذا نقوم انا وزوجتي بتدريسهن هنا بالاتفاق مع ادارات مدارسهن على ان يذهبن خلال الامتحانات الفصلية وهناك الكثير من اولياء امور الطالبات قد توصلوا لمثل هذه الحلول مع ادارات المدارس خاصة في المناطق الساخنة».
اعلمني مضيفي بان «في مثل هذه الحالات عندما يتم تطويق الدورة ومحاصرتها تقوم القوات الاميركية بالتشويش على شبكات الموبايلات كي لا يتبادل (المجاهدون) المعلومات حول وجود القوات الاميركية وعددها»، مشيرا الى ان «فترات الحصار هذه تمتد لأيام عدة ويضطر الناس الى المضي مشيا الى اعمالهم».
ولا ينكر الجبوري وجود من يسميهم بالمجاهدين، قال «نعم توجد في هذه المنطقة مقاومة عراقية ضد القوات الاميركية والعراقية وهذه المقاومة سنية ولم نسمع في الحي الذي نقيم فيه على الاقل بحالات تهجير لعوائل شيعية، وغالبا ما نجد منشورات موقعة باسماء كجيش الراشدين او جيش محمد او تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وغيرها تمنع فتح المحلات التجارية او تمنع ذهاب الناس الى اعمالهم وهكذا نحن بين سندان القوات الاميركية ومطرقة (المجاهدين)».
بعيد الساعة الواحدة ظهرا انسحبت الهليكوبترات من فضاء الدورة كما جرجرت المدرعات والقوات الاميركية والعراقية آلياتها وأفرادها وعادت الحركة الى شوارع الحي فقررنا الانسحاب الفوري من المنطقة كي لا نتعرض لحصار آخر.
في ليلة ذات اليوم كنت في حديث مع عضو مجلس النواب مثال الآلوسي في منزله عن الاوضاع السياسية في العراق عندما ظهر عدد من العراقيات والعراقيين على شاشة احدى الفضائيات العراقية وهم يشكون من اقامة جدار الأعظمية العازل، كانوا جميعهم من اهالي الاعظمية، واعتبروا هذا الجدار عارا على العراقيين وسيشكل بالنسبة لهم سجنا كبيرا. حدق الآلوسي في شاشة التلفزيون قبل ان ينفجر غضبا وقال «ارايتم الى اين وصلت الاوضاع السياسية.. والله هذا عيب على العراق والعراقيين ان يقسموا بغداد الى احياء سنية وأخرى شيعية بعدما اطلقوا هذه الصفات الطائفية على المحافظات. نحن كلنا عراقيون ماذا يعني هذا شيعي وذاك سني»، كان يجلس معنا احد اعضاء حزب الامة العراقية الذي يتزعمه الآلوسي، قال «انا سني لكنني متزوج من شيعية منذ سنوات طويلة فهل هذا يعني اني يجب ان اقاتل أخوال اولادي او هم يقاتلون زوج اختهم، هذا عيب».
يصف اهالي الاعظمية السور الذي فرض عليهم بسور الصين العظيم، وبعضهم يشبهه بالأسوار المفروضة حول المدن الفلسطينية من قبل السلطات الاسرائيلية. وعلى العموم فهو سور كونكريتي بلون الاسمنت عال وعازل للمنطقة عن باقي مناطق بغداد.
استمدت الأعظمية اسمها من الامام الاعظم، النعمان بن ثابت بن النعمان المعروف بأبي حنيفة المولود في الكوفة سنة (80 هـ 699م)، وهو شيخ احد المذاهب السنية الاربع، الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي، والذي يقوم مرقده ومسجده في الركن الرئيسي للاعظمية في جهة الرصافة من بغداد مقابلا للامام موسى الكاظم الذي يقع ضريحه ومسجده في جهة الكرخ وما يفصل بين الكاظمية والاعظمية نهر دجلة ويربط بينهما جسر الائمة.
ويعود تاريخ الاعظمية الى العصر العباسي حيث تذكر المصادر التاريخية ان الخلفاء العباسيين واغنياء بغداد كانوا يقيمون اماسي السمر والغناء في قصور شبه سرية في بساتين الاعظمية التي كانت بعيدة عن اعين العامة، بل ان قصر ام حبيب ابنة هارون الرشيد يقوم حتى اليوم في الباب المعظم على نهر دجلة عند اطراف الاعظمية وقتذاك.
تتألف الاعظمية من احياء سكنية مشهورة مثل راغبة خاتون والسفينة ومحلة الشيوخ وشارع طه والكسرة والمقبرة الملكية وراس الحواش والصليخ. يسكن هذه الاحياء عوائل بغدادية اصيلة سنية وشيعية لكن الغالبية فيها من العرب السنة الذين يتبعون مذهبيا الامام ابو حنيفة، وتضم احياء سكنية راقية ومترفة الى جانب احيائها المتواضعة لكنها ليست فقيرة.
وعرف عن الرجال من اهالي الاعظمية اجادتهم ترتيل وتجويد القرآن الكريم حيث تتلمذ غالبيتهم على ايدي شيوخ كبار في مسجد الامام الاعظم، والبعض من هؤلاء تحول الى قراءة المقام العراقي واشتهر به، بل ان خريجي مدرسة الأعظمية لقراءة المقام العراقي هم الافضل اليوم ويأتي في مقدمتهم حسين الأعظمي وسعد الأعظمي.
كما اشتهر رجال الأعظمية ومنذ وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتفوقهم في رياضة (الزورخانة) الشعبية ورياضتي الملاكمة والمصارعة لهذا نجد ان اول ناد رياضي في بغداد تم بناؤه في الأعظمية وهو قائم حتى اليوم باسم النادي الاولمبي.
لقد أغرى موقع الأعظمية وخاصة المناطق المحاذية لنهر دجلة الرئيس العراقي السابق صدام حسين على ان يبني لزوجته الاولى ساجدة خير الله ثلاثة قصور مقتطعا من اراضي متنزه كورنيش الأعظمية الذي كان مخصصا لعامة الناس اضافة الى ثلاثة قصور لقادة بعثيين ومنع أي عراقي من شراء العقارات في الاعظمية ما لم يكن من اهالي المنطقة ذاتها.
تتوسط الجهة الجنوبية للاعظمية ساحة (ميدان) عنتر التي كانت تضم تمثالا لعنتر بن شداد منفذ بأسلوب تجريدي وتم نقل التمثال الى متنزه الزوراء والغاء الساحة التي تؤدي الى كورنيش الاعظمية غربا ومركز الاعظمية وحي الصليخ شمالا وشارع المشاتل والطريق السريع شرقا، هذا على افتراض اننا نترك خلف ظهرنا منطقة الكسرة التي كانت تضم بنايات البلاط الملكي.
عند يمين ساحة عنتر يبدأ خط سور الأعظمية الذي يعزل شارع المشاتل ومن ثم الطريق السريع عن الأعظمية، او بالأحرى يعزلها عن هذه المناطق ثم يمتد شمالا حتى تخوم الصليخ، وفي الجهة الغربية من الأعظمية يعزل هذا السور المدينة عن نهر دجلة.
يعلو السور بارتفاع ستة اقدام ومبني من الكونكريت المسلح ولم يكتمل حتى الان في جميع اجزائه بل تعمل الفرق الهندسية في القوات الاميركية ليلا لإكماله بعيدا عن ضجيج النهار واحتمالات السيارات المفخخة والانتحاريين.
على ان سور الاعظمية هو ليس اول الاسوار التي عزلت بين مناطق بغداد المتلاصقة بحميمية، فهناك السور الذي يفصل منطقة الحارثية قرب ساحة الاحتفالات الكبرى في جانب الكرخ عن حدود المنطقة الخضراء. سور الاعظمية اثار الكثير من الاحتجاجات السياسية والاجتماعية سواء من قبل اهالي الأعظمية او غيرهم. عدنان الدليمي رئيس كتلة التوافق في مجلس النواب (الرلمان) العراقي، قال «إن الجدار الذي سيفصل حي الأعظمية عن المناطق المجاورة ذات الأغلبية الشيعية، سيولد المزيد من النزاع في المدينة»، واصفا هذا الجدار بـ«الكارثة».. وأضاف الدليمي قائلا «إن جدار الأعظمية سيفصل الحي عن بقية أنحاء بغداد ويؤدي لمزيد من العنف في المدينة».
الجيش الاميركي برر قيام هذا الجدار على انه «يهدف لمنع تصاعد أعمال العنف الطائفي بين السنة والشيعة في المدينة، وأن الأعظمية ستصبح لدى انتهاء العمل في الجدار مسيجة بجدار فاصل عليه بوابات يحرسها رجال شرطة عراقيون يراقبون الدخول إليها والخروج منها».
وفي تصريحات صحافية للكابتن سكوت مكليرن من كتيبة الإسناد 407 التي تقوم ببناء الجدار قائلا: «إن المسلحين الشيعة يأتون إلى هنا لمهاجمة السنة ويرد السنة بعمليات انتقامية». وكانت هذه الكتيبة قد بدأت في عملية البناء في العاشر من ابريل، ويمارس الجنود الأميركيون مهمتهم كل ليلة لإنجاز المشروع بأسرع ما يمكن.
وحسب بيان للجيش الأميركي فإن «الجدار الخرساني سيشمل حواجز فاصلة بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف وإنه «جزء رئيسي من الاستراتيجية الجديدة التي تتبعها القوات الأميركية والعراقية لكسر دائرة العنف التي تعيشها بغداد».
ماجد عبد العزيز صاحب محل مواد كهربائية في منطقة راس الحواش في وسط الأعظمية وصف جدار الاعظمية بـ«الجدار العازل الذي حول منطقتنا المنفتحة على النهر والبساتين وعلى بقية الاحياء البغدادية الى سجن كبير يحاصرها بلونه الكونكريتي القاتم الكريه»، واضاف عبد العزيز قائلا لـ«الشرق الأوسط» ان «هذا الجدار هو عقوبة لأهالي الأعظمية وليس حماية لهم». أم تحسين، امرأة في اواسط الخمسينات من عمرها كانت تنتظر وصول ولدها من جامعته عند باب بيتها، قالت لنا «ممن يحموننا بواسطة هذا الجدار، الاعظمية فيها سنة وشيعة ومسيحيون عرب واكراد، انا شيعية واسكن هنا منذ تزوجت قبل اكثر من 30 عاما ولم اتعرض لاية مضايقة او يتعرض جيراني لمضايقات بل نحن تحولنا الى عائلة واحدة»، وقبل ان تغلق بابا حديقة بيتها قالت «اخشى ان يقيموا غدا جدراناً عالية بين بيت وآخر».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:39 AM

  رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (5) مدينة بـ 3 أسماء يحكمها قانون السلاح
خرج منها شعراء وفنانون وأصبحت محاصرة بالبرك الآسنة ومحاكم الملالي وجيش المهدي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةعجوز من مدينة الثورة حزينة لانفجار سيارة مفخخة قرب دارها (أ ف ب)
بغداد : معد فياض
من يتعرف على مدينة الثورة والتي سماها صدام حسين فيما بعد بمدينة صدام ثم انتهت باسم مدينة الصدر بعد سقوط النظام عام 2003، من خلال الاعلام المرئي فقط سوف يتصورها مدينة خارجين على القانون وعصاة وقتلة ومعسكرا لجيش المهدي فقط، حيث اللقطات التي تتكرر في شاشات التلفزيون كلما ورد خبر عن مدينة الثورة (الصدر) يظهر بعض الشباب الذين يرتدون ملابس غير متناسقة وهم يحملون رشاشات الكلاشنيكوف، باعتبارهم من هواة القتل ليس الا.
وبالرغم من ان بعض هذه المشاهد تشكل جزءا بسيطا من الحقيقة، خاصة في ما يتعلق باتباع جيش المهدي، الا ان الصورة العامة وما يخص شرائح واسعة وكبيرة من سكان هذه المدينة الذين ربما يزيدون على المليوني عراقي هي غير ذلك تماما.
في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تمضي «الشرق الاوسط» يوما كاملا في هذه المدينة المضطربة بفعل اضطراب انتماءات ناسها وتناقضات اوضاعها.. فمنذ ان قامت هذه المدينة في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وحتى اليوم تغير اسمها ثلاث مرات.. لكن طباع اهلها لم تتغير.
أكاد أزعم باني كنت اعرف هذه المدينة منذ منتصف السبعينات، حيث كنت ادرس في اكاديمية الفنون الجميلة، وحتى مغادرتي العراق في أوائل التسعينات كنت ازور اصدقاء وزملاء دراسة لي يقيمون في مدينة الثورة، وغالبيتهم فنانون مسرحيون وسينمائيون وتشكيليون وشعراء وكتاب قصة ومؤلفون في مجالات المسرح والتلفزيون ونقاد واساتذة جامعة في اختصاصات عدة، بل استطيع القول ان غالبية الاسماء المتميزة في مجال الابداع العراقي يتحدرون من تلك المدينة الفقيرة، وهذا ينطبق على مجالات اخرى كالطب والهندسة وبقية الفروع العلمية.
ما من احد عرفته من ابناء مدينة الثورة كان يشعر بالخجل لانتمائه لهذه المدينة، بل على العكس من ذلك كانوا يشعرون بكثير من الفخر والاعتزاز بانتسابهم لمدينة فقيرة، والاكثر من هذا انهم كانوا يستعرضون صور فقرهم الى جانب صور ابداعهم وتفوقهم. وليس غريبا ان نجد في مدينة فقيرة تعداد سكانها يفوق الثلاثة ملايين نسبة من الجهلة والأميين والخارجين على القانون ايضا. لكن الصفة التي تطبع اهلها بصورة عامة هي الطيبة، اذ انهم ما زالوا يتحلون باخلاق الريف الذي نزح منه أباؤهم واجدادهم.
لم يكن هناك قرار حكومي لتأسيس مدينة الثورة، فهي مثل كل المدن الكبرى في العالم، والعالم الثالث خاصة، والتي تضم مدن الصفيح والاكواخ البسيطة نتيجة تجمع الفقراء من الريف والمدن المجاورة.
وأول ما تكونت هذه المدينة في العهد الملكي عندما كان الاقطاعيون في الريف العراقي وخاصة ريف جنوب العراق يتصرفون بارواح الفلاحين كما يتصرفون بالارض التي يتعب الفلاح بزراعتها وحصاد منتوجها، ومن ثم لم يكن يحصل على ما يكفي لاطعام عائلته، من هنا بدأت العوائل الفلاحية بالهروب من الريف والزراعة باتجاه المدن الكبيرة كالبصرة وبغداد، وكانت حصة العاصمة هي الاكبر، وانخرط الفلاحون في اعمال البناء وغيرها من المهن التي لم تكن بحاجة الى الابداع او الشهادة الجامعية. وبدأت هذه العوائل بالتجمع في منطقة تقع شرق بغداد وكانت وقتذاك بعيدة جدا عن مركزها، كانوا يعيشون في اكواخ مبنية من الطين من غير ان تتوفر لهم اية خدمات حتى مجيء عبد الكريم قاسم الى السلطة بعد انقلابه على الحكم الملكي وتشكيل اول حكم جمهوري، وعرف عنه حبه للفقراء وانتماؤه لهم، فاهتم بسكان مناطق شرق بغداد وملكهم الاراضي السكنية بمساحات صغيرة لكل عائلة ومد الطرق اليهم وشيد لهم المدارس والمراكز الصحية واطلق على المنطقة اسم مدينة الثورة تيمنا بثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي كان قد قادها قاسم بنفسه. وصارت المدينة تتسع عشوائيا ومن غير أي تخطيط مديني او حضري وتمتد رقعتها في جميع الاتجاهات حتى قاربت ان تصل الى المركز لولا وجود حاجز طبيعي وهو قناة الجيش التي شقها الزعيم قاسم بنفسه.
مع اتساع المدينة واستقبالها لعشرات الالاف من العوائل الفقيرة ومن جميع الطوائف والقوميات والاديان ضاع رأس خيط هذه المدينة فلم يعد احد يعرف لها «اساس ولا رأس» مثلما يقال في الامثال العراقية الدارجة، ولأنها مدينة بلا تخطيط وعشوائية فقد افتقدت للخدمات الاساسية مثل ايصال التيار الكهربائي والماء والتصريف الصحي للمياه الثقيلة وتعبيد الشوارع. ورقعة الارض التي استملكها رب العائلة عندما كان لديه زوجة وثلاثة ابناء مثلا، بنى عليها بيتا صار ينمو باتجاه عمودي حيث صار يعيش في البيت الذي مساحته اقل من مائة متر مربع ثلاث عوائل من الابناء وزوجاتهم وابناؤهم حتى تحول كل شيء الى سكن واقامة وبيئة غير صالحة للسكن لغياب الخدمات عنها لاسباب تخطيطية ولأسباب تتعلق بسياسة الحكومات الطائفية التي تلت حكومة عبد الكريم قاسم، وإزاء ذلك صارت ميزة شباب المدينة هو التمرد على الحكومات المتلاحقة التي لم تهتم بسكان الثورة.
لكن الرئيس العراقي السابق صدام حسين قرر الاهتمام بها لكسب رضا اهلها الناقمين عليه باستمرار، وأمر بتوفير الخدمات البلدية لها خاصة بعد زيارته لها واطلق عليها اسم (مدينة صدام)، لكن الناس ما زالوا يطلقون عليها تسمية مدينة الثورة.
لو كنت قد اصغيت لنصائح اصدقائي ببغداد حول رأيهم بزيارتي لمدينة الثورة لما كنت قد ذهبت اليها، بل لو طرحت عليهم مقترح زيارتي لهذه المدينة لمنعوني ولو بالقوة بسبب ما يشاهدونه على شاشات التلفزيون من صور تجعل اهالي المدينة انفسهم يخافون من مدينتهم. ومع اني اعرف ان الكثير من المغامرة تنطوي على هذه الزيارة لوجود عصابات اختطاف الاشخاص، وكذلك لانتشار عناصر جيش المهدي لكن هذه الافكار يمكن ان تنطبق على العديد من مناطق بغداد وخارج بغداد وبالتالي فان من يفكر كثيرا في هذه الصور فعليه ان يبقى حبيس الجدران.
صديقي عباس وحده اقنعني بضرورة زيارة مدينة الثورة، فهو ابن المدينة ولد وترعرع وكبر فيها. عباس خريج اكاديمية الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية، وهو شيعي علماني لكنه يرتبط بعلاقات جيدة مع كل الاطراف، مع التيار الصدري والسنة والشيوعيين. قال لي «تعال معي ولا تخش شيئا»، ولانني اثق به وبكلمته وبمهاراته صعدت في سيارته، شوفرليه كندية الصنع يعود تاريخ صناعتها الى العام 1983 كانت وزارة الدفاع قد وزعتها لضباط الجيش العراقي وقتذاك، لم تكن جهة في سيارته الرصاصية اللون غير مضروبة، تكاد تكون (مطعوجة) من كل الجهات، قال «هذه السيارة التي تنفع للتنقل في بغداد،لا احد يطمع فيها فيقتلني من اجل سرقتها، وحتى لو اتركها قرب البيت من غير ان اغلق ابوابها فلن ياتي من ياخذها»، لكنه يملك سيارة اخرى يابانية الصنع (تويوتا، موديل 2003) مركونة في كراج البيت يقودها في اوقات محددة للغاية، حسب ايضاحه.
كانت آخر مرة زرت فيها مدينة الثورة عام 1992 عندما زرت احد الاصدقاء وهو رسام معروف يقيم حاليا في هولندا، كان حال المدينة افضل مما عليه الان بمراحل كثيرة. لم أفاجأ من المناظر التي شاهدتها ذلك ان مناطق في بغداد اكثر رقيا وترفا ويسكنها الاغنياء تحولت اليوم الى مزابل واوضاعها يرثى لها. لكن في مدينة الثورة نرى تلال القمامة اعلى من غيرها في بقية المناطق، ورائحتها تزكم الانوف، بل تجاور البيوت، يضاف اليها مستنقعات المياه الآسنة التي تحولت الى اللون الاسود نتيجة تركيز الاوساخ فيها، هذه المستنقعات تحيط بالبيوت السكنية وتحولها الى جزر بينها مماش ضيقة من الحجارة التي وضعها اصحاب البيوت للوصول الى مساكنهم.
كان الاطفال يلعبون ويلهون هناك بينما الرجال يجلسون فوق حصير منسوج من سعف النخل على الارض يدخنون ويشربون الشاي ويستهلكون الاحاديث السياسية بكل جدية وهناك ملايين الحشرات الطائرة من بعوض وذباب فوق سطح المياه التي لا تطاق رائحتها. سألت عباس مستغربا، الا يشعر هؤلاء برائحة هذه المياه والقمامة ولا بقرصات هذه الحشرات. ابتسم بمرارة وقال «هناك شيء اسمه التعود والتطبيع، نحن تعودنا هذه الرائحة وتطبعنا مع هذه الحشرات فانا منذ ولدت هنا وحتى اليوم لم اشعر باي تغيير في اوضاع المدينة. اختبرت معلوماتي وسألته ان كانت المنطقة التي نقطعها تحمل اسم (الجوادر)، اجاب بنعم واثنى على ذاكرتي لان المنطقة تغيرت سلبيا كثيرا وتراجعت الى الوراء. كانت هناك ساحة توسطتها سابقا صورة كبيرة مرسومة لصدام حسين، تم طلاء الصورة وازالة ملامحها، بالطبع، ورسم مكانها ثلاث صور لمحمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر ومقتدى الصدر، ابتسم عباس عندما صرنا قرب هذه اللوحة وقال «كنا نرى صورة صدام فقط واليوم نرى عشرات الوجوه، فعلوا ذلك من باب التنويع»، اردت ان التقط صورة للوحة لكن عباس فاجأني بحركة بيده اسقطت الكاميرا في ارضية السيارة، وقال «انت مجنون،لاتخرج اية كاميرا هنا، خاصة انها كاميرا حديثة، انت صحافي يعني هذا انت جاسوس وخائن وسيحل جيش المهدي قتلك»، سالته كيف اذن يلتقط مصورو الوكالات انواع الصور في هذه المدينة، اجاب قائلا «هذا يتم وفق اتفاقيات مع المسؤولين وان يكونوا برفقة حماية شخصية او برفقة القوات العراقية او الاميركية».
هذه المدينة تشهد كثافة كبيرة جدا، وحسب شروحات عباس فان غالبية البيوت تحيا بها ثلاثة عوائل او تسع او عشر اشخاص كأقل حد مع ان البيوت صغيرة ولا تتسع لاربعة اشخاص في الغالب. شوارع ودروب وازقة مدينة الثورة مؤثثة بالاطفال الذين يتحركون بدأب هنا وهناك، اطفال حفاة او نصف حفاة، ملابسهم رثة لكننا نقرأ كل علامات البراءة في وجوههم وعيونهم التي تتساءل عن الذنب الذي اقترفوه ليعيشوا وسط بؤر الامراض هذه حيث لا تيار كهربائي ولا مياه صالحة للشرب ولا خدمات طبية كافية.
عبد الحسين منشد، شيخ في الثالثة والستين من عمره، قال «كل يوم تحاصر مدينتنا وكأننا مجرمون وطائرات الهليكوبتر الاميركية تقصف بيوتنا بينما تهاجمنا القوات الاميركية والعراقية ونحن في بيوتنا من غير ان تحترم حرمة عوائلنا، اهذه هي الحياة التي وعدنا بها بعد تغيير نظام صدام حسين والدفاع عن الشيعة المظلومين»، ويضيف هذا الشيخ الذي كان قد فقد اثنين من ابنائه خلال انتفاضة 1991 قائلا «انا ابيع الخضار في السوق صباحا ولا معيل لنا بعد فقد ابنائي الاثنين والحكومة لا تساعدنا بل تعاقبنا كاننا مذنبون».
زوجته التي شارفت على نهاية الخمسينات من عمرها والتي تتشح بالسواد تشكو قائلة «أي حياة هذه التي نعيشها وسط هذه المزابل، بدلا من ان يرسلوا كل يوم قواتهم لتقتل هذا وذاك لماذا لا يرسلون فرق البلدية لتنظف شوارعنا وتساعدنا على ان نعيش كبشر».
لم نستطع من لقاء رئيس مجلس البلدية في مدينة الثورة «فهو مشغول بتعزية بعض العوائل التي قتل ابناؤها بتهمة انتمائهم الى جيش المهدي، لذا قررنا ان نتوجه الى مستشفى الشهيد الصدر العام (كانت المستشفى تحمل اسم مستشفى صدام العام)، في قسم الطوارئ التقى عباس احد الاطباء وهمس باذنه بان من يرافقه صحافي من جريدة «الشرق الاوسط»، اشار الطبيب الشاب لان نلتقي خارج سياج المستشفى التي تقع عمليا تحت سيطرة جيش المهدي او التيار الصدري الذي يقوده رجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر، نزع الطبيب صدريته البيضاء وعلقها في قسم الطوارئ ولحق بنا الى خارج المستشفى التي تنتشر فيها رائحة الدم والديتول.
كانت الفوضى تعم كل شيء في المستشفى الفقير حيث اسراب من الذباب والبعوض تسبح في فضاء ردهة الطوارئ.
قال الطبيب الشاب الذي بان على وجهه التعب الشديد «لم يبق في المستشفى اختصاصيون معروفون اذ ادت عمليات اغتيال الاطباء واختطافهم وتهديدهم الى هجرة من بقي حيا منهم. نحن نعاني هنا من نقص في الاطباء والممرضات والممرضين والصيادلة والادوية والمستلزمات الطبية مع ان باقي المستشفيات يحسدون مستشفانا كونها تحمل اسم الشهيد الصدر ووزارة الصحة كانت للتيار الصدري ووزيرها كان من التيار الصدري، هذا قبيل اقالته من قبل مقتدى الصدر ومن ثم هروبه الى الولايات المتحدة وطلبه حق اللجوء هناك. فكرت اذا كانت بقية المستشفيات تحسد هذا المستشفى فكيف هو الحال اذن في بقية المستشفيات العراقية.
كان عباس يخفي مسدسه تحت قميصه، ففي مدينة الثورة لا تستطيع ان تمشي من غير ان تحمل معك سلاحك، سواء تخفيه في سيارتك او تحت قميصك او تشهر بحمله اذا كان رشاش كلاشنيكوف، وهنا، حسب ايضاح عباس «اكبر مستودع للاسلحة في العراق وتوجد على مقربة منا سوق سلاح عامرة بانواع الرشاشات والمسدسات والقذائف والعتاد حتى اني اخشى ان تتوفر لديهم طائرات هليكوبتر ودبابات».
في بيت عباس تتوفر مكتبة كبيرة مزدهرة بانواع من الكتب الفنية والروايات والكتب النقدية والسياسية وايضا الكتب الدينية العائدة لوالده. وبالرغم من ان والده كان عسكريا بسيطا الا انه متتبع جيد لما يصدر من الكتب ويقول الشعر الشعبي بطلاقة وهو يحلل الاوضاع السياسية بذكاء ولا تخلو هذه التحليلات من الصحة.
لم يسالني أي من الذين اجتمعوا معنا على بساط الغداء ان كنت سنيا او شيعيا، مثل هذه الاسئلة يخجل العراقيون عن طرحها. الحاضرون لم يكونوا غرباء، عم عباس وابن عمه وثلاثة من اصدقائه قبل ان يلتحق بهم اثنين من اصدقائنا المشتركين والذين درسوا معي في اكاديمية الفنون الجميلة وتفاجأوا بوجودي في بيت عباس. احدهم هو الان استاذ في الاكاديمية ويحمل شهادة الدكتوراه في الفن السينمائي، والآخر رسام ما يزال يقيم المعارض او يشارك فيها.
الدكتور في الفنون السينمائية قال «لقد انتجت فيلما وثائقيا عن اوضاع المدينة لكنني اخشى عرضه لانني اتعرض لموضوع الدين والطائفة وكيفية استغلالهما للسيطرة على الناس هنا، اخشى عرضه واذا قمت بذلك فسوف يقتلوني». عندما دار الحديث عن الطائفية اقسم لهم عباس بانه يعرفني منذ اكثر من 25 سنة ولا يعرف ان كنت سنيا ام شيعيا، انبرى ابو خميس، عم عباس، وهو في بداية الستين من عمره فقال «لم نكن نعرف كل هذا طوال حياتنا، فالسنة طوال عمرهم اهلنا وجيراننا والناس يحسبون ان جميع سكان هذه المدينة هم من اتباع مقتدى الصدر او جيش المهدي بينما هناك قلة قليلة في مدينة الثورة هم اتباع جيش المهدي».
مدينة الثورة التي يصفها الاعلام عادة بانها ذات الاغلبية الشيعية تضم الكثير من العوائل السنية والكردية والمسيحية والصابئية، بل ان هناك حيا كبيرا جدا اسمه «حي الاكراد» تسكنه المئات من العوائل الكردية، لكن ابو خميس يعترف ان الغلبة حاليا في مدينة الثورة هي لرجال الدين، الملالي، الذين يتكئ عليهم مقتدى الصدر وباستطاعة المتنفذين منهم اصدار احكام عشوائية باعدام هذا او جلد ذاك، ومكاتب هؤلاء هي الحسينيات. بامكان هؤلاء الملالي تحشيد الاف الاشخاص للخروج في مظاهرة او السير على الاقدام الى النجف، او أي امر يصدره الصدر، وهم لا يفعلون ذلك تطوعا او خدمة للاسلام بل هناك مصالح شخصية بحته، فهم يتقاضون رواتبهم ورواتب مريديهم من مقتدى الصدر.
يشرح لي عباس طبيعة تنظيمات جيش المهدي في مدينة الثورة قائلا «ليس هناك تعيينات او اوامر بتعيين فلان لقيادة هذه المجموعة او تلك وانما الامر يتوقف على الاقوى والذي يملك السلاح او يستطيع توفيره وله اتباع عند ذاك سيكون قائدا لمجموعة من مقاتلي جيش المهدي ويفرض نفسه كامر واقع حتى وان لم تكن له علاقة مع التيار الصدري او جيش المهدي، ولكن بمرور الزمن وتنامي قوة هذا القائد الميداني وتكريس اسمه بين الناس يعترف به كجزء من جيش المهدي وان لم يكن يتسلم اية اوامر من الصدر او غيره».
نخرج الى اسواق المدينة فنراها عامرة بكل انواع المواد الاستهلاكية، الكهربائية خاصة، مولدات طاقة كهربائية، تلفزونات حديثة، اجهزة صوتية، اجهزة تبريد، فالمدينة تزدهر بالاغنياء بالرغم من مظاهر الفقر التي يعاني منها الاغلبية، وهؤلاء الاغنياء تعودوا الحياة هنا وان كان بعضهم قد نقل سكنه بعيدا عن الثورة الى شارع فلسطين او حي جميلة او تجاوز ذلك الى حي المنصور، لكنه يبقى مرتبطا بالمدينة من حيث مشاريعه التجارية او علاقاته الاجتماعية.
في فترة من الفترات، خاصة بعد دخول القوات العراقية الى الكويت عام 1990 وطوال سنوات الحصار القاسية، شاع اسم سوق (مريدي) الذي كان يباع فيه كل شيء تقريبا، الاطعمة والمواد الكهربائية، وكل شيء لا تجده في اسواق بغداد الاخرى، خاصة البضائع التي نقلت من الكويت، اذ بيعت في هذا السوق اجهزة كمبيوتر معقدة ذات اختصاصات طبية او علمية بحتة باسعار رخيصة لعدم معرفة البائع بها او باهميتها. اشتهر سوق مريدي ايضا بتزوير الوثائق الرسمية بانواعها وصولا الى جوازات السفر والشهادات الجامعية ودفاتر الخدمة العسكرية.
كان النهار ينسحب تدريجيا من يومنا في مدينة الثورة او مدينة صدام او مدينة الصدر الصاخبة بالحياة والناس واصوات الانفجارات والاغاني الريفية، وكان علي ان انسحب بهدوء تماما مثلما دخلت. عدنا الى منطقة الكرادة داخل حيث تعهد عباس على ايصالي الى هناك، مررنا بنقاط سيطرة وتفتيش وحواجز امنية وارتال للقوات العراقية واخرى للقوات الاميركية، لكن كل هذا لم يؤثر على ايقاع الحياة البغدادية، فالناس هناك يقاومون كل شيء وابرز ما يقاومونه هو اليأس والايمان بالغد. * باستطاعة المتنفذين في مدينة الثورة إصدار أحكام عشوائية بالإعدام والجلد.. وقادة جيش المهدي يفرضون أنفسهم كأمر واقع حتى ولو لم تكن لهم علاقة مع التيار الصدري > سيدة في أواخر الخمسينات: لماذا لا يرسلون فرق البلدية لتنظيف شوارعنا بدلا من إرسال قواتهم كل يوم لتقتل هذا وذاك؟ > ساكن في المدينة: تطبعنا مع أكوام القمامة والرائحة الكريهة والحشرات > أسواق مدينة الثورة عامرة بكل السلع لخدمة الأغنياء

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:40 AM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (6) الدخول للمنطقة الخضراء.. بـ«الألوان»
لون البطاقة يحدد مكانة صاحبها والمدخل الذي يستطيع المرور منه وضيوفه
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةقوس النصر في ساحة الاحتفالات ببغداد الذي يمثل كف صدام حسين تحمل السيف العربي ويلاحظ تحطيم الجزء الايسر من النصب («الشرق الاوسط»)
بغداد: معد فياض
يمر المواطن العراقي، او أي شخص آخر بالقرب من اسوار المنطقة الدولية في بغداد والتي تحمل تسمية (المنطقة الخضراء) وهو يحدق بدهشة نحو هذه الاسوار الكونكريتية العالية المدججة بأبراج المراقبة التي تصل منها فوهات بنادق القناصة السريعة والدقيقة الاطلاق. ما من عراقي او غيره مر من هناك او سمع عن المنطقة الخضراء الا وانشغل ذهنه بهذه المنطقة التي تبدو وكأنها كوكب آخر يقع وسط حياتهم. غالبية اصدقائي، هناك او هنا يسألونني مرارا عما شاهدته في المنطقة الخضراء وكيف يعيش سكانها، كما ان بعض اهالي بغداد قد نسجوا في خيالهم حكايات غير واقعية عن حياة هذه المنطقة وسكانها.
«الشرق الاوسط» في حلقتها السادسة تعلن عن اكتشافها الاولي عن هذه المنطقة التي دخلنا اليها وصورنا ما امكننا تصويره ولنعلن عبر حلقتي اليوم والغد عن تفاصيل المنطقة الخضراء.
اذا دققت النظر جيدا في اعلى البنايات المحيطة بالمنطقة الخضراء فسوف ترصد هناك ثمة قناصين اميركيين يوجهون فوهات بنادقهم الدقيقة الرصد والسريعة الاطلاق نحو جهات معينة، كما سترى اعينهم مشدودة الى نواظير دقيقة ترصد كل حركة وأصابعهم ملتصقة بزناد البنادق. هؤلاء القناصة ينتشرون فوق اسطح ابنية فندق الرشيد ومجلس الوزراء ومجلس النواب (البرلمان) العراقي، ووزارة التخطيط السابقة.
القناصة والكلاب المدربة على شم رائحة المتفجرات والقوات الاميركية الخاصة هي المسؤولة الاولى عن حماية المنطقة الخضراء، هناك ايضا في الداخل قوات اميركية وقوات مختلفة الجنسيات وشركات حماية خاصة غالبية افرادها لا يجيدون الانجليزية او العربية منها قوات من التيبت او تايلاند او جورجيا.
الاسم الرسمي للمنطقة الخضراء هو المنطقة الدولية «International Zone» وسوف تجد اللافتة التي تحمل هذا الاسم عند نقاط التفتيش المنتشرة عند بوابات وفي داخل المنطقة الدولية، وهي كما معروف المنطقة الاكثر حماية في العراق كله بسبب وجود مكاتب ومقرات سكن السفراء الاجانب وسفاراته، خاصة السفارتين الاميركية والبريطانية، وباستثناء السفارتين الالمانية التي تقع في نفس عنوانها السابق في منطقة الكرادة، والفرنسية التي تقع بنايتها قرب ساحة كهرمانة، فان جميع السفارات الغربية تقع مقراتها ومواقع سكن سفرائها في حدود المنطقة الخضراء بالاضافة طبعا الى قصور ومساكن كبار المسؤولين العراقيين بدءا برئيس الحكومة ومرورا بعدد كبير من الوزراء واعضاء مجلس النواب ونزولا الى حرس وسواق وفرق حماية رئيس الحكومتين الحالية والسابقة (الجعفري). اما رئيس الجمهورية طالباني فهو يقيم مع بعض مستشاريه خارج المنطقة الخضراء.
تحتل المنطقة الخضراء مساحة اكثر من ثلاثة احياء وجسر المعلق. وحدودها تمتد من حي القادسية وحي الكندي غربا، وجسر الجمهورية ومتنزه الزوراء شمالا، ويحتضنها نهر دجلة من الشرق والجنوب.وبذلك تكون قد احتلت مساحة حي كرادة مريم، وحي التشريع، وام العظام، اضافة الى جزء كبير من متنزه الزوراء (اكبر متنزه شعبي في بغداد) وساحة الاحتفالات الكبرى بما تضم من تماثيل ونصب وقاعات سينما ومسارح وصالات عروض تشكيلية، كما يدخل ضمن المنطقة طريق القادسية السريع ونفق فندق الرشيد والفندق ذاته ايضا والمساحات المحيطة به، وتعبر حدودها الى جانب الرصافة حيث تسيطر على الجزء المحيط بالجسر المعلق في جهة منطقة الزوية في الكرادة الشرقية.
وللمنطقة الخضراء ثلاثة مداخل رئيسية، أي متصلة بالشوارع العامة يمكن الدخول اليها مباشرة من الشارع العام، واهم هذه المداخل هي بوابة جسر الجمهورية، او التي تقع قبيل هذا الجسر من جهة الكرخ بالقرب من بناية وزارة التخطيط سابقا، اما المدخل الثاني فيقع قرب فندق الرشيد، وهذا المدخل يقودك الى بنايتي رئاسة الوزراء وقصر المؤتمرات الذي يتخذ منه مجلس النواب (البرلمان) العراقي مقرا له، ويقع المدخل الثالث عند بداية الجسر المعلق من جهة الرصافة.
هناك ايضا مدخل اخر يحتاج الى موافقات امنية للوصول اليه، وهو مدخل القادسية.
عند كل مدخل تستقر قوة امنية كبيرة تتألف من افراد من القوات الاميركية مدججين بالأسلحة المدعومة بدبابة او قوة مدرعة ومترجمين وكلاب خاصة لشم رائحة المتفجرات.
ولعل اهم ما في موضوع المنطقة الخضراء هو الدخول اليها، فهناك من يحمل البطاقات (الباجات) التي تحمل تواقيع وتراخيص من السفارتين الاميركية والبريطانية ورئاسة مجلس الوزراء مع تخويل بالدخول في أي وقت شاء ومن اية بوابة يريد ومنحه الحق باصطحاب ضيف الى داخل المنطقة. حاملو هذه الباجات يعدون من المحظوظين جدا فهناك من يحمل باج (بطاقة) موقعة من قبل احدى السفارتين فقط او من رئاسة مجلس الوزراء اضافة الى توقيع احدى السفارتين، البريطانية او الاميركية، واضعف هذه البطاقات الموقعة من قبل رئاسة مجلس الوزراء فقط اذ لا تخول صاحبها او حاملها الا الدخول الى بناية المجلس.
وتدل الوان البطاقات، او الباجات على اهميتها، وهي تبدأ بالزرقاء ثم الخضراء فالصفراء والحمراء، على ان جميع حاملي البطاقات ومهما كانت درجاتهم الوظيفية، باستثناء الوزراء، يخضعون لتفتيش دقيق وفي احيان كثيرة يكون تفتيشا مذلا.
هذه المناطق، وقبل ان تتحول الى منطقة دولية كانت مفتوحة امام حركة الناس والباصات والسيارات الاعتيادية حتى السنوات الاولى من الثمانينات، ثم بقيت مفتوحة امام حركة السيارات الصغيرة باستثناء اجزاء بسيطة، وكانت مأهولة بالسكان من غير العاملين في القصر الجمهوري من اصحاب العقارات الكائنة هناك.
ولو اجرينا مقارنة سريعة بين المساحة التي كان يسيطر عليها صدام حسين، والمساحة التي تسيطر عليها المنطقة الدولية، الخضراء، لاكتشفنا ان اجهزة صدام حسين كانت تسيطر على اقل من ثلث المساحة المسيطر عليها حاليا من قبل القوات الاميركية والمسؤولين الاجانب والعراقيين.
كانت منطقة كرادة مريم وحتى عام 1979 مفتوحة امام العراقيين لاجتيازها سواء بسياراتهم او بواسطة باصات النقل العام الحكومية، الرقم 14، او مشيا على الاقدام، خاصة وان المنطقة تضم منازل سكنية لعوائل بغدادية ومنذ سنوات طويلة.
ومنذ ان تولى صدام حسين مسؤولية الدولة كرئيس للجمهورية تمت السيطرة تدريجيا على عموم المنطقة. اما مساكن وفلل المواطنين فقد تمت مصادرتها وتعويض مالكيها.
حي كرادة مريم من الاحياء السكنية البغدادية القديمة، وسمي كذلك لوجود كنيسة مريم العذراء هناك، وجغرافياً يحتل واحدة من اجمل مناطق بغداد وعلى ضفاف نهر دجلة وغالبية فيلاته بنيت اما قبيل العهد الملكي في العراق (1921ـ1958) وخلاله وبعده. ويعد القصر الذي سمي فيما بعد بالقصر الجمهوري اهم بناية فيه حيث بني هذا القصر في العهد الملكي ليتزوج فيه الملك فيصل الثاني في ذات العام الذي قتل فيه، قتل مع عائلته في 14 يوليو (تموز) 1958، وعلى مقربة منه يقع مجلس الوزراء العراقي في العهد الملكي والذي اتخذ منه صدام حسين مكتبا له عندما كان نائبا للرئيس احمد حسن البكر وتحول بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 الى مقر لوزارة الدفاع، هناك ايضا تقع فيلا صباح نجل رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري السعيد والتي كان يسكنها أرشد ياسين زوج الاخت غير الشقيقة لصدام ومرافقه الاقدم.يذكر ان صدام حسين لم يكن يحب او يفضل البقاء في القصر الجمهوري، وعندما تسلم مسوؤلياته كرئيس للجمهورية ابقى على مكاتبه في مجلس الوزراء السابق وصار يستقبل كبار الزوار العرب والاجانب والمسؤولين العراقيين في القصر الجمهوري الذي لم ينم فيه، فالمعروف عن الرئيس العراقي السابق عدم اتخاذه من مقر او مسكن كان لغيره، لهذا بنى عدة قصور في بغداد لإقامته فقط بينما بقيت عائلته في قصر الرضوانية القريب من المطار الاثير الى نفسه والذي يضم بحيرات ومزارع ومسابح، وأكثر الظن ان صدام حسين كان معتقلا في احدى غرف قصره الذي تحول الى قاعدة عسكرية اميركية بعد الاحتلال في ابريل (نيسان)، حيث يمكن رؤيته من خلال نوافذ الطائرة قبل ان تحط في مطار بغداد الدولي. والحق صدام حسين الكثير من الابنية بالقصر الجمهوري الذي كان يعرف بذي القبة الخضراء ومنها نواد رياضية صارت اليوم نوادي مخصصة للسفارتين الاميركية والبريطانية.
وتتخذ السفارة الاميركية من القصر الجمهوري، الذي هو احد مشاريع مجلس الاعمار في عهد نوري السعيد، مقرا لها. اضاف صدام ابنية كثيرة الى منطقة كرادة مريم، منها قصور الضيافة وقصور كبار المسؤولين على نهر دجلة، وثلاثة قصور مهمة، هي، قصر السجود وقصر السلام وقصر عدنان، ولكل قصر عمارته الخاصة التي تمتاز بالفخامة والسعة وتنوع حدائقها. كانت بعض هذه القصور تستخدم كقصور ضيافة لكبار الزوار، وبعضها لاستقبال المهنئين في المناسبات الخاصة، بينما استخدم الرئيس العراقي السابق قصر السجود كاحد المواقع التي يسكنها، وشق البحيرات وسط المنطقة، هي ذات البحيرات التي يصطاد فيها حراس الحكومة والمسؤولين الجدد اسماك الزينة لشوائها واكلها، وفي زيارتي الاخيرة شاهدت احدى هذه البحيرات وقد تحولت الى بركة آسنة حيث تتجمع فيها الزبالة واختفت الأوزات البيضاء التي كانت تسبح في هذه البحيرات والتي كنت قد شاهدتها في زيارة سابقة، وهناك من أسر لي بان حرس الحكومة والمسؤولين قد ذبحوا الاوزات وحولوها الى وجبات غذائية، والعهدة على من نقل لي هذه التفاصيل.
كانت ساحة الاحتفالات الكبرى التي تتميز بشرفتها الشهيرة التي كان يحيي من خلالها الرئيس العراقي السابق قوات الجيش العراقي في المناسبات الوطنية، او لتحية المواطنين في مناسبات خاصة مثل عيد ميلاده. وغالبا ما تظهر هذه الشرفة في الافلام الاخبارية والصور الصحافية. وتشتهر هذه الساحة ببوابتها المسماة بقوس النصر والتي تجسدها منحوتتان ضخمتان لنسخة حقيقية من كف صدام وهو يحمل السيف العربي بينما تناثرت عند ارضية النصب خوذ حقيقية لجنود ايرانيين تم نقلها من ساحات معارك الحرب العراقية الايرانية والتي كانت تسمى رسميا واعلاميا بـ«قادسية صدام» احتذاء بقادسية سعد بن ابي وقاص.
يذكر ان النحات العراقي الراحل خالد الرحال هو من صمم فكرة قوس النصر على ان تكون نسخة حقيقية من كف صدام هي التي تحمل السيف العربي بينما اقترح صدام بنفسه فكرة الخوذ العسكرية الايرانية.
وإذا كانت هذه المنطقة في عهد صدام ممنوعة الى حد ما على العراقيين، فانها تحولت في عهد الاحتلال الى منطقة محرمة جدا وللغاية على العراقيين. وهذا يعني ان القوات الاميركية اضافت الى المنطقة المحرمة مساحات جديدة وحرمت العراقيين من استخدام الجسر المعلق البالغ الاهمية في اختصار المسافة بين مناطق الكرخ والرصافة، كذلك حرمت على العراقيين استخدام طريق القادسية السريع والنفق الذي يربط بين ساحة النسور وفندق الرشيد ومن ثم العبور من خلال جسر الجمهورية الى ساحة التحرير في قلب رصافة بغداد، ناهيكم عن حرمان العوائل البغدادية من التنزه في جزء كبير ومهم من متنزه الزوراء وساحة الاحتفالات الكبرى.
المشكلة ان القوات الاميركية لم تحافظ على المناطق الاضافية التي ضمتها الى المنطقة الخضراء بل الحقت الخراب بساحة الاحتفالات الكبرى بما في ذلك بناية الشرفة الشهيرة وقاعات الاستقبال كما نال الخراب القصور الرئاسية الذي تسيطر عليها القوات الاميركية وتستخدمها كمقرات لاجهزتها الامنية والمخابراتية.
علي العقابي، معاون مدير أمن المنطقة الدولية، المنطقة الخضراء، يؤكد لنا وهو يشير الى خارطة المنطقة الخضراء، بأنهم لا يتوفرون على الرقم الحقيقي لمساحة المنطقة الدولية، وربما وجود مثل هذه المعلومة ولكن قيد السجلات الامنية فقط.
ويكتفي العقابي بالقول بأنها «منطقة واسعة»، موضحا لـ«الشرق الأوسط» بان «المنطقة الخضراء تضم منازل خاصة ويملكها عراقيون مقيمون في هذه المنطقة منذ سنوات طويلة وهناك من عاد الى منزله الذي كان ملكا له ثم تمت مصادرته في عهد صدام ووافق على تسلم مبلغ بدل البيت رغما عنه وهؤلاء أحرار في املاكهم».
في مقهى قريب جلسنا نشرب الشاي العراقي المطيب بالهيل، يقع المقهى ضمن سوق كبير تابع لمجمع سكني كان مخصصا في عهد صدام حسين للقصر الجمهوري وخصصت شققه الضخمة لموظفي وضباط القصر الجمهوري. وحسب العقابي فان «هذا المجمع والذي يحمل تسمية مجمع القادسية فانه تابع للدولة وشققه مؤجرة ببدل ايجارات رمزية لموظفي ديوان رئاسة الوزراء ولبعض اعضاء مجلس النواب (البرلمان) العراقي وموظفي البرلمان».
ويوضح العقابي قائلا «عندما سقط نظام صدام حسين خرجت عوائل بعض الضباط وموظفي القصر، لكنها سرعان ما عادت الى شققها بعدما شعروا هنا بالامان وعدم التعرض لهم، وهناك نفر من العراقيين الذين سيطروا على بيوت وفيلات ضخمة وعلى قسم من شقق المنطقة بالقوة مع انهم لم يكونوا من سكان المنطقة في يوم ما، وهؤلاء من اطلق عليهم شعبيا تسمية (الحواسم) حيث تم اخراجهم بصورة قانونية». يقول العقابي ان «كل عمارة تتكون من اربعة طوابق، وبدل ايجارات الشقق التي تقع في الطابقين الاول والثاني هي 10% من راتب الموظف او الساكن، و4% بالنسبة لسكنة الطابقين الثالث والرابع، وكل شقة تتألف من ثلاث غرف نوم وصالة كبيرة»، مشيرا الى ان «هذا المجمع يضم جميع اطياف الشعب العراقي وليست هناك اية تفرقة فالجميع يعيشون بسلام هنا». ويضم مجمع القادسية حسبما يذكر معاون مدير أمن المنطقة الدولية 750 شقة، أي هنا تسكن 750 عائلة يتوزع اولادهم وبناتهم على سبعة مدارس ابتدائية وثانوية، كما يضم المجمع مستشفى وأسواقا بمحلات غذائية واستهلاكية ومحلات للملابس والمواد الاليكترونية وصالونات حلاقة نسائية ورجالية ومخابز ومقاهي ومطاعم: هذا يعني ان كل شيء متوفر لسكان المجمع وهم لا يحتاجون الذهاب الى خارج المنطقة الخضراء خاصة وان غالبية سكان المجمع هم من موظفي رئاسة الوزراء والبرلمان اللذين يقعان في المنطقة الخضراء». الا ان هذا لا يعني ان العوائل التي تسكن في هذا المجمع او في بيوت اخرى في المنطقة الدولية هم سجناء هنا، يقول العقابي «هناك هويات تعريف (باجات) صادرة عن الجهات الامنية في المنطقة، وهي باجات زرقاء تمنح للساكنين، وهناك من يعمل في رئاسة الوزراء او في دوائر اخرى داخل او خارج المنطقة الخضراء ويحمل «باج» تعريفيا خاصا به يمكنه من الخروج والدخول الى المنطقة»، ويضيف قائلا «اذا كان للعائلة ضيف من خارج المنطقة الخضراء فبامكان الساكن هنا استقباله على مسؤوليته الخاصة بعد ان يُظهر باجه وان يعرف بالضيف من خلال بطاقة تعريفية».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:41 AM

  رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (7)«احذر أمامك قوة مميتة»
صور تنشر للمرة الأولى لمشروع بناء أكبر سفارة أميركية في العالم
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةواجهة اكبر قاعدة اميركية في العالم («الشرق الأوسط»)
بغداد: معد فياض
مزاج جندي أميركي غاضب لوجوده في العراق منذ ما يقرب من 4 سنوات، بينما يتذكر عائلته المقيمة حاليا في ولاية بعيدة من القارة الأميركية، وكلب اختصاصه شم رائحة المتفجرات، هو الآخر غاضب للتحولات الجوية غير المناسبة بالنسبة له بالرغم من تخصيص اكثر من 4 آلاف دولار وسيارة دفع رباعي حديثة ومكيفة ومجند مفتول العضلات لخدمته، ورشاشات سريعة الاطلاق ودقيقة التهديف هي التي تتحكم في دخولك الى المنطقة الخضراء.
«الشرق الأوسط» التي تنفرد كأول مطبوعة تتجول داخل المنطقة المحرمة، تنقل في هذه الحلقة تفاصيل دقيقة عن عمليات التفتيش لمن يدخل المنطقة الدولية، مع صور خاصة لأكبر بناية للسفارة الأميركية في العالم والتي تثير انزعاج العراقيين، كونها تحتل أكبر واجهة على نهر دجلة لم تضع القوات الأميركية عند مداخل المنطقة الدولية، المسماة بالمنطقة الخضراء، عبارة دانتي الشهيرة والتي وضعها عند بوابة فردوسه «ادخلوها آمنين»، ولم اقرأ عند واجهات المداخل أية عبارة ترحيب سواء باللغة العربية أو الانجليزية، بل هناك عبارات تحذير شرسة من موت محدق يحيط بمن يقترب من مداخل هذه المنطقة المحرمة، مثل «قف قوة مميتة امامك» أو «قف انت على مقربة من قوة سريعة الإطلاق» و«لا تقترب اكثر من 200 مترا.. قوة مميتة»، هذا يضاف الى ملامح وجوه عناصر القوات الأميركية أو غيرها من الجنسيات، بما فيها العراقية التي لا تنم عن اية مشاعر ارتياح لوصولك الى أي مدخل من مداخل المنطقة الدولية.
لافتة حديدية بلون أسود تحمل تعليمات مشددة بلون أبيض، وبعضها مشددة للغاية بلون أحمر تستقبل عادة الزائر الى المنطقة الخضراء. سنختار الدخول من خلال بوابة القادسية والتي كان صاحبي السائق يصر على انها اكثر سهولة من بقية المداخل.
تقع هذه البوابة شرق المنطقة الخضراء، وتصل اليها من خلال مدخل أمني في حي القادسية. كان على السائق ان يحذر من خروج أو مرور مفاجئ لرتل من ناقلات الجنود المدرعة (همفي) او الدبابات الأميركية، فهؤلاء سيفتحون النار مباشرة اذا لم نتوقف على جانب الطريق من غير ان يهتموا سواء أكانوا داخل المنطقة الخضراء أم في الشارع العام. مع بداية توجهنا الى نقطة التفتيش مر رتل من سيارات الشوفرليه الرباعية الدفع البيضاء ذات الزجاج الداكن تماما والذي يمنع رؤية من في داخل السيارة، توقف السائق مرة اخرى على جانب الطريق ليسمح لرتل السيارات البيضاء بالمرور، كانت هناك اكثر من سيارة مكشوفة تحمل اشخاصا مدججين بالأسلحة ويضعون نظارات شمسية سوداء موجهين فوهات بنادقهم نحو الآخرين تسبق السيارات البيضاء، ومثل هذه تسير خلف الرتل، ومن غير ان أسأل السائق اوضح قائلا «هذه سيارات الشركات الأمنية الخاصة، وهم لا يقلون خطورة عن الجنود الأميركيين، اذ يطلقون النار كيفما شاؤوا خاصة خلال مرورهم بالشوارع والأسواق العامة لزرع الرعب في قلوب الناس، وليجبروا سائقي السيارات الاخرى على افراغ الطريق لهم. سكت السائق ثم استطرد قائلا «الله يكون في عون الناس، اذا مر رتل اميركي فعلى الآخرين التوقف، وهم يخشون تصرفا طائشا من جندي اميركي قد يفتح النار، ويقتل عشوائيا، وهو ما يسمونه بالقتل الخطأ، وتعويض العراقي الذي يقتل خطأ ليس اكثر من 2000 دولار اميركي، تصور أن سعر العراقي ألفا دولار، أي اقل من سعر سيارة متواضعة ومستعملة، وروى لي أكثر من حادثة من هذا القبيل أودت بحياة عراقيين ابرياء، قال، كان آخر ما حدث امامي قبل شهر بالقرب من محطة تعبئة بانزين (البترول) في منطقة الصليخ وبالقرب من سوق يسمونه محليا بـ«سوق السمكة» لشبه شكله المعماري بالسمكة. كان الوقت صباحا عندما شاهدنا عن بعد رتلا أميركيا قادما باتجاه الطريق السريع لمنطقة الصليخ، وكان الرتل يسير باتجاه معاكس لاتجاه الطريق الطبيعي، وهم غالبا ما يفعلون ذلك لضمان افراغ الطريق اولا ولمفاجأة الآخرين ولإحباط اية محاولة لاعتراضهم، في الاتجاه المقابل، والحديث للسائق، جاءت سيارة تويوتا بيضاء وكانت سائقتها، حيث تحققنا فيما بعد ان من كان يقود هذه السيارة امرأة في الستين من عمرها، وكانت تسير باتجاهها الصحيح عندما فوجئت برتل المدرعات الاميركية بمواجهتها.
ويستطرد السائق قائلا، كان من الطبيعي ان ترتبك، وكان أي سائق مهما كانت خبرته في قيادة سيارته او ضبط اعصابه واستجماع شجاعته سيرتبك مثلما فعلت هذه السيدة التي توقفت فجأة لافساح الطريق امام الرتل الأميركي، لكننا انتبهنا على صوت اطلاق النار من رشاشة المدرعة الأميركية باتجاه السيارة التويوتا التي جمدت حركتها تماما، ترجل بعض الجنود الأميركان لفحص السيارة ليكتشفوا انها سيدة في الستين من عمرها كانت في طريقها الى محطة تعبئة البانزين، وقد استقرت رصاصة كبيرة في رقبتها اضافة الى بضع رصاصات استقرت في عجلات وهيكل السيارة.
يقول السائق، اقتربنا من السيارة وطلبنا سيارة الإسعاف بالرغم من اننا كنا متأكدين من وفاة السيدة، التي عرفت فيما بعد اسمها، روباك، عن طريق زوجها الذي اكد انه تسلم رسالة اعتذار من القوات الأميركية لقتلهم زوجته عن طريق الخطأ مع تعويض مادي قدره الفا دولار اميركي.. تصور هذا هو سعرنا لدى الأميركان. ويوضح السائق، قائلا، واذا مر رتل شركات الحماية الخاصة، زرعوا الرعب في نفوس الناس، اذ يجب ان تخلى الشوارع لهم، واذا مر مسؤول حكومي او عضو في البرلمان، فإن حمايته تطلق النار في الجو لإجبار السائقين على التنحي من الطريق، أي حياة هذه يعيشها العراقيون.
التزمت الصمت وأنا أراقب بدقة الاجراءات الأمنية التي سترافق دخولنا الى المنطقة الخضراء. توقفنا على مبعدة 300 متر من نقطة التفتيش، وأغلقنا هواتفنا الجوالة، ثم فتحنا غطاءها وعزلنا عنها البطاريات ووضعناها في مقدمة السيارة ثم ترجلنا كأننا متهمون. ابتعدنا عن السيارة بأمر من جندي اميركي كان يتقدم نحونا بحذر كبير، وهو يوجه فوهة بندقيته نحونا «هذا الاجراء طبيعي جدا»، علق صاحبي السائق، تأكد الجندي من أن الموبايلات معزولة عن بطارياتها، واننا لا نحمل أي سلاح، امرنا بالتقدم نحو نقطة التفتيش.
تركنا السيارة عند نقطة التفتيش، واتجهنا الى غرفة مجاورة كان فيها مترجم عراقي شاب يحمل لقبا اميركيا هو مايكل، فتشنا جيدا وسأل عن بطاقاتنا التعريفية، وفيما أصرت مجندة اميركية تقف بالقرب منه، على الاحتفاظ بجواز سفري، لأنني لا أحمل باج دخول، بل ادخل بصفتي ضيفا، حيث تقتضي التعليمات ان أمنح جواز سفري أو بطاقة الهوية، واعادتها لي عندما اترك المنطقة الخضراء في تصرف يجبر الضيف على عدم البقاء طويلا في المنطقة، واذا ما بقيت البطاقة أو الجواز لثلاثة ايام لديهم، فإنهم يتلفون الجواز أو البطاقة ويحققون مع المرافق الذي ادخلني على مسؤوليته. تعاطف مايكل العراقي معي، عندما عرف انني صحافي والجهة التي سأذهب اليها، تظاهر بأنه أخذ جواز سفري ثم اعاده لي من تحت الطاولة في غفلة من المجندة الأميركية وهو يبتسم. خلال هذا الوقت كان الكلب المتخصص بتنفس رائحة البارود أو الأسلحة يشم مقاعد وصندوق ومحرك السيارة، وكل ما فيها من اشياء.
كان هناك طابور طويل من السيارات التي سبقتنا، ولا احد يستطيع ان يدفع الكلب للاستعجال فهو «يؤدي عمله على احسن ما يكون»، مثلما قال مجند أميركي مسؤول عن الكلب، واصفا اياه وباللغة الانجليزية بـGoog Boy، اذن علينا ان ننتظر مزاج الكلب «الشمام» حتى يسمح لنا بمواصلة طريقنا الى داخل المنطقة الخضراء.
همس صاحب السائق في أذني موضحا أن «الراتب الشهري المخصص لهذا الكلب هو اربعة آلاف دولار، وتم تخصيص جندي لمرافقته وسيارة كبيرة ذات دفع رباعي ومكيفة ينتظر او يستريح فيها، بينما يؤدي عمله»، ويستطرد قائلا «أما سعره فيتراوح ما بين 350 الى 400 الف دولار اميركي، ولكن ليس من السهل ايجاده، ويجب ان تطلبه مقدما، من شركات في جنوب افريقيا خاصة».
خضعنا نحن ايضا لسلطة الكلب (الشمام) قبيل ان يسمح لنا بركوب السيارة ومواصلة طريقنا الى الداخل، عند ذاك استطعنا اعادة ترتيب هواتفنا الجوالة. من المستحسن ان نعرف ان المنطقة الدولية هي عبارة عن مقاطعات ومناطق، مقسمة في الداخل الى حارات بواسطة جدران من الخرسانة، وبوابات حديدية وحراسات مشددة. وهذا يعني ان دخولنا الى المنطقة الخضراء لا يعني بأي حال من الاحوال حريتنا في التجوال، بل علينا التوجه الى منطقة محددة، وعندما نريد دخول بوابات او الوصول الى اقسام اخرى، فيجب ان نتوفر على دليل أو مرافق آخر يحمل بطاقة (باج) تخوله دخول هذه المنطقة.
ولعل اكثر المناطق تشددا في حراستها وتسويرها بالجدران الخرسانية العالية، هي السفارة الاميركية ومسكن السفير الأميركي، وهذا يعني بناية القصر الجمهوري وبعض من ملحقاته.
وتتخذ السفارة الاميركية من القصر الجمهوري، الذي هو احد مشاريع مجلس الإعمار في عهد نوري السعيد، مقرا لها ولم تتخل عنه بالرغم من دعوات الحكومة العراقية لتخليته، باعتباره رمزا وطنيا ومبنى سياديا. وكان أول رئيس للعراق بعد صدام حسين، وهو غازي الياور قد طالب بتخلية القصر الجمهوري، وذلك عام 2004 وقد وعدته الإدارة الأميركية بإعادته للعراقيين خلال ستة اشهر، بعد انجاز اصلاحات بما تم تخريبه من قبل الوجود الأميركي في القصر، كما فاتح الياور الرئيس الاميركي جورج بوش عن ضرورة ان تخلي الادارة الاميركية القصر الجمهوري، الذي يعتبره العراقيون رمزا وطنيا، وشكا استمرار سيطرة القوات الاميركية على القصر الجمهوري في اول لقاء تم بين الاثنين في واشنطن. والغريب ان الرئيس بوش أعرب عن عدم علمه بهذا الموضوع. وما يزال القصر الجمهوري عبارة عن سفارة ومقرا للادارة الاميركية في العراق، حتى يتم الانتهاء من بناء السفارة الاميركية حسبما وضح لـ«الشرق الأوسط» مسؤول حكومي عراقي.
التحصينات المفروضة اليوم حول القصر الجمهوري باعتباره السفارة الاميركية، اكثر قوة من التحصينات التي كانت مفروضة عليه، عندما كان صدام حسين رئيسا للعراق، ففي السابق لم يكن محاطا بتلك الجدران الخرسانية العالية الرصاصية اللون والمدججة بابراج المراقبة. الذين لهم الحق في الوصول الى القصر الجمهوري، هم من يعملون حصرا في السفارة الاميركية والحاملين لبطاقات (باجات) صادرة عن السفارة فقط.
أما منزل السفير الأميركي والواقع قريبا من القصر، والذي كان أحد القصور التي يستريح فيها الرئيس العراقي السابق، فهو يقع بين زحمة من الأسوار الكونكريتية والتي تشكل متاهة ليس من السهل الدخول اليها على الاطلاق، بسبب زحمة الجنود ورجال شركات الحماية الخاصة وكلاب الحراسة المحيطين بالمبنى، والقناصة الموزعين فوق الأبنية المحيطة.
في الجانب الجنوبي من المنطقة الخضراء، أو المنطقة الدولية، وعلى طول ضفاف دجلة يمتد بناء كبير جدا محاطا حاليا بالسرية التامة، ذلك هو مشروع بناء اضخم سفارة للولايات المتحدة في العالم. هناك العراقيون لا يهمسون، بل يتحدثون جهارا، وبعض الصحف تناولت موضوع هذه السفارة التي اقتطعت من بغداد وفي عهد الاحتلال، الاميركي اجمل وأطول ضفة على نهر دجلة.
يقول مهندس معماري عراقي «كنا نعترض على صدام حسين لأنه بنى معضم قصوره على نهر دجلة، وحرم اهل بغداد من الاطلالة على نهرهم، وها هي السفارة الاميركية تحرمنا ثانية من ان نطل على النهر، الذي يعد عصب الحياة البغدادية»، مشيرا الى انه كان بالامكان فتح كورنيش جميل بحدائق واسعة، بدلا من هذا البناء الخرساني القبيح، لا سيما أن الإدارة الاميركة تستطيع ان تبني سفارتها في منطقة خالية في ضواحي بغداد، وتؤمن لها الحماية الكافية».
الخوف حسب المهندس الذي فضل عدم نشر اسمه، والذي له أبنية متميزة ببغداد، هو «ان يتم منع الناس من استخدام النهر قبالة السفارة، ومصادرة الشارع العام الذي يمر قرب السفارة، ومنع المواطنين من التنزه على كورنيش الكرادة في الجهة المقابلة للسفارة لأسباب أمنية».
سكان المنطقة الخضراء انفسهم، من العراقيين الذين يملكون الدور التي يقيمون فيها، شكوا من هذه الكتل الخرسانية «القبيحة» على وصف احدهم وهو مسؤول أمني في المنطقة اخضراء، كونها ستمنعنا من الاستمتاع بمنظر نهر دجلة الذي اصبح مسورا من كل الجهات، واسيرا هو الآخر لدى القوات الاميركية. ويؤكد هذا المسؤول الامني، الذي فضل عدم نشر اسمه أن «أعمال البناء في مشروع السفارة تتم بصورة سرية تامة وعادة ما تتم ليلا، وغير مسموح لأي عامل عراقي بالعمل في هذا المشروع، بل ان شركات أجنبية تأتي بعمالها لانجاز المشروع. ويستطرد المسؤول الأمني قائلا «هذا يعني أن العامل العراقي لم ولن يستفيد من انجاز هذا المشروع الضخم، ويمكن حتى بعد افتتاح اكبر سفارة بالعالم في بغداد، سيتم حرمان الموظفين العراقيين من العمل لديها.

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:42 AM

  رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (8) المنطقة التي توصف بالآمنة جدا.. ليست آمنة
القصر الجمهوري من عارف حتى بريمر
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةواجهة قصر لصدام (قصر السجود) في المنطقة الخضراء تستخدمه القوات الأميركية كمقر قيادة، الصورة ملتقطة من خلال نوافذ صالة الشرف في ساحة الاحتفالات («الشرق الأوسط»)
بغداد: معد فياض
ثلاث حقائق مهمة لا غبار عليها يتوصل لها من يتجول في داخل المنطقة الخضراء ويستكشفها عن قرب، هي ان غالبية من عارض صدام خلال حكمه، ومعظمهم يحكم عراق ما بعد صدام، وبضمنهم الاعلام الغربي والادارة الاميركية التي كانت تتحدث بقسوة عن الرئيس العراقي السابق لبنائه القصور الرئاسية، التي كات تسمى في الاعلام المعادي لصدام (قصور صدام)، تسابقوا بعد احتلال العراق من قبل القوات الاميركية على الاقامة بهذه القصور. أما الحقيقة الثانية فهي ان القوات الاميركية التي دخلت العراق محررة وحامية لثرواته هي السبب في كل الخراب الذي لحق بالابنية والمؤسسات التي بنيت في عهد صدام، خاصة تلك التي تقع تحت حماية القوات الاميركية داخل المنطقة الدولية (الخضراء). والحقيقة الثالثة تتلخص في ان المنطقة الخضراء الآمنة للغاية.. ليست آمنة. هذه الحقائق على الاقل استطاعت «الشرق الاوسط» التوصل اليها خلال رحلتها داخل المنطقة المحرمة. لنأخذ مثلا واضحا، ذلك هو القصر الجمهوري الذي يعد رمز الامة العراقية وعنوان سيادتها. العراق الذي عرف بكثرة ثوراته وانقلاباته العسكرية والحزبية، وعلى الرغم من توالي اربعة رؤساء جمهورية على الحكم من بين جدران هذا القصر، الا ان القصر الجمهوري بقي محافظا على كيانه، حتى ان القوات الاميركية عندما قصفته عام 1991 خلال عمليات عاصفة الصحراء ، قام صدام حسين باعادة اعماره وبناء ما تم تهديمه، واضاف اليه اجنحة داخلية وخارجية والحق به الحدائق الغناء والبحيرات والمسابح وصالات الاستراحة. ومن يزور القصر اليوم سيجد اسلاك الاتصالات والكهرباء ممدودة في كل الاتجاهات مشوهة معماره الداخلي الجميل، كما ان الجنود الاميركان، الذين داسوا ببساطيلهم على كل شيء داخل القصر وهدموا بعض الجدران، خربوا الكثير بما فيه حدائقه التي صارت يابسة اليوم.
وقبل ان يتحول القصر الجمهوري الى مقر للحاكم الاميركي السفير بول بريمر، ومن ثم الى مكتب للسفارة الاميركية، كان قد اقام فيه ثلاثة رؤساء جمهورية وحاكم اميركي. قتل اثنان من الرؤساء العراقيين غدرا وأخرج الثالث بعد خيانة جهازه الأمني له. فقد كان عبد السلام عارف، ولد عام 1921 في بغداد، قد تولى رئاسة الجمهورية عام 1963 اثر الاطاحة برئيس الوزراء عبد الكريم قاسم واعدامه في مبنى الاذاعة من قبل البعثيين، ومات بسبب انفجار مدبر لطائرته في صحراء البصرة في 1966. اما اول رئيس للجمهورية العراقية بعد الانقلاب على الحكم الملكي في 14 يوليو (تموز) 1958 وهو الفريق نجيب الربيعي فلم يصل الى القصر الجمهوري، وكان رئيسا لمجلس السيادة وبلا صلاحيات، اذ كان رئيس الوزراء قاسم هو الذي يتمتع بصلاحيات مطلقة، وهو الاخر (عبد الكريم قاسم) لم يتخذ من القصر الجمهوري مقرا له، بل مكث بغرفة صغيرة في وزارة الدفاع في منطقة الباب المعظم وكانت بمثابة مكتبه ومسكنه.
وكان الرئيس الثاني للجمهورية العراقية هو عبد الرحمن عارف، شقيق الاول، مولود في بغداد عام 1916، واصبح رئيسا للعراق خلفا لشقيقه عبد السلام في 16 ابريل (نيسان) 1966، وتم تنحيته من الرئاسة، اثر غدر قيادة أمنه واستخباراته وحراسة القصر، بتعاونهم مع البعثيين الذين هاجموا القصر فجر يوم 17 يوليو (تموز) 1968 وتنفيذ الانقلاب ضده، وهو اول رئيس للعراق لم يمت قتلا او غدرا، بل مات بصورة طبيعية بداية العام الحالي 2007.
أما الرئيس الثالث فهو احمد حسن البكر، مولود في تكريت عام 1914 وصل الى القصر الجمهوري بعد الانقلاب على عبد الرحمن عارف في يوليو 1968، واخرجه صدام حسين عام 1979 منه ليحتجزه في بيته قبل ان يموت بفعل حقنة سامة عام 1982، مثلما أكدت اوساط مقربة وقت ذاك.
وحسب مذكرات بريمر (عاما في العراق) فإنه اتخذ غرفة صغيرة داخل القصر الكبير وذلك لاسباب أمنية، ليعيش فيها وليحكم العراق من خلال نفس المكان الذي كان يحكم فيه اربعة رؤساء قبله، اذ تقلد بريمر المولود عام 1941 مسؤولياته كحاكم اميركي مطلق على العراق في 6 مايو (ايار) 2003، خلفا لجاي غارنر، المولود عام 1938، الذي حكم العراق منذ سقوطه بأيدي القوات الاميركية المحتلة في 21 ابريل (نيسان) 2003، وحتى تسلم بريمر المسؤولية، وهي اقل فترة اقام فيها حاكم للعراق بالقصر الجمهوري.
المقاطعة الثانية المحمية بشدة داخل المنطقة الخضراء، ولكن بدرجة اقل من السفارة الاميركية وبيت السفير الاميركي، هي السفارة البريطانية ومسكن السفير البريطاني، وبالدرجة الثالثة تأتي مقاطعة مكتب رئيس الحكومة العراقي ومسكنه ومكاتب ومسكن رئيس الحكومة السابق ابراهيم الجعفري، وضمن ذات القاطع يقع مسكن موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني ووزير النفط حسين الشهرستاني.
ويتخذ رئيس الحكومة نوري المالكي من قصر كان مخصصا في عهد صدام حسين لاستضافة الملك حسين العاهل الاردني الراحل، وتقع امامه بحيرة ونافورات وحدائق، بينما يطل من الجهة الاخرى على نهر دجلة مباشرة.
للدخول الى هذه المقاطعة المسورة هي الاخرى بجدران كونكريتية وبوابة حديدية، تحتاج الى مرافق يحمل بطاقة زرقاء، كما تخضع السيارة التي تقلك لتفتيش دقيق للغاية.
عندما مررت بمستشفى ابن سينا لم اتعرف عليه، هو الاخر سور بعناية بجدران كونكريتية، وبدلا من ان يحمل اسمه، كانت هناك لافتة تعرف به كالتالي: «القيادة الاميركية، القيادة الطبية الثالثة، مستشفى الاسناد القتالي الـ 28»، وقبيل المستشفى يقع السوق المركزي للمنطقة الخضراء، الذي لا يدخله أي شخص ما لم يكن يحمل بطاقته كمجند في القوات المتعددة الجنسيات او مواطن اميركي او بريطاني.
صديقي الذي رافقني في جولتي داخل المنطقة الخضراء قال ان «هذا السوق يضم كل شيء تقريبا من مواد غذائية واستهلاكية وملابس وكلها من انتاج غربي، ولكنها رخيصة جدا. السفارتان الاميركية والبريطانية وفرتا لقواتهما وموظفيهما في المنطقة الخضراء وسائل ترفيه محرمة على الاخرين، مثل الاسواق الكبيرة (سوبر ماركت)، والنوادي الرياضية التي تضم اجمل المسابح التي كانت قد بنيت في عهد صدام حسين، والمطاعم والمقاهي.
في الجانب الآخر من السفارتين الاميركية والبريطانية تقع ثلاثة من القصور الرئاسية، التي ضربت القوات الاميركية اثنين منها، ولكنهما ما يزالان قائمين، وهما قصر السجود وقصر السلام حيث يستخدمان كمقرات للعمليات والاستخبارات الاميركية، أما القصر الثالث فهو قصر عدنان الذي يقع قريبا من ساعة بغداد التي دمرتها دبابة اميركية بأمر من احد الضباط في تمام الساعة السابعة صباحا من يوم العاشر من ابريل، وهو اليوم التالي لاحتلال بغداد، وحسب احد الساكنين قرب الساعة، وهو مهندس عراقي، انه عندما سأل الضابط الاميركي عن سبب قصفه للساعة، فهي مجرد ساعة لا اكثر، اجابه الضابط الاميركي «هذه ساعة صدام ونحن سندمر كل ما له علاقة بصدام»، رد عليه المهندس قائلا: «حتى ان اسمها ليس ساعة صدام، بل ساعة بغداد»، الساعة ما تزال قائمة وعقاربها متوقفة على الوقت الذي ودعت فيه الزمن، العاشرة صباحا، ولم تكلف القوات الاميركية نفسها عناء اصلاحها واعادتها الى الحياة.
الدمار الحقيقي الذي لا يعرفه العراقيون لحق بساحة الاحتفالات الكبرى التي كانت واحدة من المتنزهات التي كان ينفس فيها البغداديون عن متاعب وضجر ايامهم، وبعد ان كانت هذه الساحة تزدهر بمئات العوائل واطفالهم، وبعد ان كانت الخضرة تزينها، تحولت الى ارض جرداء، بينما يقوم السكان المحليون بالاستفادة من مياه بحيرتها الصغيرة لغسل سياراتهم.
نصعد الى الشرفة الرئاسية في ساحة الاحتفالات الكبرى، تلك الشرفة التي استقبلت رؤساء وملوكا وقادة عربا مستعرضين مع الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين قطعات الجيش العراقي بعد انتصار العراق على ايران في حرب استمرت ثماني سنوات، تتكون هذه الشرفة من صالات كانت مترفة لاستقبال كبار الضيوف والانتظار، وهناك صالة مخصصة لاستراحة صدام حسين، نوافذ هذه الصالات، صالة صدام خاصة، مزودة بزجاج مضاد للرصاص، بل ولقذائف المدافع فهناك اثر لقذيفة مدفع دبابة اميركية من غير ان تحطم حتى زجاج النوافذ الامامية.
جماهير الغوغاء الذين سهلت لهم القوات الاميركية عملية غزو القصور الرئاسية والدوائر الحكومية لسلبها وتخريبها لم تبق أي شيء في هذه الشرفة، حيث تمت سرقة الاجهزة الصوتية والكاميرات والاثاث والثريات المصنوعة من الكريستال الاصلي. لكن ما لا يستطاع فهمه هو سبب تخريب مقاعد الشرفة المزودة بفتحات التكييف المركزي، فالعملية تتعدى مجال السرقة الى التخريب والانتقام من كل ما كان ينتمي الى عصر صدام.
احاول التقاط صورة للقصر المقابل لصالة الشرف لكن سرعان ما ينبهني شاب من سكان المنطقة بقوله «ديربالك هذا مقر للاستخبارات الاميركية»، القصر نصف الخرب تحيطه سرية تامة، اصطاد له صورة من خلال نافذة شباك مدمر.
انظر من الشرفة الرئاسية، من ذات المكان الذي كان فيه صدام حسين يرفع يده اليمنى بحركته المميزة محييا الجماهير، وقف هنا ليلة الثامن من اغسطس (آب) عام 1988 محتفلا مع العراقيين بانتهاء الحرب العراقية الايرانية وهو يرتدي الثوب والعقال العربي، ووقف هنا محتفلا بعيد الجيش العراقي في السادس من يناير (كانون الثاني) بعيد انتهاء الحرب عام 1989، حيث كانت احدى الدبابات قد لغمت بالقنابل لاغتياله في خطة تشبه الى حد كبير حادثة المنصة التي اغتيل فيها الرئيس المصري انور السادات، وكان نجله قصي قد اكتشف المخطط ساعات قبيل تنفيذه، ووقف صدام هنا وهو يمسك بندقيته ويرمي في الفضاء بيد واحدة متحديا التهديدات الاميركية من جهة ومكذبا التقارير التي كانت قد تحدثت عن اصابته بسرطان الغدد اللمفاوية. ووقف صدام حسين مرات اخرى يوم كان الاف العراقيين يهرعون لتحيته.
كان الرئيس العراقي الراحل يرفع يده الحقيقية محييا العراقيين من شرفته هذه وعلى مقربة منه تقف بصورة متقابلة كفاه البرونزيتان على ارض صلبة حاملتين السيف العربي في تكوين شكله النحات الراحل خالد الرحال ليكون قوس النصر، اربع اكف مأخوذة عن نسخة حقيقية لكف صدام وتم تكبيرها برونزيا في احد مصاهر ايطاليا لتكون بوابتا النصر التي مر من تحتهما حشود الجيش العراقي بينما تتبعثر على الارض الخوذ الحقيقية التي كان يضعها الجنود الايرانيين فوق رؤوسهم وتم جمعها من جبهات القتال ومن الاسرى الايرانيين في اشارة الى النصر الذي حققه الجيش العراقي على القوات الايرانية.
كانت ايران قد طالبت برفع هذه القبعات التي ترى في وجودها على ارضية الساحة وتحت كف صدام اهانة لقواتها، وكان هناك بالفعل مشروع لتهديم اقواس النصر، وتم ضرب القوس الكائن في غرب الساحة حيث تحطم جزء من كف صدام البرونزي،الا ان اصرار مؤسسة الذاكرة العراقية التي اسسها كنعان مكية ويدير مكتبها في بغداد الاعلامي العراقي مصطفى الكاظمي على عدم المس باي مكون في الساحة كونها (الساحة) مملوكة لمؤسسة الذاكرة العراقية لتبقي جانبا من عهد صدام مثلما هو،هذا الاصرار حال دون تهديم نصب قوس النصر.
الساحة من خلال الشرفة تبدو مهملة وجرداء، تمت ازالة تمثال لصدام حسين كان يقع في مركز الساحة، كما تم تهديم قاعات المسارح والعرض السينمائي والصالات التشكيلية والمقاهي. لكن اللوح المرمري الذي يحمل كلمات لصدام حسين وبخط يده، منفذة بالبرونز، ما تزال موجودة هناك كشاهد على عصره.
المارينز الاميركيون لم يفوتوا الفرصة في التوقيع على جدران الصالة ليقولوا «المارينز مرو من هنا» واينما يمر المارينز يحل الخراب والتهديم.
يحتل نصب الجندي المجهول بتشكيلاته النحتية الممزوجة مع الجانب العمراني البديع القسم الشرقي من ساحة الاحتفالات الكبرى. عندما مررت من قربه كان التراب قد غطى كل تفاصيله واخفى جمالياته حتى انهم عندما يضيئونه في بعض الليالي يبدو باهتا بعد ان كانت اضاءته تشع ليلا بألوان العلم العراقي الاحمر والاخضر والابيض.
اختتمنا جولتنا في فندق الرشيد لشرب فنجان قهوة هناك. كان هذا الفندق واحة فرح واسترخاء وموسيقى وغناء ولقاءات عائلية وعاطفية، حيث العشاق كانوا يضيعون بين اشجار حدائقه المتنوعة، التي هندسها خبراء عالميون في هذا المجال.
دخلته للمرة الاولى منذ ان غادرت العراق في بداية التسعينات، شعرت بالخجل لكل ما لحق بالفندق الذي كان يوصف بواحد من اجمل الفنادق العالمية، تمثال الصياد وعروس البحر بدا خاويا بعد ان جفت مياه النافورة.
استوقفني حارس من رومانيا لا يجيد سوى لغة بلاده وراح يحقق معي عن سبب وجودي في الفندق، الفندق ذاته الذي كنت اقضي فيه احلى الاماسي اجدني محجوزا ببابه لافسر لحارس يجهل كل لغات العالم سبب وجودي هنا. لم يحدث في تاريخ هذا الفندق الذي كان يديره شخص ناجح اسمه غازي، اغتاله مسلحون قبل عامين، ان وقف حرس ببابه يسأل عن سبب زيارة الناس له، فهو مجرد فندق، حتى في الايام التي كان يحضر فيها عدي وقصي نجلا صدام حسين الى الفندق لم يسمح للحرس بمنع او مساءلة الزوار.
القصيدة التي أبدعها الفنان العراقي سعد شاكر بالسيراميك البني، والتي تحتل الافريز العلوي لصالة الفندق، والتي تبدأ بـ«ليت هندا انجزتنا ما تعد» بهت لونها وما عادت واضحة. الاضواء مطفأة لاسباب ترشيد الطاقة الكهربائية، الاثاث تحطم من غير ان يحرص احد على اصلاحه او تغييره، بالرغم من ان ادارة الفندق تقاضي الزوار اجورا عالية قياسا بباقي الفنادق.
يقيم في فندق الرشيد حاليا بعض مراسلي الصحف الصادرة خارج العراق ووكالات الانباء، اضافة الى عدد من المسؤولين العراقيين وغالبية من اعضاء مجلس النواب، الذين تقيم عوائلهم خارج العراق.
كانت عتبة الفندق تضم صورة منقوشة على البلاط للرئيس الاميركي جورج بوش، لكنها اختفت حاليا. يوضح لي احد العاملين في الفندق، قائلا: «عندما تم قصف بغداد عام 1992 اصابت قذيفة الفندق وقتلت بعض العاملين فيه، وبعد وصول الرئيس بوش الى البيت الابيض واعلان عدائه لصدام حسين صدر امر من الرئاسة برسم صورة بوش على عتبة الفندق ليدوس عليها الزوار، لكن في نهاية التسعينات وعندما كانت فرق التفتيش تأتي الى بغداد أمر صدام حسين بازالة صورة بوش من العتبة من غير ان يشعر اي شخص، لهذا تم وضع سجادة حمراء فوق الصورة وتغطيتها حتى نساها الناس ومن ثم تمت ازالتها.

