عرض مشاركة واحدة

قديم 06-04-09, 08:50 PM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

القتلة يتفحصون المكان قبل ساعات من جريمتهم

في الساعات المتأخرة من صباح يوم (16 آذار 1988م)، ظهرت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي فوق مدينة حلبجة، كانت الحرب الإيرانية - العراقية في سنتها الثامنة وكانت حلبجة على مقربة من خطوط الجبهة. ويسكنها قرابة ثمانين ألف كردي تعوّدوا العيش على مقربة من العنف في حياتهم اليومية، وكغيرها من معظم مناطق كردستان العراق، كانت حلبجة في ثورة دائمة ضد نظام صدّام، وكان سكانها من مؤيدي (البيشمرجا)، وهم المقاتلون الأكراد الذين كان يعني اسمهم: أولئك الذين يواجهون الموت.

وعند حوالي الساعة العاشرة، وربما أقرب إلى العاشرة والنصف، شوهدت طوّافة تابعة لسلاح الجو العراقي، غير أن الطوّافة لم تكن تهاجم، كان على متنها رجال يأخذون صوراً، كان مع أحدهم آلة تصوير عادية وكان آخر يحمل ما كان يبدو أنها آلة تصوير فيديو، دنوا منا كثيراً، ثم ابتعدوا. كان المشهد غريبا؟!

بدأ القصف قبل الحادية عشرة بقليل، أطلق الجيش العراقي المتمركز على الطريق التي تصل ببلدة سيد صديق، القذائف المدفعية على حلبجة وبدأت القوة الجوية إلقاء ما كان يعتقد بأنه قنابل النابالم على المدينة، وعلى الأخص على المنطقة الشمالية، ركضنا إلى القبو، واختبأنا فيه.

انحسر الهجوم حوالي الثانية بعد الظهر، وصعدنا السلم بكل تأن باتجاه مطبخ البيت الذي كنا فيه لحمل الطعام إلى العائلة، وعند توقف القصف، تغيّر الصوت، لم يكن قوياً، كان أشبه بقطع معدنية تتساقط دون أن تنفجر، لم نعرف سبب هذا السكون.

جمعنا الطعام بسرعة لكن لاحظنا مجموعة من الروائح الغريبة أتت بها الريح إلى داخل المنزل، في البداية، كانت الرائحة كريهة مثل رائحة النفايات، ثم تحولت إلى رائحة طيبة، مثل التفاح المحلّى، ثم مثل البيض، ألقيت نظرة على طير حجل داخل قفص في المنزل، كان الطائر يموت وقد استلقى جانباً، نظرت خارج النافذة: كان كل شئ هادئاً، لكن الحيوانات ـ الخراف والماعز ـ كانت تنفق، ركضت إلى القبو قلت للجميع: إن ثمة شيئا غير طبيعي.

تملّك الذعر الأفراد الموجودين في القبو، لقد هربوا إلى الطابق السفلي للنجاة من القصف، وكان من الصعب عليهم مغادرة الملجأ، كانت خيوط من النور تدخل إلى الطوابق السفلية من المنازل، لكن الظلام كان يعطي شعوراً غريباً بالراحة، لقد أردنا البقاء مختبئين حتى عندما بدأنا نشعر بالمرض، لقد شعرت بألم في عيني كغرز الإبر، دنت شقيقتي من وجهي وقالت: عيناك كثيرة الاحمرار، ثم بدأ الأطفال بالتقيؤ، واستمروا على التقيؤ. لقد كانوا يشعرون بألم كبير ويبكون بشدة، كانوا يبكون طوال الوقت، وكانت أمي تبكي ثم بدأ المسنّون بالتقيؤ.

لقد ألقيت الأسلحة الكيماوية على حلبجة من قبل السلاح الجوي العراقي، الذي أدرك إن أي ملجأ تحت الأرض سوف يصبح شبيهاً بغرفة غاز.

عرفنا أن في الجو مواد كيماوية، أصيبت أعيننا بالاحمرار، كما إن السوائل كانت تخرج من أعين البعض، لقد قررنا الركض. توجهت وأقاربي إلى الخارج بحذر شديد، وأتذكر أني رأيت بقرتنا مستلقية على جانبها، كانت تتنفس بسرعة كبيرة، كما لو أنها كانت تركض، كانت الأوراق تتساقط من الأشجار مع أنه كان فصل الربيع، لقد مات طير الحجل، كانت هناك سحب من الدخان تصل إلى الأرض وكان الغاز أثقل من الهواء، وكان يدخل إلى الآبار وينزل فيها.

