الحرب الاهلية الاسبانية
كانت إسبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي حافظت حتى مطلع القرن العشرين على ملكية ذات تقاليد وأصول كاثوليكية . في حين أن الملكيات الكاثوليكية في أوروبا سقطت إما بفعل الإصلاح الديني كما حدث في بريطانيا مطلع القرن السادس عشر، أو بفعل الثورة كما حدث في فرنسا عام 1789 ، أو بالحروب كما حدث للنمسا في الحرب العالمية الأولى .
فقد استطاعت إسبانيا أن تحافظ على تقاليدها الدينية لما كان للكنيسة الكاثوليكية من نفوذ فيها . وكانت الثورة الشيوعية قد نجحت في روسيا عام 1917 ، وتشكًل الاتحاد السوفيتي السابق عام 1918 . واتجهت سياسة الحكومة السوفيتية في الثلاث سنوات الأولى بعد الثورة إلى تحطيم جميع الحكومات الرأسمالية في العالم ، وتأسيس طبقة كادحة (بروليتارية) على غرار نظام الحكم السوفيتي، وإنشاء اتحاد دولي بين جميع الجمهوريات السوفيتية التي يمكن تأسيسها بعد نجاح الثورات في تلك الدول ، وبذلك يتمَّ إنشاء مجتمع عالمي . وكانت إسبانيا وجهة مفضلة للشيوعيين لنشر دعايتهم بسبب فساد الطبقة الأرستقراطية الحاكمة التي كان كل همها أن تجمع الثروات على حساب الشعب .
وسرعان ما انتشرت الثورة في إسبانيا بشكل كثيف ، وبدأوا يتوثبون للانقضاض على الملكية ، وراحوا يطالبون بالتغيير . وكانت حكومة الملك الفونسو الثالث عشر ضعيفة وفاسدة . فقام الجنرال بريمودي ريفييرا عام 1923 بانقلاب عسكري أطاح بها مستعيضاً عنها بأخرى فرضت الأحكام العرفية ونصّب ريفييرا نفسه حاكماًً عسكرياً على إسبانيا . فاعتقل المعارضين حتى بلغ عدد المعتقلين نحو 30 ألف معتقل ، وزاد الضغط على حكومة ريفييرا . ففي عام 1929 انتشر العصيان في الجيش وقام طلاب الجامعات وطبقات العمّال بالمظاهرات وأحداث الشغب مما أدى الى إستقالة ريفييرا في عام 1930 ومغادرته البلاد ، وتحت تلك الضغوط أصدر الملك مرسوما في عام 1931 لإجراء إنتخابات وقد فاز اصحاب المطاليب في أغلب المدن ، وعلى الأخص في مدريـد وبرشلونـة . وقـام زعيـم الحركـة "نكيتو الكالازامورا" بتوجيه إنذار إلى الملك الفونسو بضرورة التنازل عن العرش .
فغادر الملك إسبانيا دون أن يوقع وثيقة رسمية بالتنازل عنه . وما لبث زامورا أن أعلن قيام الجمهورية ، ونصّب نفسه رئيساً لها . وانتقل إلى قصر الملك ، واستقالت الحكومة المؤقتة ، وكوًن مجلس للوزراء برئاسة "مانويل أزانا" الذي أعلن عزم حكومته على السير في طريق الثورة حتى النهاية . ففي عام 1932 تقرر حلُّ نظام "الجزويت" ومصادرة أملاكهم ، وألغيت المدارس التابعة مباشرة للكنيسة ، ومنع رجال الدين من ممارسة التعليم فيها .
