عرض مشاركة واحدة

قديم 03-10-23, 08:22 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


تعويق وتطويق
استعد كمشتكين لمجيء عدوه بوهيمند الأول أمير أنطاكية في زمرته العسكرية، ولسوء طالع الأمير بوهيمند فإنه "وقع بسبب خطاياه في يد عدوّه فكبّله بالسلاسل فكان ذلك نصرًا لدانشمند"؛ حسب مؤرخ الصليبيين وليم الصوري (ت 582هـ/1186م) في تاريخه عن الحروب الصليبية.

كان أسر بوهيمند الأول -وهو أحد عظماء أمراء الصليبيين وقائد حملتهم الأولى- كارثة عظمى سرعان ما بلغ صداها أوروبا؛ فنادى البابا باسكال الثاني (ت 512هـ/1118م) بضرورة التحرك لإنقاذه فتحركت الجموع في إيطاليا وفرنسا وألمانيا لتخليصه والرد على الإهانة التي وجّهها إليهم الأتراك، بعد سنة واحدة من احتلالهم للقدس وأخم مراكز الساحل الشامي!!
وعن تحركهم هذا ومواجهة الدانشمنديين له؛ يخبرنا ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بقوله إنه في ذي القعدة 493هـ/1100م "وصل من البحر سبعة قمامصة (= أمراء) من الفرنج وأرادوا تخليص بيمُند، فأتوا إلى قلعة تُسمى أنكورية [أنقرة] فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين..، فجمع ابن الدانشمند جمعا كثيرًا ولقي الفرنج (بمنطقة ميرسيفان MERZİFON)..، فلم يُفلت أحدٌ من الفرنج وكانوا ثلاثمئة ألف"!!
يؤكد المؤرخون اللاتينيون صحة هذه الأرقام، ويعتبر بعض المؤرخين أن هزيمة ميرسيفان -أو ميرزفوم- تلك في شمال الأناضول بمثابة حملة صليبية "ثانية" تجاهل المؤرخون أهميتها، ولم ينتبهوا لقوة التركمان المسلمين الدانشمنديين فيها. ويضيف ابن الأثير أن كمشتكين استغل هزيمة أعدائه فسارَ "إلى ملَطية فملَكها وأسرَ صاحبها (= جبريل الأرمني)، ثم خرج إليه عسكرُ الفرنج من أنطاكية فلقيهم وكسَرهم وكانت هذه الوقائع في شُهور قريبة"!!
كما أدرك كمشتكين خطورة حملات الصليبيين الذين تتابعت جموعهم بعشرات الآلاف تريد احتلال الأناضول، وأن الصراع بين الإخوة الأتراك -من الدانمشنديين وسلاجقة الروم- لا بد أن ينتهي ليضمنوا تجاوز الأخطار؛ فأرسل إلى السلطان قِلِج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي (ت 501هـ/1107م) يمد إليه يد التعاون والاتحاد في مواجهة هذا العدو، فوافق قِلِج على ذلك العرض.وهكذا حين وصل الصليبيون إلى قونية -عاصمة السلاجقة- وجدوا تحالفا إسلاميا بين الأمراء الأتراك الذين "تربصوا جميعا بالصليبيين على مقربة من هرقلة (شرق قونية)، وعندما انقض الأتراك على الصليبيين في أوائل سبتمبر/أيلول 1101م (ذو القعدة 494هـ) أبادوا الجيش الصليبي أولا عن آخر، ولم يتمكن من النجاة بصعوبة إلا قلة قليلة"؛ وفقا لما ينقله المؤرخ سعيد عاشور (ت 1430هـ/2009م) -في كتابه ‘الحركة الصليبية‘- عن المصادر اللاتينية.
وهكذا أدت انتصارات الأتراك الدانشمنديين وسلاجقة الروم الباهرة على الصليبيين إلى توقف الحملات الصليبية لنصف قرن، وقادت انتصاراتهم تلك إلى انتعاش روح المقاومة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في مرحلة مبكرة من حقبة الاحتلال الصليبي، وجعلت مناطق الشمال في الأناضول بيئة آمنة وقادرة على إعاقة تدفق العدو الصليبي برًّا عبرها نحو الجنوب؛ فأصبحت أوروبا مضطرة إلى دعم وإمداد أبنائها في الشام من خلال البحار فقط.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

أنظمة متخاذلة
كانت بلاد الشام الداخلية -بعد استيلاء الصليبيين على معظم السواحل من أنطاكية شمالا إلى عسقلان جنوبا فضلا عن فلسطين- خاضعة لحكم سلاجقة الشام (471-511هـ/1078-1117م)؛ فكان رضوان بن تُتش بن ألب أرسلان (ت 507هـ/1113م) يحكم حلب وما يجاورها، وأخوه دُقَاق بن تتش (ت 497هـ/1104م) يحكم دمشق وما بحوزتها، وكانا في صراع دائم على النفوذ والسيادة بين شمالي الشام وجنوبيه، مما حيّد الشام عن ساحة الفعل المقاوم قرابة عقدين.