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:45 AM

  رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (9) النجف: مدينة المكتبات والروحانيات
كانت فيها أول مطبعة حجرية في العراق وأسعار العقارات فيها هي الأغلى عراقيا
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةباب القبلة في صحن الإمام علي بن أبي طالب («الشرق الاوسط»)
النجف: معد فياض
«السلام عليك يا أمير المؤمنين» هذه العبارة تقرأها واضحة فوق بوابات ضريح الامام علي في مدينة النجف او «الحضرة الحيدرية» كما تسمى في العراق. والنجف قامت كمقبرة ثم مدينة تلتم حول ضريح الامام الذي تقول مصادر المدينة التاريخية انه مدفون بين سيدنا آدم والنبي نوح.
والنجف التي تلتصق صحراؤها بصحراء الجزيرة العربية، تقوم عند تخوم بحر من الرمال، هذا هو بحر النجف الذي يقال ان سفنا كانت تبحر اليه من غير ان يحدد أي مصدر متى كان ذلك.
في هذه المدينة العلمية الدينية توجد اكثر من ثلاثة الاف مكتبة خاصة باستثناء المكتبات التي احرقها الحرس الجمهوري عام 1991، وباستثناء المكتبات العامة التي تضم الاف المخطوطات النادرة. ولكن، كيف هو الطريق الى النجف، البعيدة القريبة، السهلة والمستحيلة؟
«الشرق الأوسط» امضت ثلاثة أيام في المدينة التي كانت تضم اول مطبعة حجرية، ودخلت احدى اقدم مكتباتها العامة.
المشهد الاول الذي سيفاجأك وانت تدخل الى مشارف مدينة النجف التي تبعد مسافة 161 كم الى جنوب غرب بغداد هو لمعان 7777 طابوقة مطلية بـ 200 كيلوغرام من الذهب الخالص تغلف قبة ضريح الامام علي بن ابي طالب التي ترتفع الى 42 مترا ومحيط قاعدتها 50 مترا، على ان هذه القبة المذهبة هي ليست أول وآخر مفاجآت هذه المدينة المقدسة لدى العراقيين شيعة وسنة، ولدى كل شيعة العالم عامة لوجود ضريح «أمير المؤمنين».
كل شيء في النجف يشكل مفاجأة قائمة بذاتها، موقعها، تاريخها، عمارتها، اعلامها، مكتباتها، مساجدها، مدارسها، اسواقها والاهم من هذا كله حوزتها العلمية الشهيرة ومراجعها.
قبل عام 2003 لم يكن الوصول الى هذه المدينة يشكل ادنى صعوبة، فالناس كانت تذهب لزيارة مرقد الامام علي بسياراتها الخاصة او في الباصات العامة، لكن الامور تغيرت اليوم كثيرا خاصة بعد ان وجد بعض المسلحين من السنة موقعا لهم في ما يطلق عليه بـ«مثلث الموت» والذي يشمل ثلاث بلدات هي المحمودية واليوسفية واللطيفية، وغالبا ما تنصب هناك كمائن عبارة عن مفارز تفتيش مزيفة تسيطر عليها هذه الجماعات المسلحة التي تنتسب الى تنظيمات القاعدة والتي تعاقب المسافرين من الشيعة، والمشكلة هي ان الطريق الى النجف، او الى المحافظات ذات الاغلبية الشيعية: الحلة (مركز محافظة بابل) وكربلاء والنجف يمر عبر مثلث الموت هذا، وهناك طريق صحراوي يعرف بالطريق السريع لا تقل خطورته عن الطريق التقليدي.
والعقاب هنا يتراوح ما بين الضرب المبرح «محظوظ هذا الذي يحظى بمثل هذه العقوبة فقط»، حسب حيدر عبد الامير الشويلي، طالب في السنة الثالثة بالجامعة المستنصرية في بغداد، وهو من سكان مدينة الحلة «حيث يتوجب عليه السفر بين مدينته وبغداد يوميا او ثلاث مرات في الاسبوع كاقل تقدير لعدم وجود اقسام داخلية(سكن لطلاب الجامعة) وايجار شقة او بيت لمجموعة من الطلاب سيجعل منا هدفا سهلا للجماعات المسلحة بالاضافة الى ان التكاليف هي اكبر من طاقتنا المادية بكثير.
يروي حيدر حادثة تندرج تحت وصف السخرية المرة او الحزينة، يقول «كنت اتنقل بين بغداد والحلة بواسطة سيارة خاصة لاحد الزملاء الذي ندفع له اجرة تنقلنا، ثم تم استهداف هذا الزميل وبعد ان انتشرت قصص الجماعات المسلحة في مثلث الموت قررنا التنقل بواسطة الباصات العامة، والمثل الشعبي عندنا يقول(الموت مع الجماعة رحمة)».
يضيف الشويلي قائلا «كانت تنقلاتنا امنة حتى واجهتنا ذات صباح باكر احدى هذه الجماعات المسلحة ونحن بين بلدتي اللطيفية واليوسفية وبدأوا بقراءة اسمائنا في بطاقات الهوية وانزالنا من الباص، وبلا شك فان اسمي يدل بوضوح على اني شيعي وكذلك اسماء من تم انزالهم ووضعونا في صف واحد وقالوا لقد حكمنا عليكم بالاعدام لانكم من الرافضة (الشيعة)، ووسط الصراخ والبكاء حيث كان معنا بعض النسوة، ضحك قائد المجموعة وقال،هذه المرة سنعفو عنكم لكننا سنأخذ كل ما معكم من فلوس وخواتم وموبايلات وقرر ان يعاقب الشباب بعدة صفعات وتركونا نمضي في طريقنا».
يقول الشويلي «لقد امتنعت عن الذهاب الى الجامعة ما يقرب من شهر بسبب هذه الصدمة، ثم استعدت رباطة جأشي وعدت الى الدوام حتى صادفتنا بعد اكثر من شهرين مجموعة مسلحة اخرى في ذات المحيط ومارسوا معنا نفس الاسلوب الذي مارسوه في المرة الماضية، وقلت لقائد المجموعة لقد اخذتم مني كل شيء في المرة الماضية وانا طالب جامعي وليس معي أي موبايل او فلوس، فاجاب ساخرا، اذن انت زبون قديم وعقوبتك ستكون اربع صفعات فقط، وهذا ما كان».
لكن الشويلي شكك في ان تكون هذه الجماعة التي «اوقفتنا مرتين، ولحسن الحظ، من تنظيمات القاعدة ولو كانت بالفعل من هذه التنظيمات لما تركونا نمضي احياء بل لقتلوا الجميع كما فعلوا مع آخرين، والجماعة التي واجهتنا كانت من عصابات التسليب على ما يبدو، ففي هذه المناطق تم اعدام الكثير من الابرياء من غير ان يفرقوا بين امرأة ورجل وطفل، واختطفوا العشرات الذين تم اكتشاف جثثهم فيما بعد»، مشيرا الى ان «الامر سيئ للغاية سواء كانت هذه المجموعات سنية او شيعية وانا لا ابرئ احدا هنا فكما للسنة ميليشيات مسلحة فاللشيعة ايضا ميليشياتهم واخطرهم جيش المهدي الذين لا يتورعون عن اقتراف أية جريمة وحسب مصالحهم الشخصية لا حسب مصلحة البلد او الطائفة».
كانت المرة الاولى التي دخلت فيها النجف بعد غربة دامت اكثر من 15 عاما هي في ابريل (نيسان) عام 2003 عندما لم تكن النجف قد تحررت من سيطرة قوات النظام السابق وميليشيات حزب البعث التي كانت تعرف بـ«فدائيي صدام» التي كانت بقيادة عدي النجل الاكبر لصدام حسين.
كنت اول صحافي يدخل مدينة عراقية مع بداية عمليات تحرير العراق على ايدي القوات الاميركية، وكانت «الشرق الأوسط» من اوائل الصحف التي تدخل العراق بهذه الصفة وتنقل اخبار الحرب من هناك، من ميدان الواقع. كنت قد رافقت عبد المجيد الخوئي نجل أحد أبرز المراجع الشيعية، وهو ابوالقاسم الخوئي، وكانت الرحلة قد انطلقت من لندن ثم البحرين فقاعدة الامام علي(طليلة) في الناصرية جوا، لنستقل بعدها طائرات هليكوبتر اوصلتنا الى صحراء بحر النجف.
في المرة الاولى كدت أُقتل مع الخوئي وماهر الياسري وحيدر الرفيعي على ايدي اتباع مقتدى الصدر مثلما اثبتت التحقيقات القضائية التي اجريت هناك، («الشرق الأوسط» نشرت القصة كاملة على حلقات وقت ذاك).
لهذا السبب شكلت زيارتي الثانية الى مدينة النجف خطورة من نوع خاص بالنسبة لي، ذلك ان اتباع الصدر ما زالوا هناك ولهم سيطرة على جوانب من المدينة وانا من شهد وكتب عن حادثة مقتل الضحايا الثلاث، والخطورة الثانية بشكل عام هي تجاوز مثلث الموت، اما الخطورة الثالثة فهي وجود صحافي من خارج العراق وسط هذه المدينة، والصحافي اليوم في العراق هو هدف سهل للاختطاف او للاغتيال خاصة ان احصائيات الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان والدفاع عن حريات الصحافيين تؤكد ان اكثر الصحافيين الذين قتلوا خلال السنوات الاربع الماضية قد لاقوا حتفهم في العراق الذي صنفته آخر احصائية دولية بانه «البلد الاكثر خطورة على الحياة في العالم».
لكن هذه الاسباب لم تكن كافية لمنعي من زيارة المدينة التي كنا نحب ان نضيع باسواقها وازقتها يوم كنا نزورها ونحن فتيان مع عائلاتنا. كان لا بد من زيارة النجف ولقاء بعض مراجعها من العلماء والكتابة عنها وعن حوزتها العلمية بغض النظر عن المخاطر التي تحيط بي كصحافي.
شخصان فقط ابديا استعدادهما لمساعدتي للوصول الى النجف والتجول فيها، هما جواد الخوئي نجل العلامة الديني محمد تقي نجل المرجع ابو القاسم الخوئي الذي اغتالته اجهزة النظام السابق بحادث سيارة عام 1994.
وعمار النجل الاكبر لعبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، حيث يترأس (عمار) مؤسسة شهيد المحراب التي مركزها النجف، فبينما وفر لي الحكيم الدعم اللوجستي الذي يتلخص بتوفير واسطة النقل والحماية من بغداد حتى النجف والتجوال فيها ومن ثم عودتي بعد يومين، فان الخوئي رتب لي برنامج زياراتي لايات الله من المراجع الشيعة، وقد توفرت لي كامل الحرية في التجوال والمقابلات واجراء الاحاديث.
كان الطريق بين بغداد والنجف مزروعا بنقاط التفتيش التي يتبع بعضها للجيش العراقي والبعض الاخر لوزارة الداخلية، وعندما سألت مرافقي عن كيفية الاطمئنان عن صحة نقاط التفتيش هذه، اجاب قائلا «خليها على الله»، ثم استطرد قائلا «لكثرة ممارستنا وسفرنا المستمر بين بغداد والنجف صرنا نشتم وعن بعد رائحة الخطر وفيما اذا كانت هذه النقطة او تلك حقيقية او مزيفة».
بعد زيارتي للنجف بيومين تعرض موكب عمار الحكيم نفسه لاطلاق النار مرتين وهو في طريق عودته من النجف الى بغداد، مرة في اللطيفية (مثلث الموت) والثانية عند تخوم الدورة حيث اصيب ستة من حراسه بجروح.
كانت اجابة مرافقي لاسئلة القائمين على نقاط التفتيش باننا من سكان النجف وعائدين الى بيوتنا، بينما كان يصارح آخرين بانه من المجلس الاعلى الاسلامي في العراق فيدعونا نمر بسرعة متجاوزين طوابير السيارات المنتظرة. وعلى العموم فان نقاط التفتيش هذه وسيطرتها على الطريق الذي يربط بين بغداد ومحافظات الفرات الاوسط تشعر الناس بالاطمئنان والرضا، وبصورة عامة فان الامن يسود هذه المحافظات باستثناء عمليات الانتحاريين وتفجير السيارات المفخخة مثلما حدث في الحلة وكربلاء وحتى النجف، وايضا باستثناء ما يحدث من اشتباكات بين جيش المهدي والقوات العراقية او قوات الشرطة مثلما حدث في الديوانية لمرات عدة.
«النجف مرة أخرى.. من يصدق ذلك» هكذا قلت لنفسي ونحن ندخل تخوم هذه المدينة المزدحمة الحركة والناس القادمين اليها من كل مكان. كانت السيارات تزحف في سيرها البطئ بفعل الازدحام لا سيما اننا وصلنا المدينة في ساعات الصباح الاولى.
لفتت نظري حركة العمران التي نمت في اطراف المدينة، قال مرافقي وهو ضابط في الجيش العراقي ومهمته ضمن حماية مكتب رئيس المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، ان «اسعار العقارات في مدينة النجف هي الاغلى عراقيا، اغلى من اسعار عقارات المناطق الراقية في بغداد»، ومع نمو العمران اتسعت اسواق بيع مواد البناء. كلما اقتربنا من مركز المدينة دنت منا قبة ومآذن ضريح الامام علي وكأنها أكف من ذهب تتضرع الى السماء الصافية حيث كانت اشعة الشمس تتفاعل مع لمعان ذهب القبة الكبيرة فيعود شعاع الشمس مذهبا ناشرا الاحساس بالطمأنينة في النفوس.علق مرافقي الضابط قائلا «عشرات الالاف من الزوار يدخلون المدينة يوميا قادمين من جميع مدن العراق ومن ايران، والان يجري العمل لانجاز مطار النجف ليخفف من هذا الزحام الذي تتحمله الطرق البرية التي تربط مدن العراق بالنجف».
استقبلتنا ساحة (ميدان) ثورة العشرين التي كانت تعد بوابة المدينة لكنها صارت اليوم وسط النجف لزحف حركة العمران وبناء البيوت والمراكز التجارية والاسواق والفنادق والمقاهي والمطاعم. على يسار الساحة يرتفع صرح ضريح محمد باقر الحكيم الذي اغتيل عام 2003 بحادث تفجير سيارته بعد لحظات من تركه ضريح الامام علي، حيث كان قد ادى صلاة الجمعة واطلق عليه لقب(شهيد المحراب)، لكن «بناية الضريح لم تكتمل بعد وعند يمين الساحة تمتد واحدة من أكبر مقابر العالم التي تحمل اسم وادي السلام، اذ ما من شيعي يتمنى الا ان يدفن في هذه المقبرة لقربها من ضريح الامام علي، وبالفعل فان غالبية شيعة العراق وشيعة ايران مدفونون في وادي السلام الذي يشرف عليها آل ابو اصيبع وهم احدى اشهر واغنى عائلات النجف الاصيلة. وتاريخيا فان النجف عبارة عن مقبرة «نشأت حول مرقد الإمام في ظهر الكوفة عند إظهاره في أواخر القرن الثاني، ثمّ ورثت الكوفة مكانةً وسكاناً»، حسب موسوعة النجف على شبكة الانترنت. ويؤكد رضوان الكليدار الذي توارثت عائلته منذ 400 عام الاشراف على ضريح الامام علي او ما يسمى بالروضة الحيدرية، ان «الامام علي هو الذي اختار مكان دفنه بين قبري آدم ونوح وإنّ الإمام دفن عندهما بإعلامه ووصيته، وأنّ فيها أيضاً وعلى مسافة كيلومتر واحد قبرا هود وصالح».
وبالرغم من ان مدينة النجف تقع فوق هضبة ترتفع 70 مترا عن مستوى سطح البحر الا انها ارتبطت ببحر النجف الذي لم نجد اي مؤرخ او مصدر يؤكد مشاهدته لهذا البحر لكن المصادر التاريخية للمدينة وعلماءها يتحدثون عن بحر النجف باعتباره كان موجودا هنا في يوم ما.
لكن الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي يذكر«إنّ بحر النجف كان مجرى للسفن الشراعية، وليس لدينا عنه أمر يوثق به عدا ما حدّثنا به الرحالة البرتغالي (تكسيرا) وان كان ذلك في وقت متأخر تاريخياً. قال تكسيرا الذي وصل إلى النجف في 18 سبتمبر( أيلول) سنة 1604: إنّ مدينة النجف كانت تطل من موقعها العالي على بحر النجف، مشيرا الى إنّه ليس لهذه البحيرة شكل معين لكنها تمتد بطولها حتىّ يبلغ محيطها خمسة وثلاثين إلى أربعين فرسخا، وهناك قريبا من منتصفها ممر ضحل تستطيع الحيوانات اجتيازه خصوصا في المواسم التي يقل فيها ماء البحر. واضاف «إنّ هذه البحيرة كانت شديدة الملوحة، ولذلك كان يستخرج منها الملح الذي يباع في بغداد والمناطق المجاورة مع ملوحتها كان يكثر فيها السمك بأنواعه المختلفة. ويرى تكسيرا أنّ بحر النجف يستمد ماءه من الفرات، ولذلك يلاحظ ازدياد مقادير الماء في مواسم الطغيان. لكن موقع بحر النجف اليوم هو مجرد صحراء متسعة تنفتح وتتصل مع صحراء المملكة العربية السعودية غربا، وحسب الاثاري العراقي الدكتور فوزي رشيد فان اولى الهجرات التي قدمت من الجزيرة العربية الى العراق قدمت عبر هذه الصحراء.
وحتى عام 1931 كانت النجف تعيش محتمية بسورها وكانت تتألف من اربعة محلات رئيسية تنحدر منها غالبية عائلات النجف الاصلية، وهي: محلة المشراق ومحلة العمارة، وهي أكبر محلة في النجف وقامت اجهزة النظام السابق بتهديم قسم كبير منها، ومحلة الحويش، ثم محلة البراق. اما اليوم فتضم النجف اكثر من 30 حيا سكنيا غالبيتها بنيت بعد عام 1980 وهي احياء تضم موظفين او عسكريين حصلوا على قطع اراضي سكنية عن طريق نقاباتهم المهنية مثل حي الاطباء والمعلمين والضباط والمهندسين، وهكذا، ومن احيائها الراقية الجديدة، حي السعد وحي المثنى وحي حنون.
ان طبيعة المدينة المحافظة انعكست على عمارتها التقليدية حيث البيوت تنحسر الى داخل الازقة بشبابيك وشناشيل ضيقة ومغلقة تستطيع ان ترى من خلالها ربة البيت من غير ان يراها أي من المارة، ولعل ما يميز بيوت النجف وبسبب مناخها الساخن صيفا فانك قلما تجد بيتا نجفيا تقليديا من غير سرداب (قبو) كانت تحفظ فيه الخضروات والفواكه كما يستخدم للنوم في فترة ما بعد الظهر، وكانت هناك بيوتات متقاربة عائليا وجغرافيا تترابط فيما بينها من خلال هذه السراديب اذ يمكن للنساء الانتقال من بيت لاخر من دون الحاجة للخروج الى الطريق العام. كما كانت تشتهر بيوت النجف بوجود بئر فيها لشحة المياه في المدينة فهي لا تقع على نهر وكان الناس يشترون الماء من السقا.
الاحياء السكنية الحديثة التي مررنا بها ونحن في طريقنا الى مركز المدينة القديمة لا تختلف معماريا او حتى في تقسيم شوارعها عن أية مدينة عراقية اخرى. وكلما اقتربنا من المركز تسللت الينا رائحة التاريخ المنبعثة من اسواق ومكتبات ومساجد ومدارس وبيوت النجف العتيقة وأزقتها (عكودها) حيث يسمون الزقاق شعبيا بالعكد تعريفا لمفردة عقد.
تفاخر بيوتات النجف بمكتباتها، واذا اردت ان تتعرف على هذه المدينة التي كانت فيها اول مطبعة حجرية في العراق فعليك ان تتعرف على مكتباتها المزدهرة بعشرات الالاف من المخطوطات والكتب النفيسة والنادرة. ويكاد لا يخلو أي بيت من بيوت عائلاتها المعروفة من المكتبات الضخمة، ويفرد الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري، وهو ابن النجف، فصلا كاملا في ذكرياته عن مكتبة والده وما كانت تضمه من امهات الكتب والمخطوطات.
ويصف جواد الخوئي حفيد المرجع الكبير آية الله ابوالقاسم الخوئي مكتبة جده قائلا «لم نستطع وقتذاك ان نعد الكتب التي كانت موجودة في مكتبة جدي لكن والدي افرغ لها اكثر من اربع صالات، وكان كل طالب علم يتعب من ايجاد مصدر او كتاب يأتي الى مكتبة الخوئي ليجده هناك».
لكن قوات الحرس الجمهوري التي دخلت النجف بعيد القضاء على الانتفاضة الشعبية في 1991 وعاثوا الفساد والقتل في اهالي النجف بينما هدموا واحرقوا اهم مكتبات المدينة وحولوا المخطوطات والكتب النادرة الى رماد اختلط مع دماء الضحايا.
واليوم نستطيع ان نعد 15 مكتبة عامة في النجف، وهي: مكتبة الروضة الحيدرية، مكتبة مدرسة الصدر الاعظم، المكتبة الحسينية الشوشترية، مكتبة كاشف الغطاء، مكتبة جمعية الرابطة الادبية، مكتبة صاحب الذريعة، مكتبة كلية الفقه، مكتبة الادارة المحلية، مكتبة آل حنوش، مكتبة الامام أمير المؤمنين، مكتبة مدرسة آية الله البروجردي، مكتبة آية الله الحكيم، مكتبة جامعة النجف الدينية ومكتبة الامام الحسن، بالاضافة الى وجود «اكثر من 3000 مكتبة خاصة موجودة في بيوتات النجف، خاصة ومكتبات المراجع الاربع، آية الله السيستاني، آية الله الفياض، آية الله النجفي، وآية الله الحكيم» حسب مجيد عبد الهادي محمود مدير مكتبة آية الله عبد المحسن الحكيم العامة.
وتقوم مكتبة آية الله عبد المحسن الحكيم في ذات موقعها القديم في اول شارع الرسول قبالة باب القبلة لصحن الامام علي. اول ما استقبلتنا رائحة الورق، رائحة المخطوطات والكتب التي اصطفت فوق رفوف ثلاثة طوابق من بناية المكتبة التي تتوجها قبة خضراء.
يقول مجيد عبد الهادي محمود مدير المكتبة «لقد تم تأسيس مكتبة الحكيم عام 1957 كمكتبة عامة يستفيد منها طلاب العلم من طلاب الحوزة او غيرهم، وهي تضم اكثر من 6500 مخطوطة قديمة، حيث يعود تاريخ اقدم المخطوطات الى 650 هجرية واحدثها 1300 هجرية، وهناك ايضا 42 الف كتاب مطبوع تحتوي على عناوين لكل الاختصاصات الاسلامية والعلمية والفلسفة والتاريخ والتراجم».
واشار محمود الذي كان يعمل امام جهاز الكمبيوتر الى ان «موضوعات المخطوطات تتوزع على الفقه والفلسفة وعلوم الكيمياء والفيزياء وهناك اقبال كبير من قبل المحققين على هذه المخطوطات التي لم ينشر اغلبها». ويوضح مدير واحدة من اهم المكتبات العامة في النجف ان «هناك اقبالا كبيرا من قبل طلبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية ممن يدرسون للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراة، كما يواظب على الحضور طلبة الحوزة بمختلف مستوياتهم واعمارهم». ويؤكد مدير مكتبة الحكيم بان هناك «اكثر من 3000 مكتبة خاصة تضم كل منها الاف الكتب وعددا كبيرا من المخطوطات النادرة».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:49 AM

  رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (10) الكوفة والنجف: 13 كيلومترا بين المنزل والمرقد
أساسات دار الإمارة أقدم بناء في تاريخ الإسلام تضيع بين البردي والمياه الجوفية
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةضريح الإمام علي في النجف، كما يبدو من شارع الرسول حيث تظهر القبة المذهبة («الشرق الأوسط»)
النجف: معد فياض
من الصعب ان يتم الحديث عن النجف، وزيارتنا اليها من غير زيارة بقايا البيت الذي كان يقيم فيه الامام علي بن ابي طالب (كرم الله وجه)، باعتباره واحدا من اهم معالم هذه المدينة، التي قامت «الشرق الاوسط» بزيارتها، الى جانب دار الامارة في الكوفة، ومرقد الامام.
بين بيت الامام علي في الكوفة، ثاني الحواضر التي بنيت في الاسلام بعد البصرة بعامين، ومرقده في النجف، مسافة لا تزيد عن الثلاثة عشر كيلومترا، لكنها مسافة مبالغ فيها من حيث البناء وتزيينه وتذهيبه. فبينما كان أمير المؤمنين يعيش في بيت بسيط مبني من الطين، نرى انه قد بني لمرقده صحن ضخم لا يتناسب والزهد والبساطة والتقشف في الحياة التي عرف بهما ابن عم رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) ومؤلف كتاب «نهج البلاغة»، الذي يحث فيه على العلم والمعرفة والزهد.
يعتقد غالبية من المسلمين العرب ان الإمام علي حكم الأمة الاسلامية من الكوفة في سنوات خلافته القصيرة من دار الامارة الذي كان قد بناه سعد بن ابي وقاص في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، لكن الامام علي لم يدخل دار الامارة في حياته لضخامة بنائها ولانها كانت تدل على الترف، على الرغم من ان بيته المتواضع يقع في حد دار الامارة ومسجد الكوفة، الذي كان في الواقع مقر حكمه.
عندما وقفت قبالة بيت الامام علي، الذي اعيد تشييده من الطابوق المصقول وتم تجهيزه بالاسلاك الكهربائية وتزيينه من الداخل بورود مصنوعة من البلاستيك، تمنيت لو انهم ابقوا على آثار البيت الطينية ليبقى التاريخ محتفظا بذكرى حياة وصوت واحد من عظام الرجال في تاريخ الاسلام.
يقال في النجف ان شهرة الكوفة تأتي من وجود بيت الإمام علي بن أبي طالب فيها، الذي دخلها كما تقول المصادر التاريخية «في الثاني عشر من رجب 36 هجرية، وتوجه مع وصوله إلى مسجد الكوفة وصلّى ركعتين، ثم اجتمع بشيوخ الكوفة وعلمائها. ورغم وجود قصر الإمارة فيها، الذي شيد مع بناء المدينة، إلا أن الإمام علي المعروف بزهده وتواضعه اختار أن ينزل في بيت اخته أم هانئ (زوجة هبيرة المخزومي)، الذي يقع في رحبة مسجد الكوفة، التي سميت في ما بعد برحبة علي. وكان البيت الذي اشتراه الإمام في ما بعد بسبعين دينارا يقع قبالة باب السدة من مسجد الكوفة». يقول صبحي العوادي المشرف على بيت الامام علي من قبل ديوان الوقف الشيعي، ان «هذا البيت الذي شهد حملة صيانة، يتميز ببساطته وتواضعه ومساحته الصغيرة 370 مترا مربعا، ويضم خمس غرف، تتوسطها باحة مكشوفة، مثل اي بيت من بيوت النجف او الكوفة او بغداد او البصرة التقليدية، التي ما تزال قائمة حتى اليوم».
ندخل الى البيت المزدحم بالزوار العراقيين والايرانيين، نحاول ان نتنفس رائحة تاريخ حي، لكن صيانته والتعامل مع هذا البيت كأنه من بيوت اليوم حرمنا كما حرم الدارسين من التمتع بالشعور بالقدم. يستقبلنا الفناء المغطى الان بسقف مبني، هذا كان حوش البيت الذي تدور حوله الغرف. ليس هناك اي شروح مكتوبة عن استخدامات الغرف، سوى ان احدى الغرف الصغيرة كانت «قد حولت إلى مغتسل لغسل جثمانه الطاهر، بعد أن هاجمه عبد الرحمن بن ملجم في اليوم التاسع عشر من رمضان سنة 40 للهجرة في محراب مسجد الكوفة، حيث تم نقله إلى البيت ليمضي ثلاثة أيام يعاني من آثار جرح خنجر بن ملجم المسموم، وليسلم روحه الطاهرة بين جدران بيت من طين كان هنا».
في مؤخرة البيت وفي ما يبدو انها كانت حديقة صغيرة ملحقة او بقية الفناء ما يزال هناك البئر الذي كان يستخدم ماءها الامام علي وعائلته، اذ ان بيوتات النجف وحتى وقت قريب كانت تعتمد على الابار المحفورة في حدائقها او فناءاتها، على الرغم من قرب الكوفة من نهر الفرات، وحتى اليوم نجد بيوتا في محلات النجف الاصيلة، مثل المشراق والعمارة تضم في فناءاتها آبار ماء تعتمد عليها لشحة الماء في النجف.
الزوار يزدحمون حول البئر بينما يقوم خادم البيت هناك بتوزيع مياه البئر على الزوار الذين يشربون منها ويغسلون بها وجوههم بدعوى التبرك. وحسب المصادر التاريخية فان «الإمام علي عاش مع ولديه الحسن والحسين وابنته زينب وطفلة اسمها خديجة توفيت في الرابعة من عمرها ويقال انها دفنت في البيت نفسه».
* دار الإمارة الى جانب بيت الامام علي تظهر وبوضوح اسس دار الامارة، يقول العوادي «تعتبر بناية دار الإمارة في الكوفة أقدم بناية حكومية شيدت في الإسلام. بناها سعد بن أبي وقاص بمحاذاة الضلع الجنوبي لمسجد الكوفة.
فكشفت في مواسم مختلفة أسسها. وقد أظهرت نتائج الحفريات التي أجريت عليها أنها تتألف من سور خارجي يضم أربعة جدران تقريبا طولها 170 مترا ومعدل سمكها 4 أمتار، وتدعم كل ضلع من الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالي، حيث يدعمها برجان فقط والمسافة 60 و24 مترا وارتفاعها حوالي 20 مترا، ويبدو أن البناء المحكم والهندسي لهذا القصر جعله محميا من كل غزو خارجي. وتقع إلى جانب أبوابه الرئيسية غرف أعدت للسجن ومطابخ القصر.
اليوم ونحن نتفحص بقايا اسس دار الامارة التي تعد واحدة من اهم الاثار الاسلامية التي تؤكد ابداع العرب في فن البناء، نجد ان الاسس تختفي بين مساحات هائلة من قصب البردي والمياه الجوفية.
* الحضرة الحيدرية لعل اهم وابرز معلم من معالم النجف هو مرقد الامام علي بن ابي طالب او ما يسمى بالحضرة الحيدرية، الذي يتوجه لزيارته سنويا الملايين من شيعة العراق وايران وشيعة العالم. ولولا هذا المرقد ربما ما كانت النجف قد ازدهرت ولا صارت حتى اكبر مقبرة في العالم.
كتب عن مرقد الإمام علي الرحالة ابن بطوطة، الذي زار النجف سنة 703 هجرية قائلا «نزلنا مشهد علي بن ابي طالب رضي الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في ارض فسيحة صلبة من احسن مدن العراق، واكثرها ناسا واتقنها بناء، ولها اسواق حسنة نظيفة، دخلناها من باب الحضرة فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين والخبازين، ثم سوق الفاكهة، ثم سوق الخياطين والقسارية (حتى اليوم يطلق العراقيون على السوق المسقفة القيسرية، والسوق الذي يتحدث عنه ابن بطوطة ما يزال قائما كمعلم من معالم مدينة النجف)، ثم سوق العطارين، ثم باب الحضرة ثم قبر علي بن ابي طالب عليه السلام وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها مكسوة بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا، ولكن لونه أشرق ونقشه احسن».
ويستغرب من يزور بيت الامام علي المبني من الطين في الكوفة، الذي يجسد بساطة وتواضع وزهد رابع الخلفاء الراشدين، وبين مرقده المتوج بقبة مطلية بـ200 كيلوغرام من الذهب الخالص، بينما اراد الامام ان يكون قبره مستويا مع الارض «وقد سوى الإمامان الحسن والحسين قبره مع الارض واخفيا معالم القبر بوصية منه اليهما»، وهو على ما يقول الجاحظ «أول إمام خفي قبره».
يقول الباحث الاسلامي الدكتور عبد الهادي الحكيم في مؤلفه، «حاضرة النجف الاشرف في ذاكرة الزمان والمكان»، «وبقي موضع خط المرقد العلوي سرا مكتوما لا يعرفه عدا اهل بيته والخاصة من صحبه والصالحين من اتباعه».
والقصة الشائعة عن اكتشاف قبر الإمام علي، هو ان الخليفة العباسي هارون الرشيد كان يصطاد الغزلان في هضبة النجف في سنة 155 هجرية عندما شاهد قطيع غزلان يحتمي في ظل مرقد اسلامي، وقد رفضت كلاب الصيد المرافقة له الاقتراب من الغزلان في ذلك المكان. وعندما تحقق الرشيد من الموقع عرف انه مرقد الإمام علي، فأمر بالاهتمام به واقام على القبر قبة بيضاء ، صنع على رأسها جرة خضراء. لكنه ليس أول من زاره، إذ كان يزوره الإمام جعفر الصادق وبعض آل البيت. ومنذ ذلك التاريخ عرف موقع مدفن الإمام علي في هضبة النجف.
الان تعاد صيانة الارصفة والمناطق المحيطة بالحضرة لاغراض توسيعها وتسهيل زيارة الناس الذين يتوافدون اليها من جميع انحاء العالم. ويخبرنا الباحث الاسلامي الحكيم، ان عمارة ضريح الامام علي مرت بخمس مراحل، او انها بنيت خمس مرات، والعمارة الخامسة «هي القائمة اليوم، وتدعى العمارة الصفوية، وقد شيدت في القرن الحادي عشر الهجري الموافق لعام 1637 ميلادي، يوم زار الشاه عباس الصفوي العتبة الشريفة فأمر بتجديد القبة المطهرة وتوسيع بناء الحرم العلوي».
ويذكر الحكيم ان«العمارة الصفوية حيث شيدت كانت خلوا من كل تزيين، وعندما زار السلطان نادر شاه مدينة النجف سنة 1156 هجرية أمر ان تكسى القبة بالابريز (الذهب الخالص)، وان تكسى المأذنتان والايوان وان تطلى الكتابة للقبة من داخلها بالميناء والفسيفساء».
وحسب رضوان الكليدار، عضو مجلس النواب (البرلمان) العراقي، الذي تشرف عائلته منذ عام 1845 بإدارة الصحن الحيدري فان «الصحن تعرض لمرات عدة للتخريب وأعيد اعماره، وكانت المرة الاخيرة عام 1991 عندما قضت اجهزة النظام السابق على الانتفاضة ودمرت جزءا من الصحن بقنابل الدبابات والصواريخ».
* ادخلوها آمنين اخترت الدخول الى صحن الإمام علي من باب القبلة، ذلك لان هذه هي الباب التي دخلناها مع السيد عبد المجيد الخوئي في بداية شهر ابريل (نيسان) عام 2003، يوم فتحت للمرة الاولى بعد ان كانت جموع فدائيي صدام يختبأون في الروضة الحيدرية، وهي ذات الباب التي أُخرجنا منها مقيدين تحت تهديد اسلحة انصار مقتدى الصدر في العاشر من ابريل 2003 في طريقنا الى بيت الصدر للمثول امام محكمة شرعية، بينما كانت السكاكين والسيوف تنال من جسد الخوئي.
ويذكر الدكتور عبد الهادي الحكيم ان للصحن الحيدري خمسة ابواب هي، باب القبلة، وسمي كذلك لمواجهته القبلة الشريفة ويقع وسط السور الخارجي في الجهة الجنوبية من الضريح ، قبالة شارع الرسول، وقد رصعت جبهة الباب المزدانة بالزخارف سورة الضحى وسورة الاخلاص، والآية القرآنية الكريمة من سورة الزمر «بسم الله الرحمن الرحيم وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاؤوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها آمنين».
اما الباب الكبير او الباب الشرقي فيقع وسط الجهة الشرقية للمرقد، ويطلق عليه ايضا تسمية باب الساعة لوجودها (الساعة) فوقه. اما الباب الثالث فهو باب مسلم بن عقيل، الذي يقع في الجهة الشرقية للمرقد، وهو أصغر من الباب الكبير، وقد تم فتحه اول مرة سنة 1252 هجرية. ويقع باب الفرج، او الباب الغربي، في الجهة الغربية من المرقد، ويطلق عليه النجفيون اسم باب العمارة نسبة الى محلة العمارة المقابلة له.
على الرغم من اني دخلت الى الصحن بعيد الظهر، ولم يكن وقت صلاة او مناسبة دينية، الا ان الصحن كان مزدحما بالزوار القادمين من شتى انحاء العالم. الارضية الرخامية تبدو نظيفة جدا وحرس الحرم وخدمه ينتشرون في كل مكان ليوفروا اجواء امنية جيدة للزوار.
تبلغ مساحة الضريح الداخلية، أي التي تضم المرقد والمزار، 5 آلاف متر مربع ، بينما تبلغ المساحة الكلية للمرقد والصحن 15 ألف متر مربع، وهناك خطة يتم تنفيذها قريبا لتوسيع الضريح بواقع 120 مترا مربعا من كل جانب لتبلغ المساحة الكلية 50 الف متر مربع ، حيث سيبنى سور ثان من دون تهديم أي جزء في السور الاول الحالي وتسقيف المنطقة بين السورين ليفضي بعد ذلك الى مساحة مكشوفة.
القبة الذهبية التي تتوج مرقد الامام علي كانت في السابق بيضاء اللون، حتى ان الشاعر الحسن بن الحجاج وصف هذه القبة قائلا: «يا صاحب القبة البيضاء على النجف من زار قبرك واستشفى لديك شفي»، ثم طليت القبة باللون الأزرق، وهو القاشاني الكربلائي، حتى تم تذهيبها بين نهاية العهد الصفوي وبداية العهد القاجاري. وحسب الكليدار فان هذه القبة يتم طلاؤها بالذهب الخالص (تذهيبها) كل 30 عاما، ويحتاج ذلك الى 200 كيلوغرام من الذهب الخالص تركيز 24 قيراطا. وأفضل من يجيد عملية التذهيب هم جماعة البهرة في الهند، حيث يقومون بعمليات معقدة لإسالة الذهب وفرشه بواسطة جلد الغزال قبل تلميعه، أضافة الى القبة الكبيرة هناك منارتان؛ احداهما كبيرة والأخرى أقصر من الاولى بقليل مع ساعة نادرة وقديمة.
تحيط بالصحن الواسع والمكشوف إيوانات مزينة بالفسيفساء الملون والمزجج وتتوزع على طابقين. ويعود تاريخ تزجيج الاماكن المقدسة في الحضارة العراقية الى البابليين، الذين زينوا بوابة عشتار وشارع الموكب بأشكال حيوانية أسطورية من السيراميك الأزرق المزجج، الذي ما يزال قائما في متحف برلين. وكانت هذه الايوانات تستخدم كغرف منام ودرس لطلاب الحوزة العلمية سابقا.
تتكون زخارف فسيفساء ضريح الإمام علي من وحدات نباتية. وفي هذا الصحن تفترش العوائل التي تأتي من كل انحاء العراق ومن خارجه الأرض، لتبقى اطول فترة ممكنة حيث يتناولون غداءهم وعشاءهم هناك او في الغرف المحيطة لمن يحالفه الحظ، اذ ان اغلب هذه الايوانات مخصصة كمكاتب او غرف استراحة لخدم الصحن، كما يستفاد من هذا الصحن للصلاة.
حتى بداية السبعينات، كان البعض يشتري قطعة صغيرة من ارض الصحن لاستخدامها مدفنا له ولعائلته، لكن تم منع ذلك. ومن أشهر الشخصيات الشيعية المدفونة في الحضرة الحيدرية: ميرزا محمد الحسن الشيرازي، عبد الحسن شرف الدين، أبو الحسن، محسن الحكيم، محمد باقر الصدر، اما أبو القاسم الخوئي ونجلاه محمد تقي وعبد المجيد فقد دفنوا في مسجد الخضراء الذي صار جزءا من الحضرة الحيدرية. ويلحق بالصحن المكشوف المرقد المسقف بالمرايا والفضة، والمزخرفة جدرانه بالذهب والمينا الملونة، ويتوسط المرقد قبر الإمام علي الذي يلقي الزوار في شباكه اموالا طائلة، ومن مختلف العملات الورقية تبرعا او سدا لنذور، ويقدر الكليدار قيمة هذه الاموال بنصف مليار دينار عراقي شهريا خلال المناسبات الدينية و100 مليون دينار شهريا خلال الأيام العادية. وهذه الاموال تخصص لخدم الضريح وللمسؤول عن المرقد (الكليدار) وللفقراء ولإعمار الضريح.
* كنوز حضرة الإمام علي على مر التاريخ أهدى الملوك والرؤساء والوجهاء في العالم نفائس نادرة لمرقد الإمام علي، منها مجوهرات وأحجار كريمة نادرة وسجاد إيراني نفيس لا مثيل له، وتيجان ملوك من الذهب المرصع بالأحجار الكريمة وسيوف وغيرها من النفائس. ويكشف حسين الشامي الرئيس السابق لديوان الوقف الشيعي قائلا: «توجد في الضريح خزينة من الكونكريت المسلح مبنية في باطن الارض خصصت لخزن كنوز الإمام علي، وهي الهدايا التي تلقاها الضريح من الملوك والرؤساء والأعيان من جميع انحاء العالم وعبر التاريخ ، اضافة الى النفائس الموجودة قرب قبر الإمام علي وفي متحف الضريح المغلق منذ فترة طويلة حرصا على هذه النفائس»، مشيرا الى ان «أكثر النفائس ندرة نسخة من القرآن الكريم مخطوطة على الجلد بيد الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين حفيد الإمام علي، وهذه النسخة لا تقدر بثمن، وهناك تيجان وسيوف لملوك وقطع سجاد ايرانية نادرة وهدايا صفوية وقاجارية».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 06:58 AM

  رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (11) النجف.. مرجعيات فقهية وحوزات علمية
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةرجل دين شيعي يتحلق حوله مجموعة من طلبة الحوزة في مدينة النجف (ا.ف.ب)
النجف: معد فياض
النجف هي أم المرجعيات الشيعية منذ أن انتقل اليها الطوسي هاربا من بطش المغول في بغداد قبل ألف عام. قبل النجف كانت المرجعية في سامراء، ثم انتقلت الى بغداد واستقرت في النجف حيث قبر الامام علي بن أبي طالب.
والنجف هي ايضا، وبمسار مواز لأهمية مرجعيتها، اكبر جامعة علمية، وأم الحوزات الدينية. ويتخيل البعض ممن هم ليسوا بقريبين من اجواء مدينة النجف والعارفين بحياتها بأن الحوزة العلمية في هذه المدينة هي جامعة مثلها مثل الازهر مثلا، او مدرسة معلومة المكان، ولها بناية خاصة بها. في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تعرف «الشرق الاوسط» بالمرجعية وتتجول في بعض حوزاتها العلمية، مكتشفين اسلوب اختيار المرجع الأعلى، وطريقة التدريس في أكبر وأول جامعة مفتوحة في الإسلام.
لم يحدث في تاريخ الشيعة ان اتفقوا على مسألة مثل اتفاقهم على المرجعية وأهميتها. وحسب الباحث والكاتب حسن بحر العلوم، هو حفيد المرجع الديني محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هجرية، والذي التقيناه في (ديوانية) عمه السيد محمد بحر العلوم في النجف، يعرف المرجع قائلا «هو الفقيه المجتهد المسؤول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم. وقد أكد الفقه الإمامي هذه الحقيقة، حيث يبدأ أي كتاب فقهي بتلك العبارات: يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته، ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا، والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين»، مشيرا الى ان المرجع الذي يتم تقليده، يجب ان يكون عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا». وهذا يعني ان على اي شيعي امامي، اي يتبع الائمة الاثنى عشر، ان يقلد مرجعا، وهذا واجب وليس جائز.
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية، كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الشيعة بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً، الذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته.
لعل أشهر مراجع الشيعة وأقدمهم في العراق هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ولد سنة 460 هجرية، الذي اهتم بعد حدوث «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي في سامراء عام 329 هجرية بجمع أحاديث الشيعة الى جانب كل من محمد بن يعقوب الكليني، ولد سنة 329 هجرية، والشيخ محمد بن علي القمي، ولد سنة 381 هجرية. وقد انتقل مقر المرجعية من سامراء، حيث غاب الامام، الى العاصمة بغداد ثم هاجر الطوسي الى النجف خشية من بطش المغول وحفاظا على المرجعية فاستقرت هناك قرب ضريح الامام علي.
ويمكننا ان نسمي أهم ثلاثة مراجع في القرن العشرين وهم: محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني، ويشير علماء الشيعة الى ان ابرز هذه الاسماء على الاطلاق هو ابو القاسم الخوئي «الذي توفرت له من امور قيادة المرجعية ما لم تتوفر لمن سبقه ولن تتوفر لمن سيأتي من بعده».
ويشرح الباحث الاسلامي جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي، قائلا «يجب ان يكون المرجع مجتهدا ولكن ليس كل مجتهد هو مرجع».
ويضيف الخوئي، الحفيد، قائلا ان «ابو القاسم الخوئي يتحدر من اصول عربية في مدينة الكوفة، بقي على كرسي التدريس اكثر من 70 عاما حتى لقب بأستاذ الاساتذة وزعيم الطائفة، ويعد غالبية المراجع والمجتهدين المعروفين من تلامذته، بمن فيهم السيستاني الذي يعد خير من يمثل مدرسة الخوئي في الاجتهاد والتدريس والاعتدال، كما ان الخوئي بقي مرجعا اعلى لأكثر من 25 عاما، وهو الأطول عمرا بين بقية المراجع، حيث مات قبل ان يبلغ المائة من عمره بخمس سنوات، ولم يستطع أي مرجع منافسة الخوئي في قيادته للأمة الشيعية في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب علمه وفقهه وخبرته ومؤلفاته وانصرافه للدين وللعلم بروح متقشفة وزاهدة عن امور الدنيا».
لا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم، وان كان قد حدث مرة ومن غير الرجوع الى الطائفة، ذلك عندما اختار صدام حسين التعامل مع محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كمرجع للشيعة لكونه عربيا وعراقيا ولا يتحدر من أصول أجنبية. حدث ذلك عام 1992 بعد وفاة المرجع الأعلى آية الله ابو القاسم الخوئي، حيث انتقلت المرجعية العليا الى آية الله الكلبيكاني في قم وبقي الشيعة يتعاملون من الكلبيكاني كمرجع اعلى حتى مات بعد ستة اشهر من تقلده المرجعية، فعادت المرجعية الى مدينة النجف متمثلة في آية الله علي السيستاني.
كما ان المرجعية لا تورث لابن او لأخ او لابن عم، وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد، وهذا لا يتم عن طريق ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه.
ويضيف الباحث الاسلامي غانم جواد قائلا «تضم المرجعية إضافة الى مكتب المرجع، العديد من الأجهزة والمؤسسات تأتي في مقدمتها الحوزة العلمية؛ وهي التي تخرج علماء الدين والمراجع بعد أن يجتازوا المراحل الدراسية المتعددة، وتتميز بالنظام التعليمي المفتوح، بنيتها الأساسية الكتب المقررة والأستاذ ومكان الدراسة (سنأتي بالحديث عن الحوزة العلمية بالنجف في حلقة أخرى). وشبكة الوكلاء، وهم علماء الدين المنتشرون في كافة أنحاء العالم الذين يرتبطون بمكتب المرجع الديني ويقومون بالتوجيه الديني وتقديم الخدمات على ضوء فتوى المرجع ويتلقون منه التعاليم لينشروها بين المسلمين. والمنتديات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والخيرية والأدبية والمبلغين، وتعد منابر ووسائل اتصال أخرى بالمسلمين». وحسب جواد، فان المرجع الديني هو «الفقيه الذي رجعت إليه جمهرة واسعة من الشيعة في شؤونها الدينية، بعد أن وثقت بعدالته وورعه وعلميته». وقد يتوفر في آن واحد عدد محدود من المراجع المتصدين لمهام المرجعية لا يتجاوز أصابع اليد، والمرجع المتصدي عليه أن يقوم بالتدريس التخصصي الديني في أعلى مراحله في علمي الفقه وأصول الفقه، وأن تصدر عنه رسالة عملية وعدد من المؤلفات المتخصصة تعرف من خلالها آراؤه، وأخيراً فقهاء يدرسون عنده منظمون الى جهازه ويعدون مستشاريه. لذا لا يصح التصديق بكل من ادعى لنفسه المرجعية خصوصاً العاملين في الحقل السياسي أو صنيعة الأنظمة الحاكمة. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه. ومن بين اربعة مراجع في العراق وهم: علي السيستاني واسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي، تم ترشيح السيستاني ليكون المرجع الاعلى بسبب أعداد مقلدي هذا المرجع التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين. على ان هناك بعض رجال الدين من المجتهدين الشيعة يعتقدون بعدم وضع المرجعية العليا بشخص واحد بل بوجوب توزيعها على عدة مراجع، كأن يكون مرجع للشؤون الفقهية، ومرجع آخر لشؤون الحوزة والعلوم، ومرجع للشؤون المالية والخمس بدلا من اشغال مرجع واحد بكل شؤون المرجعية. كما ينبري الكثير من رجال الدين الشيعة وشيعة علمانيون ليتصدوا لموضوع تدخل المرجعية بشؤون السياسة وينادون بضرورة عزل السياسة عن الدين باعتبار ان الدين مقدس ومنزه بينما السياسة هي لعبة الوعود والمراوغة. ويجد هؤلاء ان المرجعية الشيعية قد تورطت عندما دعمت جهة شيعية في الانتخابات النيابية الاولى والثانية ضد بقية الجهات الاخرى، بينما كان يجب ان تمارس المرجعية أبوتها لجميع العراقيين بغض النظر عن الدين او الطائفة او المذهب او القومية.
ولعل المفكر والباحث الاسلامي اياد جمال الدين، والذي يتحدر من عائلة دينية شيعية مثقفة وواعية، وهو رجل دين ايضا، أول من نادى بضرورة قيام حكم علماني في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وعارض فكرة التداخل ما بين الدين والسياسة.
اما تمويل المرجعية فيتم عن طريق الزكاة والخمس، أي ان يدفع كل شيعي خمس ارباحه للمرجعية، وللمرجع الحق في التصرف بهذه الاموال حسب احتياجات الطائفة، مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية والمكتبات وتعميرها، وكذلك بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وصرف الرواتب الشهرية لأساتذة الحوزة العلمية وطلبتها والإنفاق على الفقراء وسد احتياجاتهم. ولا نستطيع معرفة الرقم الاكيد لدخل المرجعية، وهذا موضوع صعب للغاية، لكننا نستطيع ان نحدس ان نفقات المرجعية كبيرة جدا، وخاصة في الظروف الحالية في العراق، حيث نفقات المرجعية على الفقراء وطلبة العلم في حوزتي النجف وقم في ايران.
أبناء الطائفة الشيعية لا ينظرون الى قومية المرجع الديني الاعلى، سواء كان عراقيا عربيا أم باكستانيا أم ايرانيا، بل يهتمون بعلمه وفقهه، ونرى ان السيستاني ايراني الاصل، لكنه يعيش في العراق منذ اكثر من نصف قرن. ويبلغ عمر السيد السيستاني 74 عاما، وله ولدان أكبرهما محمد رضا وبنات غالبيتهن تزوجن من رجال دين. ولا ينقطع السيد السيستاني عن امور الدنيا متزهدا بعيدا عما يجري حوله، فهو يشاهد التلفزيون ويسمع الاذاعات ويقرأ الصحف ويستخدم الكومبيوتر.
ولا يقترن اسم النجف بوجود المرجع او المرجعية الشيعية، بل ايضا بوجود حوزتها العلمية الشهيرة. والحوزة العلمية في النجف هي مجموع الحلقات وأماكن الدرس، سواء كان هذا المكان غرفة في بيت رجل الدين (الاستاذ) او في زاوية من صحن الامام علي، او في مسجد، او في مدرسة دينية من مدارس النجف العديدة، او في مكتبة من المكتبات المنتشرة في هذه المدينة. وقد نستطيع القول ان اي حلقة علمية تعقد في النجف في اطار دراسة الفقه والعلوم الاسلامية واللغوية تسمى حوزة.
وبذلك تضم مدينة النجف بمجموعها عشرات الحوزات العلمية التي يطلق عليها جامعة النجف او الحوزة العلمية في النجف. وأسلوب الدراسة في هذه الحوزات هو «التعليم الحر».
يقول غانم جواد الباحث في الثقافة الاسلامية ان «جامعة النجف تعد من أقدم جامعات العالم في دراسات المعارف الاسلامية. على غرار جامع الأزهر الشريف في مصر، والزيتونة بتونس، وجبل عامل في لبنان والقيروان في المغرب. وتمتعت النجف بكونها مركزاً من مراكز الفكر والثقافة العربية/الاسلامية، ومعهداً نشطاً تميز عن غيره في استمراره بفتح باب الاجتهاد الفقهي»، وقد خرج مئات من الفقهاء والمجتهدين والمراجع والأساتذة والمدرسين والأدباء والشعراء أمثال الشيخ النائيني الفقيه الذي كتب في القانون الدستوري الإسلامي، والمرحوم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والعلامة الراحل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقضى المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني سنتين في النجف دارساً ومدرساً، ومنها تخرج المرجع الديني في بلاد الشام السيد محسن الأمين العاملي، ورائد القصة العراقية جعفر الخليلي، وكان شيخ الجامع الأزهر الحالي الدكتور الطنطاوي يتردد على حوزة النجف العلمية، مناقشاً وباحثاً في حوزة الامام الراحل السيد الخوئي، عندما عمل أستاذاً في جامعة البصرة جنوب العراق في سني السبعينيات الميلادية.
وفي كل يوم تعقد في مساجد وحسينيات ومدارس وبيوتات النجف الحلقات الدراسية ضمن الحوزة العلمية التي تضم اليوم وحسب الشيخ علي النجفي، نجل المرجع الديني آية الله بشير حسين النجفي سبعة آلاف طالب، ولولا الظروف الامنية الصعبة لكان عدد الطلبة اضعاف هذا الرقم. ونستطيع ان نعد اكثر من 20 الف طالب يدرسون في حوزات مختلفة من العراق.
نظام الدراسة الحوزوية مفتوح وغير مقيد؛ أي انه لا توجد اية شروط للدراسة في الحوزة، وكل من ينتسب الى هذه الدراسة يسمى طالبا ومجموعهم طلبة»، وعمر الطالب الذي ينتسب الى الحوزة غير محدد؛ فيمكن ان يبدأ الدارس منذ الخامسة عشر من عمره وحتى الثمانين شرط ان يجيد القراءة والكتابة، كما ان موقع الطالب في مرحلته الدراسية لا يتعلق بمستواه العلمي غير الحوزوي، يمكن ان يبدأ طالب الحوزة الدراسة وهو في الصف السادس الابتدائي او في المرحلة المتوسطة من دراسته الاعتيادية، وقد يكون حاصلا على شهادة الدكتوراه في علوم اخرى.
اما نهاية هذه الدراسة فهي مفتوحة، هناك من يمضي اكثر من ثلاثين عاما من الدراسة الحوزوية وهو ما يزال في مرحلة بحث الخارج، وهناك من يمضي خمسين عاما من حياته دارسا في الحوزة؛ فالموضوع يعتمد اولا واخيرا على جهد واجتهاد الطالب نفسه للتقدم في هذه الدراسة الصعبة، ولم تضع الحوزة اية شروط تتعلق بمذهب الدارس سواء كان شيعيا او سنيا، ذلك ان مناهج الدراسة الحوزوية متعددة ومتشعبة وتتناول الفقه الشيعي والسني، لهذا نرى ان المجتهدين من رجال الدين الشيعة لهم المام كبير في المذاهب السنية الاربعة وبقية الفرق الاسلامية او تلك المنشقة عن الاسلام، على انه من المهم ان نعرف انه ليس هناك منهج محدد ومعمم على الحوزات العلمية، بل ان لكل استاذ منهجه وتصوره وأسلوب تدريسه.
يشرح جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الذي بقي على منبر الدرس لاكثر من سبعين عاما، اسلوب الدراسة في حوزة النجف، فيقول «عندما ينتسب الطالب للدراسة الحوزوية عليه ان يسجل اسمه لدى احد المراجع لتتم مساعدته، حيث يصرف له راتب شهري يتناسب مع حياته وعمره ومتطلباته المتقشفة، كما يخصص له مكان للسكن اذا كان من خارج النجف او للقادمين من بلدان بعيدة مثل ايران وباكستان والهند ولبنان وغيرها من الدول، وعادة يجمع الطلبة في مسكن واحد او مساكن متقاربة كي يتيحوا لهم فرصة الدراسة والنقاش والسجال مع بعضهم البعض، وهناك بعض الطلبة يسجلون اسماءهم لدى اكثر من مرجع ليأخذ اكثر من راتب عندما لا يكفيه راتب واحد».
يؤكد الباحث غانم جواد أن «منهج الدراسة في الجامعة الدينية النجفية لا يخضع لنفوذ الدولة، ولا إدارتها، ولا يمول من قبلها. فهي من مكونات المجتمع الديني؛ فبالرغم من كثرة المدارس، لا يوجد رؤساء، أو عمداء، وإنما يشرف عليها علماء الدين، ويستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضم للمدرسة، إذا استطاع أن يجد له مكاناً للإقامة، ما دامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن الوازع الديني، والرغبة الجامحة للتحصيل العلمي والالتزام الأخلاقي والديني (التقوى والزهد)، هي الوسائل التي تدار بها هذه المدارس»، ويستشهد جواد بحديث للدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق الأسبق حيث يتحدث في مقال له عن جامعة النجف الدينية ما نصه «لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية، والبريطانية، والفرنسية، وجامعة أكسفورد، وكامبردج، وتلقيت تعليمي في الجامعات (الأميركية)، إلا أنه ما من جامعة من هذه الجامعات، حتى الألمانية، تستطيع أن تفتخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم، والأصالة اللتين تطبعان شخصية المنتسبين إليها بطابعها المتميز في جامعة النجف».
لا تمنح حوزة النجف العلمية أية شهادة سواء كانت بكلوريوس او ماجستير او دكتوراه او بروفيسور، وكل ما هناك أن الطالب يحصل على اعتراف مكتوب من قبل أستاذه يرشحه فيه بالعبور الى المرحلة اللاحقة او انه أنهى مرحلته الدراسية الحالية، كأن يكون أنهى دراسة المقدمات، ومثلما اوضحنا انه ليست هناك فترة زمنية محددة لنهاية اية مرحلة.
الطالب الحوزوي يكون عرضة دائمة للاختبار سواء من قبل استاذه او من قبل رجال الدين الآخرين الذين هم أرقى درجة علمية منه، فكأن يكون الطالب جالسا في مجلس ما وهناك رجال دين فيسأله احدهم عن المرحلة التي هو فيها ثم يبدأ بتوجيه الاسئلة له ضمن حدود مرحلته، لهذا على الطالب ان يبقى متهيئا لمثل هذه المواقف حتى يبرهن جدارته وجدارة أستاذه، وهذه الاختبارات المفاجئة ليس القصد منها إحراج الطالب أو الأستاذ بل وضع الطالب في موقف علمي جيد.
الأستاذ من طرفه لا يضع ختمه او توقيعه على اية شهادة ما لم يكن متيقنا تماما من كفاءة تلميذه حتى لو كلف ذلك التلميذ سنوات عديدة من الدراسة، علما ان الاستاذ لا يتلقى أي راتب او أجورا سواء من الطالب او من المرجعية، إلا اذا كان نفسه ما يزال طالبا في مرحلة متقدمة من الدراسة في الحوزة. ويوضح جواد بعض مفردات مناهج الحوزة قائلا إن انعقاد حلقات الدرس والبحث اليومي تتواصل منذ طلوع الفجر حتى ساعات متأخرة من الليل، في علوم الفقه والأصول وعلم الكلام والمنطق والحكمة والنحو العربي والبيان والبديع وعلم العروض والأدب العربي، والتاريخ والأخلاق والعرفان والفلسفة وعلم الرجال والتفسير وعلم الحديث النبوي، والرياضيات وعلوم الهيئة والفلك والطب العربي والعلوم الاجتماعية الحديثة، كما تتواصل في مجالسها ومنتدياتها وبيوتاتها المناظرات والمناقشات العلمية والأدبية، والمساجلات والمباريات الشعرية، الأمر الذي يعكس النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في هذه الحاضرة العريقة، إذ لا تمر مناسبة دينية أو وطنية أو قومية، إلا ويعقد رجالاتها المحافل والمنتديات المعبرة عن روح التواصل الحضاري مع تراث الأمة، وقيمها ومبادئها ومثلها العليا، كما تعكس كذلك ملامح الانبعاث الجديد للإسلام وسط عتمة الهيمنة الأجنبية والتسلط الاستعماري. ومدارس النجف الدينية، أشبه بكليات متناثرة في أحياء المدينة، وكل مدرسة من الناحية العمرانية، تتكون من طابق واحد أو طابقين، يحتوي الطابق الواحد منها على عشرات الغرف ومكتبة وقاعة ومرافق خدمية متواضعة (كما يصطلح عليه اليوم بالأقسام الداخلية). ولأغلب هذه المدارس أوقاف ملحقة بها، تخصص مواردها للإنفاق على إدامتها وصيانتها وتغطية بعض احتياجات الطلبة المقيمين فيها، ينفق عليها في الغالب من قبل مراجع الدين، ويسكن هذه المدارس الطلاب غير المتزوجين، أما المتزوجون منهم فيقيمون في منازل خاصة بهم، ومن الجدير بالذكر أن حلقات الدرس والبحث كانت تجري في فناء وغرف صحن مرقد الامام علي(ع)، وفي المساجد والحسينيات والمكتبات المنتشرة داخل المدينة في الغالب. وتحتل المدارس المكان المفضل للدراسة، وفي بيوت الأساتذة تصاحبها متعة خاصة تتمثل في الاستئناس بصحبة الأستاذ المعلم واكتساب مهارته، ومن أشهر المدارس فيها، المدرسة الشبرية، ومدرسة الخليلي، ومدرسة الأحمدية، دار الحكمة، دار العلم، مدرسة القزويني، مدرسة الأخوند، مدرسة كاشف الغطاء، مدرسة البغدادي ومدرسة الصدر. ان القصد من الدراسة الحوزوية هي «ان الغاية القصوى في سلم هذه الدراسات بلوغ المرتبة العلمية العالية هي (الاجتهاد) ومن ثم تسلم زمام المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة لمن كتب له التوفيق الإلهي، أي أن يصل طالب العلوم الدينية الى المستوى الذي يؤهله، لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها الأساسية (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل)، وان تحقيق هذا المستوى، يتطلب استيعاب الطالب علوم اللغة العربية من مفردات اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم القرآن والتفسير». ان «طبيعة النظام الدراسي في النجف يتصف بأن أغلب العلماء هم طلبة، ومدرسون في آن واحد، فالمتقدمون منهم ممن يحضر بحوث (المرجع الأعلى أو المجتهد) ُيدرسون أولئك الذين هم أقل مرتبة منهم. كما أن هؤلاء يُدرسون الذين لا يزالون أقل من مرتبتهم العلمية، وهكذا. وعلى ذلك فان أي شخص يدرس في النجف سيصبح بعد مضي سني الدراسة الأولى تلميذاً وأستاذا في وقت واحد».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 07:11 AM

  رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (12) المرجعية الشيعية لا تحب الصحافة
«الشرق الأوسط» تلتقي في النجف ثلاثة مراجع
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةباب القبلة إحدى بوابات حضرة الإمام علي في النجف («الشرق الأوسط»)
النجف: معد فياض
مراجع الشيعة في النجف لا يتحدثون الى الصحافة، لا يقولون شيئا أمام وسائل الاعلام، ابناؤهم هم الذين يتحدثون ويدلون بآراء آبائهم، ولكن هذه الآراء تأتي باسم الابناء.هنا القاعدة تتغير مع الاعلام، فعندما يصمت الآباء يتحدث الابناء.
المرجع الشيعي في النجف يتحدث في أمور فقهية، أو أمور عامة تهم الامة، خاصة أمام الصحافي، وإذا ما تحدث امام صحافي فسوف تكون هناك ملاحظة هي أقرب منها إلى التوجيه «هذا الكلام لا ينشر باسمي»، بل ان هذه الملاحظة تسمعها من اقرب الناس الى المرجع «لا تسأله اي سؤال صحافي»، وهذا ما سمعته قبل مقابلتي لثلاثة مراجع شيعية في مدينة النجف قبل وصولي اليهم. إلا ان «الشرق الاوسط» تمكنت من زيارة ثلاثة مراجع كبار خلال يومين متتاليين، وكانت هي الأولى في تحقيق ذلك.
قال لي جواد الخوئي الذي ساعدني في الحصول على مواعيد للقاء المراجع الثلاثة: النجفي والحكيم والفياض «لا تحرج نفسك وتحرجهم فهم لا يجيبون عن اسئلة الصحافيين». ذلك لأن المرجع الشيعي يخشى ان يفسر الصحافي كلامه كيفما أراد، ولأن كل كلمة يقولها المرجع لها اهميتها وتأثيرها على الملايين من شيعة العالم، فيجب ان تصل مثلما يريد المرجع ذاته. ترى هل هي عدم ثقة بالاعلام؟ ام هو قرار متفق عليه بين المراجع. لكن المسألة بالتالي لا تعود لتفسير فقهي على الاطلاق بدليل ان المرجع الشيعي الاعلى الراحل آية الله الخوئي كان يظهر في وسائل الاعلام ويستقبل صحافيين عربا وأجانب.
علي النجفي، نجل المرجع آية الله بشير حسين النجفي يوضح لـ«الشرق الاوسط» هذه الاشكالية قائلا «مشكلة المرجعية مع الاعلام تتلخص في ان غالبية الاعلام العالمي تحت سيطرة دول كبرى، وهذه نقطة سلبية والحرب الاعلامية لها اختصاصاتها وليس هناك اعلام محايد تماما لهذا تخشى المرجعية من استغلالها او تشويهها».
ويذهب جواد الخوئي، حفيد المرجع الراحل آية الله ابو القاسم الخوئي، والذي يعد أشهر مراجع الشيعة كونه تسيد المرجعية لأكثر من ربع قرن، الى ان «علاقة المرجع مع وسائل الاعلام، والصحافة بالذات هي علاقة مزاجية، أي غير مقننة او انها تخضع للفقه كونها حراما او حلالا، فهناك بعض المراجع يستقبلون الصحافي من غير ان يتحدثون اليهم بآراء مباشرة قابلة للنشر، مثلما حدث مع «الشرق الاوسط» حيث استقبلكم ثلاثة مراجع، بينما هناك المرجع آية الله السيستاني لا يستقبل، مجرد استقبال، الصحافي».
ويضيف الخوئي قائلا «اذن المسألة ليست قاعدة واستثناء بل تعود للمرجع ذاته هو الذي يقرر من يستقبل ومن لا يستقبل، لكنهم بصورة عامة لا يتحدثون بآرائهم للصحافة كونهم مراجع دينية، روحية لا يتحدثون في السياسة، ويخشون ان يحرف الصحافي كلامهم وآراءهم».
ويشير حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الى ان «جدي كان يستقبل اجهزة الاعلام، وأتذكر انه في عام 1991 وحده استقبل اكثر من عشرة اجهزة اعلامية بينها محطات تلفزيونية فضائية وصحف واذاعات لم يكن يمانع من مقابلة اجهزة الاعلام او تصويره سواء بواسطة كاميرا فوتغرافية او بواسطة الفيديو، وشجع على ذلك ايضا انفتاح والدي، محمد تقي الخوئي، وعمي، عبد المجيد الخوئي، على الاعلام وعدم الوقوف بوجه الصحافيين».
فإذا كانت المرجعية تتحسس من الاعلام الى هذا الحد فلماذا لا تكون لها وسائلها الاعلامية الخاصة بها من تلفزيون واذاعة وصحافة؟ يجيب علي النجفي قائلا ان «هذا الموضوع قيد الدراسة الآن وطرحت افكار كثيرة حول هذه الفكرة، هناك آليات لإيصال صوت المرجعية وعندما تريد المرجعية ايصال صوتها او اية فكرة فهي قادرة على ذلك».
الا ان هذا لا يعني ان المرجعية تعيش في عصر آخر غير عصرنا، بل على العكس فالمراجع يتابعون احداث العالم عن كثب، وما من مرجع شيعي اليوم ليس له موقعه الخاص، او اكثر من موقع، على شبكة الانترنت الدولية، وعن طريق هذه المواقع صار بإمكان مقلديه واي شخص كان ان يبعث بأسئلته الى المرجع ليقرأ الاجابة عليها بعد فترة قصيرة.
التكنولوجيا الرقمية دخلت الى مكاتب المراجع، كاميرات الديجتال الفوتغرافية او الفيديوية، واجهزة اللاب توب والدسك توب بآخر تقنياتها، ولدى كل مرجع هناك قسم للكمبيوتر يؤرشف ويبث البيانات والمحاضرات والاسئلة الفقهية وأخبار المرجع مصورة. غير هذا هناك مؤسسات ثقافية اعلامية تفرعت عن مكاتب بعض المراجع، مثل مؤسسة انوار النجف التابعة لمرجعية النجفي والتي يشرف عليها علي النجفي نجل آية الله بشير النجفي، والنشرة الاعلامية، نشرة نصف شهرية متخصصة بأخبار المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم، والتابعة الى مرجعية الحكيم.
في حضرة النجفي انزلقنا الى احد ازقة النجف القديمة، زقاق يقود الى زقاق عبر دروب ضيقة تطل عليها الشناشيل والشبابيك حتى وصلنا الى بيت المرجع آية الله الشيخ حسين النجفي، استقبلنا صوته العريض ذو النبرة القوية، كان يلقي درسا في الفقه الشيعي، باب البيت الخشبي البسيط يدل على بساطة المكان وأهله، مدخل صغير يقود الى حوش الدار الذي ازدحم بطلاب الحوزة، طلاب مرحلة البحث الخارج التي تعد أعلى مرحلة يبلغها الطالب في دراسته الحوزوية.
ها هو الشيخ النجفي يتربع فوق منبره في ركن الغرفة المقابلة للفناء الخارجي (الحوش)، فالبيت مثله مثل بيوت النجف الاخرى، فناء داخلي يتوسط البيت وحوله تقوم الغرف، لم ألاحظ وجود مايكرفون لمكبر الصوت، كان صوته هو الذي يتوزع على اركان البيت، الغرفة التي جلس فيها الشيخ النجفي مزدحمة للغاية، والمكان الذي يجلس فيه آية الله يسمى ديوانية الشيخ النجفي.
الجدران تحمل بعض الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث نبوية ودعاء يقول:
«بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد, اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين» وصلنا عند الساعة العاشرة صباحا، كان الشيخ قد بدأ درسه توا ولا مجال للقائه إلا بعد نهاية الدرس. العيون مشدودة الى الدفاتر التي كان يسطر فيها الطلبة ما يقوله شيخهم وهم متربعون فوق الارض، والآذان تلتقط كل كلمة ينطق بها أستاذهم، حتى اننا عندما دلفنا الى غرفة مقابلة لغرفة آية الله النجفي لم يرفع احد وجهه عن قرطاسه كي لا يضيعوا ملاحظة او كلمة يتفوه بها الشيخ الجليل.
ينحدر الشيخ بشير حسين النجفي المولود عام 1942 في مدينة جالندهر، وبدأ الشيخ بدراسة مُقدّمات العلوم الحوزوية في مدينة لاهور على يد جده لأبيه العالم الشيخ محمد إبراهيم الباكستاني، وعمّه الشيخ خادم حسين، والعلاّمة الشيخ أختر عباس الباكستاني، والعلامة رياض حسين، والعلاّمة السيد صفدر حسين النجفي. بدأ آية الله النجفي التدريس منذ عام 1974 بإلقاء دروسه «ابتداءً من (جامعة المنتظر) في باكستان الى يومنا هذا في مختلف الفنون والمستويات وجملة من تلامذته الآن تحاضر في البحث الخارج على الاصول والفروع في مناطق من العالم».
واذا كان طلبته يقصدون اليوم بيته لتلقي دروسهم، فانه كان قد درس في:
مدرسة دار الحكمة ـ موسّسة آية الله العظمى محسن الطباطبائي الحكيم، ومدرسة دار العلم مؤسسة آية الله العظمى ابو القاسم الخوئي، والمدرسة الشبرية، ومدرسة القوام الملاصقة لمسجد شيخ الطائفة الطوسي، ثم مسجد الهندي. وحسب نجله علي النجفي، فان والده يدرس 12 محاضرة أسبوعيا، بواقع 45 دقيقة للمحاضرة الواحدة، ويحضر ما بين 150 الى 200 طالب محاضراته.
ويصف احد تلامذة النجفي طريقة تدريس شيخه قائلا إن «الشيخ البشير قليل التنظير في طريقة تدريسه، وقوّة بيانه، وحسن تبويبه للمطالب، وسلامة ترتيبه للمقدّمات المفضية إلى صحّة النتائج بدقّة متناهية، واستنتاج سليم مع الابتعاد عن الحشو والفضول، وتقريب المعنى البعيد باللفظ الوجيز البعيد عن الاحتمال والاشتراك». ما ان انتهى آية الله النجفي من درسه وترجل عن منبره حتى استقبلنا، فهذا الوقت يكون لاستقبال الزوار والوفود ومن لديه اسئلة فقهية او شرعية، بادرنا بالسؤال عن المسلمين في بريطانيا، أجبته بأنهم بخير ولكننا قلقون على المسلمين هنا في العراق، أجاب باختصار «انشاء الله يكونون بخير». ولعل الشيخ النجفي من المراجع القلائل الذين يتحدثون في السياسة وله آراء سياسية معلنة. وهو بالرغم من اعترافه بشرعية «ولاية الفقيه» إلا انه يؤكد قائلا انه «في الظروف الحالية لا يتمكن القائل بولاية الفقيه كما لا نتمكن حسب الظروف الحالية والمعطيات الاقليمية والدولية والظروف التي يعيشها الشعب العراقي والوضع السائد في ربوع الوطن الجريح، من فرض التعيين؛ فأسهل السبل وآمنها الى البغية المنشودة هو الانتخابات والله العالم».
والشيخ النجفي من المتحمسين لفكرة الانتخابات واختيار الحاكم عن طريق صناديق الاقتراع، يقول «يجب الحفاظ على المكتسبات التي أحرزها الشعب العراقي المظلوم بعد سقوط النظام ولا يمكن الاحتفاظ بها إلا بإنشاء حكومة عادلة مخلصة، ومعلوم أنه لا سبيل الى ذلك في الظروف الحالية إلا بتأييد من هو أهل للقيادة فيجب التحري عنه في الانتخابات ولا علاقة له بالبيعة».
محمد سعيد الحكيم عندما وصلنا منزل المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم وجدناه قد انتهى توا من درسه، استقبلنا نجله السيد محمد حسين الحكيم باهتمام كبير وبروح تنم عن تواضع وكرم.
كان الحكيم قد أمضى مع اولاده الاربعة تسع سنوات في سجن ابو غريب في عهد نظام صدام، حيث اطلق سراحهم عام 1991، كما ان عائلته قدمت الكثير من الضحايا الذين قضوا في سجون صدام جراء التعذيب والإعدامات.
البيت من الداخل مبني وفق العمارة النجفية التقليدية؛ فناء واسع بعض الشيء مكشوف للشمس وأرضيته مفروشة لتتيح للزائرين الذين كان يزدحم بهم الفناء والقادمين من مدن عراقية مختلفة فرصة الجلوس والاستراحة.
عندما دخلنا على آية الله الحكيم وجدته مسترخيا فوق فراش ممتد على الارض، وهذه عادة كل المراجع؛ إذ لم التق بواحد منهم وهو يجلس فوق كرسي او أريكة، سمعت ذات الملاحظة التحذيرية من مقرب منه «لا تسأله أي سؤال صحافي رجاء، يكفي ان تحييه وتتحدث معه في امور عامة، ثم انه متعب وهذا وقت راحته».
استقبلنا آية الله محمد سعيد الحكيم بالرغم من انه يعرف بأن ضيوفه من الصحافة، مع انه ليس على وفاق مع الاعلام؛ ذلك لأنه يعتقد، او يؤمن حسب قوله «الاعلام لا ينقل الحقائق، بل يزيفها، والإعلام الخارجي منحاز ضد الشعب العراقي عامة وضد الشيعة خاصة كونه يصور الارهابيين الذين يذبحون أهلنا كأبطال ومقاومين للقوات الاميركية مع انهم يذبحون العراقيين الابرياء في الحلة وكربلاء وبغداد والصدرية». لم يتحدث آية الله الحكيم بالسياسة، فهو مرجع ديني وطروحاته روحانية وليست سياسية، لكنه كان حزينا على ارواح الابرياء من العراقيين الذين يموتون على ايادي الارهابيين «فالشيعة ما زالوا يتعرضون للقتل المجاني على ايدي التكفيريين والقاعدة، وكذلك السنة، ولكن اجهزة الاعلام العربية والدولية لا تسلط الكثير من الضوء على هذه الاحداث».
لقد حظي السيّد الحكيم المولود في 31-10-1936بمدينة النجف، منذ طفولته برعاية والده، وذلك «لما وجده في نفس ولده الأكبر من الاستعداد والقابلية على تلقّي الكمالات النفسية، ومكارم الأخلاق، فوجّهه والده نحو ذلك، وهو بعد لم يتجاوز العقد الأوّل من عمره»، وكان على الحكيم ان يسلك درب الدروس الحوزوية خاصة وانه نجل العلامة والمجتهد والأستاذ في حوزة النجف محمد علي الحكيم، وجده لأمه المرجع الديني السيد محسن الحكيم، وبالاضافة الى والده وجده فقد تتلمذ على يد السيد ابو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي.
ويتحدث نجله محمد حسين الحكيم عن مرجعية والده قائلا ان «المرجعية هي مأوى الناس، وهي(المرجعية) التي تتحمل آلامهم وتساعدهم على تحقيق طموحاتهم، خاصة بعد تحرير العراق من النظام السابق، حيث تتمتع بالحرية والاستقلالية».
ويضيف الحكيم، الابن، أن «مهمة المرجعية ايضا هي رعاية المؤمنين مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم، وان تراعي مصالحهم من غير ان تتدخل في تفاصيل العمل السياسي»، مشيرا الى ان «المرجعية لا تمارس دور الرقابة على أتباعها او طلبتها وان هناك حالة من التواصل الحر بين المرجعية وأتباعها».
ويؤكد الحكيم قائلا ان «توجيهات السيد الوالد، محمد سعيد الحكيم، بشأن ما يحدث من تغييرات في الحياة العامة والسياسة هو ألا تكون هذه التغييرات نوعا من رد الفعل او الانفعال وان يأخذ القانون مجراه، وان يكون هناك توازن بين الواقع السياسي وبين الظروف التي يمر بها العراق».
ويعتبر آية الله الحكيم ونقلا عن نجله محمد حسين ان «ما حدث بعد تفجير المرقد العسكري في سامراء يعد خطيرا للغاية؛ وهو اتجاه لتدمير الحياة السياسية والاجتماعية»، منبها الى ان «المرجعية كان لها الدور المؤثر في عدم جر الشعب العراقي الى الفتنة الطائفية والى الحرب الاهلية».
ويرى محمد حسين، ناقلا آراء والده، أن «هناك ميليشيات مسلحة تريد جر العراق الى حرب اهلية»، لكنه يعتبر ان «المشكلة سياسية وليست شعبية او طائفية بدليل ان العراقيين سنة وشيعة ومسيحيين واكرادا يعيشون من غير اية مشاكل فيما بينهم، وقد وجهت المرجعية نحو استقرار العراق لاسيما وان الاوضاع العراقية لا تسمح بقيام حرب طائفية في البلد».
وحول علاقة المرجعية،او علاقة مرجعية والده مع الاعلام، قال نجل المرجع الحكيم ان «المرجعية تريد اعلام الحقيقة والمصداقية، لا اعلام الاثارة والكذب»، مشيرا الى «اننا نقوم بأرشفة محاضرات ولقاءات وطروحات السيد». ويضيف قائلا «نحن مرجعية دينية ولا نريد ان ننشغل في الاعلام والصراع الاعلامي ولا نريد ادخال المرجعية في هذه المتاهة بل نريدها (المرجعية) ان تبقى مستقلة وبعيدة عن الصراعات، ذلك ان مهمتها دينية وروحية وثقافية».
الشيخ إسحاق الفياض لم يتغير أي شيء في خارج وداخل بيت المرجع الديني اسحق الفياض منذ زيارتي الاولى له مع السيد عبد المجيد الخوئي في ابريل(نيسان)عام 2003. كانت زيارتنا له، مؤخرا، متأخرة، في الليل، وكان الشيخ الفياض يخلد للراحة، لكنه، ومع ذلك استقبلنا بتواضعه وابتسامته المعهودة.
كان يجلس عند ركن غرفة الاستقبال، فوق فراش على الارض طبعا، وأمامه ذات الطاولة الصغيرة ذات الدرجين والتي ترتفع بمقدار القدم ونصف القدم حيث صف فوقها عدد من الكتب والمصادر، استطعت ان أميز بينها مؤلفه (منهاج الصالحين) الذي يقع في ثلاثة أجزاء.
ولد محمد إسحاق سنة 1930م في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غز) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا، وكان والده المتوفى سنة 1989م فلاحا بسيطا يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي «وقد كان يرى في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه اهتماما ورعاية خاصة، وكأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام من مقام علمي وفضل وورع وتقوى يؤهله للقيام بدور بارز في خدمة دينه والمؤمنين».
ولما كانت امنية كل طلاب العلم والحوزات في العالم هي الدراسة في مدينة النجف، فقد وصل الشيخ الفياض الى هذه المدينة وهو شاب في الثامنة عشر من عمره «وقد مر في طريقه إليها بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على اختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة. إلا أن للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان، مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية وفي مقدمتها وجود ضريح الامام علي والتقدم العلمي لحوزتها الدينية التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعية العليا للطائفة، ولتنشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت عليهم السلام ومواليهم من جميع نقاط العالم».
يقول الشيخ محمد إسحاق الفياض في هذا الصدد «كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني، وفي أواخر فترة العهد الملكي، وأوائل فترة مرجعية السيد محسن الحكيم الذي كان قد أجرى راتبا شهريا للطلبة بمقدار دينارين للطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا، وكنا غالبا ما نأكل الخبز والبصل، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوما شيئا مما يسمى بالفواكه».
استغرق الشيخ الفياض طويلا قبل ان يسأل عن احوال المسلمين من غير ان يخفي آلامه لما يحدث في العراق، قال «إننا نطالب من الكتل السياسية رص الصفوف وتوحيد الكلمة والتخلي عن المصالح الذاتية والأغراض الحزبية الضيقة والنعرات الطائفية والأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والشعب ككل».
تذكر زيارتي الاولى له مع الخوئي وتحدث عنه كشهيد «كان داعما للاسلام والمسلمين ولعموم العراقيين»؛ فقد عرف عن آية الله العظمى الفياض توسطه واعتداله في الامور غير مفرقا بين سني وشيعي، عربي او غير عربي، وهو غالبا ما كان مفتاح الأمان في القضايا الطارئة التي تحدث في النجف.
ويعد الشيخ الفياض ومنذ افتتاح مدرسة دار العلم المعروفة التي أنشأها الإمام ابو القاسم الخوئي عام 1980 من اكثر المجتهدين تقليدا وتأثرا بأستاذه الخوئي؛ فقد انتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الكبير في فترة قليلة، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي؛ وهي مدرسة أسسها المرجع الكبير السيد كاظم اليزدي وإلى اليوم، يحضره جمع كبير من الطلبة وفيهم غير واحد من الأفاضل ممن يقرر بحوثه على أمل طبعها إن شاء الله.
يمضي الشيخ الفياض جل وقته في الدرس والتدريس منصرفا الى العلم، وهو ينشغل حتى اليوم بتأليف الكتب التي تعد كمصادر في الفقه الاسلامي وقوانين الشريعة، ومن أبرز مؤلفاته: محاضرات في أصول الفقه، في عشر مجلدات، طبع خمسة منه، الأراضي، النظرة الخاطفة في الاجتهاد، تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، طبع منها عشرة أجزاء، أحكام البنوك، منهاج الصالحين، في ثلاثة مجلدات، مناسك الحج، المباحث الأصولية، في 14 مجلدا، طبع منه 3 مجلدات، ويليها سائر المجلدات.
ان أهم ما يشغل آية الله اسحق الفياض هو «الحفاظ على استقلالية المرجعية وعدم زجها في امور السياسة»، كونه يرى ان «مهمة المرجعية دينية وروحية وعلمية بالدرجة الاولى، لهذا يجب ان ننأى بها عن كل الصراعات التي تعصف بالعراق اليوم».
كان الوقت قد تأخر لزيارة آية الله السيستاني، المرجع الشيعي الاعلى، قيل لنا انه يستريح وهذه فترة راحته وهو لا يستقبل أي شخص في هذا الوقت، بالرغم من اننا نعرف الحقيقة وهي عدم استقباله للصحافيين.
يدير نجله محمد رضا السيستاني مكتب والده وهو من يتحدث نيابة عنه وهو من يستقبل كبار الزوار في حالة ان والده متعب او في فترة استراحته.
رضا هو من يقرر من يستقبل والده ومن يدخل بيتهم وهو الذي ينسق علاقات المرجع الاعلى، ولأن رضا، هو الآخر، لا يحب الصحافة والإعلام فقد حرمنا من هذه الزيارة، واكتفينا بالتقاط صورة لبيت المرجع الاعلى من الخارج.