راقبت العائلة اتجاه الريح وقررّت الركض في الاتجاه المعاكس، كانت هناك صعوبة في الركض، لم يتمكن الأطفال من الركض؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة المرض وكانوا منهوكي القوى من التقيؤ فحملناهم على أذرعنا.

أما في المدينة، كانت العائلات الأخرى تتخذ نفس القرارات، لقد قرر بعضهم التوجه مع عائلته إلى عناب، وهو مخيم في ضواحي حلبجة يضّم الأكراد الذين هجّروا عندما دمر الجيش العراقي قراهم، وعلى الطريق إلى عناب، بدأ العديد من النساء والأطفال يقضون نحبهم؛ فقد كانت السحب الكيماوية تغطي الأرض، كانت ثقيلة وكنا نراها. وكان الناس يموتون من حولنا، وعندما كان طفل ما يعجز عن السير، كانت الهستيريا تتملك أهله من الخوف، فيتركونه خلفهم. لقد ترك العديد من الأطفال على الأرض، إلى جانب الطريق، وهكذا الحال بالنسبة للمسنين أيضاً، كانوا يركضون ثم يتوقّفون عن التنفس ويقضون.

كنا نريد الاغتسال أولاً وإيجاد ماء للشرب، وكنا نريد غسل وجوه الأطفال الذين كانوا يتقيئون وكانوا يبكون بشدة ويطالبون بالماء، وكانت هناك بودرة بيضاء على الأرض، لم نكن نستطيع أن نقرر بالنسبة لشرب الماء أو عدمه، لكن بعض الأفراد شربوا من ماء البئر لشدة عطشهم.

أما القصف فقد كان متواصلا بشكل متقطع بينما طائرات السلاح الجوي تحلق بشكل دائري من فوق، كانت تظهر على الناس عوارض مختلفة، لمس أحد الأشخاص البودرة، فبدأت تبرز على جلده فقاقيع.

وصلت إلى المكان شاحنة يقودها أحد الجيران، لقد رمى الناس أنفسهم فيها، وشاهدنا أناساً ممددين متجمدين على الأرض، كان هناك طفل رضيع على الأرض بعيداً عن أمه، ظننت أنهما نائمان، لكن يبدو أن هذه الأخيرة رمته أرضاً ثم ماتت، وأظن أن الطفل حاول الزحف لكنه مات هو أيضاً، لقد بدا كأنهم جميعاً نيام.

وبينما كانت سحب الغاز تغطّي المدينة، كان الناس يشعرون بالمرض والضياع. أحد الأشخاص علق في قبوه مع عائلته؛ قال: إن أخاه بدأ يضحك بشكل هستيري ثم خلع ثيابه، وبعدها بقليل مات، مع حلول الليل، بدأ أطفال العائلة يصبحون أشد مرضاً لدرجة لم يعد بإمكانهم التحرك.

في منطقة مجاورة أخرى، كان شاب في سن العشرين، قد هالته رائحة حلوة غريبة من الكبريت، وأدرك أن عليه إجلاء عائلته؛ كان هناك حوالي مائة وستين فرداً محشورين في القبو. قال: لقد رأيت سقوط القنبلة، كان ذلك على مسافة ثلاثين متراً من المنزل أغلقت الباب المؤدي إلى القبو، سمعت أصوات صراخ وبكاء في القبو، وأصبح الناس يجدون صعوبة في التنفس، شوهد أحد الذين أصابهم الغاز وكان ثمة شئ يخرج من عينيه، كان شديد العطش ويطالب بالماء. أما الآخرون في الطابق السفلي من المنزل بدؤوا يشكون من الارتجاف.

ويقول: كان يوم السادس عشر من آذار يوم عقد قران أحد الشبان. وكانت كل الاستعدادات قد تمّت. كانت عروسه بين أول الذين قضوا في القبو، يتذكر عريسها أنها كانت تبكي بشدة، حاولت تهدئتها، قلت لها: إن الأمر هو مجرد قصف مدفعي، لكن رائحته غير الرائحة العادية للأسلحة، كانت ذكية وتعرف ما الذي يجري. لقد ماتت على السلم، حاول والدها مساعدتها لكن كان قد فات الأوان.

وطال الموت بسرعة أناساً آخرين، حاولت امرأة إنقاذ ابنتها ذات العامين بإرضاعها معتقدة أن الطفلة لن تتنفس الغاز وهي ترضع، لقد رضعت مدة طويلة، وماتت أمها وهي ترضع، لكنها ظلت ترضع. وكان معظم الناس الموجودين في الطابق السفلي من المنزل قد فقدوا الوعي؛ العديد منهم قد مات.

كردي يحكي قصة آلام لم تهدأ

وهذه قصة أخرى يرويها أحد الأخوة الأكراد يبين فيها واحدة من المآسي التي جرت عليهم من نظام الطاغية فيقول:

في الحقيقة عندما يتم الحديث عن جرائم النظام العراقي وانتهاكات حقوق الإنسان في العراق، لا يمكن الإحاطة بهذه الجرائم بكاملها، ولكني سأتحدث بشيء من التفصيل حول إحدى الجرائم، كوني عشت حياة عشرات الآلاف أثناء الترحيل، وأثناء استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام الجائر ضد المدنيين الأكراد، وهي من الجرائم البشعة التي تعرض لها شعبنا الكردي، وهي من أبشع الصور في انتهاك حقوق الإنسان ارتكبت ضد شعب آمن لم يرتكب جرماً.

فاستخدام السلاح الكيماوي له وقع نفسي كبير على الناس، ومجرد ذكر هذا السلاح أمامهم يثير فيهم الفزع والحزن العميق، فالتأثير كان كبيراً، وفعلاً في يوم (24/8/1988) ـ أي بعد الإعلان الرسمي لنهاية الحرب بستة عشر يوماً ـ جاءت الأخبار عن وجود نية لهجوم كاسح، السلاح الأول فيه هو السلاح الكيماوي.

إن الليالي من (24/8/1988 ولغاية 28/8/1988) كانت قمة خوف وفزع ومأساة الجماهير، وكانت ليلة (27/8/1988) من أحرج الليالي، وكان العبور محدد بمناطق لايمكن العبور من غيرها، وهي مناطق محفوفة بالمخاطر، فالطريق الذي كان يعبرون منه لم يكن مستوياً، وقد عبر من واحدة من هذه المناطق أكثر من (13 ألف) كردي، ولم يستطع كل المتواجدين في تلك المنطقة أن يعبروا، لأن الوقت لم يسعهم فكان عليهم أن يتراجعوا وعوائلهم المتعبة الخائرة القوى مع المرضى وحيواناتهم وكل ما يملكون، فاضطروا في اليوم التالي إلى التسليم لقوات الحكومة التي كانت تحاصرهم في يوم (28/8/1988).

والحديث عن المأساة التي حصلت في منطقة كَلي بازي، وكَلي بازي هي قرية في البرواري، للذين لم يستطيعوا العبور إلى مناطق أكثر أمناً، حيث تم حصارهم وبعدما رفضوا الاستسلام لقوات النظام تم قتلهم جميعاً، وفي قرية أخرى قتل (48) رجلاً بعد أن تمت محاصرتهم ولم يسلموا أنفسهم، وفي قرية زيوه، القريبة من بامرني أيضاً تمت محاصرتها والكثير من سكانها الآن في عداد المفقودين لايعرف عنهم شيء حتى بلغ عددهم المئات ولا يعرف لهم مصير، وبهذه الطريقة صفي هؤلاء الناس.

الممارسة الأخرى التي هي بشعة أيضاً: تعامل أجهزة السلطة مع ممتلكات الناس، فقد كانوا يحرقون كل شيء يجدونه في طريقهم، البيوت بكاملها وصولاً للإنسان نفسه.

هذا بعض معاناة الأكراد في العراق، أما من اضطر وهرب إلى تركيا فهناك المعاناة لاتقل مرارة، فواحدة من مناطق المجمعات مجمع ماردين الذي يسمى بالمجمع الرهيب، وهو فعلاً مجمع رهيب وفي هذا المجمع يعيش مايزيد على (16) ألف مواطن عراقي كردي في ظروف صعبة جداً، تتضمن أشكال من المعاناة والآلام، والتهديد بالتسليم للسلطات العراقية بالقوة، والمحاولات بجرهم لقرارات العفو المزعوم من قبل النظام، هذه القرارات التي يعرفها الجميع بأنها زائفة.

__________________

 

 


   

رد مع اقتباس