فقد عُرف رضوان -بشكل عام- بانتهاجه سياسة متخاذلة وانتهازية مراوغة يخبرنا ابن الأثير عن بعض جوانبها قائلا: "كانت أمور رضوان غير محمودة.. وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه"!! كما اشتهر بعلاقته الخانعة مع الصليبيين، ومن ذلك أنه كثيرا ما "كتب إلى طنكري (ت 506هـ/1112م) صاحب أنطاكية.. وطلب منه النصرة" لكسب صراعاته مع جيرانه من الأمراء الأتراك.
أما أخوه دُقاق فكان واهن السياسة طوال حكمه، وقد أصيب بـ"مَرض تطاولَ به وتُوفي منه..، فغلبَ [ظهير الدين] طُغْتَكِين (البوري ت 522هـ/1128م) حينئذ على دمشق" بوصفه قائد جيشها فاتخذها إمارة لنفسه وورّثها لعقبه؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.
وبذلك بدأ حُكم سلالة بوري في دمشق حتى سنة 549هـ/1154م، وقد ساهم مؤسِّس إمارتهم طغتكين في مواجهة الصليبيين الملاصقين لهم في فلسطين وسواحل الشام، ففي عام 501هـ/1117م "سار طُغتكين في جُند دمشق فهزمَ الفرنج وأسر صاحب طبرية جرماس (ت بعد 501هـ/1117م)" الصليبي؛ طبقا للذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘. ويضيف أنه في السنة التالية "سار طُغتكين في ألفين فالتقى الفرنج فانهزَمَ جمعُه وثبت هو، ثم تراجعوا إليه ونُصروا" على المعسكر الصليبي.
إذا كان السلاجقة وأمراؤهم في الأناضول والشام قد ساهموا في مواجهة المد الصليبي، وصدوا كثيرا من غاراتهم على القرى والمدن الإسلامية وقوافل التجارة والحج؛ فإن سلاطين سلاجقة العراق وكبار قادتهم العسكريين كان لهم إسهامهم القوي في هذا المجال، بل إن المؤرخين يعتبرون "أتابكية الموصل" هي نقطة الانطلاق الكبرى التي عملت على تحرير الشام من براثن هذا الاحتلال، ثم تأسس على جهدها في الشام ما تلاه من مراحل تحرير ساهمت فيها مصر وانتهت بتصفية الوجود الصليبي.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


صراع معطِّل
والحق أن السنوات التي تلت وفاة السلطان الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان سنة 485هـ/1092م، وحتى وفاة ابنه السلطان بَرْكْيارُوق سنة 497هـ/1104م؛ كانت صراعا أهليا طاحنا بين أبناء ملكشاه على عرش السلطنة، وهي ظروف مؤسفة استغلها الصليبيون لاحتلال بلاد الشام والقدس وارتكاب الفظائع.

وقد عبر المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- ببراعته المعهودة عن العلاقة بين نجاح الغزو الصليبي والصراع بين الملوك المسلمين؛ فقال: "واختلف السلاطين.. فتمكن الفرنج من البلاد"!! وقال أيضا -راصدا نتائج ذلك على الرأي العام الإسلامي حينها- إنه "لمّا استطال الفرنج.. بما ملكوه من بلاد الإسلام، واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضا، تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأموال"!!
وبعد سنوات من الاقتتال الداخلي السلجوقي توصل طرفا الصراع سنة 496هـ/1103م إلى اتفاق يقوم على تقاسم أقاليم سلطنتهم؛ ومن ذلك ما يحدثنا به صدر الدين الحسيني (ت 622هـ/1225م) -في ‘أخبار الدولة السلجوقية‘- من أن الطرفين "اصطلحا على أن يكون للسُّلطان محمد (بن ملكشاه ت 511هـ/1117م) ما وراء النهر الأبيض (يقع شمالي إيران) مع الموصل والشام".
حاول السلطان غياث الدين محمـد بن ملكشاه -ومن بعده ابناه الغريميْن: محمود (ت 525هـ/1131م) ومسعود (ت 547هـ/1152م)- تعزيز قوة الإمارات التابعة لهم في تلك المناطق، وعلى رأسها "أتابكية الموصل" التي ظلت -بدءا من ولاية زعيمها قوام الدولة كَرَابُغا/كَرَبوقا (ت 495هـ/1102م)- تقود الجهود التي تصدت للصليبيين، منذ هجومهم على أنطاكية سنة 491هـ/1098م. يقول ابن العديم (ت 660هـ/1262م) في ‘زُبدة الحلب في تاريخ حلَب‘: "لما نزل الفرنج.. بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد (= المدينة) خندقاً لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم… وجمع كَرَبوقا صاحب الموصل عسكراً عظيماً وقطع به الفرات" لقتال الصليبيين. وهكذا نجد أن كرابُغا -أمير الموصل من قبل السلاجقة- كان يتقدم المساهمين في الدفاع عن أنطاكية قُبيل سقوطها.
وقد خلَفَ كرابُغا الأميرُ جَكرمِش التركي (ت 500هـ/1106م) لذي لم يمنعه صراعه الدامي مع إمارة الأراتقة التركمان -في ديار بكر وشمالي الجزيرة الفراتية- بزعامة سُقمان بن أرْتَق (ت 497هـ/1104م) من التحالف معه لمواجهة الصليبيين في الرُّها (= أورفا التركية اليوم) وأنطاكية؛ فحين أرادوا احتلال حرّان (جنوب تركيا اليوم) "أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع لتلافي أمر حران، ويُعْلمه أنه قد بذل نفسه للهِ تعالى وثوابِه"؛ حسب ابن الأثير.
ولما وقعت المعركة هزم المسلمون الصليبيين "فقتلوهم كيف شاءوا وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم"، ووقع بلدوين الأول (ت 512هـ/1118م) -وهو أمير إمارة الرها الصليبية- في الأسر بعد أن "انهزم في جماعة من قمامصتهم (= أمرائهم)".
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

تحوُّل لافت
وهكذا نجت حرَّان من الاحتلال الصليبي بفضل التعاون والاتحاد بين أتابكية الموصل وإمارة الأراتقة بديار بكر التابعتين سياسيا لسلطان السلاجقة، وبذلك أيضا تحول الجهد المقاوم من الهامش في الأناضول إلى المركز بالشام والجزيرة الفراتية.

وحسب المؤرخ البريطاني ويليام بارون ستيفنسون (ت 1374هـ/1954م) -في كتابه ‘الحروب الصليبية في الشرق‘- فإن معركة حران -أو البَلِيخ- تمخضت "عن نتائج على مستوى كبير الأهمية، فقد أوقفت زحف الصليبيين صوب الشرق، وقضت على آمالهم في التقدُّم نحو العراق، وإتمام سيطرتهم على إقليم الجزيرة الفراتية، كما خيبت مطامح بوهيمند في السيطرة على حلب وتحويل إمارة أنطاكية إلى دولة كبيرة، كما شجّعت رضوان [بن تُتش أمير حلب] على القيام بسلسلة من الهجمات على المواقع المحيطة بحلب، استطاع خلالها أن يجلوهم عنها بمساعدة أهاليها من المسلمين الذين انقضُّوا على حكّامهم الصليبيين" .
وقد واصل "أتابكة الموصل" (ولاتها العسكريون) -بعد جركمش- مواجهة الصليبيين في بلاد الشام شماليها وجنوبيها، وعلى رأسهم الزعيمان جاولي سقاووا (ت 502هـ/1108م) ومودود بن ألتونتكين. وهذا الأخير يعد من كبار الأمراء الأتراك المجاهدين؛ فقد أدرك مودود خطورة إمارة الرها الصليبية في شمال الشام، وعدّها أهم عقبة أمام مشروع التحرير فحاصرها مرارًا.
وفي عام 503هـ/1109م أمر السلطان محمـد بن ملكشاه كلا من أمير الموصل مودود وأمير أرمينية سُقمان القطبي (ت 504هـ/1110م) وأمير ديار بكر إيلغازي بن أرْتَق (ت 516هـ/1122م) "بالمسير في العساكر إلى جهاد الإفرنج وحماية بلاد الموصل..، واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الإفرنج. واتفقت الآراء على افتتاح الجهاد بقصد الرُّها ومضايقتها إلى أن يسهل الله افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها"، على ما يذكره ابن القلانسي في ‘تاريخ دمشق‘.
ولئن استطاع اتحاد الصليبيين -في شمالي الشام وجنوبيها- فكّ هذا الحصار عن الرها وسكانها "كان أكثرهم نصارى"، حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘؛ فإن مجرد عقدِ تحالفٍ بين القوى الإسلامية يهدف إلى "افتتاح الجهاد بقصد الرُّها" كان إنجازا كبيرا، وأعطى مؤشرا قويا باستعادة الطرف الإسلامي في الصراع لزمام المبادرة، وآذن بانتقال الجهد العسكري المقاوم من حالة الدفاع إلى وضعية الهجوم.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