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 07:20 AM

  رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (13) كركوك.. النار الأزلية
الأكراد يصرون على هويتها الكردستانية والتركمان والعرب منقسمون حولها
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةالنار الأزلية هل ستحرق كركوك بسبب خلافات أهلها («الشرق الاوسط»)
كركوك: معد فياض
النار التي تستقبل المتوجهين الى مدينة كركوك عن بعد 250 كيلومترا شمال شرق بغداد، سواء كان ذلك خلال النهار او الليل، تسمى بالنار الأزلية، ذلك لانها تنبعث من أكبر وأقدم الحقول النفطية في العراق، التي تسمى «بابا كركر»، هذه النار التي تشتعل نتيجة خروج غازات من الأرض لوجود تكسرات في الطبقات الأرضية للحقل النفطي، تنبعث منذ اكثر من ستة الاف عام، حيث أخذ السومريون والبابليون والآشوريون من هذا الحقل الاسفلت لتعبيد شوارعهم وبناء معابدهم وبيوتهم وطلاء زوارقهم (الاشوريون). هذه النار التي اضاءت طرق حضارة العراقيين القدماء، هي ايضا مصدر خير وبناء العراق الجديد منذ تأسيسه عام 1921 وحتى اليوم.
هذه النار قد تشعل المنطقة عامة وكركوك خاصة بسبب النزاع القومي الدائر حولها من قبل الاكراد والعرب والتركمان، مثلما يعتقد سعد الدين اركج، رئيس الجبهة التركمانية، قائلا ان «المنطقة كلها ستشتعل في ما لو ضم الاكراد كركوك لاقليم كردستان»، وهو يتصور ان اصرار الاكراد على ضم كركوك سببه اقتصادي بالدرجة الاولى، يقول «النفط هو سبب اصرار الاكراد على ضم كركوك». وهكذا يعتقد ايضا محمد خليل (عربي من اهالي كركوك) عضو اللجنة العليا لتطبيق المادة 140 في الدستور العراقي، الخاصة بحل النزاع حول كركوك، عندما يقول صراحة لـ«الشرق الاوسط»: «ان الاكراد يريدو ان يأخذوا سلة العراق الغذائية من خلال سيطرتهم على نفط كركوك». لكن الاكراد وقسما ليس بسيطا من العرب والتركمان والكلدوآشوريين في كركوك، يصرون على ان الحل الاسلم لمشكلة كركوك هو تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي.
على الرغم من استبعاد العرب والتركمان والاكراد في كركوك تطبيق المادة 140 في موعدها المحدد، وهو نهاية العام الحالي، الا ان رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني اكد، خلال كلمة القاها في تجمع لطلبة كردستان أخيرا في اربيل، انه لن ينتظر تأجيل تطبيق المادة 140 ولو للحظة واحدة.
الاكراد يؤكدون، وحسب وثائق وخرائط تاريخية وجغرافية ووقائع معاصرة، ان هوية كركوك كردستانية، وهذا لا يعني تحويل لغة وثقافة المدينة واهلها الى الكردية. وحسبما يؤكد نجيرفان بارزاني، رئيس حكومة اقليم كردستان، قائلا لـ«الشرق الاوسط»، «نحن نريد ان تبقى كركوك مدينة عراقية ورمزا للتعايش السلمي بين القوميات الكردية والعربية والتركمانية والكلدو آشورية المتآخية، لكننا نطالب بحقوق تاريخية ثابتة، وهي ان كركوك جغرافيا مدينة كردستانية، ونريدها ان تتبع اقليم كردستان اداريا».
ويرد نجيرفان بارزاني على من يعتقد ان الاكراد يريدون ضم كركوك بسبب نفطها والانفصال عن العراق، كما اكد كل من أركج وخليل في احاديث منفصلة لـ«الشرق الاوسط»، قائلا ان «كل اراضي كردستان العراق تضم خيرات طبيعية وفيرة من نفط ومعادن نادرة وجبال مرمر وهذا يغنينا عن نفط كركوك، الذي يستثمر من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد، ونحن لنا حصة ثابتة من الخزينة المركزية».
اما عن احتمال انفصال الاكراد في ما لو ضموا كركوك اليهم واعلانهم الاستقلال، فيؤكد الرئيس بارزاني، قائلا: «نحن كنا منفصلين طيلة اكثر من 13 عاما عن الحكومة المركزية، التي كان يحكمها صدام حسين، وكان بإمكاننا الاستقلال ضمن مفهوم حق الشعوب بتقرير مصيرها، لكننا اخترنا وبمحض ارادتنا وارادة شعبنا البقاء ضمن العراق الى جانب الشعب العراقي، لاننا جزء من هذا الشعب وشركاء في بناء هذا الوطن والمسؤولية عنه».
الوصول الى كركوك التي كان النظام السابق قد غير اسمها الى محافظة التأميم، تمجيدا لقرار تأميم النفط عام 1972، يتم عبر اكثر من طريق بري، هذه الطرق تربط مدينة كركوك ببغداد والموصل واربيل والسليمانية. ومنذ ان بدأت الاعمال الارهابية من خطف وقتل نهاية عام 2003 لم يعد الطريق الذي يربط كركوك ببغداد آمنا، لكن هذا لا يعني ان السفر متوقف بين العاصمة العراقية وكركوك، بل على العكس الحركة نشيطة في مجال الانتقال والتنقل.
بالنسبة لي فضلت الوصول الى كركوك بواسطة الطريق البري الذي يربطها بالسليمانية، أي من اقليم كردستان الآمن. المعلم التاريخي المهم الذي ستراه عن بعد كمنار او شاهد يذكر الاجيال بمجد وعمق تاريخ المدينة، هو قلعة كركوك المبنية منذ ما يقرب من ستة الاف عام.
ومفهوم القلعة، خاصة بالنسبة لقلعتي كركوك واربيل، هو بناء المدينة فوق مرتفع، ذلك ان العراقيين القدماء كانوا غالبا ما يرتفعون بمدنهم ومعابدهم من الارض للتقرب من «الالهة» من جهة، ولاسباب امنية من جهة ثانية، حيث يمكنهم الارتفاع من رد هجمات الاعداء وضمان عدم التعرض لكوارث طبيعية كالفيضان مثلا.
المفاجأة كانت صادمة بالنسبة لي وانا ادخل مدينة كركوك بعد اكثر من عقدين، كانت المرة الاخيرة التي زرت فيها هذه المدينة عام 1986. كانت المؤسسة العامة للاثار والتراث قد اعادت توا وقتذاك اعمار قلعة كركوك، ومن بين الابنية التي اعيد اعمارها ثلاثة دور تراثية تعود تواريخها الى اكثر من 200 عام، وكانت مملوكة لشيوخ عشائر اكراد وتمثل النمط التقليدي للعمارة العراقية عامة والعمارة الكردية خاصة، مما يؤكد وجود الاكراد في كركوك منذ مئات السنين، وهذا ما أكده لنا رئيس مجلس محافظة كركوك، قائلا «هناك من يشكك بالاحصائيات التي نريد القيام بها بعد مرحلة التطبيع في المادة 140 من الدستور العراقي، لنعد الى احصائيات 1957 التي لا شك فيها، سنجد ان اكثر من 50% من اهالي كركوك هم اكراد و30% من العرب و15% تركمان، والباقي كلدو آشوريون»، موضحا ان «كركوك معروفة تاريخيا كمدينة كردستانية، ولو عدنا الى وثائق العشرينات، أي منذ تأسيس الدولة العراقية، سنجد ان الوثائق تؤكد كردستانية كركوك، وهذا على العكس مما قاله لنا أركج رئيس الجبهة التركمانية من ان مدينة كركوك لم يكن يسكنها سابقا سوى التركمان.
كنت قد اقمت في احد هذه الدور التراثية وتجولت في ارجاء القلعة نهارا وليلا، وكان سكانها ممن يتحدثون اللغة الكردية والعربية والتركمانية، رافضين ترك بيوتهم القديمة والانتقال الى بيوت جديدة خارج منطقة القلعة. من هناك، من فوق قمة قلعة كركوك تستطيع ان ترى الماضي والحاضر في آن واحد، حيث بقايا آثار القلعة التي كان قد بناها الاسكندر المقدوني عندما مر بكركوك، وهذا يعني انه لم يكن هناك أي تجمع سكاني او مدينة سوى هذه القلعة، وترقب حاضرها الذي يؤكد تعايش قومياتها في ما بينهم قبل ان تهدم قوات الحرس الجمهوري عام 1991 القلعة بقنابل دباباتها ومدفعيتها، خلال قمعهم لانتفاضة مارس (آذار) التي اعقبت عاصفة الصحراء، وجعلت من القلعة ارضا جرداء لتمحي تاريخ وحاضر المدينة. غير هذا واضافة الى حملة التعريب والتغيير في الجغرافية السكانية التي فرضها نظام صدام حسين على المدينة واهاليها قامت قوات الحرس الجمهوري بتهديم اجمل 20 قرية كردية حول كركوك لاسباب امنية، وأتبع قسرا قرى اخرى الى محافظة تكريت لتكون اكبر محافظات المنطقة، بعد ان كانت تكريت مجرد بلدة صغيرة ومنسية.
كان منظرا اكثر من صادم بالنسبة لي هو ان ارى قلعة كركوك بعد اكثر من عقدين من الزمان وهي بلا ابنية وبلا آثار وبلا سكان. لكن ما شكل لي في هذه الزيارة أكثر من صدمة هو ان اجد هذه المدينة التي تعيش فوق اكبر البحيرات النفطية في المنطقة، قد تراجعت معماريا وخدماتيا وامنيا.
هل يعقل ان نجد كركوك وقد تخلفت عن سواها من المدن بعد اكثر من عشرين عاما، في الوقت الذي تخيلت فيه انني سأزور المدينة فلا اعرفها لكثرة ما تطورت معماريا مثلا، الخرائب ازداد عددها، بل بدت المدينة وكأنها مجموعة خرائب، وتلال القمامة في كل مكان، قلعتها محيت ومتحفها غاب، ورموز المدنية بدت كالحة تماما.
قبل اكثر من عقدين كنت اتجول ليلا بين ازقة قلعتها وحاراتها، واليوم لا استطيع ان اترجل من السيارة التي تقلني خشية من يطلق علينا النار او يفخخ طريق عودتنا، بل ان المدينة قد تحولت الى ملجأ آمن للجماعات التكفيرية والارهابية التي تنطلق لتنفيذ عمليات ارهابية في كركوك والموصل ومدن كردستان الآمنة.
ما يجعل الصدمة اكثر قوة وتأثيرا هو اني دخلت الى كركوك عبر بوابة كردستان العراق، من خلال شقيقتي كركوك، السليمانية واربيل، اللتين تنعمان، بالاضافة الى دهوك، بالامان وتنتعشان اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعلميا، حتى اني تساءلت، لم كل هذا النزاع ما دامت كركوك ستبقى عراقية، لماذا هذا الخلاف اذا الحقت كركوك بكردستان وحصلت على حصتها من الأمن والبناء والانتعاش الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ما دامت ستبقى مدينة عراقية، ومادام اهلها سيبقون مثلما كانوا دائما.
مدينة كركوك الحالية تقع على اطلال المدينة الاشورية القديمة اررابخا (عرفة) الذي يقدر عمرها بحوالي 5000 سنة. وبسبب اهمية موقعها الجغرافي بين امبراطوريات البابليين والآشوريين والميديين شهدت كركوك معارك عديدة بين تلك الامبراطوريات المتصارعة، التي بسطت سيطرتها على مدينة كركوك في فترات تاريخية متباينة، ودليل ذلك هو قلعتها التاريخية الشهيرة، التي تضم آثار قلعة كان قد بناها الاسكندر المقدوني في قمة قلعة كركوك.
اما اصل تسمية المدينة فهناك عدة حكايات حول ذلك. احدى النظريات تقول ان تسمية كركوك أتت من الكلمة التي استخدمها الاشوريون، كرخاد بيت سلوخ، التي تعني المدينة المحصنة بجدار، بينما تشير اقدم سجلات الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري التي عثر عليها بالصدفة سنة 1927 في قلعة كركوك إلى ان قطعة كيرخي (كرخا، او قلعة) كانت تقع في اررابخا (عرفة) باقليم كوتيوم. هناك فرضية اخرى تستند الى كتابات المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ، حيث يذكر بلوتارخ انه عندما قطعت القوات المقدونية البادية في سورية وعبرت نهر دجلة في 331 قبل الميلاد، اتجه الإسكندر الأكبر بعد معركته المشهورة مع داريوش الثالث نحو بابل عن طريق ارابخي او اررابخا (عرفة)، حيث اصلح قلعتها (اي قلعة كركوك)، واضاف الكاتب اليوناني بلوتارخ ان على ارض ارباخي (اي كركوك) تشاهد نيران مشتعلة دائمة وتغطيها انهار من النفط، وهذا الكلام ينطبق على موقع كركوك المعاصر. اما موقع بابا كركر فقد اورد بلوتارخ اسمه بصيغة كوركورا. وقد اضاف الميديون على نهاية الاسم اللاحقة الزاكروسية المحلية اوك فغدت التسمية كوركورك. عرفت مدينة كركوك في عهد الساسانيين بكرمكان، التي تعني الارض الحارة الذي تحول إلى جرمقان او جرميق في العربية وكرميان بالكردية. تحد كركوك جبال زاكروس من الشمال ونهر الزاب الصغير من الغرب وسلسلة جبال حمرين من الجنوب ونهر ديالى، الذي يعرف عند الاكراد بنهر سيروان من الجنوب الغربي. يقدر نفوس المدينة حسب تخمينات احصائية لعام 2003 بما يقارب 755.700 نسمة.
يمر نهر الخاصة في وسط مدينة كركوك ويقسم المدينة إلى شطرين، كما يمر نهر الزاب الصغير (من أهم روافد نهر دجلة) على بعد حوالي 45 كم من مركز المدينة، وقد نفذ مشروع اروائي جبار على نهر الزاب يعرف بري كركوك يوصل الماء إلى مدينة كركوك ومزارعها المحيطة والموزعة بالمحافظة، حيث غير هذا المشروع نمط حياة ومعيشة الكثير من القرويين والزراع إلى الأفضل.
الصراع حول هوية كركوك يأخذ صورا متداخلة ومعقدة بسبب التركيبة السكانية والعلاقات الاجتماعية السائدة بين اربع قوميات تعايشت في هذه المحافظة. وتعتبر حملات التهجير والترحيل التي جرت في عهد النظام السابق من اجل تغيير الخريطة السكانية لكركوك وجعلها مدينة عربية قسريا واحدة من ابرز اسباب تدمير حالة التعايش السلمي بين القوميات.
وكان صدام حسين قد قام في بداية الثمانينات بحملة لتهجير الاكراد وبعض التركمان من مناطق سكناهم واحلال عوائل عربية من وسط وجنوب العراق مقابل امتيازات مالية كبيرة لهذه العوائل مما دفع بالكثير من العرب للانتقال الى كركوك والحصول على اراض سكنية منحا مالية لبناء دورهم.
مرحلة التطبيع في المادة 140 تعالج مسألة دفع التعويضات للعوائل التي تم تهجيرها وعادت الى كركوك، وكذلك دفع 20 مليون دينار عراقي (15) الف دولار ومنح قطعة سكنية للعوائل العربية التي تريد العودة الى مناطقها الاصلية بصورة تلقائية وليست قسرية، حسبما يوضح رئيس مجلس محافظة كركوك، الذي يستطرد قائلا: «هناك عشرات الالاف من المعاملات للعوائل العائدة والعوائل العربية التي تريد ترك كركوك، وحتى الان لم يتم انجاز سوى 3% من المعاملات المقدمة للجنة العليا لتنفيذ المادة 140».
الاكراد الاكثر حماسة لتنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي الذي استفتي عليه شعبيا، على ان يتم تطبيق مراحله الثلاث، وحسب فؤاد معصوم، رئيس الكتلة الكردية في مجلس النواب (البرلمان) العراقي «سنرضى بنتائج الاستفتاء مهما كانت وهذه هي ارادة الشعب بالتالي»، الا ان اركج، رئيس الجبهة التركمانية التي تتكون من اربعة احزاب تركمانية، يعارض هذه المادة الدستورية، مؤكدا ان «الاستفتاء لن يتم لا في موعده ولا في غير موعده»، وانه يعارض الاستفتاء «لان نتائجه محسومة للاكراد الذين سربوا ما يقرب من 600 الف كردي الى كركوك منذ 2003، وانا لا اعتمد على الاستفتاء، وليست لدي ثقة في ان ما ستحتويه الصناديق صحيح». مشيرا الى «عدم شرعية هذا الاستفتاء ولا اشترك به ولا اتوقع اجراءه لانه حالة صعبة».
ويرى اركج المقرب من تركيا مع جبهته التي تضم: جماعة المستقلين التركمان، الحزب الوطني التركماني، الحركة الاسلامية لتركمان العراق، وحزب العدالة التركماني ان جبهته الممثل الشرعي وليس الوحيدة لتركمان العراق، يقول «انا رئيس الجبهة وعضو في مجلس النواب وهذا يعطيني الحق في ان اقول ان الجبهة التركمانية هي الممثل الشرعي لتركمان العراق». ويعول رئيس الجبهة التركمانية على تاريخ المدينة في حسم النزاعات حول هويتها، فيقول «في الخمسينات نسبة التركمان كانت اكثر من العرب والاكراد، وكركوك كانت منذ العشرينات هي مدينة ذات ثقافة واغلبية تركمانية قبل ان ينزح اليها العرب والاكراد». وفيما تشير غالبية الاحصائيات الى ان عدد سكان كركوك لا يتجاوز المليون بأي حال من الاحوال، الا ان اركج يؤكد ان عدد التركمان في كركوك هو 3 ملايين تركماني، كاقل تقدير، ومن الممكن ان العدد اكثر من ذلك، وباعتقاده ان هذا يعطيه الحق في ان يطالب بان تكون كركوك محافظة تركمانية، مبررا هذا بقوله: «لنا الحق في ان تكون لنا محافظة، ذلك ان للاكراد ثلاث محافظات وللعرب 13 محافظة فلماذا لا تكون لنا كمكون قومي ثالث في العراق محافظة واحدة وهي كركوك ذات الثقافة التركمانية».
ويشبه اركج سبب تدخل تركيا في موضوع كركوك بـ«اهتمام العرب بفلسطين»، مشيرا الى انه ينتظر الدعم من العراقيين عربا واكرادا وكلدو اشوريين اولا. ولا يتردد عن الاعلان بدعم تركيا لجبهته قائلا: «من حقنا ان نطلب الدعم من جميع الاطراف، ومن دول الجوار خاصة تركيا».
مدافعا عن انتمائه للاتراك بقوله «نحن اتراك العراق بالرغم من اني اعتز بتركمانيتي، والتركمان اصل الاتراك وغالبية الاتراك هم من التركمان، ولا يمكن فصل التركمان عن الاتراك ولا يجوز ذلك».
على العكس من اركج يرى عرفان كركوكلي سكرتير حزب الشعب التركماني ان «العلاقة بين الاكراد والتركمان والعرب عبر تاريخ كركوك كانت وما تزال متميزة وانهم عاشوا مع بعضهم سلميا وتربطهم علاقات المصاهرة».
ويجد كركوكلي ان «المادة 140، من مواد الدستور العراقي الدائم الذي صوت عليه غالبية الشعب العراقي وفيه الحل السلمي لمشكلة كركوك، ونحن كتركمان واكراد وحتى بعض العرب عانينا من التهجير والترحيل، والان نريد الاستقرار وان نعيش بسلام والمادة 140 هي الحل الامثل لمشاكل كركوك». وينفي سكرتير حزب الشعب التركماني ان تكون هذه المادة تصب لصالح الاكراد، «وانا اقول ان التركمان والعرب والكلدو اشوريين هم المستفيدون، عودة المرحلين الى اراضيهم واعادة الوافدين الى مناطقهم بشكل قانوني وعادل فيه فائدة للجميع». ويعترض كركوكلي على التدخل التركي في قضية كركوك، قائلا: «نحن كتركمان جزء من الشعب العراقي ونعتز بانتمائنا وبهويتنا كتركمان وبعلاقاتنا مع العرب والاكراد والكلدو اشوريين وتدخل تركيا في موضوع كركوك هو تدخل سافر في الشأن الداخلي وهوية كركوك قضية داخلية عراقية تهم العراقيين فقط».
ويتساءل سكرتير حزب الشعب التركماني قائلا: «من وضع الاتراك اوصياء على التركمان العراقيين؟»، مستطردا بسؤاله «عندما كان نظام صدام يهجر التركمان والاكراد ويعذبهم ويقتلهم لم نسمع في يوم من الايام أي اعتراض او احتجاج من قبل اية دولة، خاصة تركيا التي تعتبر دولة جارة، وتقول انها تحافظ على وحدة الشعب العراقي، لم نسمع انها دافعت عن التركمان ولا عن قيامها حتى باستدعاء السفير العراقي والاحتجاج لديه على ممارسات الحكومة العراقية، والان يدعون انهم حماة التركمان والمدافعون عنهم،إ ونحن نقول لهم اننا جزء من الشعب العراقي، ونشكرهم على عدم تدخلهم في الشأن الداخلي العراقي».
ويناصر يونادم كنا سكرتير عام الحركة الديمقراطية الاشورية، آراء كركوكلي، مشيدا بالمادة 140 من الدستور العراقي التي يرى فيها «الحل العادل ليس لمسألة كركوك فحسب، بل هناك مناطق متنازع عليها وان هذه المادة جاءت لتعيد الحق لاهله وبصورة عادلة».
ورفض كنا التدخل التركي في الشأن الداخلي العراقي قائلا: «مع احترامي لدول الجوار فان قضايانا نحن نحلها بدون أي تدخل من جهة خارجية، فللعراق سيادته وهو دولة دستورية له قوانينه وبرلمانه وحكومته ونحن نحل مشاكلنا بالتوافق والحوار». واضاف سكرتير عام الحركة الديمقراطية الاشورية قائلا: «ان الاستفتاء حسب المادة 140 هو الذي سيحسم النزاعات حول كركوك، التي تضم 4 قوميات متآخية وعلينا احترام ارادة الشعب العراقي، وسواء تبعت كركوك الى كردستان او بغداد ما المشكلة ما دامت هي ارض عراقية».

 

 


   

رد مع اقتباس

قديم 29-03-09, 07:29 AM

  رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (الحلقة الاخيرة) الأكراد.. حجر التوازن
طالباني: أعتز بكرديتي وعراقيتي هي الأولى > بارزاني: نريد اثبات ولادة عراق جديد
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةابنية تجارية ترتفع وسط أربيل عاصمة اقليم كردستان ضمن الخطط الاستثمارية الجديدة («الشرق الاوسط»)
هولير (اربيل ): معد فياض
سلسلة الجبال في اقليم كردستان التي نراها في قمة خريطة العراق، تبدو وكأنها تاج يتربع فوق رأس البلد الذي تمده ذراعاه، دجلة والفرات، بالماء الوفير على طول وعرض اراض خصبة، بينما تسترخي اراضيه في الجنوب عند تخوم الخليج العربي.
ان ما يعطي تميز العراق، ومنذ ان وجد، هو تنوعه الجغرافي والحضاري، وايضا تنوعه القومي والديني والمذهبي، هذا التنوع المنسوج بعناية الهية مباركة ليس من السهل تمزيقه، هذا ما اثبتته احداث قرون من الانجاز الحضاري.
لنتأمل خريطة العراق مرة اخرى، سنجد ان الجبال التي تشكل تاج العراق تنفتح بطبيعتها على داخل البلد، بينما تنغلق وتدير ظهرها للاخرين وتتحول الى حصن منيع لحماية الجميع، أكرادا وعربا وكافة الاطياف الاثنية والدينية، وكأنها تبعث رسالة مفادها ان سلاسل جبال زغاروست وحمرين وقنديل وغارا ومقلوب وهندرين وأزمر وكويجا وبيرة مكرون (بالكاف المشددة)، هي ايضا تشكل درعا حاميا للبلد الذي سكنه الاكراد منذ اكثر من ستة الاف عام، قبل وصول العرب مع الفتوحات الاسلامية الى العراق بما يزيد عن اربعة الاف عام.
«الشرق الاوسط» تختتم ايامها في العراق بزيارة الى اقليم كردستان الآمن، الذي يتقدم اقتصاديا ومعماريا وثقافيا باطراد.
يسألني صحافي عربي، غير عراقي، التقيته صدفة في جلسة شاي في فندق اربيل انترناشيونال، الذي يزدحم عادة بالوفود والمستثمرين، عن سبب عدم تحدث بعض الاكراد في اقليم كردستان اللغة العربية، اعيد عليه السؤال بصورة معكوسة فأساله عن سبب عدم تحدث العرب العراقيين اللغة الكردية وهم (الاكراد ) شركاء في هذا الوطن. وعندما لم يجد زميلي الصحافي أية اجابة، استطردت شارحا له القليل من الحقائق وباختصار عن الاكراد، الذين يتصور بعض العرب انهم جاءوا من مكان بعيد واستقروا في العراق منافسين العرب في ارضهم، حيث يستغرب كثيرا، زميلي الصحافي، عندما يعرف ان العكس هو الصحيح، فهذه ارض كردية منذ الاف السنوات والعرب هم من جاء لينافسوهم عليها. ومنذ تأسيس اول حكومة عراقية حديثة، بعد 1921 والاكراد يتعرضون لمختلف اشكال الحروب والقتل والاضطهاد من قبل حكومات العراق، أي حكومات بلادهم، التي كانت تصفهم بـ(العصاة) و(المتمردين) و(الانفصاليين )، مع ان كل ما اراده الملا مصطفى بارزاني، احد ابرز قادة حركات التحرر الوطني في القرن العشرين، هو الحصول على حقوق شعبه القومية فوق ارضهم كردستان العراق. والرجل الذي يبجله الشعب الكردي اليوم، لانه كان السبب في ان يرفعوا علم كردستان فوق اراضيهم عاش ومات متقشفا ومنفيا، حتى انني عندما زرت قريته الاصلية بارزان، كنت اتصور اني سأجد هناك قصورا فخمة وشوارع فارهة له او لنجله مسعود بارزاني رئيس اقليم كردستان او لحفيديه نيجرفان بارزاني رئيس حكومة الاقليم او مسرور بارزاني القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، لكنني وجدتها واحدة من اجمل قرى كردستان بفضل طبيعتها الساحرة، فهي محمية طبيعية للنباتات والحيوانات، اذ تحرم عادات وتقاليد البارزانيين قطع الاشجار وصيد الحيوانات. اما بيوتها وشوارعها فهي اعتيادية حالها حال اية قرية كردية اخرى. وقبر زعيم الثورة الكردية ملا مصطفى بارزاني يكاد لا يرى، فقد سوي بالارض وليست هناك اية دلالة سوى صخرة اعتيادية كتب عليها اسمه كيفما شاء، والى جانبه قبر نجله ادريس بارزاني احد شهداء الثورة الكردية. ولم يعرف عن القائد بارزاني انه ترك قصورا او اموالا سواء في كردستان او خارجها.
هناك في بارزان حيث يجري على مقربة من القرية نهر الزاب، يتدفق بقوة بين الصخور في منظر نادرا ما تراه في طبيعة بكر في بقعة اخرى من العالم العالية، متحديا كل مصاعب الطبيعة من اجل ان يمنح الحياة للاخرين.
الاكراد المتهمون باستمرار بتخطيطهم للانفصال عن العراق هم في الحقيقة أكثر من يعمل من اجل المحافظة على قوة انتمائهم للعراق وعلى وحدة العراق. سياسيا الاكراد هم حجر التوازن في العملية السياسية في البلد، وحسب سياسي عراقي بارز أكد لي انه لولا مشاركة القادة السياسيين الاكراد في العملية السياسية لكانت الاوضاع قد ساءت اكثر.
والقادة السياسيون الاكراد بدءا برئيس الجمهورية جلال طالباني والى جانبه رئيس اقليم كردستان العراق ونائب رئيس الحكومة برهم صالح تحولت مكاتبهم وبيوتهم الى ورش للقاءات والاجتماعات بين القادة السياسيين العرب من السنة والشيعة، من اجل تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، في الوقت الذي يدعو في نجيرفان بارزاني رئيس حكومة الاقليم الى الاستفادة من تجربة كردستان العراق في حل المشاكل الامنية واعمار البلد.
وهذا ما تؤكده تصريحات القادة الاكراد، يقول الرئيس العراقي جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني: «صحيح انا كردي واعتز بكرديتي وعراقيتي، ولكن الآن انا مسؤول عراقي وعراقيتي هي الاولى، وهي الواجب الذي يفرض علي القيام بالواجبات الاخرى. لذلك عندما قبلت هذه المسؤولية بشرط ان اكون دائما مع الجميع وللجميع وعامل خير، وانا اواصل ان شاء الله هذا الدور ولن اتخلى عن هذا الدور، لانه دور وطني وضروري لخدمة العراق جميعا لخدمة العرب والكرد والشيعة والسنة والتركمان وجميع العراقيين».
ويوضح رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني لـ«الشرق الاوسط»، قائلا «الحقيقة نحن نود ان نثبت ان الوضع الجديد في العراق هو ولادة عراق جديد ويمكن الان وبالفعل للكردي ان يتبوأ اي منصب وهو ليس مواطنا من الدرجة الثانية او الثالثة، كما كان ينظر اليه في السابق. والكرد مستعدون للمساهمة في تقديم اي خدمة للعراق».
بينما يؤكد نائب رئيس الحكومة العراقية الدكتور برهم صالح نائب رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني مسؤولية الوجود الكردي في بغداد، قائلا ان «الوجود الكردي في بغداد مهم ويجب ان يقرأ بدلالاته السياسية والتاريخية المهمة، القيادات الكردية ترى العراق وطنا لكل المكونات العراقية، نريد ان نكون جزءا من عملية بناء وطن آمن خال من مآسي الانفال والتطهير العرقي، وما الى ذلك من تجليات الاضطهاد، وأمامنا في ذلك مسؤولية كبيرة، نعم نحن متمسكون بحقوق الشعب الكردي ونرى ان العراق اذا اراد ان يكون آمنا مع نفسه فيجب ان يحافظ على هذه الحقوق وان يكون الاكراد قوة مضافة للحفاظ على البلد، وجزءا من قوته، وان قوة العراق لا شك في انها ستكون قوة للكرد».
ويتمسك رئيس حكومة اقليم كردستان بانتماء الاقليم للعراق قائلا: «نحن جزء من العراق والمعاناة التي نراها اليوم في بغداد والمدن العراقية الاخرى هي محل أسفنا، ويهمنا ان تنتهي ونعتبرها جزءا من معاناتنا نحن. بلا شك ان إقليم كردستان هو جزء من العراق وكل القضايا مترابطة مع بعضها ضمن هذا الوطن».
كلما ذهبت الى هولير (الاسم الاصلي والتاريخي لعاصمة اقليم كردستان اربيل)، فوجئت بالتغييرات الحاصلة في هذه المدينة، لا اتحدث فقط عن ورش العمل التي تعمل ليل نهار، والتي حولت اقليم كردستان بمحافظاته الثلاث، هولير (اربيل) والسليمانية ودهوك الى واحدة من كبريات ورش البناء في المنطقة، حيث الابراج ترتفع والمجمعات السكنية تنتشر والاسواق تزرع بين الاحياء، بل انطلق في تقييمي من منظار علمي واقتصادي واجتماعي بحت.
والتقييم العلمي يقاس بعدد المؤسسات العلمية التدريسية والاساتذة والطلبة الذين يدرسون في هذه الجامعات والكليات والمعاهد. وحسب حديث الدكتور ادريس هادي وزير التعليم العالي في الاقليم لـ«الشرق الاوسط» في مكتبه باربيل، فان «جامعة واحدة كانت موجودة في المنطقة قبل عام 1991، أي عندما كان الاقليم تحت سيطرة نظام صدام حسين، وقبل الانتفاضة التي ادت الى شبه استقلال الاقليم وانفصاله عن الدولة المركزية، حتى تحرير العراق من النظام السابق في ابريل (نيسان) 2003، اما اليوم وبعد 11 عاما من الانفصال توجد 6 جامعات حكومية و3 كليات تقنية و15 معهدا تقنيا، و53 الف طالب وطالبة يدرسون في 350 قسما علميا على يد 4 الاف استاذ جامعي من حملة شهادتي الدكتوراه والماجستير». ويضيف الدكتور هادي قائلا ان «هذه الجامعات موزعة على كافة محافظات اقليم كردستان، ففي اربيل توجد جامعات: صلاح الدين، وجامعة هولير الطبية وجامعة كردستان، اما في كويسنجق فهناك الجامعة التي تحمل اسم المدينة الاصلي وهي جامعة كويا، اما في محافظة السليمانية، ثاني اكبر محافظات الاقليم، فهناك جامعة السليمانية، وتقع جامعة دهوك في مدينة دهوك».
ويوضح وزير التعليم العالي في حكومة اقليم كردستان قائلا: «يتم حاليا افتتاح جامعة اهلية راقية وهي الجامعة الاميركية في السليمانية على غرار الجامعة الاميركية في بيروت او في القاهرة، وهي اول جامعة من نوعها في العراق».
ويؤكد الدكتور هادي ان حكومة الاقليم وحسب قانون الاستثمار تشجع كثيرا على الاستثمار في مجال التعليم العالي ووفق قانون وتعليمات علمية ورقابية ومعايير علمية، وبالفعل هناك عدد من الجهات تريد رخصا لفتح جامعات اهلية والطلبات قيد الدراسة».
وفي هذا الصدد فان حكومة اقليم كردستان وقفت ضد حملات تهجير العقول والكفاءات العلمية من اساتذة جامعات واطباء وبقية الكفاءات العلمية عندما عملت على انقاذ هذه الكفاءات من العمليات الارهابية التي تستهدفهم يوميا عبر تعيينهم في جامعات ومستشفيات الاقليم، مع منحهم امتيازات اضافية تشجعهم على البقاء في العراق وعدم تركه».
الدكتور فاضل خليل، العميد السابق لاكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، والمخرج المسرحي المعروف عربيا، حيث حازت اعماله الكثير من الجوائز المسرحية العربية، التقيته في فندق انترناشيونال اربيل، قال «لقد انقذني الاخوة في اقليم كردستان من التهجير والغربة والموت على ايدي الارهابيين، بعد ان تم تهديدي عدة مرات في بغداد لكوني فنانا مسرحيا».
الغريب في قصة خليل الذي يحمل درجة استاذ (بروفيسور) هو ان وزارة التعليم العالي العراقية وجامعة بغداد، بدلا من ان تحميه من الارهابيين قامت بنقله الى جامعة في منطقة ساخنة تسيطر عليها احدى الميليشيات المسلحة، فلم يجد أي طريق لانقاذ نفسه سوى الذهاب الى كردستان التي«رحبت بي وحمتني، فانا عراقي ولا اريد ان اتغرب واترك بلدي»، على حد قوله.
عندما هبطت طائرة الخطوط الجوية العراقية في مطار اربيل الدولي شدتني ابنية واسعة وبرج عال جدا على يسار المطار، قال لي احد الاصدقاء مشيرا الى مساحات واسعة بالفعل من البناء «هذا برج وابنية مطار اربيل الدولي الذي من المحتمل ان يفتتح نهاية العام الحالي وسوف يستقبل اضخم الطائرات».
اما مساحات الارض التي تحيط بالمطار والقريبة منه فقد كانت ارض جرداء حتى قبل اقل من عام، وكانت هناك لافتات تحمل مخططات واسماء لاحياء ستقوم فوقها، لكنني دهشت عندما وجدت هذه الارض وقد تحولت الى مجمعات سكنية راقية بالفعل بنيت وفق معايير معمارية راعت جماليات العمارة المحلية بالتزاوج مع العمارة الحديثة، بل ان شركات استثمارية غربية عملت على تنويع الشكل المعماري وبناء مجمعات سكنية اوربية بحتة تشبه الى حد بعيد المجمعات السكانية الغربية مثلما في القرية البريطانية والقرية الايطالية.
«فرص الاستثمار في اقليم كردستان واسعة ومتوفرة وتمنح امتيازات اضافية للمستثمرين»، هذا ما توضحه نوروز مولود مديرة الشعبة القانونية والمالية في هيئة الاستثمار، التي أكدت ان «قانون الاستثمار الذي صادق عليه رئيس الاقليم، كما صادق عليه البرلمان الكردستاني يعد واحدا من اكثر قوانين الاستثمار تطورا في المنطقة وتشجيعا للمستثمر»، وتوضح نوروز وهي نموذج من نماذج المرأة الكردية المتطلعة لبناء بلدها العراق من خلال بناء اقليم كردستان، قائلة «قانون الاستثمار في كردستان يتيح للمستثمر الحصول على قطعة ارض بسعر رمزي مع اعفاء ضريبي وكمركي لخمس سنوات، وبإمكان المستثمر التصرف بامواله، سواء تحويلها او نقلها وما شابه ذلك».
وتشرح نوروز مجالات الاستثمار في الاقليم قائلة، «هناك تنوع في المجالات الاستثمارية، واهمها الصناعة والسياحة والزراعة والسكن وكل هذه المشاريع مهمة ومربحة، والهيئة تسهل اعمال المستثمر بدءا من تفكيره بالمشروع وحتى انجازه».
قانون الاستثمار المشجع هذا جذب رؤوس اموال ومستثمرين محليين وعربا واجانب، فهناك مستثمرون عراقيون في مجالات الصناعة والسياحة، بينما هناك شركات سعودية تستثمر في مجال صناعة الاسمنت، وشركات لبنانية تستثمر في مجال المصارف، بينما يستثمر غربيون في مجالات بناء المجمعات السكنية. وعلى حد قول نوروز «هناك مشاريع عديدة للاستثمار مقدمة للهيئة في المجالات التعليمية انشاء جامعات اهلية، وفي المجالات الطبية انشاء مستشفيات خاصة، وفي المجال السياحي بناء مجمعات سياحية كبيرة، ونحن بصدد دراسة هذه المشاريع قبل الموافقة عليها».
فوجئت وسعدت حقيقة بالمساعدة التي تقدمها دائرة العلاقات الخارجية في رئاسة حكومة اقليم كردستان، التي يترأسها الخبير فلاح مصطفى، واقول خبير لانه، بالفعل، خبير في العلاقات الدولية والمحلية وفي ادارته لفريق من الموظفين الشباب الحاصلين جميعهم على شهادات عليا في اللغات والاقتصاد وادارة الاعمال والعلاقات والقانون، ومن جامعات من داخل كردستان وخارجه. مهمة هذه الدائرة التي تشبه الى حد كبير مهمة وزارة الخارجية، باستثناء انها تقدم خدمات اكثر مما تقدمه اية وزارة خارجية في المنطقة، وبضمنها استقبال الضيوف والصحافيين وتوفير ما يلزمهم من المعلومات التي يريدها الضيف أو الصحافي بدون ان يمدوه بمعلومة لا يحتاجها، اعني انهم لا يمررون معلومات يريدون نشرها، تسألهم فيجيبونك على قدر سؤالك، يشرحون لك الامور باختصار وبدقة وبلغة الارقام وبالاسماء فهم ينطوون على معلومات وافية ليس عن اقليم كردستان فحسب، بل عن عموم العراق والمنطقة والعالم، ويتعاملون معك بتواضع كبير ينم عن اخلاقهم العالية ويعكس اخلاقية وطيبة وكرم رئاسة الحكومة والدائرة التي يعملون فيها. وينفي مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في حكومة اقليم كردستان ان «تكون الحكومة الاتحادية قد اشركت او تشرك ممثلا عن حكومة اقليم كردستان في وفودها الخارجية، خاصة تلك الوفود التي تتجه الى تركيا او ايران لبحث قضايا تخص الاقليم»، مشيرا الى ان «غياب ممثل عن حكومة اقليم كردستان في وفود الحكومة الاتحادية، وخاصة الى تركيا، هو غياب متعمد من قبل الحكومة الاتحادية وغياب مقصود».
ان اهم ما يميز الاوضاع في اقليم كردستان وفي جميع محافظاته، اربيل والسليمانية ودهوك، هو الاستقرار الأمني الذي يجتذب بقية العراقيين من كافة مناطق العراق للاستقرار هناك، وفي هذا الصدد يقول كريم سنجاري وزير داخلية الاقليم في حكومة اقليم كردستان لـ«الشرق الاوسط»، ان «الأمن مستقر في مناطق الإقليم منذ عام 1992، حيث قمنا بتدريب مقاتلي البيشمركة وغيرهم من الشباب ليكونوا عناصر أمن في الاساييش (الامن)، وطورنا أساليب عملنا وأجهزتنا، حيث توجد في الاقليم اكاديميات لتدريس الشرطة والجيش، يتخرج منها الشباب برتبة ضباط عسكريين وضباط شرطة، وهذه الاكاديميات متاحة لتدريس الشرطة والعسكريين من مختلف مناطق العراق»، مؤكدا أن «تعاون المواطنين معنا وإخبارهم عن أي حالة يشكون فيها وعدم وجود قاعدة شعبية للارهابيين بين الاكراد، ساهم ويساهم كثيرا في نجاح عملنا». وحول وجود العراقيين من المحافظات الجنوبية والوسط واقامتهم في اقليم كردستان، قال وزير داخلية الاقليم: «نحن نرحب بأي عراقي يقيم في الاقليم، كما ان توجيهات رئيس حكومة الإقليم نجيرفان بارزاني تشدد على استقبال اشقائنا والاهتمام بهم، فهذا جزء من بلدهم وكردستان جزء من الاراضي العراقية، وكل ما نطلبه هو وجود كفيل او ان يسجل القادمون حتى ان كانوا اكرادا اسماءهم وعناوينهم في أقرب دائرة أمنية، كي نعرف من يقيم في مدن الاقليم»، مؤكدا عدم حدوث أي مشاكل أمنية من العراقيين القادمين من المحافظات الاخرى، مشيرا الى وجود أكثر من 20 ألف عائلة عراقية عربية في أربيل وحدها.
نذهب الى السليمانية.. وللوصول الى هذه المدينة التي تبدو مثل حديقة واسعة محاطة بالجبال طرق كثيرة، هناك مطارها الدولي الذي يحتل مساحة نادرة بين سلاسلها الجبلية «أزمر» و«كويجا» و«بيرة مكرون»، كما ان هناك أكثر من طريق بري لا تستطيع ان تقارن بين أجملها. نختار الذهاب اليها عبر طريق دوكان، اطلب من السائق ان يقود السيارة بسرعة أقل لأتأمل جمال الجبال والحقول الخضراء التي تمتد على مد البصر، وهي مؤثثة بالقرى التي ترتفع فوق سطوح بيوتها الطينية الصحون اللاقطة للبث الفضائي (ستلايت).
فجأة تظهر لنا هناك في اسفل الوادي بحيرة ساحرة تعكس مياهها زرقة السماء، نراها وهي تغتسل بشعاع الشمس الغارقة فيها، تلك هي بحيرة دوكان التي تعد اجمل مصيف سياحي في السليمانية خاصة، وفي كردستان عامة، هناك اسماء لمناطق سياحية مميزة في كردستان العراق، ابرزها شلال كلي علي بك، شلالات بي خال الساحرة، مصيف جنديان، وشلالات احمد آوى، وغيرها من المناطق السياحية التي تزدحم بها طبيعة كردستان البكر.
من فوق جبل أزمر نطل على السليمانية التي تعلو بها، هي الاخرى الابنية بينما تنشط حياتها العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية .
ولعل اهم ما يجتذب الزائر لمدينة السليمانية اسواقها المزدهرة بالبضائع، اسواق تبيع الصناعات الشعبية من انسجة وصناعات جلدية، كما تشتهر بعسلها وحلوياتها المصنوعة من الفواكه المجففة.
حركة البناء في السليمانية تتصاعد، لهذا نجد ان هناك عددا كبيرا من العمال العراقيين غير الاكراد القادمين من محافظات الوسط والجنوب. نزور كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة السليمانية برفقة زميلي الصحافي الكردي محمد عثمان، رئيس تحرير الانصات المركزي، وهي واحدة من ابرز الصحف الالكترونية، ففي كردستان هناك العديد من الصحف الكردية والعربية، بعضها تابع لاحزاب سياسية واخرى مستقلة تكتب بحرية من دون الخوف من الحكومة، وحسبما يوضح اللواء سيف الدين احمد مدير عام الاساييش (الامن العام) حول موضوع حرية الصحافة، قائلا «هناك صحف سياسية تصدرها الاحزاب، وبعض الصحف تبدو مستقلة لكنها تصدر بدعم من الاحزاب السياسية وصحف اخرى تصدرها دور نشر او شركات او اشخاص وهذه مستقلة»، وشدد على ان «كل الصحف او الكتب التي تصدر هنا في السليمانية لا تتعرض لأية رقابة من قبل اية جهة أمنية، وهناك قوانين تكفل حق المواطن مثلما تكفل حرية الصحافة، فإذا تعرض اي مواطن للاهانة او السب او القذف والتشهير فمن حقه ان يتقدم بدعوى قضائية ضد الصحيفة ليأخذ القانون مجراه».

 

 


   

رد مع اقتباس

إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
أيام, العراق

أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:59 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
 

شبكـة الوان الويب لخدمات المـواقع