عرض مشاركة واحدة

قديم 23-01-10, 12:30 PM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
المنتصر
مشرف عام

الصورة الرمزية المنتصر

إحصائية العضو





المنتصر غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

قتل 600 مليون انسان

ومن حين لآخر كنت أتوقع أن تقوم قيادة الأركان المشتركة بارتجال تقديرات يمكن بسهولة كشفها وتعريتها بصورة محرجة للقيادة، بصفتها تقديرات متدنية بشكل غير واقعي . وكان الغرض من استنباط أي من هذه الاستجابات المتوقعة هو حيازة قوة تفاوضية لوزير الدفاع في مسعى بيروقراطي (سوف أناقشه لاحقاً) لتغيير خطط قيادة الاركان المشتركة باتجاه التوجيه الذي وضعت مسودته ورفعتها إلى وزير الدفاع مع بداية ذلك الشهر .

إلا أن توقعاتي كانت خاطئة . إذ لم تشعر قيادة الأركان بأي حرج، لا من السؤال ولا من الاجابة التي قدموها . وكانت تلكم هي المفاجأة، إضافة إلى الجواب نفسه الذي فاجأني هو الآخر . فالمضامين التي انطوت عليها تلك الخطط، كما رأيتها، كانت وجودية ومصيرية بامتياز، ولست أقول هذا على سبيل المجاز بل أقرر هذا حرفياً، إذ كانت الفاجعة الكبرى التي أتوقع حدوثها فيما لو انطلقت الحمم من فوهات المدافع والصواريخ هولاً عالمياً يدمر الطبيعة وقد يبيد الجنس البشري أو معظم سلالات الإنسان على كوكبنا .

ولم أكن أنا ذاتي مناهضاً للحرب في تلك الفترة ولم أكن أيضاً أنتقد وقتها المنطق الصريح البيّن في الردع أو أنال من أو اعترض على مشروعيته . وكنت أعمل مع زملائي بشكل دؤوب لضمان حفاظ الولايات المتحدة على قدرتها على الصمود والبقاء والنجاة في كل الظروف . وكان لدي حرص كذلك على أن تكون لدينا قدرات هائلة تمكننا من الحاق هزيمة بالاتحاد السوفييتي وإيقاع خسائر فادحة في حال اضطررنا للرد على أنجح هجوم يشنه الاتحاد السوفييتي على الولايات المتحدة . ولكن ماذا عن التخطيط لذبح 600 مليون إنسان من المدنيين، أي التخطيط لقتل عشرة أضعاف من قتلوا في الحرب العالمية الثانية؟ هذا الإنجاز الذي كنا نتوخاه ونصبو إليه كان هو عار الدهر والخزي الأكبر الذي يجللنا ويعري جنوننا المطبق وحمقنا وفقدنا لصوابنا والظلام المعشش في أعماق روحنا والعتمة التي تخيم على تخطيطنا النووي وتعمي بصيرة القائمين على هذه القدرات المهولة الجبارة وتدفعهم إلى تهور يقود إلى فناء البشرية .

وقد كنت قلت آنفاً انني رأيت بعين بصيرتي كيف سينتهي العالم المتحضر الشمالي .

وربما كان لي أن أفكر عوضاً عن ذلك وقتها كيف يمكن لهذا العالم الشمالي أن ينتهي، إلا أن هذا لم يكن هو التصور الذي خلصت إليه آنذاك . فالميثاق الذي كان بين يدي في صباح ذلك اليوم الربيعي انما كان يقول لي ويصرخ في وجهي بأعلى صوته ليؤكد أن لا أساس البتة ولا مستنداً لمن يتوهم أن قوات الانذار المبكر على الجانبين كليهما لن يتم استخدامها أبداً، وأن ضبط الأمور يخضع لهيمنة كاملة من جهاز ضبط وربط يتمتع بالحكمة والتعقل بدرجة كافية تحول دون وقوع الواقعة وتفجر الكوارث العظام . لقد تبدد في ذهني كل أمل بأن ثمة أماناً وأمناً يطمئن إليه القلب ويمكن أن يراهن عليه مع وجود هذا النظام المملوء بالثغرات والذي يهدد بتدمير مدن كبرى بأكملها ومحوها من على الخريطة .

فالأمريكيون، الذين صنعوا هذه الآلة، وهم يدركون كما تبين، أنها ستقتل أكثر من نصف مليار إنسان إذا دارت رحاها وأفلت عفريتها من القمقم، والذين لم يخجلوا ولم يتجلجلوا من رفع التقارير بهذا الشأن إلى الرئيس بهذه الطريقة لن يتورعوا عن إدارة المفتاح في القفل وقدح الزناد لاطلاق شرارة هذا الجحيم النووي إذا ما أمرهم الرئيس بهذا، أو إذا أوعز بالانطلاق، كما سأناقش المسألة في وقت لاحق في مقالة ستلي هذه، مسؤول آخر غير الرئيس تناط به هذه الصلاحية .