نجم جديد
أسهم أتابكة الموصل -منذ كربُغا وجركمش- في تربية وتأهيل عماد الدين زنكي لأنه كان الابن الوحيد لصديقهم قسيم الدولة آقْسُنْقُر التركماني (ت 487هـ/1094م) "وكان عمره حين قُـتل والده عشر سنين"؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

وعن تلك العلاقة بين عماد الدين ورعاة تربيته من أصدقاء والده؛ يخبرنا ابن الأثير -في كتابه ‘التاريخ الباهر‘- قائلا: "لما ملك [كربُغا] البلاد (= الموصل) أحضرَ مماليك قسيم الدولة آقسُنقر وأمر بإحضار [ابنه] عماد الدين زِنكي، وقال: هو ابن أخي، وأنا أولى الناس بتربيته! فأحضروه عنده..، وملك الموصل [بعده] شمس الدولة جكرمش وأخذ الشهيد عماد الدين وقرّبه وأحبّه واتخذه ولدًا لمعرفته بمكانة والده..، ثم ملَك الموصل -بعد جكرمش- جاولي سقاووا فاتصل به عماد الدين زنكي فظهرت عليه أمارات السعادة والشهامة"!
وتلك التربية الأخلاقية والعسكرية العميقة التي نالها عماد الدين زنكي هي التي ستُحْدث انطلاقة كبرى في مشروع المقاومة الإسلامية تجاه الصليبيين، بدءا من سنة 522هـ/1128م حين عيّنه السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه واليا على الموصل، خلفًا لهؤلاء القادة العظام الذين سبقوه في ميدان المقاومة ومهدوا طريقها طوال عقدين.
جاء اعتلاء زنكي كرسي ولاية الموصل مدعوما بنجاحه في الاضطلاع بمهمات "ولاية بغداد وشرطتها" حين تولاها سنة 521هـ/1127م، وأيضا بتزكية نالها من كبار قضاة وعلماء الموصل، ومن الوزير السلجوقي ببغداد أنوشروان بن خالد القاشاني (ت 532هـ/1138م) "لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج"؛ حسب الذهبي.
ويفيدنا ابن الأثير -في ‘التاريخ الباهر‘- بمدى اتساع هيمنة الصليبيين لحظة تسلم زنكي ولاية الموصل؛ فيقول إنه "كانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وشبختان (تقعان جنوب شرقي تركيا اليوم) إلى عريش مصر، لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماة ودمشق، وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى آمد، ومن ديار الجزيرة إلى نَصِيبِين (جنوبي تركيا) ورأس العين (شمالي سوريا)..، وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة (= مدينة الميادين اليوم) والبر..، ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجًا وإتاوة يأخذونها منهم ليكفّوا أيديهم" عن سكانها!!
أدرك عماد الدين زنكي خطورة الصليبيين واستطالتهم على المسلمين، وأن سبب هذه الاستطالة هو تشرذم المقاومة الإسلامية إلى ولايات متصارعة في أغلب الأوقات بين الأسر الحاكمة في أقاليم المنطقة: أتابكة الموصل، وأراتقة الجزيرة، وسلاجقة حلب، والبوريين في دمشق؛ ولذا عزم على توحيد هذه الجبهات في دولة واحدة ومواجهة الصليبيين في الوقت ذاته، وكان الاختبار عسيرًا في مهمتيْ: التوحيد والتحرير.وفي سنوات قليلة اتسع نطاق إمارة زنكي في جميع الاتجاهات وأزاح أمراء أغلب المدن الكبيرة وضمها إلى حكمه؛ فتواترت لأول مرة أنباء الانتصارات التي كانت معها ترتفع المعنويات وتتحفز الطاقات لمزيد من التوحد والتحرير، كما سرت في أوصال المنطقة روح بعث جديد يؤسس لمشروع تحرير تعززه أجيال متعاقبة وتعتز به. وهو المشروع الذي كانت نواته توحيد زنكي للموصل مع حلب التي توجه إليها سنة 522هـ/1128م فـ"خرج أهل حلب إليه فالتقوه واستبشروا بقدومه، ودخل البلد واستولى عليه ورتب أموره"؛ حسب ابن الأثير.
ويلخص لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- ذلك الزخم الجهادي الذي أحدثه زنكي بقوله إنه "استولى على البلاد وقوي أمره..، وترقت به الحال إلى أن ملك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك، ومدائن كثيرة يطول تعدادها..، واسترجع عدة حصون من الفرنج مثل كفرطاب والمعرة والرها..؛ وكانت البلاد خرابا من الظلم ومجاورة الفرنج فعمرها..؛ حتى إنه لا ينقضي عليه عام إلا وهو يفتح من بلادهم (= الصليبيين)"!! أما ابن الأثير فيجزم بأنه "لولا أن الله تعالى منَّ على المسلمين بملك أتابك [زنكي] ببلاد الشام لملكها الفرنج..، فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين ففعل بالفرنج" الأفاعيل!!
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

أرضية صلبة
وبعد سيطرته على الأوضاع في شمالي العراق والجزيرة الفراتية وشمالي بلاد الشام، وتوحيد جبهاتها تحت قيادته زهاء عشرين سنة؛ تمكّن عماد الدين زنكي -بكثير من الدهاء والحزم وتحيُّن الفرص المواتية- من بناء أرضية صلبة يقف عليها لمواجهة الإمارات الصليبية التي تليه، بعد أن أمّن خطوطه الخلفية من أعدائه أمراء الداخل الإسلامي المتخاذلين؛ إذْ كان هؤلاء "الأعداء محدقين ببلاده وكلهم يقصدها ويريد أخذها"!! طبقا لتعبير الذهبي.

وهكذا انطلق سنة 539هـ/1144م لإسقاط أول إمارة صليبية تأسست في المنطقة الإسلامية شمالي الشام، حين رفع إليه جهاز استخباراته خبرا يفيد بأن أمير الرُّها الصليبي جوسلين الثاني (ت 554هـ/1159م) خرج مسافرا عنها؛ فعندها "نزل زنكي على الرُّها -وهي للفرنج- فنصب عليها المجانيق، ونقَب سورها وطرح فيه الحطب والنّار فانهدم، ودخلها فحاربهم ونُصِر المسلمون..، وخلّص منها خمسمئة أسير" من المسلمين كانوا محتجزين فيها؛ وفقا للذهبي.
وبذلك التحرير -الذي كان درة تاج أعمال زنكي وأكبر منجز للمسلمين منذ بداية الاحتلال الصليبي للمنطقة- صارت الرُّها أولى الإمارات الصليبية سقوطا كما كانت أُولاها تأسيسا!! ثم إن هذا التحرير أزال أيضا أحد فكيْ الكماشة الصليبية عن حلب الواقعة بين الرها وأنطاكية، والتي تعدّ أهم مدينة في سلطان زنكي بعد عاصمته الموصل، بعد أن تمنعت دمشق على السقوط في يده رغم حصاره لها مرات عدة.
وقد أدرك المؤرخ والكاتب عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ/1201م) ما أحدثه تحرير الرها من تحول تاريخي في منحنى الصراع، إذْ بدأ معه العد العكسي لتهاوي الصليبيين؛ فقال حسب ما نقله عنه المؤرخ ابن أبي شامة المقدسي (ت 665هـ/1267م) في ‘كتاب الروضتين‘: "استولى زنكي على الشام.. وهو الذي فتح الرها عنوة..، فتسنى بفتح الرها للمسلمين جوس بلاد [أميرها] جوسلين، وعاد جميعها إلى الإسلام في عهد ولد زنكي نور الدين، وصارت عقود الفرنج من ذلك الحين تُنْفسَخ وأمورها تنتسخ ومعاقلها تُفْرَع (= تفكَّك)"!!
كان فتح الرها خاتمة أمجاد عماد زنكي إذْ لم يعمّر بعده كثيرا؛ ويخبرنا ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بأنه في ليلة 16 ربيع الآخر سنة 541هـ/1146م، وبينما كان زنكي يستعد لفتح قلعة جَعْبر على الفرات؛ تعرض لهجوم فـ"قتله جماعة من مماليكه ليلاً غِيلةً وهربوا إلى قلعة جعبر" التي كان يحكمها غريمه الأمير علي بن مالك العقيلي (ت 546هـ/1151م).


يتبع

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس