عرض مشاركة واحدة

قديم 03-10-23, 08:28 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

استطاع صلاح الدين السيطرة على مصر التي سرعان ما أصبح وزيرها المطلق التصرف خلفا لعمه شيركوه، فحقق لسيده نور الدين حلمه بتوحيدها مع الشام بإنهائه حكم الفاطميين الذي تواصل 210 سنوات! وهو ما يشرح لنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في كتابه ‘السلوك‘- كيفية تحقُّقه؛ فيقول: "فوّض العاضد (آخر خليفة فاطمي ت 567هـ/1171م) وزارته إلى صلاح الدين ونعته بالملك الناصر، فمشّى الأحوال وبذل الأموال..، ثم إنه دأب في إزالة الدولة الفاطمية..، ومات العاضد وقد قطع صلاح الدين خطبته [على المنابر]، وأمر الخطباء بالدعاء للمستضيء بنور الله (الخليفة العباسي ببغداد ت 577هـ/1181م)"!!
توفي السلطان نور الدين محمود في عام 569هـ/1174م بعد أن "سهَّلَ [الله] على يديه في فتح الحصون والقِلاع، ومكَّنَ له في البلدان والبقاع"؛ وفقا لتعبير لابن عساكر. وهنا تبرز أمامنا مجددا مشكلة وراثة العرش التي نواجهها إثر غياب كل قائد من قادة مشروع التحرير للأقطار الإسلامية من الاحتلال الصليبي، منذ عهد ولاة الموصل حين اغتيل أميرها آقْسُنْقُر البُرْسُقي (ت 520هـ/1126م) -على أيدي الحشاشين الذين قتلوا عددا وافرا من خيرة أمراء وعلماء المقاومة- وحتى نهاية الدولة الأيوبية.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



توطيد للتوحيد
ترك السلطان محمود زنكي ابنا صغيرًا في حلب هو الصالح إسماعيل (ت 577هـ/1181م) الذي كان يتحكم فيه الأمراء والوزراء ويستغلون وجوده في تحقيق مصالحهم الشخصية. وقد أدرك صلاح الدين خطورة هذا الأمر في ظل اشتعال الصراع مع الصليبيين، وجسامة التفريط في المنجزات الضخمة التي تحققت -حتى تلك اللحظة- على صعيد توحيد الجبهة الإسلامية.

وهكذا سعى صلاح الدين لإزاحة سيطرة الصبي الألعوبة عن أكبر قدر ممكن من البلاد التي كانت تحت حكم أبيه نور الدين، وأراد أن يتسلم مباشرة راية مشروع التحرير مرسّخا وجوده باعتباره الوريث الحقيقي لجهود نور الدين الذي كان قدوته في كل شيء؛ فقد "كان صلاح الدين لا يخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوي الأمين، ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين"؛ وفقا لابن أبي شامة في ‘كتاب الروضتين‘- نقلا عن عماد الدين الأصفهاني الذي كان كاتبا خاصا لصلاح الدين.
باشر صلاح الدين مواصلة إستراتيجية سلفيْه عماد الدين زنكي ونور الدين محمود في ضرورة ترسيخ وتوسيع جبهة التحرير؛ لكنها هذه المرة أصبحت جبهة مصرية شامية يجب توحيدها -في نطاق التماس مع الصليبيين- من الرُّها وحرّان إلى جنوب أسوان. وكان كبار أمراء دمشق مدركين لهذه الحقيقة؛ فأرسلوا -قبل وفاة الصالح إسماعيل بسبع سنوات- سنة 570هـ/1174م إلى "صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر واستدعوه ليُملكّوه عليهم"؛ طبقا لابن الأثير.
تمكَّن صلاح الدين من توحيد مصر والشام والجزيرة الفراتية والحجاز وحتى اليمن جنوبا وإقليم برقة كاملا بليبيا غربا، وأعانه على ذلك ما كان يتحلى به من سمات القيادة العبقرية والحازمة؛ فقد وصفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال: "كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر"!! كما "كان الناصر [صلاح الدين] عظيم الهيبة، عالي الهمة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا لا يفوته أمر مما يجري في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام"؛ طبقا لابن واصل الحموي.
وانطلاقا من موقعه الوحدوي القوي ذاك؛ شرع الناصر منذ عام 575هـ/1179م في مواجهة الصليبيين -محاربةً أو محاصرةً- من حصن حارم في أقصى الشمال السوري إلى الكرك والرملة وعسقلان في أقصى الجنوب، وعبر أساطيل البحرية الإسلامية في البحرين الأحمر والمتوسط. ولذا وصفه ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بأنه "ما برحت سراياه تقصد الفرنج: فتارة تواقع طائفة منهم، وتارة تقطع الميرة عنهم"!!
استغرقت جهود التوحيد تلك من الناصر صلاح الدين زهاء عشر سنين، مدّ فيها جهود برنامج نور الدين سلفه للإصلاح المجتمعي الشامل إلى مصر، وحرّر فيها أيضا كثيرا من معاقل الصليبيين؛ ثم توّج ذلك كله بانتصار حطّين العظيم على الصليبيين في رجب سنة 583هـ/1187م، وأتبعه بفتح الفتوح -الذي عمت به الاحتفالات بلاد الإسلام– حين استعاد القدس والمسجد الأقصى في هذه "السنة الغراء التي طهَّر الله فيها الأرض المقدسة من نجاسة الشِّرْك [الصليبي]، بعد أن مكثت مُرتهنة في أيدي الكفّار نيفًا وتسعين سنة"؛ وفقا لابن واصل.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


فتح مبين
وإذا كان ابن واصل يجزم بأنه "مُذْ ملَك الفرنجُ البلادَ الساحلية واستولوا عليها لم يقع للمسلمين معهم يومٌ كيومِ حطين"؛ فإن موِّثق نصوص تاريخ الحروب الصليبية سهيل زكّار (ت 1441هـ/2020م) ينقل لنا -في الجزء الـ38 من ‘الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية‘- كتاب رحلة الراهب الدمينيكاني فيلكس فابري (ت بعد 888هـ/1483م) الذي يقول فيه:

"لم تكن هناك معركة في جميع زمان وجود المملكة اللاتينية في الشرق قد سُفكت فيها دماء صليبية مثلما سُفك في ذلك اليوم؛ فقد تهاوت في ذلك اليوم قوى الصليبيين كلها في الشرق وانهارت..؛ وهلك في هذه المعركة المحزنة جدا جميعُ النبلاء ورجال الحرب، باستثناء قلة أُخِذوا أسرى كان من بينهم الملك" الصليبي غي دي لوزنيان (ت 590هـ/1194م)"!!
وقد أدرك صلاح الدين أن عصب القوة الصليبية يكمن في فرسان تنظيميْن دينيين عسكرييْن هما: "الداوية" (فرسان المعبد) و"الإسبتارية" (فرسان القديس يوحنا)؛ فهما أشبه بـ"قوات خاصة" أو "قوات نخبة" صليبية طالما أرهقت المسلمين وقتلت وأسرَت منهم على مدار عشرات السنين.ولعل مردّ حزم صلاح الدين مع هذين التنظيمين هو ما سجله الرحالة الأوروبي فيلكس فابري -السابق ذكره- من أنه في حطين "كان أكثر الذين تميزوا بالشجاعة [من الفرنج] هم الاسبتارية والداوية"!! وبينما قُتل قائد الإسبتارية فإن "مقدم الداوية" كان ضمن الأسرى مع الملك. وهو المعنى نفسه الذي ذكره ابن الأثير حين قال إن صلاح الدين -رغم ما اشتهر به حتى بين الصليبيين أنفسهم من حلم وعفو- "كانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداوتهم للمسلمين وشجاعتهم"!!
ولذا نجد أنه بعد انتصار حطين "رأى السلطان [صلاح الدين] أن عيْن المصلحة تطهيرُ الأرض من هذين الجنسيْن النجسيْنِ؛ فأمر بإحضار كل داويّ وإسبتاريّ ليمْضي فيهم حكم السيف، وجعل لكل من يأتيه بأسير منهما خمسين دينارا (= اليوم 10 آلاف دولار أميركي تقريبا)، فأُتِي في الحال بمئتين منهم"؛ حسب المؤرخ ابن واصل.
عزّز صلاح الدين نصر حطين والقدس بفتح الكثير من البلدات والحصون التابعة للصليبيين على الساحل الشامي، أوصلها الذهبي -في السِّيَر‘- إلى أكثر من ثلاثين موضعا؛ وكان حلمه الذي طالما راوده هو تطهير البلاد أجمعها منهم، ثم نقل المعركة مجددا إلى أوروبا التي جاؤوا منها!!
فقد أورد كاتبه ابن شداد الموصلي -في ‘النوادر السلطانية‘- حوارا دار بينهما على شاطئ المتوسط؛ فكان مما جاء فيه: "قال [لي صلاح الدين]: أما أحكي لك شيئا في نفسي! إنه متى يسّر الله تعالى فتح بقية الساحل.. ركبتُ هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم (= الصليبيين) فيها.. أو أموت"!! لكنه أدركته الوفاة قبل أن يحقق حلمه هذا فـ"تأسف الناس عليه حتى الفرنج لما كان من صدق وفائه"؛ وفقا للذهبي.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


انتكاسة مؤقتة
دخلت الدولة الأيوبية بمصر والشام -بعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ/1193م- في صراعات اشترك فيها أبناؤه الثلاثة فيما بينهم، ثم فيما بينهم وبين عمهم أبي بكر بن أيوب (ت 615هـ/1218م) الذي تلقب بـ"العادل" بعد أن آل إليه الحكم في مصر، لكننا -كما يقول الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- نجد أحيانا أنه كان "من سيئات العادل [هذا أنه] يدع جهاد الفرنج ويقاتل المسلمين"!!

وإثر وفاة العادل؛ سرعان ما تجدد الصراع على العرش ولكن هذه المرة بين أبنائه الثلاثة: المعظّم عيسى (ت 624هـ/1227م) والأشرف موسى (ت 635هـ/1238م) في الشام، والكامل محمـد (ت 635هـ/1238م) في مصر؛ وهو صراع مرير لم يتورع بعض أطرافه عن خيانة الأمانة والاستعانة بالصليبيين ضد الطرف الآخر!!
وقد استنزفت هذه الصراعات الداخلية طاقات الملوك الأيوبيين، فحرفتها بعيدا عن النهج الذي سارت وفقه الأحداث منذ عهد عماد زنكي وحتى وفاة صلاح الدين، ولذا افتقدت أنشطتهم الجهادية -في الغالب- روح المبادرة وصارت مجرد ردّات فعل لهجمات الصليبيين على الأراضي الإسلامية في دولتهم المترامية الأطراف، حيث استغل الصليبيون هذه الصراعات فأعادوا نشاطهم على طول الساحل الشامي.

يتبع

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس