عرض مشاركة واحدة

قديم 31-08-10, 10:06 PM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
جمال عبدالناصر
مشرف قسم الإتفاقيات العسكرية

الصورة الرمزية جمال عبدالناصر

إحصائية العضو





جمال عبدالناصر غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

لكن الرئيس رونالد ريغان، القادم لسُدة الرئاسة بانتصار زلزالي في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 1980، قاد الأمة الأمريكية إلى الخيار الثاني حيث الهيمنة على العالم. فالقوة الأمريكية هي الأداة الوحيدة لعلاج ثغرة الاحتياجات والموارد. وهذا إدراك واعٍ من الرئيس ريغان لمفتاح الشخصية الأمريكية: الرغبة في الإمتاع الذاتي وليس في الحرمان الذاتي، إنه المفهوم الكمي للحرية وليس ذلك المفهوم النوعي القيمي للحرية التي دعا إليه سلفه المهزوم.

مثلت سنوات ريغان الرئاسية الثماني عصراً من الرفاهية المبتذلة والإسراف المفرط بفضل تخفيضات الضرائب من جهة وزيادة الإنفاق العسكري من جهة أخرى. وهو الأمر الذي فاقم عجز الميزانية الفيدرالية من متوسط 54.5 مليار دولار إبان سنوات سلفه إلى متوسط 210.6 مليار دولار خلال سنوات رئاسته، فصعد الإنفاق الفيدرالي إلى 1.14 تريليون دولار في العام 1989 بعد أن كان 590.9 مليار دولار في العام 1980، ووصل الاعتماد على نفط الخارج إلى 41% من إجمالي الاستهلاك المحلي.

جاء إذن خطاب ريغان في 23 مارس/ آذار 1983 ليوضح -وإن بشكل متأخر- طبيعة الثورة التي جاء بها، حيث أعلن فيه عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي تعني بناء درع صاروخي منيع يجعل الأسلحة النووية للخصم عاجزة بل ومتقادمة. وفي هذا السياق أسس ريغان لثلاثة أعمدة ترتكز عليها السياسة الخارجية الأمريكية في القادم من الزمان، أولها: أن بقدرة الأمة استناداً إلى التقنيات الحديثة تحقيق مناعة عسكرية وهيمنة كونية طالما سعت إليه. وثانيها أن هذه القوة العسكرية، التي أطلق ريغان العنان لاستثمارات إعادة تحديثها، توفر الرد على الأزمة التي طرحها كارتر بقوة في يوليو/ تموز 1979 بالارتكاز على خيار تطويع العالم بغرض إدامة تدفق الموارد المادية المطلوبة لنمط الحياة الاستهلاكية للشعب الأمريكي دون أدنى تنازل. وثالث هذه الأعمدة أنها مهدت لتلك الحرب الكونية ضد الإرهاب التي سيطلق عنانها بوش الابن بعد عقدين قادمين.

يرى باسيفتش أن سنوات تبذير ريغان جاءت بتأثيرين قويين ومتناقضين إزاء السياسة الخارجية. أولهما: ثمة نجاح معترف به في أن الإنفاق العسكري الذي أطلقه الرجل بلا حدود جاء بانتصار حاسم في الحرب الباردة دفع في النهاية بتفكيك الإمبراطورية السوفيتية على خلفية قناعة تامة بعدم جدوى المنافسة مع الخصم الأمريكي. ثانيهما: أن الاعتماد المتصاعد على موارد الخارج، خاصة النفط، مهد الطريق إلى تورط عميق في العالم الإسلامي قاد في النهاية إلى حرب كونية مفتوحة بلا نهاية في أركان هذا العالم. وسياسات ريغان في دعم الإسلاميين في أفغانستان في مواجهة الاحتلال السوفيتي خلال عقد الثمانينات انتهت بنظام إسلامي متشدد انطلقت منه العمليات الإرهابية ضد الأراضي الأمريكية في صباح الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وانتهت كذلك بالجنود الأمريكيين أنفسهم هناك بعد عقد كامل من خروج السوفييت في موقف مشابه كقوة احتلال ضد شعب مجزئ تسكنه هواجس كراهية فطرية نحو المحتل الأجنبي. وهذه هي نفس السياسات الطائشة التي قادت الولايات المتحدة إلى جحيم الخليج وانتهت بكارثة غزو العراق في العام 2003 على يد بوش الثاني.

وقد يكون صحيحاً أن "عقيدة كارتر" في يناير/ كانون الثاني 1980 أسست لإعادة التوجه العسكري الاستراتيجي الأمريكي نحو الخليج لتأمين مصالح حيوية في هذه المنطقة، لكن ريغان الذي اتجه بجيشه الرائع الذي عمل على تحديثه ليس لاحتواء السوفيت كما روج ولكن إلى الخليج لمنع تكرار "الصدمات النفطية" وضمان تدفق دائم له يؤمن مطالب الإسراف الأمريكي في الداخل. ثم من خلال سياسات مشبوهة اتسمت بردود أفعال طائشة في دعم طرفي الحرب العراقية-الإيرانية أسس الرجل لكارثة أمريكية في الخليج سيتولاها أسلافه لا لتصحيحها ولكن لمزيد من التورط.

هكذا واجه بوش الأب دخول صدام إلى الكويت في أغسطس/ آب 1990، حيث قاد حملة عسكرية وفرت نصراً حاسماً أفرز في نهاية الأمر أوضاعاً هزلية تمثلت في التزامات جديدة ووجود عسكري على الأرض في الخليج، هدف لإبقاء الصدام داخل الصندوق، وطرح لأول مرة لدى العديد من العرب والمسلمين رؤية الولايات المتحدة كقوة احتلال قائم.

وهكذا أيضاً -كما يرى باسيفتش- جاءت سنوات كلينتون متسمة باعتماد سياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، ومتسمة كذلك بشهية متصاعدة لاستخدام القوة الجوية وصواريخ كروز في إطار برنامج إنهاك عسكري دون التورط بقوات برية. وجاءت هذه السياسية لتعبر عن إستراتيجية غير مترابطة: حيث أبقت على النظام في العراق من جهة، وتمادت في فرض نظام عقوبات قاس يصعب الدفاع عنه أخلاقياً. وقد نتجت عن تلك العقوبات حياة بائسة لعامة الشعب العراقي وأدت إلى وفاة حوالي نصف مليون طفل كما جاء في تقرير لليونيسيف عام 1996. وقد علقت على ذلك وبصورة غير مسئولة آنذاك المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة مادلين أولبرايت بقولها "اعتقد أن هذا خيار صعب للغاية، ولكن الثمن.. يستحق ذلك"!، فالأمر القائم أنه لا شيء يهم طالما الأمريكيون في الوطن يتمتعون بعقد من الوفرة خلال حقبة كلينتون عندما كانت أسعار النفط منخفضة والنهم للبضائع الآسيوية الرخيصة واستهلاك النفط في تصاعد. لقد قفزت واردات النفط الأمريكية إبان تكلفة الفترة إلى نسبة 50% وزاد عدم التوازن في الميزان التجاري بمقدار أربعة أضعاف وأضيف إلى العجز الفيدرالي الكلي حوالي 1.5 تريليون دولار.

ومن ثم يرى باسيفتش أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عززت فقط قناعة الصقور من المحافظين الجدد في إدارة بوش الابن بأن هيمنة أمريكية صريحة في الخليج ما هي إلا ضرورة أمن قومي بالدرجة الأولى لإدامة نمط الحياة الأمريكية في الوطن الأم. وهذا ما عبر عنه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في أكتوبر 2001 بقوله: "نحن أمام خيارين، إما أن نغير الطريقة التي نعيش بها أو أن نغير الطريقة التي يعيش هؤلاء الآخرون بها ونحن اخترنا الطريقة الثانية". وهكذا فإن ما لم يفعله الرئيس بوش الأب سنة 1991 فعله الابن سنة 2003 بالسير قدماً نحو بغداد لإزاحة النظام كمحطة أولى في مشروع أكثر طموحاً هو إعادة تشكيل العالم الإسلامي أو على الأقل ما أصبحت تشير إليه الإدارة الأمريكية بالشرق الأوسط الكبير. كل ذلك يتم وفقاً لأجندة الحرية الأمريكية التي تخفي وراءها أجندة توسع، تهدف إلى تحقيق الوفرة وعلاج أزمة الإسراف الأمريكية دون الحاجة لمواجهة الخلل الجاري في نمط الاستهلاك الشره في الداخل الأمريكي، بل ودون حتى تعبئة هذه الأمة في حرب كونية ضد الإرهاب شرعت فيها الإدارة الأمريكية. فالرئيس الابن ظل مصراً على خفض الضرائب وعلى دعوة مواطنيه للانغماس في الترف والتسوق، وعلى عدم إعادة التفكير حتى بإعادة نظام التجنيد الإجباري لعلاج الجهد الهائل الواقع على أفراد عسكريين لا يتجاوز عددهم 0.5% فقط من تعداد الشعب الأمريكي.

هكذا وجدت الولايات المتحدة نفسها بجنود يقاتلون معارك يائسة في العراق وأفغانستان، وشعب يمارس نمط حياته الإسرافية في الداخل، وإدارة عاجزة أحياناً وغير راغبة في الغالب في تحويل إمبراطورية استهلاك إلى إمبراطورية تحرير كونية كما تزعم. ومع تصاعد فاتورة الحرب المادية والبشرية في الخارج وتعاظم فاتورة العجز بثغرة متفاحشة بين الاحتياجات والموارد في الداخل تبدو حقيقة هذه القوة العظمى العاجزة عن إدراك كون علاج مشكلاتها هذه يكمن في داخل الوطن الأمريكي ذاته وليس في الخليج.

 

 


جمال عبدالناصر

ليس القوي من يكسب الحرب دائما
وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما



   

رد مع اقتباس