وتقرر تأميم أملاك الكنيسة لصالح من يسمّونهم العمّال والفلاحين (البروليتارية). كما صادروا ضياع من يسمونهم الإقطاعيين بدون دفع تعويض لهم ، وقاموا بحملة واسعة ضد رجال الكنيسة بهدف إلغاء الدين وتدهورت الأوضاع في إسبانيا بسبب رفض معظم الأسبان لتلك المبادئ . وخافت الحكومة من أن يعيد الشعب الملك إلى العرش ، عند ذلك قرروا إجراء انتخابات عامة جديدة عام 1933 ، وقد انهزم الشيوعيون في هذه الانتخابات ، فجن جنونهم ، فقاموا بمحاولة انقلابية عام 1933 ولكنها فشلت ، فقاموا بالاعتداء على الكنائس وذبحوا آلاف الرهبان والراهبات ، فعمّ الاضطراب والهيجان والشغب البلاد بأسرها . فقام رئيس الجمهورية زاموار بتحديد يوم 16/2/1936 موعداً للانتخابات العامة . لكن هذه الانتخابات وضعت إسبانيا في موقف أشدّ سوءاً ، فقد زاد الانقسام بين أبناء الشعب الإسباني فطلبوا من الرئيس زامورا أن يتحرك ضد أعدائهم ، فيصدر أمراً باعتقال المحرّضين .
لكنه لم يفعل شيئاً ، فاشتدّ حنقهم ضده واتهموه بالضعف وأقالوه وعيّنوا مكانه أزانا . فأصدر أزانا أمراً بإحالة جميع الضباط الذين يشتغلون بالسياسة إلى التقاعد ، كما قام بنفي ألآخرين وكان من بينهم الجنرال "فرانشسكو فرانكو" الذي كان قائداً للفرقة الإسبانية التي كانت تعمل في مراكش ، وقد تقرر نفيه إلى جزر كناري ، وأدى ذلك إلى قيام حركة عصيان في إسبانيا ضد الحكومة ، وحاول بعض القادة في الجيش إحداث انقلاب لمصلحة الملكيين عام 1936 . وبدأت المناوشات بين الجانبين ، وعقد الجنرال فرانكو عزمه على إنقاذ إسبانيا من تلك ألأوضاع واتصل بعدد من الضباط المخلصين له واتفق معهم على الثورة . وتوجه إلى المغرب لإعداد القوات المخلصة هناك لانطلاق الثورة ، ومن هناك اتصل بهتلر وموسوليني لمساعدته بالسلاح ولنقل القوات إلى داخل إسبانيا ، حيث كانت مياه المضيق تحت سيطرة الحكومة . وكانت هذه أول عملية إنزال لقوات محمولة جواً في التاريخ ، وبدأت الحرب الأهلية الإسبانية في 17 يوليو 1936 .
وعلى الرغم من أن هذه الحرب كانت في الظاهر داخل إسبانيا ، إلاّ أنها في الواقع كانت صراعاً أيديولوجياً بين المبادئ الأوروبية المختلفة ، وأصبح أنصار الحكومة بعد نشوب الحرب الأهلية يُطلق عليهم "الحمر" ، بينما كان أنصار فرانكو يطلق عليهم "الفاشست" .
وبدأت المساعدات تتدفق على الحكومة من الاتحاد السوفيتي السابق ومن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة . بينما كانت المساعدات تتدفق على فرانكو من ألمانيا وإيطاليا وأيرلندا الحرّة . كانت إسبانيا في ذلك الوقت تجمع بين كل المتناقضات ، وبين التيارات المتصارعة في أوروبا، وكانت الحقيقة.. أوروبا مصغرة بالاضافة الى انها ساحة معركة لاختبار الأسلحة والأيديولوجيات المختلفة. الحرب الأهلية الإسبانية كانت إنذارًا . تحالف عجيب من الأسلحة والأيديولوجيات المختلفة ، الحركة "الكارلستية" المؤيدة للملكية والمعارضة للجمهورية ظلت تدعو لإحياء ماضي إسبانيا ملوكها ، وكريستوفر كولومبس ، والعصر الذهبي للمكتشفين ، والسيطرة العالمية حين ما كانت إسبانيا هي الدولة الاستعمارية الأولى في العالم