وماذا عن الرؤساء أنفسهم؟

قبل هذا ببضعة أشهر كان الرئيس دوايت آيزنهاور قد صادق سراً على هذه الخطة وأقر وتبنى مسودات هذا المشروع الذي تتولى فيه هذه الآلة القيام بعملية إبادة جماعية على نطاق مهول لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل . بل إن الأدهى من ذلك أنه أمر لأسباب مالية بحتة في معظمها وتتعلق بالميزانية، باعتماد هذه الخطة لا سواها ونبذ خطة مقاتلة الروس . لقد وافق على خطة العمليات الاستراتيجية المفردة هذه على الرغم من أن التقارير أوردت، أنه ولأسباب أفهمها وأدركها الآن، قد روعته العواقب الوخيمة الناجمة عن تطبيقها والتي وصفها له الخبراء التقنيون . وكانت استجابة رؤساء الأركان وردهم على السؤال الذي توجه به خلفه جون كينيدي مستفسراً عن الآثار الإنسانية المترتبة على شنّ هذه الهجمات التي خطط لها دهاة العسكر عندنا، كان هذا الرد سريعاً لأنهم وبوضوح افترضوا أن جون كينيدي لن تكون ردة فعله على هذا أن يأمرهم بتقديم استقالاتهم، أو أن يسرحهم من الخدمة بطريقة مهينة مذلة، ولن يوعز بتفكيك هذه الآلة (وفي هذه المسألة تبين أنهم كانوا على حق في افتراضهم بأن الخطة لن تسخطه أو تزعجه) .

وبالتأكيد فإن أحداً من هؤلاء الرؤساء لم يكن يرغب أبداً في أن يأمر بتنفيذ هذه الخطط، كما لن يود أي خلف محتمل للرئيس أن يتخذ هذه الخطوة أو أن يتولى كبر هذا العمل إلا أنهم لا بد وأنهم كانوا يدركون أو كان ينبغي أن يعوا المخاطر الهائلة الكامنة في السماح لهذا النظام أن يوجد في المقام الأول . وكان ينبغي أن يتفكروا ويتدبروا ويتأملوا بعمق ويتبصروا في العواقب ليقفوا وقفة توجس ترتعد فيها قلوبهم وهم يتصورون مجرد تصور الاحتمالات الرهيبة والحالات الطارئة المرجحة التي يمكن أن تشعل فتيل حرب نووية لا يمكن تصور أهوالها وحشد الاحتمالات يشمل: الإنذارات الكاذبة، وأعطال الاتصالات، وتصرفات وأعمال سوفييتية يساء فهمها من قبل صغار القادة، والأفعال التي يقوم بها أفراد دون تفويض أو تصريح، والتي يمكن أن تطلق العنان لقوى حبيسة تخرج عن السيطرة . كما ينبغي ألا يغيب عن بال القادة الخطر الماثل في التطورات المحتملة التي يمكن أن تقودهم شخصياً إلى التصعيد أو شن هجوم استباقي يوقد نار حرب شاملة تحرق الأخضر واليابس وتدع نصف كوكبنا على الأقل يباباً خراباً تنعق فيه الغربان، اللهم إن بقي غربان تنعق .

رتأى ايزنهاور واختار أن يقبل بهذه المخاطر .

ولكي يفرضوا هذه المخاطر الماحقة على بني الإنسان، وعلى غير البشر من الأحياء، وكأنها ضربة لازب، أو قدر محتوم لا مفر منه سار كينيدي وليندون جونسون حسب علمي على النهج ذاته، ولم يشذوا عن هذه الخطة، وما علمنا قط أنهم أحسوا يوماً بوخز الضمير، وكذا صنع ريتشارد نيكسون، ومن أجل ربط الماضي بالحاضر لا بد لي من القول إن فيض الأدلة الدامغة يملي عليّ الاعتقاد الجازم بأن ساسة أمريكا الكبار كافة تشربوا خطة الهول والقتل الجماعي المروع هذه وإن كل من جاء في أعقاب أولئك الذين ذكرت من الرؤساء أقر الخطة ولم يجد فيها بأساً ولم يجد غضاضة في وضعها موضع التنفيذ إذا لزم الأمر ولاحت الفرصة .

الشتاء النووي

غاب عن مخيلتي في تلك الأيام ملمحان ووجهان آخران إضافيان من أوجه مقامرتهم تلك في غمرة أحداث عام 1961 ولم أتبنيهما إلا لاحقاً، والروايات التي سأتطرق إلى ذكرها في مواضع أخرى من هذه السلسلة ستكشف النقاب عن أنه في أزمة جزيرة تشينمين (كينمين) قبل ذلك بثلاثة أعوام، وفي لجنة أزمة الصواريخ الكوبية بعدها بسنة- وبدرجة أقل في نحو من 25 حادثة أخرى اقتربت هذه المخاطر من التحقق فكانت قاب قوسين أو أدنى من التجسد بشكل موغل في المأساوية ولا يخطر على بال بشر إلى يومنا هذا إلا أن هذه الأمور كانت تتسربل بالغموض والسرية وقتها، ولم يكن أكثر الناس يدرون بخطورتها .

والأدهى من ذلك أن نطاق الكارثة الكبرى المحتملة ومداها كان ولايزال أعظم بكثير جداً مما استطعت أن أتخيل، وأكبر بما لا يقاس مما تصوره حتى رؤساء الأركان المشتركة أو أي من رؤساء أمريكا على مدى السنوات العشرين التي تلت، كان الأمر وببساطة خارج نطاق التصور البشري المألوف . واستغرق انبلاج الحقائق حيناً من الدهر أمضيناه ننتظر مجيء فترة 1982- 1983 حتى تكشف لنا حسابات جديدة، وجرى تأكيدها مؤخراً، النقاب عن أن سحباً دخانية وغيوماً هوجاء من سخام وسناج تمخض عنها اختراق المدن التي تتعرض للهجوم من قبل الولايات المتحدة أو القوات الروسية ستحجب نور النهار وأشعة الشمس لردح طويل من الزمن، لتنخفض بذلك درجات الحرارة بشكل بالغ القسوة خلال فصلي الربيع والصيف، وتتجمد البحيرات والأنهار وتتلف المحاصيل والزروع في جميع أصقاع الأرض، ويمكن لهذا “الشتاء النووي” أن يقضي على كثير من أشكال الحياة على ظهر البسيطة، وأن يقذف بالمليارات من البشر في هاوية التضور جوعاً حتى الموت . ولدى كل من أمريكا وروسيا حالياً نحو من 10 آلاف رأس نووي، حيث جرى فعلياً وعملياتياً نشر اكثر منها . (كما أن لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا عدة آلاف من الرؤوس النووية الاحتياطية التي لم تغطها جولات المفاوضات التي أجريت في الآونة الأخيرة، هذا إضافة إلى 5 آلاف رأس نووي آخر أو نحو هذا العدد من الرؤوس التي تنتظر التفكيك) . وكان الرئيسان باراك أوباما وديميتري ميدفيديف قد اتفقا على خفض عدد الرؤوس النووية الحربية العملياتية إلى ما بين 1500 إلى 1675 رأسا بحلول سنة 2012 . غير أن انفجار ألف رأس نووي يفجرها كل من أمريكا وروسيا في وقت متزامن يمكن أن يحدث شتاءً نووياً على نطاق واسع وتظهر الدراسات التي أجريت مؤخراً بوضوح إمكانية وقوع كارثة بيئية ضخمة تنجم عن تأثيرات الأدخنة على طبقة الأوزون إثر تبادل إطلاق قذائف وصواريخ نووية على نطاق أضيق بكثير جداً، مثل ما يمكن أن يحدث بين الهند وباكستان .

والأسئلة التي ينبغي أن تطرح بداية بسيطة: “فكم عدد ما سيحترق من مدن بعد تعرضه لهول “خياراتنا” المتنوعة المخطط لها سلفاً”؟ وكم عدد من سنزهق أرواحهم من البشر جراء الهجمات المتعددة ونتيجة الانفجارات والسقط النووي المهلك والدخان المميت والسخام والسناج، وكم هي كمية الأوزون التي ستنضب جراء هذا وهل سيتبقى أصلاً من الأوزون ما يكفي لتستمر به الحياة في البلد المستهدف وفي المناطق المجاورة له في أمريكا وفي كافة أرجاء العالم؟

وهذه هي الأسئلة الأقل بساطة التي يجب أن تطرح: “بالنسبة لكل خيار من خيارات هذا الهجوم المحتمل ولتبادل القصف التدميري، ما هو التأثير المحتمل على البيئة الاقليمية والعالمية وما مداه”؟

 

 


المنتصر

يقول احد القادة القدماء وهويخاطب جنوده . ( اذا لم تكونوا مستعدين للقتال من أجل ما تروه عزيزاً عليكم , فسوف يأخذه أحد ما عاجلا أو اَجلا , واذا كنتم تفضلوا السلام على الحرية فسوف تخسرونهما معاً , واذا كنتم تفضلوا الراحة والرخاء والسلام على العدل والحرية فسوف تخسروهما جميعا ) .

   

رد مع اقتباس