عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:39 AM

  رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


قصة مودود

مودود بن التونتكين هو أول شخصية متوازنة تظهر في قصتنا ، تجعل الجهاد في سبيل الله منهجًا واضحًا لحياتها ، وتجعل قتال الصليبيين هدفًا إستراتيجيًّا لا يغيب عن الذهن ، ولا يبعد عن الخاطر , وقد رأينا من سبقه من المجاهدين في القصة يجاهد مرة أو مرتين بسبب ظرف من الظروف ، أو لتكليف من السلطة الأعلى ، أو لردِّ عدوان صليبي على بلاده فقط ، أما أن تكون قضية قتال الصليبيين هي الشغل الشاغل بصرف النظر عن الظروف ، فهذا لم نره إلا في عهد مودود بن التونتكين رحمه الله ، هذا مع كونه يرأس الموصل البعيدة نسبيًّا عن إمارات الصليبيين ؛ مما يثبت أنه لم يكن يفعل ذلك لتأمين إمارته فقط ، ولكن إرضاءً لله ، وحبًّا للجهاد في سبيله .

بدأ مودود رحمه الله بترتيب بيته الداخلي في الموصل ، وإقرار الأوضاع بعد الفتن التي مرت بها الإمارة في السنوات السابقة ، وسار في إمارته بالعدل والرحمة ؛ فأحبه الناس حبًّا شديدًا ، ودانوا له جميعًا بالطاعة ، وأعلن مودود أن جهاده سيكون في سبيل الله ، وهذا جعل جنوده في حالة معنوية عالية ؛ إذ أصبح الجهاد قضية شخصية لكل واحد حيث إنهم جميعًا يعملون لله عزوجل ، أما عندما كان الجهاد في عهود سابقة من أجل أمير معين أو طاعة لأمر قادم من هنا أو هناك ، فإنَّ الجنود حينها كانوا يقاتلون بفتور ويدافعون بغير اكتراث ، ولا يسعدون بنصر ، ولا يحزنون لهزيمة ، وهذه طبيعة الجيوش العلمانية التي تقاتل دون قضية ، لكن مودود رحمه الله جعل القضية واضحة تمامًا في عين شعبه وجنده ؛ مما ترك أثرًا إيجابيًّا رائعًا على إمارته ، ظل ممتدًا لعهود طويلة .

ثم إن الخطوة التالية لمودود كانت رائعة ، وتعبر عن فقه عميق لطريق النصر، وهي خطوة توحيد الجهود، وتجميع الشتات ، والالتزام بالفكر الجماعي وقد فقه التوحيد القرآني الفريد : (وَإعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ، ومن ثَمَّ بدأ مودود في مراسلة من حوله من الأمراء لتجميع جيوشهم تحت راية واحدة ، ولهدف واحد وهو طرد الصليبيين من بلاد الإسلام .

لقد كانت خطوة رائعة ، لكن لم ينقصها إلا شيء واحد ! وهو أن مودود بن التونتكين رحمه الله كان عملاقًا في زمان الأقزام !! فهذه الأهداف السامية وهذه الغايات النبيلة لم تكن تشغل أمراء ذلك الزمن ، ومن ثَمَّ لم تكن استجابتهم عالية ، ومن إستجاب منهم لم يكن سلوكه يدل على فهمه لقضية الجهاد في سبيل الله ، بل كانت المسألة عندهم واحدة من اثنتين : إما رغبًا في نفع أو غنيمة ، وإما رهبًا من سلطة مودود بن التونتكين أو سلطانه الأكبر السلطان محمد السلجوقي ؛ ومع ذلك فقد استطاع مودود رحمه الله أن يكوِّن حلفًا من الأمراء لَفَت أنظار المسلمين إلى ضرورة التوحُّد ، وأعاد إلى الجميع مبدأ تجميع الجهود .

تكوَّن حلف إسلامي منظم لأول مرة في حروب المسلمين ضد الصليبيين ، وكان على رأسه مودود رحمه الله ، ويساعده فيه إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وحصن كيفا ، وهو أخو الزعيم السابق سقمان بن أرتق الذي مات وهو في طريقه لنجدة طرابلس كما بينا قبل ذلك ، وكان في حلف مودود أيضًا سقمان القطبي (وهو غير سقمان بن أرتق بالطبع) ، وهو أمير خلاط وتبريز ، كما تراسل معهم طغتكين أمير دمشق ، الذي كان له - كما ذكرنا - بعض الميول الجهادية ضد الصليبيين .

كانت وجهة هذه الحملة واضحة إذ قرروا التوجه صوب الرها ، والغرض تحرير هذه الإمارة الإسلامية من الاحتلال الصليبي ، وتحركت الجيوش الإسلامية من الموصل في شوال سنة (503هـ) إبريل 1110م ، وفي غضون أيام قليلة وصلت الحملة العسكرية إلى حصون مدينة الرها ، وهي تقع شرق نهر الفرات ، وهي من أحصن القلاع في ذلك الوقت ، وضرب مودود الحصار حول المدينة !

شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بالخطر الشديد ، ومن ثَمَّ أرسل رسالة استغاثة عاجلة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وكان الذي يحمل الرسالة هو جوسلين دي كورتناي شخصيًّا أمير تل باشر ، دلالةً على اهتمام بلدوين دي بورج بالأمر، ووصلت الرسالة إلى الملك بلدوين الأول وهو في بيروت حيث كان محاصِرًا لها آنذاك .

ظل الأمير مودود محاصِرًا لمدينة الرها مدة شهرين كاملين، وقد حاول بكل طريقة أن ينفذ من خلال استحكاماتها العسكرية لكنه لم يفلح لشدة حصانة المدينة، وفي هذه الأثناء كان بلدوين الأول يجمع الجيوش الصليبية للدفاع عن إمارة الرها ، وبالفعل جاء بلدوين الأول بنفسه على رأس فرقة من جيشه ، وجاء معه برترام أمير طرابلس ، بينما رفض تانكرد أن يأتي للخصومة التي كانت بينه وبين بلدوين دي بورج أمير الرها .

رأى مودود رحمه الله أن جيوشه ستحصر بين جيوش الصليبيين، حيث ستخرج له جيوش بلدوين دي بورج ، ويغلق عليه بلدوين الأول وبرترام طريق العودة ، ومن هنا آثر مودود في ذكاء حربي واضح أن ينسحب بجيشه إلى حرَّان جنوب شرق الرها ؛ تمهيدًا للانسحاب أكثر وأكثر لإستدراج الجيش الصليبي ، كما حدث قبل ذلك بست سنوات في موقعة البليخ ، وهناك في حران وافته جيوش طغتكين أمير دمشق لتزداد بذلك القوة الإسلامية .

نظر بلدوين الأول الملك المحنك إلى هذه الترتيبات العسكرية ففهمها وأدرك صعوبة التوغل إلى حران بجيوشهم القليلة نسبيًّا ، فأرسل رسالة عاجلة إلى تانكرد يستحثه على القدوم بجيشه لمقابلة المسلمين في موقعة فاصلة ، وإزاء ضغط بلدوين الأول ، اضطر تانكرد إلى الموافقة ، فجاء على رأس ألف وخمسمائة فارس ، وعند وصوله عقد بلدوين الأول مجلس مصالحة صفَّى فيه الخلافات القديمة بين الزعيمين بلدوين دي بورج وتانكرد !
إضافةً إلى هذه التحركات الواعية من بلدوين الأول تفاوض هذا الملك الخبير مع كوغ باسيل الأمير الأرمني لمدينة كيسوم ، وبالفعل إنضم إليه كوغ باسيل بفرقة من جيشه .

زادت قدرات الجيش الصليبي ، ولكن ذلك لم يكن خافيًا على إستخبارات مودود رحمه الله ، فقرر أن يُمعِن في الانسحاب حتى يستدرج الصليبيين بعيدًا تمامًا عن حصون الرها أو تل باشر ليفتقروا إلى ملجأ في حال هزيمتهم ، غير أن بلدوين الأول كان يلعب هو الآخر مباراة ذكاء مع مودود ، فقرأ الخطة ولم يندفع وراء الجيش الإسلامي ، خاصةً أنه كان الحاكم السابق لإمارة الرها؛ ومن ثَمَّ فإنه يدرك جغرافية المكان ، وخطورة التوغل جنوبًا .

في هذا الوقت ترامت أخبار للملك بلدوين الأول باحتمال هجوم عبيدي على مملكة بيت المقدس، وكذلك وردت أخبار عن تحركات لرضوان ملك حلب صوب بعض القلاع المملوكة لتانكرد حول أنطاكية ، وقد جعلت هذه الأخبار المزعجة الصليبيين في قلق على إماراتهم ، ومن ثَمَّ قرروا الرجوع دون القتال ومع ذلك فقد رأى بلدوين الأول أن ترك هذه المساحات الكبيرة من القرى والضياع والمزارع - وكلها داخلة في حدود إمارة الرها - سيمثل خطورة كبيرة على سكانها الصليبيين والأرمن ، ومن ثَمَّ أصدر قراره بترحيل كل السكان من هذه المناطق الواقعة شرق الفرات إلى غربه؛ وذلك لتفادي هجوم المسلمين عليهم، وعليه فلن يبقى شرق الفرات إلا المدينتان الكبيرتان الرها وسروج .

وبالفعل بدأ الترحيل السريع للسكان تمهيدًا لعودة الجيوش الصليبية إلى أماكنها ، وأدرك ذلك مودود فتقدم بجيوشه شمالاً ، والصليبيون يتراجعون في سرعة ، ومع ذلك استطاع مودود أن يلحق بمؤخرة الجيش الصليبية ، وبكثير من السكان الذين فشلوا في عملية الترحيل المفاجئة ، وهذا أدي إلي إنتصار إسلامي سريع على مؤخرة الصليبيين ، مع إمتلاك عدد كبير من الأسرى والغنائم والسلاح .

لم تكن الموقعة فاصلة بالطبع ؛ لأن معظم الجيوش الصليبية كانت قد عبرت نهر الفرات إلى الغرب ، أو دخلت حصون الرها وسروج ، ومع ذلك فإنَّ الموقعة تركت عدة آثار إيجابية لا يمكن إغفالها :

أولاً : وضعت الموقعة المسلمين على الطريق الصحيح ، حيث كانت الراية المرفوعة هي راية الجهاد في سبيل الله .

ثانيًا : كانت هذه هي الموقعة الأولى التي تجمع فيها جيوش عدة إمارات في جيش واحد ، وخاصةً أن طغتكين شارك فيها بجيش دمشقي مع الجيوش العراقية والفارسية .

ثالثًا : أدرك النصارى في هذه الموقعة أن العزيمة الإسلامية لم تمت ، وأن الأمة الإسلامية لم تنس قضية الإمارات المحتلة ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا نفسيًّا سلبيًّا على الصليبيين .

رابعًا : فَقَد الصليبيون عددًا من الأسرى والغنائم أضافت إلى قوة المسلمين .

خامسًا : إستطاع المسلمون السيطرة على بعض الحصون والقلاع والأراضي شرق الفرات ، ولم يبق في شرق الفرات سوى مدينتي الرها وسروج ، وهما - وإن كانتا في غاية الحصانة – إلا أنهما صارتا معزولتين فقيرتين بعد سيطرة المسلمين على المزارع حولهما ، ولا شك أن هذا سيضعف من إمارة الرها .

وهكذا تركت هذه الحملة إنطباعًا إيجابيًّا مع أنها لم تكن فاصلة ، وعاد مودود إلى الموصل ، بينما رجع كل أمير إلى إمارته .

بدأ المسلمون يشعرون هنا وهناك بأن الأمل ما زال موجودًا ، وأن الواقع الأليم من الممكن أن يُغير ، وشعروا في نفس الوقت أن مودود يقاتل بمفرده وأن الجيوش المتعاونة معه ليست على نفس مستواه ، فأراد المخلصون من أبناء الأمة للحركة أن تتسارع ، وللحميَّة أن تلتهب في صدور الرجال، فقام وفد من أهل حلب، من تجارها وفقهائها وعامتها ، وتوجهوا إلى بغداد ، فقد يئسوا من زعيمهم المتثاقل رضوان ، وهناك إلتقوا مع خليفة المسلمين المستظهر بالله ، ولكنه - كما نعلم - ليس خليفة بالمعنى الحقيقي ، إنما هو صورة خليفة ؛ ولذلك لم يكن لقدوم وفد حلب إليه أثر في قلبه أو عقله ، إنما اكتفى كعادته بسؤالهم عن أحوالهم وظروفهم ، وإبداء الألم والتأسي لما مر بهم ، ووعدهم بالتأييد الكامل لهم قلبيًّا لا فعليًّا !! ووعد أيضًا أن يرفع يده بالدعاء لله أن يرفع الكربة ويزيل الغمة !!

إن الصورة طبيعية ، وردَّ الفعل متوقعٌ من رجل مسكين لا حيلة له لكنَّ أهل حلب لم يقتنعوا بهذه السخافات ، إنما إنطلقوا إلى أهل بغداد؛ يشرحون لهذا ، ويفسرون لذاك ويعرضون الحالة المأساوية التي وصلت لها أمة الإسلام ، وينبهون الغافل أن الدور - وإن كانت الشام هي التي تعاني الآن - سيأتي مستقبلاً لا محالة على الجميع !

والحمد لله أن هذه الكلمات وجدت آذانًا مصغية من أهل بغداد ، ووجدت أيضًا عقولاً فاهمة ، وقلوبًا واعية ، وكان من الواضح أن أثر المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك رحمه الله ، وأثر العلماء الذين ملئوا بغداد علمًا ونورًا ، كان من الواضح أن هذا الأثر ما زال باقيًا ، ومن ثَمَّ كانت ردة الفعل عند الشعب كبيرة ، بل غير مألوفة في هذا الزمن ! لقد نظَّم الشعب في بغداد - وهو شعب كبير - مظاهرةً ضخمة خرجت في أحد أيام الجمعة من النصف الثاني من عام (504هـ)1111م ، وكانت هذه المظاهرة تطالب صراحة بالجهاد في سبيل الله لإخراج الصليبيين من ديار الإسلام وتوجهت المظاهرة إلى مسجد السلطان قبيل الجمعة ، وإقتحمت الجموع المسجد ، بل وذهبوا إلى المنبر في غضب بالغ ، وقاموا بكسره ، والتجمهر في المنطقة ، وتكهرب الجو جدًّا حتى إن صلاة الجمعة لم تقم في هذا المسجد ووصلت الأنباء إلى السلطان محمد فوعد الجموع بالجهاد لتسكين ثائرتهم ، والسيطرة على الموقف ، لكن مرَّ أسبوع ولم يحدث شيء ، فتحركت الجموع من جديد في يوم الجمعة التالي ، وذهبوا هذه المرة إلى جامع القصر بدار الخلافة ، فمنعهم حراس الباب ، فاصطدموا معهم وغلبوهم ، ودخلوا الجامع ، وكسروا شباك المقصورة التي يجلس فيها الخليفة ، وكسروا أيضًا المنبر ، وهكذا لم تقم صلاة الجمعة في هذا المسجد كما حدث في مسجد السلطان في الجمعة الماضية، وصار واضحًا أن الأمر خطيرٌ ، وأن التهاون في ذلك الأمر قد يؤدي إلى كوارث ضخمة ، وهنا كان لا بد للخليفة والسلطان أن يتخذا قرارًا حاسمًا يُنهي المشكلة ؛ ولم يكن أمامهما إلا أحد أمرين : إما موافقة العامة ، وتجهيز جيوش حقيقية لمقابلة الصليبيين في موقعة فاصلة ، وإما إستخدام سلاح القمع مع الشعب ، والتهديد بالحبس والجلد والقتل، وما إلى ذلك من وسائل معروفة !

لكن من الواضح أن الثورة كانت كبيرة ، وأن الشعب كان متحدًا في هدف واحد ، وأن الخطوات كانت منظمة ومرتبة ؛ وكل هذا جعل الخليفة والسلطان يعيدان حساباتهما ، ومن ثَمَّ رضخا لقرار الشعب ، وبدأ بالفعل في تجهيز جيش كبير لقتال الصليبيين ، بل إن السلطان محمد جعل القيادة الاسمية لهذا الجيش لإبنه مسعود ، بينما أوكل القيادة الفعلية للمجاهد الحقيقي مودود بن التونتكين !

لقد كان موقف الشعب في بغداد من المواقف المؤثرة في التاريخ ، وإذا سألنا لماذا لم يقم الشعب في حلب أو دمشق أو حماة أو حمص بمثل هذه المظاهرات والثورات ، لقلنا أن الإجابة بوضوح هي أن الشعب في بغداد رُبِّي على مدار سنوات عديدة على المعاني الفاضلة من العلم والجهاد والنخوة ، وشارك في هذا علماء كُثُر ، لعل كثيرًا منهم قد قضى نحبه الآن، ولم يشاهد هذه الآثار ، ومما يثبت هذا السبب ما ذكره ابن الأثير في كتابه الرائع الكامل في التاريخ أن هذه الثورات في بغداد كانت بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء !

إن المسألة واضحة بينة ! إنهم العلماء !! لو صلح علماء الأمة صلح أمرها ، ولو فسدوا فكيف نرجو صلاحًا ؟! ولهذا ليس من فراغٍ أن يقول رسول الله : "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ" ، وليس من فراغٍ أن يقول : "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" .
وهكذا في أوائل سنة (505هـ)\1111م بدأت تجميع الجيوش الإسلامية على نطاق أوسع ، وكان مركز التجمع هو مدينة الموصل ، حيث الزعيم المجاهد مودود بن التونتكين ، وحيث الشعب الفاهم الذي يمثِّل عماد الجيوش ومركز ثقله ..

وجاءت الجيوش من هنا وهناك ، فخرج الأمير مسعود من بغداد ، وخرج أيضًا سقمان القطبي من خلاط وتبريز (جنوب تركيا وغرب إيران) ، وإياز بن إيلغازي بن أرتق من ماردين ، والأمير الكردي أحمديل أمير مراغة (في أذربيجان) ، والأمير برسق أمير همذان وأولاده الأميران إيلبكي وزنكي ، وأبو الهيجاء أمير إربل ..

لقد كان تجمعًا كبيرًا حقًّا ! ولكننا تعلمنا أن العبرة ليست بالأعداد ، ولكن بالنوعيَّة ، وفي كل هؤلاء لم نكن نرى فيهم من فهم القضية بعمق، وبذل فيها بصدق ، إلا مودود ومن معه من أهل الموصل ، أما غيرهم من الأمراء فإنهم جاءوا طائعين لأمر السلطان محمد لا طائعين لأمر الله، وشتَّان !

وخرج الجيش الكبير في شهر محرم (505) تموز 1111م , وبدأ فورًا في عدة عمليات شرق الفرات تستهدف إسقاط القلاع الصليبية في هذه المنطقة تمهيدًا لحصار مدينة الرها ذاتها ، وبالفعل سقط عدد من المواقع الصليبية ووصل الجيش في سهولة إلى مدينة الرها، وبدأ الحصار !

كانت مدينة الرها على حصانتها المعهودة ، بل إن الصليبيين عندما علموا بقدوم الجيش الإسلامي أمدوها بكثير من المؤن والغذاء لتصبر على الحصار الطويل ، ولم يعزم الصليبيون أبدًا على الخروج لحرب المسلمين ، وكانت النتيجة أن شعر مودود أن الوقت يضيع بلا فائدة ، فحصون المدينة أشد من أن تسقط !

ماذا يفعل مودود ؟!

لقد قرَّر أن يكون واقعيًّا، وأن يفك الحصار عن الرها المنيعة، ويتجه إلى غيرها من حصون الصليبيين، وعليه فقد غادر الجيش الرها إلى المدينة الثانية في إمارة الرها وهي مدينة تل باشر غرب الفرات، والتي كان على رأسها جوسلين دي كورتناي القائد الصليبي المشهور .

وحاصر الجيش الإسلامي مدينة تل باشر حصارًا محكمًا، وحاول بكل طاقته أن يفتح أبوابها ، أو أن يهدم أسوارها ، لكنها كانت منيعة كالرها !

ومرت الأيام صعبة على المسلمين دون بادرة تغيُّر في الموقف، وفي هذه الأثناء جاءت رسالتان من الشام تحملان إستغاثة إلى الأمير مودود .

أما الرسالة الأولى فكانت من أمير شيزر سلطان بن منقذ يخبر فيها أن جيوش تانكرد أمير أنطاكية تهاجم مدينته، وأما الرسالة الثانية فكانت من الخبيث رضوان الذي أبدى رغبته في التعاون مع الجيوش الإسلامية ضد تانكرد أمير أنطاكية الذي يهاجم حلب كما يهاجم شيزر ، ولا شك أن هذه كانت رسائل مفزعة للجيش الإسلامي لأنَّ سقوط مدن إسلامية جديدة ، وخاصةً إن كانت كبيرة مهمة كحلب ، سوف يؤدي إلى تعقيد الموقف أكثر ، وتقوية الصليبيين بدرجةٍ أكبر .

وتردَّد الأمير مودود في رفع الحصار عن تل باشر ، خاصةً أن رضوان غير مأمون ، غير أنَّ الشر والخبث لم يكن عند رضوان فقط ! فقد وصل جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر إلى أحمديل أمير مراغة وأجرى معه مباحثات سرية وَعَده فيها بوعودٍ نظير إقناع الجيش المسلم بفك الحصار عن تل باشر ! إنها الخيانة في أرض الجهاد ، والطعن في الظهر للجيش الذي يُعلِّق المسلمون عليه آمالهم !

وإستطاع أحمديل أن يقنع القادة المزعومين بضرورة التوجُّه لنصرة رضوان ، واجتمع الأمراء على ذلك ، وإضطر مودود إلى الموافقة ، ورفع الحصار عن تل باشر بعد مرور خمسة وأربعين يومًا كاملة .

وتوجَّه مودود بالجيش المسلم إلى حلب ؛ أملاً في ضمِّ قوته إلى قوة جيش رضوان لمواجهة تانكرد الصليبي ، فليس المهم الآن هو إسقاط الرها ذاتها ، ولكن المهم هو تحرير أيّ أرض إسلامية ، ولو كانت بعيدة عن الموصل .

ولكن عند حلب حدث ما كان متوقعًا من رضوان ! لقد أغلق المدينة في وجه جيوش الموصل والعراق وفارس ، وأعلن أنه يخشى من هذه الجيوش أشد من خشيته من جيوش الصليبيين !

وحدثت أزمة كبيرة ؛ فالجيوش الإسلامية الآن توغلت جدًّا في البلاد ، وبَعُدت عن مددها الأصلي في شمال العراق ، ورضوان يُغلِق الحصون الحلبية في وجهها ، ولو جاءت الجيوش الصليبية الآن فسيصبح الموقف صعبًا ، خاصةً أن حصون الصليبيين قريبة في كل مكان ، والمصيبة أن يخرج بلدوين دي بورج من حصونه في الرها لغلق باب العودة على الجيش الإسلامي، ولمنع المدد من الوصول إليهم ! لقد وضع رضوان الخائن جيش المسلمين في مأزق حقيقي !

وإزاء هذا الوضع المتردي أفاق شعب حلب فجأةً، وقرَّر الخروج في مظاهرات عارمة لردع رضوان عن هذا التصرف المشين ، إلا أنَّ رضوان قام باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة ورؤساء القوم، واتخذهم رهائن لتهديد الشعب إذا إستمر في رفضه !!

إنها صورة مكرورة في التاريخ والواقع للقائد الذي يُبدِي كل التخاذل أمام أعداء الأمة ، بينما يبرز سطوته وقهره على شعبه وأهله وأبناء دينه ووطنه !

ووجد مودود نفسه في خطر شديد ، خاصةً أنَّ الأخبار ترامت أن رضوان عقد تحالفًا مع تانكرد نفسه لضرب الجيش الإسلامي ! فقرَّر مودود أن يتجه جنوبًا ليبعد عن حلب ، وليقترب من دمشق حيث إن الأمير طغتكين - وإن لم يكن مجاهدًا من الطراز الأول - أفضلُ من رضوان! وفي حوض نهر العاصي ، وبالقرب من معرَّة النعمان حضر طغتكين أمير دمشق ، والتقى مع مودود الأمير المَكْلُوم من الأمراء المسلمين ، كما هو الحال من الأمراء الصليبيين !

ودارت مباحثات بين زعماء الجيش الإسلامي العراقي والفارسي وبين الأمير طغتكين ، وبدا واضحًا في المباحثات أن طغتكين - مع رغبته في قتال الصليبيين - كان يخشى هذا الجيش الإسلامي الكبير ، ومع هذا الشعور المتوجس فإنَّ طغتكين إستطاع أن يفرِّق بسهولة بين الأمير مودود وبقية أمراء الجيش ؛ فالأول رجل يريد حرب الصليبيين لله ولا يريد ملكًا ولا ثروة ، أمَّا الآخرون فهم كعامة الأمراء في هذا الزمن لا يريدون إلا الدنيا ، وليس لهم في الجهاد نصيب !! ومن هنا نشأت علاقة مودة بين طغتكين ومودود إلا أنه كان يخشى من تأثير بقية الزعماء عليه ، ومن ثَمَّ أصر طغتكين في المباحثات أن تجتمع الجيوش لمهاجمة مدينة طرابلس ليضمن بذلك أن يبعدهم عن دمشق ، وفي ذات الوقت يضربون أخطر الزعماء الصليبيين بالنسبة له وهو برترام بن ريمون أمير طرابلس لقربه من أملاك طغتكين .

لقد كانت تتنازع طغتكين عوامل الدنيا والدين ، ورغبات النفس وأوامر الشرع، فخرجت أعماله مضطربة، لا هي بالجهاد الصريح كمودود، ولا هي بالعمالة الصريحة كرضوان ! وأمثال هذا كثير، وهؤلاء - وإن كان فيهم صلاحٌ - لا يقدرون على التغيير !

وإذا كنا نرى هذه الأزمات الأخلاقية في الجيش الإسلامي ، فإننا رأينا على الناحية الأخرى تماسكًا ملحوظًا في الكيان الصليبي ؛ فقد أرسل تانكرد رسالة إستغاثة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس فورًا، يدعو أمراء طرابلس والرُّها وتل باشر للالتقاء جميعًا للتوحُّد في مواجهة المسلمين !

إن الله له سُنَّة لا تتبدل ولا تتغير ؛ فالجيش الذي يسعى للوحدة بهذه الصورة لا بد أن تكون له رهبة وأثر ، والجيش الذي لا يَقْوَى على التجمع والاتحاد - حتى في أحلك الظروف - جيشٌ لا يُتوقع له نصر !

وتأزَّم الموقف جدًّا في المعسكر الإسلامي ، ودبَّ الرعب في أوصال معظم القادة ، ومات سقمان القطبي فجأةً - لعله من الخوف - فقرَّر جيشه الانسحاب ! وكانت علة مناسبة لهم لتجنُّب القتال ، ومرض برسق أمير همذان ، وقرر أن يعود هو الآخر لبلاده كي يُطبَّب هناك !! فإنسحب جيشه أيضًا أما أحمديل الزعيم الذي تفاوض سرًّا مع جوسلين فقد تعلَّل بوجود بعض المشاكل الداخلية في مراغة فقرر الانسحاب من المعركة ، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر ؛ فهو سيهرب من الصدام مع الصليبيين وكذلك سيسعى لتحصيل جزء من إرث سقمان القطبي الزعيم الذي مات منذ قليل ، كذلك عاد جيش إياز بن إيلغازي إلى بلاده لهدف عجيب وهو الهجوم على جيش سقمان القطبي بعد وفاة قائده ؛ ليغنم ما معهم !! غير أنَّ جيش سقمان إنتصر عليه وغنموا ما معه ، وساروا به إلى بلادهم !

هل يُصدِّق ذلك أحد ؟! هل يمكن للأمراء والزعماء أن يتفقوا جميعًا على الجبن والهروب والخيانة ؟!

إنَّ هذا هو ما حدث بالفعل ! وهو يفسر المصيبة الكبيرة التي ألمت بالمسلمين أيام الحروب الصليبية ، وهو يفسر أيضًا النكبات التي تمر بالأمة في أيِّ فترة من فترات ضعفها ، وليست أحداث 1948 أو 1967 منا ببعيد !!

وجد الأمير مودود رحمه الله نفسه وحيدًا في أرض القتال ، ولم يثبت معه إلا جيشه ، إضافةً إلى طغتكين أمير دمشق ؛ وأقبلت الجيوش الصليبية من كل مكان ، وبلغ عددها ستة عشر ألف مقاتل ، وهو أكبر بكثيرٍ من القوة الإسلامية المتبقية .

في هذا الوضع الخطير جاءت رسالة من أمير شيزر سلطان بن منقذ يدعو فيها الجيش الإسلامي للقدوم إلى شيزر للتحصن بها ، فتتحقق منفعة مزدوجة ؛ فهذا حماية لشيزر من ناحية، وحماية للجيش المسلم من ناحية أخرى ، وبالفعل توجه الجيش الإسلامي إلى شيزر ، وتحصن وراء أسوارها ، وجاء الجيش الصليبي وقد طمع في الجيش المسلم بعد هروب معظمه !

كان موقع الجيش الإسلامي خطيرًا وهو في هذه العزلة عن بلاده ؛ ولذلك لم يرغب الأمير مودود أن يبقى محصورًا في هذه المنطقة، ولم يكن أمامه إلا تخويف الجيش الصليبي لعلَّه يفتح له الطريق للعودة إلى بلاده ؛ ومن هنا قرر الأمير مودود أن يخرج من الحصون ليناوش الصليبيين ثم يعود ، وهكذا حتى يؤثِّر في الصليبيين فيتركوه يعود ، ويرضوا منه بعدم القتال .

وللصدق الذي يراه الله في قلب مودود ألقى سبحانه وتعالى الرهبة في قلوب الأعداد الكبيرة من الصليبيين ، وبدءوا بالفعل يخشون الهجمات الجريئة للجيش المسلم، بل إستطاع الأمير مودود أن يغنم بعض الغنائم من مؤخرة الجيش الصليبي !.

رأى الصليبيون أنه من الأسلم لهم أن يتركوا هذا المجاهد العنيد ليعود إلى بلاده ؛ ليتفرَّغوا هم للملوك الضعفاء في الشام ، أما مودود فكان واقعيًّا ، ورأى أن الإصرار على الحرب نوعٌ من التدمير غير المقبول لجيشه ، ومن ثَمَّ انطلق إلى الموصل ، بينما عاد طغتكين إلى دمشق !

لقد فشلت هذه الحملة في تحقيق مقاصدها ، ولكنها حققت نفعًا واحدًا وهو كشف أوراق هؤلاء الزعماء ، ليس أمام مودود فقط ، ولكن أمام شعوبهم أيضًا ، وعرف الناس على وجه اليقين مَن هو المخلص المجاهد ، ومَن هو المنافق المتثاقل ، ووضوح الرؤية هذا في غاية الأهمية لإكمال المسيرة ، وحتى لا يبني الناس قصورًا من الرمال ، ويُعلِّقون الأحلام الكبيرة على شخصية قد تُحسن الكلام ولكنها لا تعرف عن العمل شيئًا !!

ومع هذه الآلام المركَّبة التي عانى منها مودود رحمه الله فإنَّه لم ينسَ القضية ، مع أنَّ إمارته آمنة ، وبعيدة نسبيًّا عن الخطر، ومع أن ظروفه في بلده مستقرة ، ويتمتع بحبِّ شعبه له ، لكنه كان متجردًا لله ، فاهمًا للدَّور الذي عليه تجاه دينه وأمته ، وهذا الذي دفعه لإستمرار المسيرة مع كل الخيانات التي تعرَّض لها ؛ ولهذا نجده يُعِدُّ جيشه في ذي القعدة من نفس السنة ، أي في سنة (505هـ) أيار 1112م ، ويهاجم فجأة مدينة الرها مرة أخرى! إنه مع صلابة الاستحكامات، وقلة جيشه لا ييأس من تكرار المحاولة، ولكنَّ حصون المدينة كانت أشد من جيوش مودود ، ففكر مودود في مهاجمة مدينة سروج ، وهي مدينة كبيرة تقع في شرق الفرات بالقرب من الرها، وتعتبر المعقل الثاني للصليبيين شرق الفرات، ولكن مودود خشي أن يخرج بلدوين دي بورج من المدينة فيهاجم مؤخرة الجيش الإسلامي ؛ ولذلك ترك قسمًا من الجيش يحاصر المدينة، وذهب بالقسم الثاني لحصار سروج، ولكن - للأسف - وصلت حركة هذه الجيوش إلى جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر، وعرف أن مودود تحرك بقسم صغير من جيشه إلى سروج، فانتهز الفرصة، وأخذ جيشه وانطلق صوب سروج، وهناك إستطاع أن يُلحِق هزيمة بجيش مودود ، وقتل عددًا كبيرًا من رجاله، ويبدو أن مودود كان قد أخطأ التقدير لعدد جيشه ، فتحرك بعدد قليل وسط جموع كبيرة من الصليبيين !

وعلى الرغم من ثقل وَقْع الهزيمة على نفس مودود فإنَّه عاد مسرعًا إلى الرها لينضم ببقية جيشه إلى المسلمين المحاصِرين هناك للحصون .

في هذه الأثناء ، وبينما تدور المعركة حول سروج كان الجيش الإسلامي في الرها قد نجح في عقد معاهدة سرية مع الأرمن في داخل حصون الرها ! ، يتم بموجب هذه المعاهدة تسليم المسلمين إحدى القلاع المهمة التي تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة ، وبالفعل تسلَّم المسلمون القلعة ، وبدءوا يتسربون منها إلى داخل حصون الرها ، وجاء مودود في هذه اللحظات، وأسرع مع جنوده لإكمال إسقاط الرها، غير أنَّ جوسلين دي كورتناي كان قد قرأ هذه الأحداث، ومن ثَمَّ أتى قادمًا بجيشه من سروج إلى الرها، وإزاء هذا الوضع الجديد وجد مودود أن قوَّته المتبقية لن تفلح في هزيمة الجيوش الصليبية المجتمعة، ومن هنا قرَّر مودود رحمه الله الانسحاب مرة أخرى إلى الموصل !

إنها المحاولات المتكررة دون يأسٍ، ولكنَّ الله لم يُقدِّر بعدُ أن تُفتح الرها !

إنه الطريق الصعب للجهاد الذي ينتهي بالجنة دون إعتبار بالنتائج المتحققة ، ما دام الجهد كله قد بذل ، وما أروع أن يكون شهداء أُحُد في أعلى علِّيِّين ، وأن يكون حمزة بن عبد المطلب هو سيد الشهداء في الجنة ، مع أن الجميع قد استشهد في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين ، لكن أدَّوا ما عليهم ، ولم يتهاونوا أو يفرِّطوا !!

لكن قبل أن نستكمل قصة مودود لا بد من الوقوف مع ما حدث في إمارة الرها حين تراسل الأرمن - وهم مسيحيون - مع جيش المسلمين لتمكينهم من السيطرة على المدينة ! إن هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرمن كانوا يرون الحكم الإسلامي للمدينة أرحم وأعدل ألف مرة من الحكم الصليبي الكاثوليكي ؛ مما جعلهم يضحون بأبناء دينهم ، ويتعاونون مع المسلمين ، ولم يكن هذا من رجلٍ دُفع له مال أو وُعِد بشيء ، إنما كان من الشعب في معظمه ، وهذا دليلٌ على صحة تقييم الحكم الإسلامي .

ولم يكن مستغربًا - طبعًا - بعد رحيل مودود أن تُقام المحاكم العسكرية الغاشمة من الصليبيين للأرمن في مدينة الرها ، وكان متوقعًا أن تصدر الأحكام التعسفية ضد الشعب ، وقتل عدد كبير منهم ، ورُحِّل آخرون إلى خارج المدينة ، وصار التعايش بين الأرمن والصليبيين صعبًا للغاية ، خاصةً أن علاقة الأرمن ببلدوين دي بورج كانت مضطربة بعد عودته من الأسر سنة (501هـ)\ 1108م ، أي منذ أربع سنوات سابقة .

وكان من الواضح أن الوضع أصبح خطرًا في داخل إمارة الرها؛ فقد أصبح بلدوين دي بورج يتشكك في كل من حوله مخافة الخيانة والتحالف مع المسلمين ، بل إن بلدوين فَقَد صوابه تمامًا وتشكَّك في جوسلين دي كورتناي، وهو يعتبر الرجل الثاني في الإمارة ، وذلك أنه رأى أن الأرمن يميلون له ويحبونه ؛ فقام بعزله وطرده من الإمارة ، مع أنه قدَّم له خدماتٍ جليلة من أيام أسر بلدوين دي بورج ومرورًا بالمعارك المختلفة مع المسلمين ، وحفظ الأمن في إمارة الرها ، وإنتهاءً بالانتصار على حملة مودود الأخيرة ، لكنَّ هذا هو الذي حدث بالفعل ، وتمَّ إقصاء جوسلين عن منصبه ، فتوجه إلى مملكة بيت المقدس حيث رحَّب به وإستقبله إستقبالاً حافلاً بلدوين الأول ، وقرَّر الإستفادة من قدراته العسكرية الهائلة فأقطعه إمارة طبرية والجليل .

إذن مع فشل حملة مودود العسكرية في سنة (505هـ)\ 1112م إلا أنها أحدثت اضطرابًا كبيرًا في داخل إمارة الرها ، أدَّى إلى قلاقل داخلية وعدم استقرار ، إضافةً إلى إبعاد الخطير جوسلين دي كورتناي عن ساحة الرها .

ومرة أخرى قبل أن نعود لقصة مودود نُعلِّق على حدث آخر محوريّ حدث في هذه السنة ، وهو وفاة تانكرد النورماني أمير أنطاكية في (506هـ)\ 12 من ديسمبر 1112م ، وكانت وفاته خسارة كبيرة للصليبيين حيث تميَّز بالدهاء والشراسة في حربه ضد المسلمين ، ويعتبر هو المؤسس الحقيقي لإمارة أنطاكية ، حيث أدار أمورها ثلاث سنوات حين أُسِر خاله بوهيموند ، ثم أدارها ثماني سنوات أخرى بعد رحيل خاله إلى إيطاليا ، وكان نشيطًا نشاطًا بالغًا ليس ضد المسلمين فقط ، ولكن كذلك ضد البيزنطيين ؛ مما أعطى إمارة أنطاكية شكلاً قويًّا مستقرًّا .

ولمَّا لم يكن لتانكرد وريث شرعي للحكم ، فإنه استخلف - وهو على فراش الموت - شيطانًا مريدًا من شياطين الصليبيين ، وهو روجر دي سالرنو وهو من القادة النورمان الأشدَّاء الذين لم يكونوا أقل دهاءً ، ولا أقل شراسةً من تانكرد نفسه ، وكان زوج أخت بلدوين دي بورج أمير الرها ، فكان في ولايته على أنطاكية توثيقٌ للروابط بين إمارتي الرها وأنطاكية .

ولقد شَرَط تانكرد على روجر دي سالرنو أن يُسلِّم الحكم لابن بوهيموند الطفل ، وهو الذي يُعرف ببوهيموند الثاني ، وكان يبلغ من العمر سنتين فقط ، ويعيش في إيطاليا ، وذلك بعد أن يبلغ هذا الطفل سنَّ الرشد ليتسلم بذلك تركة أبيه ، وقد عُرف روجر دي سالرنو أثناء فترة حكمه بروجر الأنطاكي نسبة إلى أنطاكية ، أو روجر الصقلي نسبة إلى موطنه الأصلي صقلية .

ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه بعد وفاة تانكرد بقليل ، وفي سنة 506هـ\ أوائل 1113م تُوُفِّي أيضًا برترام بن ريمون الرابع أمير طرابلس ، تاركًا حكم إمارة طرابلس لابنه بونز Pons ؛ لينشأ بذلك الجيل الثاني من الأمراء والحكام للإمارات الصليبية في بلاد الشام .

ونعود من جديد لقصة مودود رحمه الله ؛ إستمر مودود رحمه الله في الإعداد لحملة جديدة يهاجم فيها الصليبيين منتهزًا أيَّ فرصة مناسبة للخروج ، ولم يكن مهتمًّا كثيرًا بالاتجاه إلى إمارة صليبية معينة ، بل كان غرضه هو تحرير البلاد الإسلامية كلها ، وليس مكانًا معينًا بذاته ، فكان أن أرسل إليه طغتكين أمير دمشق يستغيث به في أواخر سنة (506هـ)\ مايو 1113م ، حيث توقَّع صدامًا مرتقبًا مع بلدوين الأول ملك بيت المقدس .

والواقع أن طغتكين كان قد دخل عدة مناوشات مع ملك بيت المقدس ، وخاصةً حول مدينة صور اللبنانية ، وكانت مدينة صور هي المدينة الوحيدة في قطاع لبنان التي لم تسقط في يد الصليبيين ، ولم ينسها بلدوين الأول بل وجَّه إليها قوة عسكرية لإسقاطها ، فإستغاث أهلها بطغتكين، فتوجه إليها بقوة من جيشه ، وإستطاع الدفاع عنها ببسالة ، بل إنه قال لأهلها : "أنا ما فعلت هذا إلا لله تعالى ، لا لرغبة في حصنٍ أو مال ، ومتى دهمكم عدوٌّ جئتكم بنفسي ورجالي" .

والواقع أن مستقبل الأحداث صدَّق هذا الكلام ، حيث لم يطالب طغتكين أهل صور بدفع مال له نظير الحماية ، ولا شك أن هذا التطوع منه أغضب بلدوين جدًّا ، فكانت النتيجة أنه بدأ يهاجم الضِّياع والأملاك الواقعة جنوب دمشق ، مستخدمًا في ذلك الحامية القوية الموجودة في منطقة الجليل وطبرية بقيادة القائد المتحمِّس الجديد جوسلين دي كورتناي ، بل لم يكتفِ بلدوين الأول بذلك ، بل أخذ في مهاجمة القوافل الدمشقية المتجهة إلى القاهرة ، والتي كانت تسلك طريقًا بعيدًا في الداخل لتهرب من مملكة بيت المقدس ، إلا أنَّ بلدوين الأول كان يترصدها في وادي موسى جنوب البحر الميت ، فينهب ما بها من ثروات وبضائع ، ويعتدي على التجار فيها ؛ ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شعر طغتكين أن هناك من التحركات الصليبية والإعدادات ما يشير إلى إحتمال هجوم كبير على جنوب دمشق أو دمشق ذاتها ؛ مما دفعه إلى الإستنجاد بالزعيم الحقيقي الموجود في المنطقة وهو مودود بن التونتكين رحمه الله .

وجد مودود رحمه الله أن هذه فرصة مناسبة مع خطورتها ، ووجهُ الخطورة أنه سيقاتل بهذه الصورة في عمق دمشق بعيدًا جدًّا عن إمارة الموصل ، حيث ستكون الموقعة غالبًا جنوب دمشق (أكثر من ألف كيلو من الموصل) ، ثم إنه سيقاتل أقوى جيوش الصليبيين ، وهو جيش مملكة بيت المقدس، إضافةً إلى احتمالية أن يُغلِق عليه الصليبيون في الرها وأنطاكية طريقَ العودة إلى الموصل مما قد يوقعه في خطر شديد ، ومع ذلك فقد قَبِل مودود أن يلبي نداء طغتكين دون تردد، وخرج بالفعل على رأس جيشه صوب دمشق في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي وصلت فيه الاستغاثة من طغتكين .

وكان من الأمور المهمة التي تشغل ذهن مودود ، وهو في طريقه إلى دمشق، أنه سيمرُّ جنوب إمارة الرها أو قد يخترق بعض أملاكها، وهذا - لا شك - قد يعرِّض جيشه لهجوم صليبي، خاصةً أن العلاقات بينه وبين إمارة الرها في غاية التوتر لتكرار هجومه عليها وحصاره لها ، إلا أنَّ الله مهَّد له الطريق ببعض الأحداث التي مهدت له الطريق، وشغلت الصليبيين في داخل إمارة الرها بأنفسهم ؛ ذلك أنه قد سَرَتْ إشاعة في داخل الإمارة في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي خرج فيه مودود من الموصل، أنَّ الأرمن يُراسِلون من جديدٍ المسلمين للخلاص من الصليبيين ، وسواء كانت هذه الإشاعة صحيحة أم باطلة فإنَّ ردَّ فعل بلدوين دي بورج كان عنيفًا للغاية ؛ إذ أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير عرقي بشعة في داخل المدينة لكل الأرمن بلا إستثناء ، ومن ثَمَّ إنطلق الجنود الصليبيون على تجمعات الأرمن العُزَّل يقتلون ويذبحون ، ثم فتحوا أبواب المدينة ليهرب منهم من يريد إلى خارج المدينة التي عاشوا فيها عمرهم ، وفيها كل ممتلكاتهم وأموالهم ، فمنهم من خرج لا يلوي على شيء، ومنهم من بقي في داره ، فكان من يبقى يدخل عليه الجنود الصليبيون فينهبون داره ، ثم يحرقونها بسكانها من الأرمن! وكان من أبشع أيام هذه المجزرة - كما يروي المؤرخ الأرمني متَّى الرهاوي - يوم 13 من مايو 1113م، حيث انتشرت المذابح بالجملة، وكان أسود يوم في تاريخ الأرمن مطلقًا، حتى كان الأب - كما يصور متَّى الرهاوي - لا يعرف أبناءه، ولا الأبناء يعرفون آباءهم ، بل كان كل واحد ليس له من همٍّ إلا الهرب، وإنتهى الأمر بقتل أو طرد كل الأرمن من المدينة بلا استثناء ! ولا شك أن هذا الموقف جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في إمارة الرها في غاية الاضطراب ، مما جعل بلدوين دي بورج لا يفكر مطلقًا في مهاجمة جيش مودود ، ولا التجرُّؤ على قطع طريق عودته ، فكان هذا تدبير ربِّ العالمين للمجاهد المؤمن مودود بن التونتكين !

ومع كل ما حدث من خيانات سابقة من الأمراء المسلمين الذين صحبوا مودود في معاركه مع الصليبيين ، فإنَّ مودود دعا إلى التجمُّع من جديد لحرب الصليبيين مرسِّخًا بذلك مبدأ الوحدة والتجمع حول راية واحدة، وقد إستجاب له في هذا النداء قميرك أمير إمارة سِنْجَار ، وهي من إمارات ديار بكر في شمال العراق ، وكذلك إياز بن إيلغازي أمير ماردين، إضافةً - طبعًا - إلى طغتكين أمير دمشق الذي وجَّه الدعوة إلى مودود .

تجمعت الجيوش السلجوقية عند مدينة سَلَمْيَة ، وهي إلى الجنوب الشرقي من حماة ، ثم اتجهت مباشرةً إلى مدينة طبرية الحصينة ، وهي تطل على بحيرة طبرية المعروفة في فلسطين ، وهناك إلتقى جيش مودود مع جيش طغتكين ، وبدآ حصارًا سريعًا لمدينة طبرية إلا أنها إستعصت عليهم ، فتركها الجيش الإسلامي وأخذ في غزو المناطق المحيطة مستوليًا على قدر كبير من الغنائم والممتلكات الصليبية حتى وصلوا إلى جبل الطور .

ووصلت الأخبار سريعًا إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، فأرسل رسالة استغاثة عاجلة لكل الإمارات الصليبية ، فردَّ عليه بالإيجاب أمير أنطاكية الجديد روجر الأنطاكي ، وكذلك أمير طرابلس الجديد بونز بن برترام ، وتحركا بجيوشهما فعلاً في اتجاه طبرية ، أما بلدوين دي بورج فقد إعتذر للظروف التي تمر بها إمارته كما وضحنا .

ومع كون بلدوين الأول قد أرسل طلبًا للمعونة إلا أنه لم يستطع أن ينتظر الجيوش الصليبية القادمة من الشمال ؛ لأنه خشي أن تتوغل الجيوش الإسلامية في مملكته ، مما قد يهدِّد مدينة القدس ذاتها ، خاصةً أن مدينة عسقلان لم تزل في يد العبيديين ، وقد تحصر القدس بين الجيوش السلجوقية والجيوش العبيدية ؛ ولذلك خرج بلدوين الأول بسرعة شمالاً في اتجاه طبرية .

عَلِم مودود بتحرك الجيش الصليبي من الجنوب فأسرع باختيار مكان مناسب للقتال ، وإختار شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة ، والموجودة بين نهر الأردن ونهر اليرموك جنوب بحيرة طبرية، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصب كمينًا خطيرًا لبلدوين الأول عند جسر الصنبرة على نهر الأردن جنوب غرب بحيرة طبرية .

وفي يوم 13 من محرم 507هـ\ 20 من يونيو 1113م , شاء الله أن يدخل بلدوين الأول في الكمين الذي نصبه مودود له عند جسر الصنبرة ، بل إنه في رعونة بالغة - لا تُفسَّر إلا بأن الله أعمى بصره - لم يترك حامية صليبية تحمي ظهره ، وكأنه نسي كل القواعد العسكرية التي تعلمها طوال حياته !

دارت موقعة شرسة عند جسر الصنبرة - وهي ما عرفت في التاريخ بموقعة الصنبرة وكان للمفاجأة عاملٌ كبير في تحويل دَفَّة المعركة لصالح المسلمين، وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي ، وقتل ما يزيد على ألفي فارس ، وهرب بلدوين الأول بمشقة بالغة بعد أن دمرت فرقة من أهمِّ فرق جيشه ! وغنم المسلمون غنائم هائلة في هذه المعركة من الخيول والسلاح والممتلكات ، وكان يومًا ردَّ فيه مودود رحمه الله الاعتبارَ من هزيمة السنة الماضية عند حصون الرها ، ومما هو جدير بالذكر أن هذه المعركة شهدت بزوغًا رائعًا لنجم إسلامي جديد كان في جيش مودود ، وهو القائد العسكري الفذُّ عماد الدين زنكي ، الذي أبلى بلاءً حسنًا في هذه الموقعة حتى وصف ذلك ابن الأثير بقوله : "وقد وصل في المهارة العسكرية إلى الغاية !" .

ثم ما لبثت الأخبار أن أتت بقرب وصول جيش روجر وبونز ، مع إحتمال وصول إمدادات جديدة من بيت المقدس والمدن الساحلية ؛ مما جعل مودود يفكر في سحب جيوشه بسرعة قبل أن تُحصر في طبرية .

خرج مودود فعلاً من منطقة المعركة ليتجنب الوقوع في كمائن الصليبيين ، ثم ما لبثت الجيوش الصليبية أن تجمعت من جديد ، لكنها لاحظت قوة الجيش الإسلامي وارتفاع معنوياته فقرَّرت عدم الدخول في مواجهة فاصلة ؛ ولذلك إحتمت بأحد المرتفعات غربي بحيرة طبرية ، وتوجه إليهم المسلمون وحاصروهم ، لكنَّ الصليبيين رفضوا النزول من أماكنهم ، وإكتفوا برمي المسلمين بالسهام والرماح من بُعد .

في هذه الأثناء كانت الجيوش الإسلامية - إضافةً إلى حصار الصليبيين في أماكنهم - تجوب المنطقة لتدمير الحصون الصليبية فيما بين عكا والقدس ، كما حصلوا على كثيرٍ من الممتلكات الصليبية .

ثم إنه في هذه الأثناء أيضًا تحرك جيش عبيديّ من عسقلان صوب بيت المقدس ، وكان جيشًا صغيرًا لم يفكر إلا في إحداث بعض الهجمات الاستنزافية في المنطقة ، ولم تكن له القدرة على قتال الحامية الصليبية القوية في بيت المقدس ، ومع ذلك فقد أرعب هذا الجيش بلدوين الأول الذي خشي من تواصل هذا الجيش مع الجيش السلجوقي ، ومن ثَمَّ يتأزم الموقف أكثر، إلا أنه - للأسف - لم تكن نية التعاون مع المسلمين السُّنَّة واردة مطلقًا عند الجيش العبيديّ ؛ لذلك ما لبث أن عاد إلى عسقلان محمَّلاً ببعض الغنائم دون التواصل مطلقًا مع جيش مودود !
استمر حصار المسلمين لجيش الصليبيين مدة ستة وعشرين يومًا كاملة دون أن يجرُؤَ الصليبيون على الخروج لمواجهة شاملة ، إلا أنه في (507هـ) أغسطس 1113م وصل أسطول أوربِّي يحمل ستة عشر ألف حاج صليبي مسلح إلى ميناء عكا القريب ، ولا شك أن هذا العدد الضخم قَلَب الموازين لصالح الصليبيين .

شعر مودود رحمه الله بالخطر نتيجة تجمع هذه الأعداد الكبيرة من الصليبيين ؛ ولذلك فكَّر في الانسحاب من طريقه مكتفيًا بالنصر الذي حققه ، ومحافظًا على جيشه الذي لم يفقد في هذه المعارك إلا القليل جدًّا من رجاله، وبالفعل تحركت الجيوش الإسلامية صوب الشمال في إتجاه دمشق ، ولم تفكر الجيوش الصليبية في متابعتها لإرهاقها الشديد ، وهزيمتها النفسية نتيجة الخسائر الكبيرة ، فضلاً عن خوفهم من هجوم عبيديّ أكبر على مدينة القدس .

وهكذا رضي الطرفان بهذه النتيجة ، وإتجهت الجيوش الإسلامية إلى دمشق حيث دخلتها في ربيع الآخر (507هـ) سبتمبر 1113م .

ولا بد لنا من وقفة سريعة مع موقعة الصنبرة التي كان لها الكثير من الآثار الجليلة في قصتنا :

أولاً : أعادت هذه الموقعة الثقة للجيش الإسلامي وللمسلمين بصفة عامة ، خاصةً بعد النتائج السلبية للحملات السابقة، وهي بذلك تعتبر من معارك ردِّ الاعتبار ؛ ولذا فقد رَفَعت الروحَ المعنوية جدًّا للمسلمين ، بينما أحبطت الصليبيين ، وخاصةً أنهم لم يجرءوا على المواجهة برغم اجتماع جيوشهم .

ثانيًا : خسر الصليبيون في هذه المعركة أكثر من ألفي فارس ، إضافةً إلى الغنائم والأسلاب ، فضلاً عن خسارة عددٍ كبير من القلاع والحصون التي دُمِّرت في منطقة طبرية ، بل وجنوبًا حتى مدينة القدس .

ثالثًا : ترسَّخ لدى المسلمين بعد هذه الموقعة مبدأ الهجوم على القوات الصليبية بدلاً من الدفاع ، وهذا - لا شك - مبدأ عسكريّ إستراتيجي مهم ، ويحتاج إلى روح قتالية عالية ، وثقة بالنفس ، وهو ما تحقق في هذه الموقعة .

رابعًا : وضحت أهمية الوحدة في الجيش الإسلامي ، حيث تمت الموقعة باتحاد الموصل مع دمشق في الأساس ، إضافةً إلى المساعدات الرمزية التي قدمها قميرك أمير سنجار ، وإياز بن إيلغازي أمير ماردين .

خامسًا : ولعل من أهم ثمرات موقعة الصنبرة هو علو نجم البطل الإسلامي العظيم عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب ، وقد أظهر في هذه المعركة من فنون القتال وبسالة الهجوم ما لفت إليه أنظار الجميع ، وطارت أخباره في الآفاق ، مما سيؤثر مستقبلاً في مسيرة الجهاد بصفة عامة ، ولا شك أننا سيكون لنا وقفات مع هذا المجاهد الفذِّ ، نستعرض فيها قصته بشيء من التفصيل .

دخل مودود بن التونتكين رحمه الله مدينة دمشق في 507هـ\ سبتمبر 1113م ، عازمًا أن يبقى فيها فصل الشتاء ؛ ليستغل هذه الفترة في تجميع جيوش جديدة والاستعداد لمواجهة جديدة مع الصليبيين .

هذا ما كان يريده ، لكنَّ أعداء الأمة ما كانوا يريدون ذلك ، بل أضمروا صورة مقيتة من الغدر قلَّ أن نجدها في صفحات التاريخ !!

وما يحزن القلب حقًّا أن أعداء الأمة الذين نعنيهم في هذا الموقف ليسوا من الصليبيين، لكنهم كانوا من أبناء الإسلام!! أو من الذين يدعون ظاهريًّا أنهم من أبناء الإسلام!!
لقد دخل مودود رحمه الله إلى مسجد دمشق الكبير لأداء الجمعة الأخيرة في شهر ربيع الآخر سنة (507هـ) تشرين الأول 1113م، وفور انتهاء الصلاة ، وبينما هو يتجول في صحن المسجد واضعًا يده في يد طغتكين ، قفز عليه رجل من الباطنية ، وطعنه بخنجر ؛ فلقي مصرعه على الفور ، ليختم بذلك حياة حافلة بالجهاد والبذل والعطاء ، ونحسبه شهيدًا ، ولا نزكيه على الله ، والله حسيبه !

وبادر طغتكين فورًا بقتل الباطنيّ قصاصًا ، بل وأحرق جثته ، وأسدل الستار على أبشع جريمة ارتكبها الباطنية منذ حادث إغتيال نظام الملك الوزير السلجوقيّ العظيم .

ولكن لا بد من التساؤل : مَن وراء هذه الجريمة البشعة ؟ ومن المستفيد من قتل عَلَمٍ من أعلام المسلمين كانت الآمال معقودة عليه ليحرِّر البلاد المسلمة من دنس الصليبيين ؟

لقد روَّج رضوان زعيم حلب أن طغتكين أمير دمشق هو الذي حرَّض على قتل مودود رحمه الله ، وإلتقط هذا الترويج المؤرخون الأقدمون مثل ابن الأثير وابن القلانسيّ وأثبتوه في كتبهم ، ولكنهم ذكروه بصيغة الشك والتضعيف، حيث قالوا : "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله " .

ثم تلقف المؤرخون المعاصرون من المسلمين والنصارى هذا الاتهام وأثبتوه ، وكان من الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاعتقاد سرعة قتل الباطني وإحراق جثته ، وقالوا : إن هذا نوع من إخفاء الأدلة ، والتخلص من سرِّ الجريمة .

وأنا في اعتقادي أن المحرِّض على الجريمة لم يكن طغتكين؛ فالذين يعتقدون أنه طغتكين يرون أن أمير دمشق عندما رأى قوة مودود وجيشه خاف أن يكون كل غرضه من حرب الصليبيين هو امتلاك دمشق والشام ؛ ولذلك تخلص منه قبل أن يضيع ملكه !

وهذا الكلام مردود من أكثر من وجه :

أولاً : لم تظهر من مودود رحمه الله أيُّ نوايا غدر بطغتكين أو غيره ، بل كان في غاية التسامح حتى مع مَن خانوه في أرض المعركة ، وكان لا يريد أن يشغل نفسه بمعارك جانبيَّة مع المسلمين، وخَبُر ذلك طغتكين بنفسه - وهو سياسي محنك - وذلك على مدار ثلاث سنوات كاملة من جهاد مودود ضد الصليبيين .

ثانيًا : أعاد مودود رحمه الله جيشه إلى الموصل بعد انتهاء موقعة الصنبرة ، ولم يدخل دمشق إلا في وفد صغير من خاصَّته ، ولو كان ينوي الغدر لأبقى جيشه معه، وهذا - لا شك - طمأن طغتكين .

ثالثًا : أثبت ابن الأثير نفسه في كتاب الكامل قبل الحديث عن موقعة الصنبرة أن هناك علاقة "مودة وصداقة" نشأت بين طغتكين ومودود .

رابعًا : ليس من المعقول أن يتخلص طغتكين من مودود ، وهو يعلم أنه القوة الوحيدة التي يستطيع أن يحتمي بها إذا دهمه الصليبيون ، ولا شك أن طغتكين كان يتوقع انتقامًا من الصليبيين بعد موقعة الصنبرة ، فليس من المعقول أبدًا أن يختار هذا التوقيت فيشجع الصليبيين على سرعة الانتقام .

خامسًا : شاهدنا من طغتكين مواقف جهادية ضد الصليبيين أكثر من مرة ، واطَّلعنا منه على بعض المواقف الإيمانية، مما يوحي أنه ليس رجلاً غادرًا إلى الدرجة التي يُقدِم معها على قتل أمل المسلمين وإغتيال الرجل الصالح مودود ، وهذا لا يعني أن طغتكين ليست له أخطاء ، بل إرتكب وسيرتكب أخطاء قد تكون كبيرة إلا أنَّ جريمة بشعة مثل اغتيال مودود لا بد أن تستند إلى دليلٍ قوي ، إن كان المتهم فيها هو طغتكين .

سادسًا : ليس بالضرورة أن تكون سرعة التخلص من القاتل دليلاً على أن طغتكين هو الآمر بالقتل ؛ فإن طغتكين فعل ذلك لكي لا يُتهم بالتواطؤ مع القاتل ، والرضا بفعله ، ونحن نرى في مثل هذه الحوادث أنه يتم القبض على القاتل ثم يُسهَّل له الهرب بعد أن يقبض الثمن ، وليس من المقبول أيضًا أن طغتكين غدر بالقاتل لأنه من الباطنية ، وقد مرَّ بنا أن طغتكين كان يخاف من الباطنية، فليس متوقعًا أنه يغدر بهم مخافة أن يُقتل هو شخصيًّا.
سابعًا: إن لم يكن هناك دليل قوي على أن طغتكين هو الذي قتل مودود، ألا يجب أن نسأل مَن أكثر المستفيدين من قتل مودود ، ثم نُوزِّع الاتهامات على المشتبه فيهم بدلاً من إلقائها بالكلية على طغتكين ؟!

الواقع أن المستفيدين من قتل مودود كُثُر ؛ هناك في مقدمة هؤلاء المستفيدين رضوان ملك حلب، الذي قد يكون أسرع باتهام طغتكين لينفي التهمة عن نفسه، ورضوان يكره مودود كراهية كبيرة جدًّا، ويخافه أيضًا خوفًا شديدًا جدًّا، ولا ينسى رضوان أنه أغلق أبواب مدينته في وجه مودود وجيشه سنة 505هـ، أي قبل سنتين فقط ، ووضع بذلك مودود وجيشه في مأزق خطير، بل إن رضوان تحالف ساعتها مع تانكرد أمير أنطاكية ضد مودود ! وأكثر من ذلك فإنَّ رضوان رأى من شعبه مظاهراتٍ تطالب بفتح الأبواب لمودود، فلا يستبعد أن يطالب الشعب الآن بضم حلب تحت إمرة مودود، وخاصةً بعد الانتصار المهيب الذي تحقق في معركة الصنبرة، والذي - لا شك - رفع أسهم مودود عند أهل حلب والمسلمين بصفة عامة ، ثم إنَّ حلب هي الإمارة الملاصقة للموصل، وكثيرًا ما رأينا أن الذي يحكم الموصل يحكم حلب أيضًا؛ ولذا فتوسُّع مودود فيها يُعتبر توسعًا طبيعيًّا، إضافةً إلى أن علاقة رضوان بالباطنية قوية، بل إنه صار من دُعاتها والمؤيدين لها، وذلك على خلاف طبيعة شعبه ومعتقداته ؛ كل هذه الأدلة تشير إلى أن رضوان هو المستفيد الأكبر من قتل مودود ، فإذا زدنا على ذلك أن رضوان يبغض طغتكين جدًّا ، ويخشى من توسُّعه على حسابه في إمارة حلب، بل كان يبغض أخاه دقاق زعيم دمشق السابق، وكان يقاتله في أحيانٍ كثيرة طمعًا في زيادة ملكه ، وكذلك هناك في تاريخ رضوان جريمة اغتيال مشابهة عندما أوعزإلى الباطنية أن يقتلوا جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص بعد أن خاف على ملكه، مع أنَّ جناح الدولة كان متزوجًا من أمِّ رضوان شخصيًّا، لكنَّ هذه العلاقات لم يكن رضوان يضع لها أيَّ اعتبار ، ومن ثَمَّ فيتوقع منه أن يُقدِم على أيّ جريمة في سبيل تثبيت أقدامه في الحكم؛ إذا وضعنا هذه النقاط إلى جوار بعضها البعض فإنني أرجح أن يكون رضوان هو الذي دفع لهذه الجريمة الشَّنعاء .

ومع ذلك فليس رضوان هو المستفيد الوحيد من قتل مودود، فهناك أيضًا الباطنية أنفسهم، ودون تحريض من أحد، وقد كانوا قوةً لا يُستهان بها في الشام حتى كان يخافهم أكبر زعماء الشام : رضوان وطغتكين ، ولا شك أن ظهور شخصية مستقيمة مجاهدة سُنِّية كمودود ، قد يُغلِق على الباطنية أبواب الفساد، ويمنعهم من حياة المجون والجريمة، وقد اشتهروا بحوادث الاغتيال المأجورة، ولا يستبعد أنهم قاموا بالجريمة من جَرَّاء أنفسهم .

كما أن من المستفيدين أيضًا الصليبيين ، وليس من المستبعد أن يتعاون الصليبيون مع زعماء الباطنية ، ويغرونهم بالمال أو بالسلاح أو بالقلاع في نظير التخلص من هذا القائد الفذِّ الذي أوشك على قلب أوضاع الصليبيين تمامًا في أرض الشام ؛ وليس من المستبعد أيضًا أن تكون الجريمة قد تمت بالاتفاق بين الأطراف الثلاثة : رضوان والباطنية والصليبيين ، أو باتفاق طرفين منهم ، وكلهم عندي أقرب إلى هذه الجريمة من طغتكين أمير دمشق .

ولعلَّ سائلاً يسأل : كيف يُقدِم باطنيٌّ على هذه الجريمة وهو يعلم أنه سيُقتل لا محالة؟ وأيُّ معتقدٍ هذا الذي يدفع إلى هذه العمليات الانتحارية مع كون الباطنية منحرفي الفكر ، مذبذبي العقيدة ، بل هم خارجون بلا جدالٍ عن ملة الإسلام ؟

إن طائفة الباطنية الإسماعيلية كانت قد انقسمت إلى فرقتين - كما مرَّ بنا في مقدمات هذا الكتاب - هما المستعلية والنزارية، وهما أولاد الخليفة العبيديّ المستنصر بالله ، وذلك بعد موت المستنصر في سنة (487هـ) ، وتنازع الولدان الحكم، ولكن وزير مصر آنذاك وهو بدر الجماليّ وضع المستعلي - وهو الأصغر - في الحكم ، وكان هناك أحد الوزراء الكبار في مصر وهو الحسن بن الصباح، وكان مؤيِّدًا لإمامة نزار ؛ ولذلك فبعد تولية المستعلي انسحب الحسن بن الصباح من مصر إلى الشام آخذًا معه نزار، ومؤسِّسًا فرقة شنيعة من فرق الشيعة اسمها النزارية الإسماعيلية، وهي التي عُرفت في التاريخ باسم الباطنية؛ لأنهم كانوا يدَّعون أن كل آية في القرآن لها معنًى ظاهري يفهمه عوام الناس، ومعنى باطني لا يفهمه إلا هم، وعليه فقد فسروا القرآن على هواهم ، ومن ثَمَّ خرجوا بتفسيراتهم ومعتقداتهم من الإسلام تمامًا ؛ ثم إن الحسن بن الصباح - الذي تولى الزعامة الحقيقية في هذه الفرقة الضالة - كان يُسقِي أتباعه الحشيش (وهو النبات المخدِّر المعروف) فيخرج التابع عن الوعي، ومن هنا يبدأ في الطاعة المطلقة للشيخ، وهو الحسن بن الصباح .

ثم إنَّ الحسن فعل ما هو أشد من ذلك، إذ أنشأ لهم حدائق واسعة سمَّاها الجنةَ ، وأتى فيها بكل أنواع الثمار، وغرس فيها الأشجار، بل وأجرى فيها عدة أنهار صناعية صغيرة، وملأها كذلك بالفتيات رائعات الجمال ، ثم كان يُعطِي الحشيش لأصحابه حتى يغيَّبوا تمامًا عن الإدراك، فيأتي بهم إلى هذه الجنة ، وينتظر أن يصبحوا بين المنام واليقظة، فيأتي لهم بألوان الطعام والشراب ، ويرتكب الأتباع الفواحش مع النساء، ثم يُعطى الحشيش حتى يغيب عن الوعي ثانية، ويُخرج من هذه الجنة، وعند يقظته يُقال له : لكي تعود لا بد من طاعة الشيخ (الحسن بن الصباح) ؛ وهكذا يتكرر معه الأمر، حتى يصبح مدمنًا للحشيش، ويصبح أيضًا مدمنًا للجنة وملذاتها، ثم يطلب منه في يوم من الأيام أن يقوم بعملية اغتيال انتحارية على أن ينتقل بعدها للإقامة الدائمة في الجنة !!

ولا شك أن الباطنية كانوا يختارون أتباعهم من بسطاء الفكر والدين، ومن الفقراء المقهورين ، ومن الأعراب الجاهلين، فيصبحون بذلك طوع إرادة قادتهم يفعلون بهم ما يشاءون .
وكانت الباطنية بصفة عامة يحترفون القتل بكل فنونه، ويجيدون تدبير المؤامرات، وحوادث الاغتيال، وكانوا عصابات مسلحة يصعب السيطرة عليهم، ومن ثَمَّ كان اسمهم يوقع الرهبة في قلوب عموم الناس، حُكَّامًا كانوا أو محكومين !

ولكونهم كانوا يدمنون الحشيش فإنهم عُرفوا في التاريخ بالحشَّاشين، وجرائمهم في تاريخ الأمة لا تحصى، نجحوا في كثير منها، وأخفقوا في أخرى، لكنهم كانوا دومًا مصدر رعب وهلع، ووسيلة عرقلة مستمرة لمسيرة الصالحين!
لذا لم يكن يستغرب أبدًا بعد هذا العرض أن يُقدِم باطنيٌّ على عملية انتحارية لقتل رجل من الرجال بتحفيز زعيمهم؛ لكي يدخل الجنة المزعومة ، أو على الأقل ليحصل على الحشيش الذي تعوَّد إدمانه !!

وفي النهاية ، فإن الحقيقة الكاملة في هذه الجريمة الشنيعة لا يعلمها إلا الله ، والمهم في القضية أن الأمة فَقَدت زعيمًا عظيمًا من زعمائها، حمل راية الجهاد ضد الصليبيين في وقتٍ تقاعس الجميع عن حمل هذه الراية الشريفة، ولا شك أن الأيام التي أعقبت إستشهاده كانت صعبة على المسلمين ، غير أني - وقبل الدخول في تحليل الوضع بعد استشهاد مودود - أودُّ أن أقف على حدثين عجيبين ، ووجه العجب ليس في حدوثهما ، ولكن في (توقيت) هذا الحدوث !

أما الحدث الأول فهو ظهور نجم عماد الدين زنكي في موقعة الصنبرة ، وقبل استشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ! والتوقيت عجيب جدًّا ، فلماذا لم يظهر منذ فترة طويلة؟ ولماذا لم يظهر بعد وفاة مودود بفترة طويلة أخرى؟ نعم إن هذا بتدبير الله وقدره ، ولكننا نبحث عن الحكمة في ذلك، وعن الإشارات المهمة في هذا التدبير المحكم .

إن هذا الظهور في هذا التوقيت لهو إشارة واضحة من الله عزوجل أن هذه الأمة لن تموت، فإذا فقدنا زعيمًا ظهر آخر، وإن إستشهد مجاهد قام غيره ، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، وهذا - لا شك - يحفظ الأمل في قلوب المسلمين ، وراجعوا التاريخ ، فلن تجدوا استشهاد أمل من آمال الأمة إلا متبوعًا بظهور أمل جديد ، وهذا من أخصِّ خصائص هذه الأمة الفريدة !

أما الحدث العجيب الثاني فهو موت رضوان ملك حلب بعد إستشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ، في شهر جمادى الآخرة سنة (507هـ) ديسمبر 1113م !!

وعجيب جدًّا أن يموت في نفس الفترة التي مات فيها مودود، سواء كان رضوان مُدبِّرًا لحادث اغتيال مودود أو كان بريئًا منه؛ لأن سيرة رضوان القبيحة كانت معروفة ، وليست جريمة إغتيال مودود هي الجريمة الوحيدة من جرائمه ، أو الكبيرة الوحيدة من كبائره !! لقد كانت الإشارة واضحة جدًّا أن الإنسان لا يؤجِّل ميعاد موته ولا يقدِّمه، فالكل يموت ؛ الصالح يموت والطالح يموت ، المخلص يموت والمنافق يموت ، المجاهد المقبل الطالب للشهادة يموت ، والمتثاقل المدبر الهارب من الموت يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، ولكن الإنسان هو الذي يختار طريقة موته ! إما أن تموت رافعًا رأسك طائعًا لربك مصحوبًا بدعوات الصالحين ، وإما أن تموت ذليلاً مهينًا عاصيًا لله عزوجل مصحوبًا بلعنات المؤمنين ، والعبد في النهاية هو الذي يختار !! وأسأل الله أن يفقهنا في سننه !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس