عرض مشاركة واحدة

قديم 11-11-09, 04:21 PM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

ثانياً: خصائص استراتيجية الردع في الإسلام

أما استراتيجية الردع الإسلامية، فإنها تتميز بخصائص مميزة، ولعل سرّ تميّزها هو أنها تتفق مع روح الإسلام وجوهره الذي هو دين الإسلام، كما أنها تنسجم تماماً مع جوهر العقيدة العسكرية الإسلامية التي غايتها وديدنها هو الطابع السلمي غير العدواني، ومن هنا اختلفت استراتيجية الردع الإسلامية عن الاستراتيجيات العسكرية الأخري ولا سيما المعاصرة بخصائص فضَّلتها على الجميع، ومن تلك الخصائص:

1.أنها لا تؤدي إلى سباق التسلّح الذي يعانيه العالم اليوم، وذلك نتيجة لفقدان الثقة بين الدول الكبرى وشعوب العالم الثالث، وكان ذلك بسبب انتشار الأطماع التوسعية والاستعمارية، وسيادة منطق القوة كما نلاحظه اليوم في استراتيجية أمريكا والغرب، وعلى العكس من ذلك، فإن تمسّك الأمة الإسلامية بعقيدتها الإسلامية التي تحرِّم الاعتداء والسلب، ولا تقاتل إلاّ لرد الاعتداء، أو إعاقة نشر الدعوة. كل ذلك يبعث في الشعوب الطمأنينة والثقة في حسن نوايا الأمة الإسلامية، مما يؤدي إلى نشر الإسلام، وحب الخير للبشرية، وهذا بالتالي يقلل من تسابق الأمم في إحراز السلاح، ويخفّف من حدة التوتر ولا يغري بإشعال الحروب.

2. أنها ليست استراتيجية حرب بقدر ما هي استراتيجية تهديد باستخدام القوة، ولا يغيب عن القارئ الكريم أن أسلوب الردع الذي هو هدف الاستراتيجية الإسلامية يختلف تماماً مع أسلوب الحرب، فالردع يستهدف كما عرفنا منع العدو من اتخاذ قرار باستخدام القوة.

3. أن تفوقها الساحق لا يغري العسكريين باستخدام القوة، أي أنَّ الأمة الإسلامية لا تتعدى حدود الردع مادام يحقق الهدف منه، وهو إخافة العدو ومنعه من استخدام القوة، فليس العدوان غاية من غايات الحروب في الإسلام، حيث لم تشرع الحرب في الإسلام إلاّ لإعلاء كلمة الله إذا عاقها عائق، أو لرد الظلم والعدوان، كما عرفنا سابقاً.

4. أنها استراتيجية دفاعية هجومية تمتلك عنصري الحركة والمفاجأة إلى جانب الدفاع عن النفس(14): فهي ذات طابع دفاعي، لأنها تتفق مع غاية الحرب في الإسلام، فهي غاية غير عدوانية وقد وصف العسكريون استراتيجية الردع المقصورة على الدفاع أنها قليلة الفائدة، وذلك لأنها تقتصر على منع الخصم من أن يجر على نفسه عملاً يخشاه، ومع ذلك فإنها استراتيجية تمتلك القدرة الهجومية بجانب طابعها السلمي الدفاعي، فهي لا تقبل الاستسلام، لقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْل) (15)؛ فكلمة (قوة) هنا نكرة عامة تجمع كل أنواع القوة الهجومية والدفاعية، وقد فهمنا القدرة الهجومية من قوله: (رباط الخيل). وإذا كان العسكريون يرون أن العقيدة العسكرية ذات الطابع الدفاعي فقط لا يكون لها تأثير قوي ذو بال في الردع إلاّ إذا توفَّرت لديها القوة الهجومية؛ وذلك لأن مفتاح الردع هو القدرة على التهديد، كما تعتمد استراتيجية الردع الإسلامية على عنصرين مهمين يُعتبران من أهم العناصر الاستراتيجية العسكرية، وهما: (الحركة، والمفاجأة).

وكما عرّفناهما في الآية السابقة (رباط الخيل)، لأن الرباط هو الحراسة والاستعداد للقتال السريع والفوري، ناهيك عما تتميز به الخيل من السرعة وخفة الحركة والمباغتة. ومما يؤكّد عنصر المباغتة تلك الآيات من صورة العاديات، حيث يقول الله تعالى:(وَالعَادِياتِ ضَبْحَاً فَالمُورِياتِِ قَدْحَاً فَالمُغِيراتِ صُبْحَاً فأَثَرْنَ بِهِ نَقْعَاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعَا) (16). وقد اشتملت هذه الآيات على عنصري الحركة والمفاجأة، فالحركة نراها في قَسَمِه تعالى بالخيل السريعة التي يسمع ضبحها من شدة الجري، والتي يتطاير الشرر من تحت حوافرها من شدة قدحها للأرض الحجرية، فالحركة تشمل المحيط الطبيعي، حيث طبيعة الأرض، وظروف المناخ، والتوقيت الصالح للإغارة، والتحرُّك، وإمكانات النقل للقوى المتحركة، وهذا ما لمسناه في الآية الكريمة، حيث الخيل السريعة والأرض الحجرية، وقد أشار الشيخ عبدالجليل عيسى (17) في تفسيره للخيل بمعنى أوسع، حيث أشار بها إلى كل ما يعدو ويغير ويثير الغبار، ويرسل الشرر، وبذلك يكون اللفظ صالحاً لكل زمان ومكان، حيث يدخل في هذا التفسير الطائرات المغيرة، والقنابل بأنواعها، والصواريخ، فكل هذا يثيرالغبار ويرسل الشرر والنيران.

أما عنصر المفاجأة كما هو مفهوم من الآيات، فهي عملية سيكولوجية نفسية توثّر على رغبة الخصم وإرادته في القتال، كما يفهم من الآية التي جمعت الاثنين معاً أن كلاً منهما يؤثر على الآخر؛ فالحركة تولّد المفاجأة، والمفاجأة تمنح قوة دفع للحركة، مما يجعلها تتغلب على قوة العدو بسرعة. والمتتبع للخطط العسكرية الإسلامية عند أغلب قادة المسلمين يجدها لا تخلو من هذين العنصرين، وهذا ما يميز استراتيجية الردع الإسلامية عما سواها من الاستراتيجيات، وقد انتصر (صلاح الدين) في موقعة (حطين) بهذين العنصرين، حيث أَجبر الصليبيين في اليوم الثالث للقتال أن يهبطوا من الجبل، ويتحركوا في سفح جبل (طبرية)، حيث سيطر (صلاح الدين) على آبار الماء، كما جعل العدو في مهب الريح، وقام بإشعال النيران في الحشائش فانبعث منها دخان كثيف، فاجتمع على الأعداء حر الصيف، وحر العطش، وحر السيوف مما جعلهم يستسلمون.

5. أن استراتيجية الردع الإسلامية لها قدرة على التوفيق التام بين الغاية والوسيلة، ويؤدي هذا التوفيق بلا شك إلى عديد من المزايا تفتقدها الاستراتيجية الغربية، فإن هذا التوفيق يؤدي إلى منع نشوب القتال، مما يترتب عليه الاقتصاد التام في القوة من النواحي المادية والمعنوية، وهذا في النهاية يفضي إلى السمة العليا، وهي إعلاء كلمة الله، وخدمة الأهداف الإسلامية. أما ما لحظناه من استراتيجية الردع الأمريكية في (أفغانستان) و (العراق) فهو تخبّط ترتب عليه آثار مفجعة نالت الآمنين، وقضت على كثير من الماديات والاقتصاديات، بل قضت على الحضارة الإنسانية بأكملها بما تم نهبه من اثار بلاد الرافدين.

ولا غرو في ذلك، فإن معنى الاستراتيجية عند كثير من العسكريين الغربيين قد قصروها على الموقعة الحربية لتحقيق الهدف وجعلوا الحرب هي الوسيلة الوحيدة لذلك، وانظر إلى ما كتبه (كلاوزفيتز)(18) فيلسوف الحرب عن معنى الاستراتيجية العسكرية، حيق يقول: "إن لدينا وسيلة واحدة فقط في الحرب وهي المعركة"، كما أنه يقول: "إن الحرب تنازع بين المصالح ولا يمكن حسمه إلاّ بالدماء، وبهذه الدماء وحدها تتميز الحرب من غيرها من صور التنازع الأخرى في البقاء والتي تقع بين الجماعات والأمم".

6. أنها استراتيجية تهيئ الفرص الجادة لحل المنازعات بالطرق السلمية دون الاتجاه للحرب، وهذا ما تسعى إليه الأمم المتحدة اليوم بمنظماتها وهيئاتها المتعددة، على الرغم من فشلها الملموس في حل أغلب مشكلات العالم، وذلك لتحكُّم أمريكا في قرارات تلك الهيئة، مما أفقدها مصداقيتها بين شعوب العالم، وهذه الميزة ترجع إلى طبيعة الأمة الإسلامية، وما تتميز به من عقيدة إسلامية تقوم على العدل والحق والشرعية الدولية، كما تقرها الشريعة الإسلامية التي أوجدت الحلول الكثيرة للمنازعات الدولية والإقليمية عبر العصور المختلفة، وقد حوت كتب الفقه في مذاهبها المختلفة العديد من تلك الحلول.

7. أنها تحقق الأمن والعزة للأمة الإسلامية حتى تبقى خير أمة أُخرجت للناس إلى أن تقوم الساعة، ومن هنا، أمرها الله دون سائر الأمم أن تُعدّ القوة لكي تكون قوية البأس، شديدة الشوكة، مرهوبة الجانب، لأنها الأمة الموكل إليها إقامة العدل في الأرض ونشر الخير بين الناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهي حاملة رسالة خاتم الأديان، لذا، فإن عزة الأمة وكرامتها مرهونة بتلك الاستراتيجية التي نفتقدها بلا شك في هذه الأيام الحالكة فما أحوجنا إليها حتى لا تتكالب علينا الأمم.

وبعد، فهذه أهم سمات استراتيجية الردع الإسلامية التي كانت ومازالت هي البلسم الوحيد لعلاج ما تتعرَّض له أمتنا العربية والإسلامية من أخطار ماحقة، فهل آن الأوان أن نُرجع تلك الاستراتيجية إلى عسكريتنا المعاصرة، لكي يكون لنا مكاننا اللائق بين سائر الأمم؟

المصادر والمراجع

1. الأنفال، (60).
2. نص الحديث كاملاً: "أُعطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مسيرةَ شهر، وجُعلت لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت ليَ الغنائِم، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصةً، وبُعثتُ إلى الناسِ كافةً، وأُعطيتُ الشفاعة"، صحيح البخاري، الجامع الصحيح، الصفحة أو الرقم 438.
3. الردع والاستراتيجية، الجنرال (أندريه بوفر)، ترجمة: أكرم ديري، ص 31.
4. المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية، اللواء أركان حرب- محمد جمال الدين علي محفوظ، ص 102 وما بعدها.
5. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف، ج (8)، ص 307 وما بعدها.
6. انظر: نص الخطابين في الطبري، مرجع سابق والصفحات نفسها.
7. البداية والنهاية، مرجع سابق، المجلد الثاني، الجزء الثالث، ص، 288، وما بعدها.
8. المدرسة العسكرية الإسلامية، العقيد- محمد فرج، طبعة دارالفكر العربي، ص 200.
9. يرى الدكتور: جمال حمدان أن أمريكا بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية أصبحت قوة هائلة لا تنافسها قوة أخرى، فبدأت تهيمن على العالم الثالث بسياسة القطب الواحد حتى يرى أن العصر الذي نعيشه بعد الحرب العالمية الثانية هو قرن الولايات المتحدة، وهو عصر يشهد (أمركة) العالم سياسياً وحضارياً بعد أن عاش العالم العصر الأوروبي في القرون الماضية، انظر كتابه: استراتيجية الاستعمار والتحرير، طبعة الهيئة المصرية للكتاب، ص 371 وما بعدها.
10. أصول المعرفة العسكرية، ميجور جنرال (د. ك ياليت)، ترجمة: مصطفى الجمل، طبعة الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، سنة 1971م، ص 193 وما بعدها (بتصرف).
11. استراتيجية الاستعمار، جمال حمدان، ص 377، وانظر: المعرفة العسكرية، مرجع سابق، ص 194، 195.
12. أصول المعرفة العسكرية، مرجع سابق، ص 195، 200.
13. المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية، مرجع سابق، ص 108 110.
14. انظر: تفسير القرآن الكريم للقراءة والفهم المستقيم، للشيخ: عبدالجليل عيسى، وانظر أيضاً: الاستراتيجية، مرجع سابق، الصفحات نفسها.
15. الأنفال، الآية (60).
16. العاديات، الآيات (1 - 5).
17. انظر: الاستراتيجية، الاقتراب غير المباشر، (ليدل هارت)، وانظر أيضاً: أصول المعرفة العسكرية، مرجع سابق، ص 200، مدخل إلى العقيدة إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية، ص 111.
18. أصول المعرفة العسكرية، مرجع سابق، ص 200.

 

 


   

رد مع اقتباس