عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:41 AM

  رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

وقفة وتحليل بعد إستشهاد مودود

لا شك أن حادث مقتل مودود كان من اللحظات الفارقة التي أدت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية ، كما أدى إلى تغيير في أيدلوجيات كثير من القادة والدول، وهكذا دومًا يكون موت الشخصيات المؤثرة ، وخاصةً إن كانت هذه الشخصية في عظمة وقيمة مودود رحمه الله ، ويا لَحسرة الأجيال التي لا تعاصر شخصية من هذا الطراز ، فإنه يمر عليها سنوات وسنوات دون أن تشعر بقيمة الزمن ، ولعلنا في هذه الوقفة نتحدث عن خمس أو ست سنوات كاملة ، بينما كنا أيام مودود نتحدث عن الشهور وليس السنوات لأهمية الأحداث التي نراها في زمان المجاهدين ، وسيأتي علينا زمانٌ نتحدث فيه عن الأيام والساعات عندما نتكلم عن نور الدين محمود أو صلاح الدين الأيوبيّ ، وهكذا تؤثر الشخصيات القوية على كل مجريات الأمور في زمانها .

وهذه بعض النقاط والوقفات التي تهمنا في السنوات التي تلت مقتل مودود رحمه الله :

الوقفة الأولى : مع حركة الجهاد في العالم الإسلامي بصفة عامة


للأسف الشديد فإن الأمة في هذه المرحلة لم تبلغ درجة من النضج تسمح بإستمرار الجهاد بنفس الدرجة عند غياب الشخصية القائدة المجاهدة ، والأصل أن الأمة الناضجة لا تعتمد على شخص أو شخصين ، ولكن تكون الطاقات البديلة فيها متوافرة ، ومن ثَمَّ فهي تسير قدمًا دومًا برغم العقبات والأزمات ، ولهذا فإن مقتل مودود عطَّل حركة الجهاد الحقيقية ست سنوات كاملة ، بل لعله أكثر من ذلك ، وليس معنى هذا أنه لم تحدث حروب في هذه الفترة بين المسلمين والصليبيين ، ولكنها لم تكن حروبًا كحروب مودود ، إنما كانت نوعًا من أداء الواجب دون روح ، أو نوعًا من طاعة الأوامر العليا بالجهاد ، أو نوعًا من ذَرِّ الرماد في العيون ، أو حتى نوعًا من العادة التي تحتم أن يقاوم الشعبُ المنكوب عدوَّه الذي إحتل بلاده ، وأحيانًا كانت بروح جهادية، ولكنها تفتقر إلى الكفاءة التي تنجحها، ولهذا فإننا سنرى بعض الحملات في هذه السنوات الست ، وإلى سنة (513هـ)\1119م ، ولكنها - للأسف - ستكون حملات بلا روح حقيقية، ولعل أفضل توصيف لها أنها كانت مجرد زوابع في فنجان !

الوقفة الثانية : مع إمارة الموصل

كان شعب الموصل - كما ذكرنا - محبًّا للجهاد مقدِّرًا للعلم والعلماء ؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يولَّى أمره رجلٌ من أهل الصلاح ، حتى يكون هناك نوع من التناسق والتناغم بين الحاكم والمحكوم ، وهذا وإن كان اختيار السلطان محمد إلا أنه سُنَّة من السنن ، ذكرها رسول الله حين قال : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" .

وقد وَلِي على الموصل بعد مقتل مودود أحد الأتراك الأخيار وهو آق سنقر البرسقي ، وكان هذا الرجل كما يصفه ابن الأثير : "كان خيِّرًا يحب أهل العلم ، والصالحين ، ويرى العدل ويفعله ، وكان من خير الولاة ، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ، ويصلي من الليل متهجدًا" .

ومع القوة الإيمانية والأخلاقية العالية لآق سنقر البرسقي رحمه الله إلا أن كفاءته السياسية والعسكرية لم يكونا على نفس القدر والمستوى ؛ فضعف كفاءته السياسية أدخله في حروب جانبية مع الإمارات الإسلامية المجاورة ، وخاصةً إمارة ماردين مما أدخله في صراع ليس له معنى في هذا التوقيت مع إيلغازي بن أرتق حاكم الإمارة ، وبذلك خسر آق سنقر البرسقي الأراتقة جميعًا ، وهم منتشرون في شمال العراق وديار بكر ، وهذا - لا شك - أضعف موقفه ، وشتَّت جهده .

كما أن ضعفه العسكري أدى إلى فشله في تحقيق نصر يذكر على الصليبيين الذين واجههم في إمارة الرها في الحملة التي خرج على رأسها في ذي الحجة (508هـ) مايو 1115م ، إضافةً إلى أنه بعد فشل حملته مع الصليبيين ، وفي أثناء عودته دخل في صدام مع الأراتقة بسبب عدم تعاونهم معه في الحملة، وتعرض في هذا الصدام لهزيمة كبيرة تفتَّت فيها جيشه الكبير المكوَّن من خمسة عشر ألف فارس ، وهذا دفع السلطان محمد إلى عزله عن الموصل في سنة (509هـ)\ 1115م ، وإعطاء الولاية لجيوش بك .


وفي نفس السنة التي عُزل فيها آق سنقر البرسقي أَوْكَلَ السلطان محمد السلجوقي لبرسق بن برسق أمير همذان قيادة جيش كبير يهدف إلى حرب الصليبيين ، إضافةً إلى إخضاع الإمارات الإسلامية المنشقَّة عن السلطان محمد ، وكذلك الإمارات الشامية التي أصبحت تدار بأفراد خارج الدولة السلجوقية ، مثل دمشق التي تدار بطغتكين ، وحلب التي تدار ببدر الدين لؤلؤ ؛ وفي هذه الحملة خرج أمير الموصل الجديد جيوش بك تحت زعامة الأمير العام للحملة برسق بن برسق .

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة مؤلمة فإنَّ هذه الحملة إنتهت بمواجهة سافرة عجيبة بين الجيش السلجوقي من ناحية ، وجيوش الصليبيين المتحدة مع جيوش الإمارات الإسلامية في ديار بكر ، وأيضًا حلب ودمشق من ناحية أخرى !!

لقد رأى هؤلاء الأمراء أن خطر السلاجقة عليهم أكبر من خطر الصليبيين ، فعرضوا التحالف مع روجر الأنطاكي والصليبيين ضد الجيش السلجوقي المسلم ! وهكذا وقف المسلمون وفوق رءوسهم الصُّلبان ، يقاتلون مع أعدائهم تحت راية واحدة !!

إنه ضعف الرؤية، أو قُلْ انعدامها ! فليس هناك من مبرر - مهما كانت الظروف - لنرى مثل هذا المفارقات التي يستعجب منها كل السامعين ، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين !

وللأسف الشديد انتهت الموقعة - التي عرفت في التاريخ باسم موقعة دانيث ، وهو المكان الذي وقعت فيه - بهزيمة برسق بن برسق وجيشه المسلم السلجوقي ، وغنم المعسكر الصليبي المسلم ما لا يُقدَّر من الغنائم والسلاح .

ومن الجدير بالذكر أن روجر الأنطاكي استأثر بالغنائم لنفسه وجيشه ، ولقد كانت المفاجأة لأهل أنطاكية أكثر من سارَّة ، حيث عاد روجر بثروات طائلة ، كما عاد بأخبار تفكُّك الصفّ الإسلامي وتشتُّته .. وإستمر جيوش بك في حكم الموصل ، ولم تكن له محاولات تذكر لإعادة الكَرَّة ضد الصليبيين .

وهكذا أُحْبِط أهل الموصل نتيجة وجود هذه الأمراض القاتلة التي دعت الأمة في وقت من الأوقات أن تقاتل أخاها، وتصافح ألدَّ أعدائها ! , كان هذا هو حال الموصل بعد مقتل مودود رحمه الله ..

الوقفة الثالثة : مع عماد الدين زنكي


بَهَر هذا الفتى القدير الأنظار في المعارك التي إشترك فيها ، وأدرك الجميع قدراته العسكرية الفذة ، كما أدركوا أيضًا عمق ولائه للسلاطين السلاجقة ، وعدم تردده في سماع الأوامر وتنفيذها ، فأوكلت إليه في الحروب المهامُّ الجسام ، وعلى الرغم من عدم تحقق النصر في المواقع الحربية في تلك الفترة ، إلا أنَّ الجميع كان منشغلاً بذكر هذا القادم الجديد: عماد الدين زنكي .

الوقفة الرابعة : مع طغتكين أمير دمشق


بعد مقتل مودود رحمه الله روَّج رضوان - كما ذكرنا - لإشاعة أن طغتكين هو الذي قتله ؛ وذلك ليدفع التهمة عن نفسه أولاً ، وليتخلص من طغتكين ثانيًا .. ولقد أحدثت كلمته أثرًا في كثيرٍ من الناس ، بل تأثر بذلك السلطان محمد الذي حمَّل طغتكين مسئولية مقتل مودود ، وخاصةً أن مسئولية الحماية الأمنية لمودود داخل دمشق تقع على عاتق أمير البلد طغتكين، ومن ثَمَّ شعر طغتكين أن الأرض تناقصت من حوله ، وأن الأنصار له يقلُّون ، ومن ثَمَّ إرتكب ذنبًا قبيحًا غير مقبول ، وهو التحالف مع الصليبيين لكي يأمن شر الجميع !!

لقد كان مفهومًا أن يعقد مع الصليبيين هدنة ليتجاوز فترة ضعفه ، لكن أن يتحالف معهم ، ويقف معهم في خندق واحد ضد إخوانه المسلمين من السلاجقة ، فهذا ما لا يقبل لا شرعًا ولا عقلاً .

ولكن من ناحية أخرى فإن هذا يثبت أن طغتكين لم يكن مدبِّرًا لحادث مقتل مودود ؛ لأنه قرَّر بعده مباشرة أن يتحالف مع الصليبيين ليحموه بعد فَقْد حماية مودود ، فهذا يؤكد أنه ما كان ليقدم على قَتْل حمايته بنفسه ، خاصةً أنه إستفزَّ الصليبيين قبل قدوم مودود ، وذلك بالهجوم على بعض المناطق التي يحكمونها وبنصرة مدينة صور ضدهم .

وهكذا فبموقف طغتكين الخاطئ خرجت مدينة دمشق العظيمة من معادلة الصراع ، وحُيِّد جانبها إلى حدٍّ كبير ، خاصةً أن أمورها الداخلية لم تكن مستقرة أبدًا لسيطرة الشيعة الباطنية الإسماعيلية على كثير من الأمور فيها .

الوقفة الخامسة : مع إمارة حلب


مات رضوان الخبيث في سنة (507هـ)\ 1113م ، وتولى من بعده إبنه الشاب ألب أرسلان - المسمَّى على اسم جَدِّه العظيم ألب أرسلان - لكنه لم يكن يُشبِه جَدَّه لا من قريب ولا من بعيد ، بل كان متهوِّرًا كأبيه ، قليل العقل والدين ، فبدأ حكمه بقتل أخويه ملكشاه ومباركشاه لكي يستقر له الأمر ! ثم إنه كان ضعيفًا جبانًا فبدأ عهده بالتأكيد على دفع الجزية لروجر الأنطاكي ليضمن حمايته ، ويأمن شرَّه .

لكن حدث في بداية عهده أمر يثبت أن الخير ما زال موجودًا في أهل حلب، حيث قام الحلبيون بثورة على الباطنيَّة الذين كانوا قد بلغوا شأوًا عظيمًا في عهد رضوان ، فقتل الشعبُ قائدَ الباطنية أبا طاهر الصائغ ، ثم انطلقوا على عموم الباطنية بالقتل والحبس ، ومن ثَمَّ أسرع بقية الباطنية بالفرار من حلب ، وعلى الرغم من تمرسهم على الجريمة إلا أنهم خشوا من هذا الشعب العجيب الذي لم تمُتْ فيه النخوة ، ولم يهجر السُّنَّة ، حتى بعد حكمه عشرين سنة حكمًا يغلب عليه تمامًا التوجُّه الشيعي الإسماعيلي ، ولعل هذا الحدث كان من الأمور التي مهَّدت إلى تحسين طبيعة الشعب في حلب في السنوات القادمة ، مما سيكون له أثر في حركة الجهاد .

ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن ألب أرسلان هذا لم يستمتع كثيرًا بحكمه؛ فقد قتله أتابكه بدر الدين لؤلؤ ، ووضع على كرسيِّ الحكم أخاه الصغير سلطان شاه ، وكان يبلغ من العمر ست سنوات فقط، ومن ثَمَّ أصبح بدر الدين لؤلؤ الحاكم الفعليّ لإمارة حلب ، وهذا - لا شك - أضعف موقفها أكثر وأكثر ، وكل هذا سيكون له أثرٌ في الأحداث القادمة .

الوقفة السادسة : مع إيلغازي


إيلغازي بن أرتق رجل عجيب ! وما أكثر الرجال العجيبين في هذا الزمن ! إنه إيلغازي أمير ماردين ، وأخو سقمان بن أرتق - رحمه الله - الذي مرَّ بنا موته وهو في سبيل الله , ووجهُ العجب في حياته أننا رأيناه في حالات متناقضة كثيرة ، جعلت تحليل شخصيته أمرًا صعبًا ، ولقد وقفت كثيرًا أمام شخصيته متحيِّرًا ، فلا أدري أهو من أهل الصلاح فيُمدح ، أم من أهل الفساد فيُذم !

إننا قد رأيناه يتعاون في فترة من حياته مع مودود رحمه الله في قتال الصليبيين ، ثم رأيناه يُغِير على إخوانه بغية أخذ ما معهم من غنائم ! ورأيناه في فترة من فترات حياته يتحالف مع الصليبيين ليقاتل برسق بن برسق أمير همذان كما مرَّ بنا ، ثم سنراه بعد ذلك يجاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا ، بل وينتصر حتى يلفت الأنظار إليه .

إننا ذكرناه هنا لأنه سيكون من القلائل الذين يحملون راية الجهاد ضد الصليبيين بعد مودود رحمه الله ، إلى أن يتسلمها لاحقًا أحد عمالقة الجهاد في التاريخ الإسلامي، كما سنعرف لاحقًا .

الوقفة السابعة : مع مملكة بيت المقدس


لقد كان مقتل مودود بالنسبة لهذه الإمارة إشارة بدءٍ لتوسع كبير في الأراضي الإسلامية ، فكما رأينا أن موت مودود لم يُزِحْ عملاقًا من عمالقة الجهاد من أمام بلدوين الأول فقط ، إنما أخضع كذلك طغتكين أمير دمشق ، ومن ثَمَّ زال خطره إلى حدٍّ كبير ؛ مما دفع بلدوين إلى التفكير في تثبيت ملكه بصورة أكبر ، بل وتوسيعه كما سنرى .

ولننظر نظرة أكثر قربًا من بلدوين الأول لنعرف طبيعة شخصيته ، وصفة أخلاقه ؛ فبلدوين الأول كان متزوجًا من الأرمينية أردا ، وكان زواجه منها كما مر بنا أيام حكمه لإمارة الرها لغرض السيطرة على المدينة التي يسكنها كثير من الأرمن ، أما الآن فليس في بيت المقدس أرمن ؛ ولذا لم يَعُدْ هناك فائدة لأردا الأرمينية ! ومن ثَمَّ سعى بلدوين لطلاقها ليتزوج من زوجة أخرى تحقق له مصالح أخرى !

ولما كان الطلاق في المذهب الكاثوليكي محرمًا تمامًا إتَّهم الملك بلدوين الأول زوجته بالخيانة ، وتواطأ مع أسقف كنيسة بيت المقدس في ذلك الوقت ، وهو صديقه أرنولف مالكورن ليتم الطلاق ، وبالفعل تمَّ الطلاق ، وتم أيضًا ترحيل الزوجة المطلقة أردا إلى القسطنطينية ، وخلا الجو لبلدوين الأول ليعقد زيجة سياسية أخرى ، حيث تزوج في السنة التي مات فيها مودود من أرملة روجر الأول أمير صقلية ، وهذا سيحقق له فائدتين كبيرتين ؛ أما الأولى فهي تقوية علاقته بالنورمان الإيطاليين الأشدَّاء ، وثانيًا سيستفيد من الثروة الطائلة التي تملكها الأرملة الثرية أدلياد ، والتي ستنعش الخزانة الخاوية لبيت المقدس بعد المعارك المتتالية هنا وهناك .

وهكذا تزامن غياب مودود ثم طغتكين مع إزدياد قوة بلدوين العسكرية والمالية مما دفعه إلى توسيع الطموحات ؛ وقد ظهر ذلك في إحتلال منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت ، وشيَّد هناك حصن الشوبك ليسيطر بذلك على القوافل المتجهة من الشام إلى مصر أو الحجاز ، وكان ذلك في سنة (509هـ) 1115م ، ثم في العام التالي (510هـ) 1116م إخترق بلدوين الأول صحراء النقب بكاملها ، وإحتل (أيلة) على مضيق العقبة ، حيث بَنَى هناك قلعة مهمة جدًّا للسيطرة على القوافل في هذه المنطقة ، وخاصةً المتجهة من الشام إلى الحجاز ، أو من مصر إلى الحجاز ، كما بنى قلعة أخرى في جزيرة فرعون في داخل خليج العقبة نفسه ، ولا شك أن هذه السيطرة أعطت له إشرافًا مباشرًا على الحدود بين فلسطين ومصر ، كما أعطت له منفذًا في غاية الأهمية على البحر الأحمر .

وهكذا إستطاع بلدوين الأول في غياب الجهاد الإسلامي أن يسيطر على كل فلسطين باستثناء مدينة عسقلان ، كما سيطر على النصف الجنوبي من لبنان بإستثناء مدينة صور ، وهذه هي حدود مملكة بيت المقدس بعد ذلك .

بل إن بلدوين الأول في وجود حالة الصمت الإسلامي تجرَّأ على ما هو أكثر من ذلك ؛ حيث قرر غزو مصر بفرقة صغيرة جدًّا من جيشه ! فاقتحم سيناء ، وأسقط العريش بسهولة بالغة ، بل واصل السير حتى إحتل الفرما (بالقرب من بورسعيد الآن) ، وأحرق ديارها ومساجدها ، ولولا أنه أصيب بمرض خطير في هذا التوقيت لكان قد أكمل طريقه ، غير أنه عاد بسبب مرضه ، وكانت هذه الأحداث في سنة (512هـ) 1118م .

الوقفة الثامنة : مع إمارة الرها


تنفَّست هذه الإمارة الصُّعداء بعد وفاة مودود ، خاصةً بعد تولِّي أمراء ليسوا على نفس الدرجة من الكفاءة العسكرية والسياسية ، وأدى هذا إلى توسع إمارة الرها في المدن المحيطة ، فأسقط بلدوين دي بورج في سنة (510هـ) 1116م مدينتي كيسوم ورعبان ، ثم مدينة البيرة في سنة (511هـ) 1117م ، ثم أخيرًا وفي نفس العام، أسقط قلعة قورس الخطيرة في شمال حلب ؛ ليكون بذلك مهدِّدًا لإمارة حلب ، ومترقِّبًا لأيِّ فرصة تسمح بإسقاطها ، وهكذا صارت حلب واقعة تحت تهديد إمارتي الرها وأنطاكية معًا .

الوقفة التاسعة : مع إمارتي أنطاكية وطرابلس


لم يطرأ عليهما تغيير يذكر في هذه الفترة إلا أنهما أخذا وقتًا كافيًا لتدعيم قوتهما، وتجديد قلاعهما وأسوارهما ، وكذلك تكثير جيوشهما استعدادًا لتوسُّع مرتقب ، وإستمر روجر الأنطاكي على زعامة أنطاكية ، بينما إستمر بونز بن برترام على حكم طرابلس .

الوقفة العاشرة : مع الأرمن في المنطقة الشمالية


بعد وفاة مودود شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بكثير من الأمان ، ورأى أن أحوال الرها قد ساءت جدًّا نتيجة قتل وطرد الأرمن الذين كانوا يمثِّلون صُلْب المدينة وعمودها الفقري ، ومن ثَمَّ لم يخش بلدوين دي بورج من إعادة استقدام الأرمن ليعيشوا مرة أخرى في بلاد الرها بعد زوال خطر مودود ، ولم يتردد الأرمن في قبول الدعوة من بلدوين دي بورج حيث حانت لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم ومزارعهم ، ولكن ليس هناك من شك أنهم عادوا وهم يضمرون كل الكراهية للصليبيين ، كما كانوا يتوجسون منهم خيفة أن يعيدوا الكَرَّة مرة أخرى ، فتتكرَّر المأساة الأليمة .

وإذا كان هذا هو وضع الأرمن الذين كانوا يعيشون في الرها ، فإن الأرمن خارج حدود الرها كانوا على خلاف ذلك يرفضون التعاون مع الصليبيين ، بل إن أرملة كوغ باسيل (الذي مات في سنة (506هـ) 1112م لم تتردد أن تطلب صراحة من آق سنقر حاكم الموصل في سنة (508هـ) 1114م أن تنضم إليه بشعبها في مقابل جزية تدفعها له كدلالةٍ على التبعية !!

وهذه أدلة متكررة تثبت أن الأرمن النصارى كانوا يطمئنون إلى المسلمين وإلى رحمتهم وعدلهم أكثر ألف مرة من إطمئنانهم لإخوانهم النصارى من الصليبيين !
إذن في الخمس أو ست سنوات التي أعقبت وفاة المجاهد العظيم مودود حدثت عدة تغيرات جذرية في المنطقة ، كانت في معظمها تصبُّ في خدمة وتدعيم موقف الصليبيين، وحدثت عدة تغييرات سياسية في الإمارات الإسلامية لم تكن في معظمها إيجابية ، اللهم إلا موت رضوان بن تتش زعيم حلب ، والذي خلَّص المسلمين من طاغيةٍ متكبر .

ثم حدثت في الساحتين الإسلامية والصليبية في أواخر سنة (511هـ) وخلال سنة 512هـ، وكذلك في أوائل سنة (513هـ) عدة وفَيَات أدت إلى تغييرات محورية في الصراع الإسلامي - الصليبي (خلال سنتي 1117- 1118م) :

أولاً : وفاة السلطان محمد السلجوقي عن عمر يناهز سبعة وثلاثين عامًا فقط ، وكان قد وحَّد السلاجقة في مملكة واحدة كبيرة صار لها هيبة عند الناس وعند الخلافة العباسية، وسيَّر عدة حملات إلى الصليبيين منها ما نجح على أيام مودود رحمه الله ، ومنها ما لم يحقِّق النجاح كما في عهد آق سنقر البرسقي أو برسق بن برسق ، وكان كما يقول ابن الأثير : "عادلاً ، حسنَ السيرة ، شجاعًا" ، ولكن من أعظم أخطائه هو توليته ابنه السلطان محمود الحكم من بعده ، مع أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط !!
وكانت هذه - للأسف - عادة في ذلك الزمن، وهو ولاية الوريث ولو كان طفلاً صغيرًا جدًّا، ثم يتولى الحكم الوصيُّ عليه، فيأخذ الدولة يمينًا أو شمالاً حسب ما يتراءى له، وكان من نتائج وفاة السلطان محمد وولاية السلطان محمود أن حدثت فتن وصراعات في داخل الدولة التي فقدت هيبتها ، بل وصل الصراع إلى التقاتل بالسيوف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود ، وكذلك بين السلطان محمود وأخيه الملك طغرل ، وأخيرًا بين السلطان محمود وعمِّه السلطان سنجر ، وكل هذه الصراعات كان لها أسوأ الأثر على الصراع الإسلامي - الصليبي ؛ إذ شغلت المسلمين بأنفسهم، وأنستهم قصة الصليبيين !

ثانيًا : وفاة بدر الدين لؤلؤ المتصرف الفعليّ في أحوال حلب مقتولاً ، إذ قتله بعض أعوانه، ولما كان أمر حلب قد اضطرب كثيرًا في السنوات الأخيرة بعد موت رضوان وقتل ابنه ألب أرسلان ، ثم قتل بدر الدين لؤلؤ سعى أعيان المدينة إلى تحسين الأوضاع ، فذهبوا إلى أفضل العناصر الموجودة حولهم، وهو إيلغازي بن أرتق فسلموه البلد ، وهكذا وجد إيلغازي نفسه فجأةً حاكمًا على ماردين وحلب معًا ، ولم يكن ذلك هدية خالصة ؛ لأنه وجد في حلب همومًا كثيرة ؛ إذ وجد خزانتها خاوية بعد أن أنفق بدر الدين لؤلؤ الثروة الحرام التي جمعها رضوان ، وهكذا وصلت حلب إلى وضعٍ يُرثى له مع كونها واحدة من أهم الإمارات الإسلامية في المنطقة .

ثالثًا : وفاة المستظهر بالله الخليفة العباسي ، وكان قد تولى الحكم من (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م) ، وتولى من بعده ابنه المسترشد بالله ، ولم يكن الخليفة الجديد كغيره من الخلفاء السابقين ، إنما كان رجلاً طموحًا ذا همة عالية ، وكان شجاعًا مقدامًا ذا هيبة شديدة ، وكان عالمًا فقيهًا حتى ذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية ، وهذا في حدِّ ذاته من أهم فضائله ، فهي شهادة من عالم متمكن خبير ؛ وهذه الولاية للخليفة المسترشد ستترك آثارًا مهمة على الساحة الإسلامية ؛ إذ إنه لم يقبل بالوضع الذي اعتاد الخلفاء العباسيون عليه في القرنين السابقين من كونهم مجرد صورة للحكم ، بل سيسعى ليكون له كيان ورأي ، ولا شك أن هذا سيولد صراعات كثيرة في المنطقة ، وسيكون لهذه الصراعات آثار كثيرة على مجريات الأحداث .

رابعًا : وفاة بلدوين الأول ملك مملكة بيت المقدس ، والمؤسِّس الحقيقي لها ، وكان قد وصل بمملكة بيت المقدس إلى حدودها التي استقرت بعد ذلك عشرات السنين ، وأسقط كل المدن الفلسطينية باستثناء عسقلان ، وكذلك النصف الجنوبي من لبنان باستثناء صور، وكانت وفاته بمدينة العريش سنة (511هـ) 1118م أثناء عودته من الفرما المصرية بعد احتلالها ، وقد اجتمع الصليبيون على تولية ابن عمه بلدوين دي بورج أمير الرها مكانه في بيت المقدس ، وهذا - لا شك - ترقية لوضع بلدوين دي بورج حيث إن مَلِكَ بيت المقدس له القيادة على كل الممالك الصليبية ؛ لوضع القدس ، ولحجم المملكة ، ولكونها مملكة وليست إمارة ، وقد اختار بلدوين دي بورج - الذي لُقِّب بعد ذلك ببلدوين الثاني - ابنَ عمِّه جوسلين دي كورتناي - الذي كان قد عزله قبل ذلك عن تل باشر - أميرًا لإمارة الرها من بعده ، وذلك بعد أن زالت الخلافات التي كانت بينه وبين جوسلين ، خاصةً أن جوسلين خبير بهذه المناطق الشمالية .

خامسًا : وفاة أدلياد زوجة بلدوين الأول الثانية ومما هو جدير بالذكر أن خصوم بلدوين الأول من الصليبيين طعنوا في زواجه من أدلياد الصقلية، وذكروا أن أسباب طلاق الزوجة الأولى أردا ليست صحيحة، ومن ثَمَّ فأدلياد هي الزوجة الثانية في نفس الوقت، وهذا حرامٌ في النصرانية ، وقام البابا باسكال الثاني بإرسال من يحقِّق في الأمر، وثبت تلاعب الملك بلدوين الأول في الأمر ، ومن ثَمَّ اعتُبِر الزواج الثاني باطلاً ، واضطرت هنا أدلياد أن تعود إلى صقلية بعد أن عاشت مع بلدوين الأول أكثر من أربع سنوات ! وهكذا خسرت إمارة بيت المقدس قوة النورمان وثروة أدلياد، ثم ما لبثت أدلياد أن توفِّيت في صقلية ، وكذلك بلدوين الأول في العريش على نحو ما ذكرنا .

سادسًا : وفاة أرنولف مالكورن بطرك بيت المقدس ، الذي اشتهر بسوء خلقه ، وتواطئه مع بلدوين الأول على أمورٍ كثيرة مخالفة لدينهم ، ومن ذلك ما ذكرناه من أمور تسهيل طلاق بلدوين الأول من أردا الأرمينية ، وزواجه من أدلياد الصقلية ، وقد تولى من بعده البطرك جرموند Germond .

سابعًا : وفاة البابا باسكال الثاني في روما ، وتولى من بعده جيلاسيوس الثاني ، ولم يكن هذا تغيرًا محوريًّا ؛ لأن الإمارات الصليبية كانت شبه مستقلة ، ولم تكن هناك حاجة إلى إستنفار جنود جدد في أوربا في ذلك الوقت ، ومن ثَمَّ لم يظهر كثيرًا اسم البابا في مجريات الأحداث .

ثامنًا : وفاة الإمبراطور البيزنطي الداهية ألكسيوس كومنين ، الذي سهَّل دخول الصليبيين إلى أرض المسلمين بدايةً من دعوتهم ، ثم إمدادهم بالمؤن والسلاح والأخبار والأدِلَّة وبعض الفرق ، وإن كان الصليبيون بعد ذلك غدروا به ، ولم يعطوه ما اتفق معهم عليه من بلاد ، غير أنه إستطاع أن يسيطر على النواحي الغربية من آسيا الصغرى ، ويضمها إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وقد تولى الإمبراطورية من بعده ابنه يوحنا كومنين .

تاسعًا : وفاة روجر الأنطاكي أمير أنطاكية ، أو الوصيّ على إمارة أنطاكية بعد وفاة تانكرد النورماني ، وانتظارًا لقدوم بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول مؤسِّس إمارة أنطاكية .

وقد آثرتُ أن أختم بهذا الرجل لأن وفاته جاءت في معركة مهمَّة مع المسلمين ، لعلها أول معركة ذات قيمة بعد وفاة مودود رحمه الله
.
لقد ذكرنا أنه بمقتل بدر الدين لؤلؤ المتصرِّف في أمور حلب خلت الساحة السياسية في هذه الإمارة المهمة ، ومن ثَمَّ توجَّه أعيان البلد وفقهاؤها إلى إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وسلموه المدينة ، ولاحظ أمير أنطاكية روجر أن المدينة تمر بفترة ضعف شديدة ، ومن ثَمَّ قرر أن يغزو المدينة ويضمها لحسابه ، ووصلت الأخبار بهذا التحرك الصليبي إلى إيلغازي ، فقرَّر أن يجمع المجاهدين من هنا وهناك ليدافع عن مدينة حلب ، ولقد استطاع إيلغازي أن يكوَّن حلفًا قويًّا مع أمير دمشق طغتكين الذي وافق على جهاد الصليبيين ، وهذا يثبت أنه لم يكن مواليًا لهم حبًّا فيهم، ولكن ضعفًا وقلة حيلة بعد مقتل مودود رحمه الله، وانضم كذلك إلى الحلف أمير شيزر سلطان بن منقذ الذي طالما شارك في الحملات الجهادية منذ أيام مودود رحمه الله .

كوَّن إيلغازي بن أرتق جيشًا قويًّا وسار به في اتجاه أنطاكية، وعند سهلٍ قريب من أرتاح باغت الجيش الإسلامي جيش أنطاكية وطوَّقه من كل جانب !

كان الجيش الإسلامي مكوَّنًا من عشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش أنطاكية يقترب من خمسة آلاف جندي بين فرسان ومشاة ، وكان روجر قد أرسل رسالة استنجاد إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الجديد الذي وعد بالقدوم ومعه بونز أمير طرابلس ، إلا أنَّ المباغتة الإسلامية كانت بفضل الله قبل وصول الإمدادات الصليبية .
تمت في هذا المكان الموقعة الشهيرة في تاريخ الحروب الصليبية، وهي موقعة البلاط (خريطة 25)، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 513هـ الموافق 28 من يونيو 1119م، وفي هذه الموقعة أُبيد الجيش الصليبي بكامله، وقُتل الأمير روجر الأنطاكي ، وأطلق الصليبيون على مكان المعركة اسم "ساحة الدم" لكثرة قتلاهم فيها !

لقد كان انتصارًا مجيدًا بكل المقاييس، أدى إلى كثير من النتائج المهمة في هذه الفترة؛ وكان من هذه النتائج الآتي :


1- أعادت هذه الموقعة الهيبة للمسلمين ، والثقة لنفوس المحبطين، وشعر المسلمون أن الأمل ما زال باقيًا في إعادة التوازن للأمة الإسلامية .
2- هُزم الصليبيون هزيمة نفسية كبيرة أثَّرت في حركتهم لعدة سنوات .
3- دخلت حلب دخولاً رسميًّا بعد هذه الموقعة في حكم الأراتقة، ولمدة ست سنوات كاملة .
4- فَقَدت أنطاكية أميرها روجر في وقتٍ ليس فيه بديل أو وريث؛ لأن بوهيموند الصغير ما زال في إيطاليا، ومن ثَمَّ وضع بلدوين الثاني يده على الوصاية على إمارة أنطاكية، وبدأ في تنظيم أمورها بمساعدة بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس .

5- علا نجم إيلغازي بن أرتق في ساحة الجهاد ضد الصليبيين، وجاءته التشريفات من الخليفة العباسيّ الجديد المسترشد بالله، ونَظَم الشعراء قصائدهم في مدحه، وعلَّق كثيرٌ من المسلمين الآمال عليه؛ وهذا دفعه إلى تجديد الصدام مع الصليبيين في عدة مواقع بعد ذلك، كان له النصر في بعضها والهزيمة في أخرى، وإن لم تكن هذه المواقع على مستوى موقعة البلاط المشهورة .

إذن نستطيع أن نلخص الموقف في سنة 513هـ\ 1119م في النقاط السريعة الآتية :


1- مملكة بيت المقدس تحت زعامة بلدوين دي بورج الملقَّب ببلدوين الثاني .
2- إمارة الرها تحت زعامة جوسلين دي كورتناي .
3- إمارة أنطاكية تحت وصاية بلدوين الثاني انتظارًا لوصول بوهيموند الثاني إلى سنِّ الرشد، وقدومه من إيطاليا .
4- إمارة طرابلس تحت زعامة بونز بن برترام .
5- إمارة حلب تحت زعامة إيلغازي بن أرتق الذي تزعَّم حركة الجهاد ضد الصليبيين في هذه الفترة .
6- إمارة دمشق تحت زعامة طغتكين الذي عاد من جديد يحارب الصليبيين ، ولم يكتفِ بالصدام مع إمارة أنطاكية ، بل بدأ يصطدم جنوبًا مع مملكة بيت المقدس .

7- إمارة الموصل تحت زعامة جيوش بك التابع للسلطان محمود، وإن كان الملك مسعود أخو السلطان محمود يعيش في الموصل ، وقام بصدامٍ ضد أخيه بمساندة جيوش بك بغية الانفصال بالموصل .
8- السلطان محمود هو الزعيم الرسمي للسلاجقة الآن، ولكنه مشتَّت في الصراعات الداخلية .
9- الخلافة العباسية أصبحت بيد المسترشد بالله ، وهو خليفة له طموح ملموس في الخروج من سيطرة السلاجقة .
10- الإمبراطورية البيزنطية الآن تحت حكم يوحنا بن ألكسيوس كومنين، وقد التزم بنفس سياسة أبيه؛ ولذا لم يكن للإمبراطورية تدخُّل يُذكر في أمور الصراع الإسلامي الصليبي في هذه الفترة .

وهكذا فالصورة العامة في هذه الفترة كانت إيجابية نسبيًّا ، وإن لم يكن العزم على قتال الصليبيين وتحرير البلاد أمرًا عامًّا في كل التوجهات ، ولن يكون كذلك إلا بعد 8 سنوات عندما تظهر شخصية تتبنَّى القضية، وتجعلها محورَ حياتها !

ماذا حدث في خلال هذه السنوات الثمانية ، من سنة 513هـ إلى سنة 521هـ ؟

لقد حاول إيلغازي بن أرتق تكوين إمارة كبيرة للأراتقة ، وأفلح فعلاً في السيطرة على مساحة ضخمة تشمل ديار بكر بكاملها تقريبًا، وهي تحوي في داخلها عدة مدن مهمَّة مثل ميافارقين في الشمال ، وماردين وحصن كيفا في الجنوب ، كما ضمَّ إلى ديار بكر منطقة حران في الجنوب ، هذا إضافةً إلى مملكة حلب بكاملها .

ولا شك أن هذه الإمارة الكبيرة كانت ذات خطر كبير على الصليبيين؛ مما دفعهم إلى منازلة أخرى لإيلغازي وطغتكين ، وحقق الصليبيون نصرًا غير حاسم، وذلك في 14 من أغسطس 1119 ، أي بعد أقل من شهرين من هزيمتهم في موقعة البلاط ، إلا أنَّ إيلغازي جدَّد هجومه على الصليبيين، وخاصةً في منطقة الرها القريبة من إمارة الأراتقة، واستطاع إيلغازي أن يسيطر على مدينة عزاز، وذلك في مايو سنة 1120م ، غير أن إيلغازي اضطر إلى عقد هدنة مع بلدوين الثاني في نفس السنة؛ ليُعطِي نفسه فرصة لتنظيم الأمور في إمارته الواسعة .

وبينما كان إيلغازي يكوِّن إمارته هذه كانت الأحوال مضطربة جدًّا في العراق والموصل؛ مما أعطى له الفرصة لتكوين هذه الإمارة دون تدخُّل السلاجقة أو الخلافة العباسية، وواقع الأمر أنه في هذه السنة، أي سنة (514هـ) 1120م، وَقَع صدام مؤسف بين السلطان محمود سلطان السلاجقة، وأخيه الملك مسعود الذي كان يساعده أمير الموصل جيوش بك، وانتهى الأمر بانتصار محمود، واستقرار الأوضاع له .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قام رجل اسمه دبيس بن صدقة، وهو شيعيّ عربي من قبيلة بني مزيد، قام بثورة في العراق، بل واتجه إلى بغداد وحاصر الخليفة، فاضطر الخليفة إلى الاستنجاد بالسلطان محمود الذي تحرك بجيشه ففرَّ دبيس بن صدقة بعد أن أحدث فسادًا كبيرًا في بغداد، وقد لجأ دبيس إلى شمال الجزيرة بالقرب من إمارة الرها حيث بدأ يعرض خدماته العسكرية على الصليبيين في مقابل تكوين إمارة خاصة له !!
هذا الوضع المضطرب عزل الموصل كثيرًا عن ساحة الصراع الإسلامي- الصليبي، وهذا - لا شك - أراح الصليبيين كثيرًا؛ لأنه لو كانت الموصل بقوتها المعهودة مشتركة مع إيلغازي في معاركه لكانت أزمة الصليبيين كبيرة .

وفي نفس الوقت فإن الصليبيين في بيت المقدس وجدوا أنفسهم في مشكلة حقيقية؛ إذ أصبح لزامًا عليهم أن يوزِّعوا طاقاتهم للدفاع عن إمارة أنطاكية، إضافةً إلى مملكة بيت المقدس، وصار أعداء الصليبيين كُثُرًا؛ فهناك الأراتقة، وهناك طغتكين، وهناك إمارة صور الواقعة تحت سيطرة طغتكين، وهناك أيضًا عسقلان بحاميتها العبيدية، إضافةً إلى الدولة المصرية العبيدية التي - وإن كانت قد هدأت كثيرًا - ما زالت تترقب فرصة لاستعادة أملاكها في فلسطين .

هذا كله دفع مملكة بيت المقدس إلى محاولة تكوين فرقة عسكرية شرسة ثابتة تضمن الحفاظ على الأمن وسط كل هذه الأزمات، ومن ثَمَّ كان تكوين فرق الإسبتارية والداوية! وهما من أخطر الفرق العسكرية الصليبية مطلقًا !

أما الإسبتارية فهي هيئة تأسست قبل الحروب الصليبية بعدة سنوات، حيث أسَّسها بعض التجار النصارى الأوربيين كجمعية خيرية تهدف إلى علاج الحُجَّاج الفقراء مجانًا، وكانت مقامة إلى جوار كنيسة القيامة ببيت المقدس، وذلك ابتداء من سنة 1070م (أي قبل قدوم الصليبيين إلى القدس بتسعة وعشرين عامًا)، وأطلق على العاملين بهذه الهيئة فرسان المستشفى Hospitallers، الذي حُرِّف بعد ذلك في العربية إلى "الإسبتارية" .
وكان هؤلاء الإسبتارية يتبعون بابا روما مباشرة، وكانت بذلك لهم استقلالية خاصة، وقد قدموا الكثير من المعونات للصليبيين عند احتلالهم للقدس بحكم خبرة الإستبارية بالبلاد، وقد بدأ الصليبيون يشعرون بقيمتها فأغدقوا عليها العطايا ، وكان لهم جامعون للتبرعات سواء من القدس وفلسطين أو من أوربا بكاملها ، وهكذا صار لهم أملاك وضيعات وثروات هائلة .

وفي عهد بلدوين الثاني، ونتيجة للظروف الصعبة التي بدأ بها بلدوين الثاني حكمه، عمل بلدوين الثاني على تشجيع الإسبتارية وتقويتهم، ومن ثَمَّ عَظُم شأنهم جدًّا، وصار لهم أدوار عسكرية مختلفة تمام الاختلاف عن الهدف الذي من أجله أسِّست الهيئة، وإن ظلوا يحتفظون باسمهم "فرسان المستشفى" .

وإضافةً إلى الإسبتارية، فقد أسِّست هيئة أخرى خطيرة هي هيئة "الداوية"، وقد تأسست هذه الهيئة على أساس عسكريّ من البداية، ومؤسِّسها هو أحد الفرسان الفرنسيين، واسمه هوجو دي باينز Hugue de payens، وقد اختار هذا الفارس جزءًا من المسجد الأقصى، والذي يُطلِق عليه اليهود هيكل سليمان؛ ليؤسِّس فيه جمعيته العسكرية، ومن هنا ففرسان هذه الجمعية يعرفون بفرسان المعبد Templars، نسبة إلى معبد داود، ولهذا عُرفوا بالداوية نسبة إلى داود، وقد ذهب مؤسس هذه الجمعية إلى فرنسا وإنجلترا، وبدأ بجمع الأنصار من الفرسان والنبلاء الراغبين في قضاء حياة عسكرية دينية في الأرض المقدسة، وكان عملها في البداية يقتصر على حماية الحجاج النصارى، ثم ما لبثت الجمعية أن أصبحت شريكًا في العمليات العسكرية الخطيرة في الشام.
وهكذا صار إنشاء هيئة الداوية، وتحول هيئة الإستبارية إلى النشاط العسكري سببًا في توفير قوة حربية دائمة لمملكة بيت المقدس، وصار لهم من السلطات ما يجعلهم في كثير من الأحيان مستقلين تمامًا عن سلطة ملك بيت المقدس شخصيًّا أو أسقفية بيت المقدس، ومن الجدير بالذكر أن هاتين الفرقتين كانتا من أشرس الفرق الصليبية في الحروب، ولم يكن هناك أيُّ نوعٍ من الأخلاق أو الالتزام بالعهود في قتالهم، على خلاف ما يوحي به اسمهما من ارتباط بالدين أو بالرحمة !

ونعود في قصتنا إلى إيلغازي الذي لم تستقر له الأوضاع بصورة ترضيه، فكان جنوده كثيرًا ما يثورون عليه ويخالفونه، بل إن ابنه شخصيًّا أعلن الانفصال عنه والاستقلال بحلب سنة 515هـ\ 1121م، بل وعقد معاهدة مع الصليبيين أعطاهم فيها بمقتضاها حصني زردنا والأثارب ، وهذا - لا شك - أفزع إيلغازي الذي أسرع إلى حلب، واستردَّ حكم حلب منه بعد تعنيفه، ثم توجه بجيشه لاسترداد زردنا، مما دفع بلدوين الثاني أن يأتي من بيت المقدس للدفاع عن الحصن التابع لإمارة أنطاكية، والتقى الجيش المسلم بالجيش الصليبي عند حصن زردنا، ولكن لم يحدث قتال، بل حدث تجديد للهدنة، وللأسف قَبِل إيلغازي بتسليم حصن زردنا !

والواقع أن الناظر لحروب إيلغازي وسيرته سيتعجب من عدم إمكانيته دومًا من استغلال انتصاراته على الصليبيين، فهو لم يكن يصبر كثيرًا على القتال والحصار والمطاولة، ولا أعتقد أن هذا راجع إليه هو، ولكن إلى جيشه! فقد كان جيش إيلغازي مختلفًا عن جيش مودود رحمه الله؛ لأن جيش إيلغازي كان عبارة عن مرتزقة جمعهم من هنا وهناك، مغريًا إياهم بالغنائم والأسلاب؛ ولذلك فإن هؤلاء المرتزقة لم يكن عندهم صبر المجاهدين الذين يضحون بأوقاتهم وأعمارهم في سبيل الله، فضلاً عن أن إيلغازي نفسه لم يكن بيده من المال ما يفرِّقه عليهم كما يذكر ابن الأثير ؛ ولهذا فإن إيلغازي مع كونه قد حقق انتصارات بعضها كبير على الصليبيين، إلا أنه وجيشه لم يكونوا بالذين يمكن أن يحملوا الراية الحقيقية للجهاد، ويصبروا على حملها .

وبينما كان الوضع كذلك في المنطقة الشمالية حدث أمران كان لهما إسهام بعد ذلك في بعض التغييرات في الأحداث، وهو أن السلطان محمود أقطع الأمير آق سنقر البرسقي إمارة الموصل للمرة الثانية، وكان قد تولى أمرها قبل ذلك من سنة (507) إلى (509هـ)، وها هو الآن يتولى أمرها من جديد بعد مرور ست سنوات على عزله، وكان سبب ولايته أنه أظهر طوال هذه السنوات الولاء الكامل للسلطان محمود، ووقف إلى جواره في صدامه مع الملك مسعود أخيه، بل كان له دور ملموس في تهدئة الأمور والتوفيق بين الأخوين؛ مما جعل له مكانًا كبيرًا في قلب السلطان محمود، وقد مرَّ بنا أن هذا الرجل كان من الصالحين الأتقياء، مما سيكون له انعكاسٌ على أحداث الفترة القادمة .

أما الأمر الثاني الذي حدث في سنة (515هـ)\1121م فهو مقتل الأفضل بن بدر الجماليّ وزير مصر العبيدية الأول، وذلك على يد أحد الباطنية الإسماعيلية ! وقد يتعجب القارئ من مقتل الأفضل وهو إسماعيلي على يد الإسماعيلية، ولكننا نذكر أن الإسماعيلية انقسمت إلى فرقتين متعاديتين هما الإسماعيلية المستعلية التي ينتمي إليها الوزير الأفضل، والإسماعيلية النزارية المعروفة بالباطنية (الحشاشين)، ولهذا تم هذا الاغتيال للانتقام من الأفضل الذي يعتبر الرأس الأولى للحكم في مصر، حيث إن الخليفة الآمر بأحكام الله كان مجرَّد صورة.
وبمقتل الأفضل بن بدر الجماليّ دخلت الدولة العبيدية في طور ضعف متدرج، وهذا - وإن كان سيؤمِّن ظهر مملكة بيت المقدس - سيكون له أثر إيجابي مستقبلاً عند العزم على توحيد الشام في زمان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي .

وفي أواخر سنة (515هـ) وأوائل سنة (516هـ)\ 1122م كان هناك خليط من الأحداث المفرحة والمحزنة !

فقد حاصر بَلْك بن بهرام بن أرتق - وهو ابن أخي إيلغازي - إمارة الرها، وكان بلك أميرًا على مدينة تسمى خَرتَبرت بالقرب من إمارة الرها، ولم ينجح بلك في فتح الرها فانصرف بجنوده عن المدينة، فتبعهم جوسلين دي كورتناي بفرقة من فرسانه، ثم دار قتال بين الفريقين بعيدًا عن حصون الرها، فاستطاع بلك وأربعمائة فارس من فرسانه أن يبيدوا الجيش الصليبي، بل وأفلحوا في أسر جوسلين دي كورتناي أمير الرها! وكان هذا الحدث المهيب في (516هـ)\ 13 من سبتمبر 1122م .

لقد كانت مفاجأة رائعة لم يتوقعها أحدٌ، خاصةً أن الفرقة التي كانت بصحبة بلك كانت أضعف بكثير من فرقة الصليبيين .

ومع سعادة المسلمين بهذا الخبر إلا أن الأخبار أتت بسرعة بوفاة إيلغازي بن أرتق بعد أقل من شهرين من أسر جوسلين، وكما كان متوقعًا فقد انهارت الإمارة الكبيرة التي كوَّنها إيلغازي الأرتقي! ولم يكن هذا الانهيار لحداثة إنشائها فقط، ولكن لأنها تأسست على أكتاف جيوش تبحث عن المال والثروة لا عن الجهاد والجنة! فكان طبيعيًّا أن تتقاتل هذه الجيوش بعد وفاة إيلغازي القويِّ، وذلك لتقسيم التركة الثمينة !

وهكذا أخذ شمس الدولة سليمان بن إيلغازي إمارة ميافارقين؛ أي الجزء الشمالي من ديار بكر، وأخذ ابنه الثاني حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إمارة ماردين مع الجزء الجنوبي من ديار بكر، أمّا بلك بن بهرام بن أرتق ابن أخي إيلغازي فقد ظل مسيطرًا على خَرْتبرت ومعه صيده الثمين جوسلين، وأخيرًا حلب فإنها آلت إلى بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو ابن أخٍ آخر لإيلغازي .

وعند حدوث هذه التطورات المؤسفة أسرع بلدوين الثاني ملك بيت المقدس - الذي أصبح وصيًّا على إمارة الرها، إضافةً إلى أنطاكية - لاستغلال الفرصة، وبدأ في مهاجمة إقليم حلب، واستولى فعلاً على البيرة شرق حلب، وسيطر على بعض المناطق في شمال وجنوب حلب، وبذلك صار مهدِّدًا لحلب ذاتها ، وكان بلدوين يعلم أن قوته في هذا الوقت لا تسمح بإسقاط حلب الحصينة، ولكنه كان يريد أن يضغط على أميرها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ليعقد معه صلحًا يؤمِّن جانبه، ومن ثَمَّ ينطلق إلى الخطير بلك بن بهرام الذي أثبت كفاءته بهزيمة الصليبيين في الرها وأسر جوسلين نفسه! وبالفعل تحقق لبلدوين الخبيث ما أراد، وطلب سليمان الصلح مع بلدوين، بل وردَّ له حصن الأثارب !
وهكذا انطلق بلدوين الثاني آمنًا ليقابل بلك بن بهرام .

وفي صفر سنة 517هـ الموافق 18 من إبريل 1123م، وأثناء حصار بلك بن بهرام لقلعة صليبية جاء بلدوين الثاني بجيشه ليقابل جيش بلك عند موضع يسمى أورش، وكانت المفاجأة الكبرى أن استطاع بلك بن بهرام أن يهزم الصليبيين، بل ويأسر بلدوين الثاني ملك بيت المقدس !!
وهكذا، وفي غضون سبعة أشهر فقط، كان بلك بهرام بن أرتق يمسك في آنٍ واحد بملك بيت المقدس وأمير الرها ! ! لقد كانت صدمة هائلة للصليبيين !!

ولعل هذا الموقف من أشد المواقف صعوبة على الصليبيين منذ وطئوا الأراضي الإسلامية، ولا ننسى أن بلدوين الثاني كان وصيًّا على إمارتي أنطاكية والرها بعد مقتل روجر الأنطاكي وأسر جوسلين دي كورتناي، ومعنى هذا أن الثلاث إمارات أصبحوا الآن بلا زعامة !

وذاع صيت بلك بن بهرام فجأة، وملأت أخباره الآفاق، وكان من السهل عليه الآن أن يوسِّع إمارته، وأن يسعى من جديد إلى توحيد الأراتقة، وقد أفلح فعلاً في ضم حرَّان، ثم أتبع ذلك بضم حلب، بل وبدأ يهاجم إمارة أنطاكية من مكانه الجديد في حلب.
ووضعت مملكة بيت المقدس على قيادتها أمير صيدا وقيسارية إيستاش جارنيه Eustache Garnier، ولكنه تُوفِّي فجأة بعد ولايته بشهر أو نحو ذلك! وتولى بعده أحد قواد بيت المقدس واسمه وليم دي بور، أما إمارة أنطاكية فقد تولى قيادتها بطرك الكنيسة برنارد دي فالنس .

وكان بلك بن بهرام يحبس الأسيرين الثمينين في قلعة حصينة في معقله الأساسي خرتبرت، وانتهز فرصة الضعف الصليبي وانعدام التوازن المفاجئ وبدأ في مهاجمة المناطق المحيطة بحلب، واستطاع فعلاً السيطرة على البارة غربي معرَّة النعمان، ثم اتجه لحصار كفرطاب .

ثم جاءت المفاجأة المؤسفة أثناء حصار كفرطاب أن هناك مؤامرة نُفِّذت من قبل سكان منطقة خرتبرت النصارى، واستطاعوا بها أن يحرِّروا الأسيرين في لحظة واحدة ، وفي ظل غياب معظم الجيش المسلم للمعارك المتتالية في منطقة حلب، وعاد بلك بن بهرام بسرعة إلى خرتبرت، وفاجَأَ الفرقة التي تصاحب الأميرين الأسيرين، واستطاع أن يُعيد أسر الملك بلدوين الثاني، بينما أفلح جوسلين دي كورتناي في الفرار بعد عامٍ كامل من الأسر !
وخشي بلك بن بهرام أن يتكرر الأمر مع بلدوين الثاني فنقله إلى قلعة حصينة في مدينة حران ؛ ليكون بعيدًا عن المدن ذات الكثافة النصرانية ، وبعيدًا أيضًا عن جيوش الصليبيين ، ثم أعاد نقله بعد ذلك إلى قلعة أشد حصانة في حلب .

واستأنف بلك بن بهرام جهوده في قتال الصليبيين، وانتصر عليهم في مَنْبِج شمال شرق حلب ، إلا أنه أصابه فجأة سهمٌ غَرْبٌ لا يُعرَف مصدره ، فسقط شهيدًا رحمه الله !!
لقد حدث ذلك في ربيع الأول 518هـ الموافق 6 من مايو 1124م ليفقد المسلمون عَلَمًا مهمًّا من أعلام الجهاد في هذه المرحلة، ولتحدث نفس المشكلة التي عانى منها المسلمون بعد وفاة إيلغازي؛ إذ تقطعت إمارته بين الوارثين !

وكانت حلب من نصيب حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وقد ضمها إلى ماردين، إلا أنه آثر أن يبقى في ماردين لبُعدها عن أرض الشام حيث الصدامات المتكررة مع الصليبيين، بينما هو - كما يقول ابن الأثير - رجل يحب الدَّعة والرفاهية !

ولكن هناك مشكلة كبيرة جدًّا لا بد أن يُقحِم تمرتاش الوديع نفسه فيها! وهي مشكلة الأسير المهم الملك بلدوين الثاني حبيس قلعة حلب! إنه الآن المتصرِّف في أمر هذا الأسير، ولا بد أن يُبدِي رأيه في قضيته !

وتحركت الوساطة السياسية بين الفريقين، وقام أمير شيزر سلطان بن منقذ بهذا الدور، وبعد مفاوضات وصل الفريقان إلى عدة شروط يطلق على أثرها سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، وهذه الشروط هي :

1- يدفع الملك بلدوين الثاني مبلغ ثمانين ألف دينار فدية، على أن يدفع منها مبلغ عشرين ألف دينار مقدمًا، والباقي بعد ذلك .

2- يتعهد الملك بلدوين الثاني بوصفه وصيًّا على إمارة أنطاكية بإعادة حصون عزاز والأثارب وزردنا والجزر وكفرطاب إلى إمارة حلب.

3- يتعاون الملك بلدوين الثاني مع تمرتاش في إخضاع دُبَيْس بن صَدَقَة الزعيم العربي الشيعي الذي نزح إلى الجزيرة بعد فراره من الخليفة العباسي في العراق .

4- يُسلِّم بلدوين الثاني عددًا من الرهائن يحتفظ بهم عند المسلمين لحين تنفيذ بلدوين الثاني ما طلب منه من دفع المال وتسليم الحصون، وهؤلاء الرهائن هم مجموعة من الأمراء الصليبيين على رأسهم ابنة بلدوين الثاني شخصيًّا، وهي طفلة عمرها خمسة أعوام فقط، وجوسلين الثاني ابن جوسلين دي كورتناي أمير الرها، على أن تبقى هذه الرهائن في يد الوسيط، وهو أمير شيزر سلطان بن منقذ .

وتمَّ بالفعل إطلاق سراح بلدوين الثاني بعد أكثر من سنة من أسره، وتوجه بلدوين أولاً إلى أنطاكية، وهناك وبعد لقاء مع بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس قرر الطرفان الرجوع في البند الخاص بإرجاع الحصون إلى حلب، ومن ثَمَّ أرسلا رسالة بهذا المعنى إلى تمرتاش !
وفي هذه الأثناء وفي خلال السنة الماضية بكاملها، منذ اتجاه بلدوين الثاني إلى الشمال لقتال بلك بن بهرام، وأثناء أسر بلدوين وما تعلق به من أحداث، كان الصليبيون يحاصرون مدينة صور اللبنانية، وذلك بمساعدة أسطول عسكريّ كبير من البندقية .
ومدينة صور - كما ذكرنا من قبل - هي إحدى مدينتين لم يُسقطا بعدُ في كل الساحل الإسلامي الشامي على البحر المتوسط، والمدينة الثانية هي عسقلان؛ ولذلك فهي مدينة في غاية الأهمية، ليس لحصانتها فقط ، ولكن لكونها أحد منفذين لا ثالث لهما للإمدادات البحرية الإسلامية .

وكانت صور في هذا الوقت تحت وصاية طغتكين أمير دمشق، وهذا منذ سنة 506هـ\ 1112م، ولكن الدولة العبيدية الخبيثة في مصر حاولت أن تستغل الظروف السيئة في بلاد الشام لتضم إلى حوزتها مدينة صور، فدبَّرت مؤامرة لإقصاء الأمير مسعود، وهو أميرها من طرف طغتكين، مع أنه كان يتمتع بالكفاءة العسكرية والروح الجهادية، واستطاع الحفاظ على المدينة مدة أحد عشر عامًا كاملة، مقاومًا ببسالة كل الهجمات الصليبية على المدينة، ولكن السلطة العبيديّة فشلت بعد السيطرة على صور في الحفاظ عليها، وكانت النتيجة حصارًا محكمًا حول صور من الصليبيين، وإشراف سكان صور على الهلاك لقلة الطعام والشراب، لولا تدخل طغتكين الذي مُنع من الوصول إلى صور لاعتراض جيش أمير طرابلس بونز له، ولكن طغتكين أفلح في إجراء مباحثات مع الصليبيين قضت بتسليم المدينة إلى الجيش الصليبي في مقابل تأمين أرواح السكان بكاملهم، وبالفعل تمت الاتفاقية، وقام الصليبيون بترحيل أهل المدينة إلى خارجها ، وبذلك سقطت المدينة الحصينة صور في 23 من جمادى الأولى سنة 518هـ\ أوائل يوليو 1124م، بعد أكثر من 25 سنة لدخول الصليبيين أرض الشام !

وكانت صدمة كبيرة جدًّا للمسلمين، خاصةً أن هذه الصدمة تزامنت مع مماطلة بلدوين الثاني في تنفيذ شروط إطلاق سراحه، مما ينذر بضياع الفرصة الثمينة التي كانت في أيدي المسلمين !

رَفَع سقوط صور معنويات بلدوين الثاني، ومن ثَمَّ فقد قرر أن ينكث عهده في مسألة ردِّ الحصون الإسلامية، بل قرر أن ينقض الاتفاق من أساسه، فتحالف مع خصم تمرتاش، وهو دبيس بن صدقة الشيعيّ، والذي كان من المفترض على بلدوين أن يساعد تمرتاش في السيطرة عليه وإخضاعه، ثم جمع بلدوين الثاني جيوشه وجيوش أنطاكية، إضافةً إلى جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وكذلك جيش دبيس بن صدقة، وتوجَّه بكل هذه الجيوش إلى حلب لحصارها، وكان تمرتاش في ذلك الوقت في ماردين بعيدًا عن المشاكل !
ومن المؤكد أن بلدوين الثاني كان مطمئنًا إلى أن الزعيم المسلم لن يقدم على قتل الرهائن لا لضعفه فقط، ولا لعلمه أن الشريعة الإسلامية تحرِّم قتل الأطفال؛ ولكن لأن الرهائن ورقة ضغط رابحة سيحبُّ تمرتاش أن يحتفظ بها إلى آخر مدى، فأراد بلدوين الثاني أن يمارس ضغطًا عنيفًا على تمرتاش، فيقبل في النهاية أن يُطلِق الرهائن نظير رفع الضغط العنيف من عليه .

وهكذا وجد أهل حلب أنفسهم محصورين بقوات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ودبيس بن صدقة، وليس في وسطهم أميرهم ليدفع عنهم هذه الجيوش الضخمة!!
لقد كانت أزمة عنيفة !

وما أكثر الأزمات التي وقعت فيها حلب في خلال العقود الأخيرة، منذ أيام رضوان بن تتش ثم ابنه ألب أرسلان فالخادم بدر الدين لؤلؤ، وأخيرًا تحت حكم الأراتقة إيلغازي ثم بلك بن بهرام ثم حسام الدين تمرتاش.
وإن كنا نفهم الآلام التي مرت بها المدينة تحت حكم الطغاة رضوان وابنه ألب أرسلان ثم بدر الدين لؤلؤ، فلماذا تعاني المدينة تحت حكم الأراتقة، وهم كما رأينا قادتهم على قدرٍ لا بأس به من حبِّ الجهاد، وتوقير الشريعة ؟!

واقع الأمر أن الأراتقة المجاهدين الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية بدءًا من سقمان بن أرتق، ومرورًا بإيلغازي بن أرتق، وانتهاءً ببلك بن بهرام كانوا جميعًا من القادة الناجحين الذين يقودون شعوبًا فاشلة !

والقائد الناجح العظيم يفشل إن كان جنوده أو شعبه من النوعية الفاشلة؛ فجيوش الأراتقة، بل وشعوبهم، كانت تتحرك في هذه المعارك بدافع الحصول على غنيمة أو مال، وبدافع تغيير مستوى المعيشة إلى أوضاع أفضل، وبهدف ترك المدن الصغيرة والقرى للسكنى في المدن العظيمة كحلب وحرَّان، وهذه الجيوش لو انتصرت مرة أو مرتين لا يكتب لها دوام النصر، ولو مُكِّنت في قطعة أرض أو مدينة، فإنه لا يكتب لها دوام التمكين والسيادة؛ إذ سرعان ما تنهار عند أول أزمة تنذر بضياع المال أو النفس.
ولذلك فلكي يحقق المسلمون نجاحًا دائمًا وتمكينًا مستمرًّا، واستقرارًا في دولتهم، وهيبة لا تهتز عند الأزمات لا بد أولاً من تربية شعبٍ على معاني الجهاد وحب الشريعة، وهذا الشعب هو الذي سيُخرِج الجيش الفاهم والقائد الواعي الذي يستطيع أن يواصل مسيرة الجهاد الصعبة .

ولو راجعت قصص انتصار وتمكين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وقطز ومحمد الفاتح، وغيرهم من الذين مُكِّنوا في الأرض ستجد أن شعوب هؤلاء كانت شعوبًا عظيمة، وتربيتهم كانت تربية راقية، ومستواهم الإيماني والأخلاقي كان متميزًا، وكفاءتهم العسكرية والسياسية والإدارية كانت عالية.
إنها منظومة متكاملة تحقق النصر في النهاية، ولا يمكن أن يتم نصر متكامل مستمر لمجرد ظهور بطل متحمِّس، أو رجل يحب الشهادة !

وواقع الأمر أننا لم نر حتى الآن في قصة الحروب الصليبية من يتناول القضية بهذه الطريقة، إنما كان يتعامل المخلصون الذين ظهروا لنا في هذه القصة مع الموضوع بطريقة إدارة الأزمات، وبطريقة حكومة الطوارئ، التي تحاول قدر استطاعتها بإخلاص الخروج من الأزمة، لكن دون تخطيط حقيقي لمستقبل البلاد، ودون وضع خطط واضحة لضمان سلامة البلاد لعشرات السنين المستقبلية .

وهذا ما يحزننا في زماننا الآن، عندما نرى المتحمِّسين لقضية فلسطين أو العراق أو غيرهما من الأقطار الإسلامية المحتلة يقصرون همَّهم ووسائل مساعدتهم على جمع المال والإمداد بالغذاء والدواء، بل والمطالبة بالذهاب إلى هناك للقتال والاستشهاد! وهذا - لا شك - أمر مطلوب، ولكنه لا يكفي بمفرده، بل لا بد إلى جواره أن ننظر إلى المدى البعيد الذي نفلح فيه في تكوين شعب، وفي تربية جيل يستطيع أن يحقق كل الآمال، فلا يكتفي بتحرير البلاد المحتلة فقط ، ولكن يسعى إلى الاستمرار في الحفاظ على المكاسب ويحرص على دوام التمكين، بل ويطمح في نشر دين رب العالمين في كل ربوع الدنيا.
وما أعمق الكلمات التي كان يحفز بها رسول الله شعبه أثناء فترة مكة، حين كان يُعلِي طموحاتهم، ويرفع من همتهم، فلا يكتفي بفتح باب الأمل "باحتمالية" النجاة من اضطهاد أهل مكة، بل يؤكد على ذلك ويتجاوز هذا إلى طموحات رائعة حيث يقول: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ، بل إنه يقول لهم في صراحة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا" . وقال لعمِّه أبي طالب: "إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية!!". قال أبو طالب: كلمة واحدة؟! قال: "كلمة واحدة". قال: "يا عم، قولوا لا إله إلا الله" ؛ يقول هذا الكلام والمسلمون محاصَرون في مكة المكرمة، وهم بعيدون عن كل أسباب التمكين المادية !

لا بُدَّ إذن من وجود قوَّاد ومربِّين ومصلحين وعلماء يرفعون سقف أحلام المؤمنين، ويعيدون تربية الشعب على أساس متين، يستخلص بوضوح من سيرة الرسول r، وكذلك من سير المجاهدين المجددين في تاريخ هذه الأمة، والذين استطاعوا أن يمكنوا للإسلام في الأرض.
ومع ذلك فإن مرحلة الأراتقة هذه كانت ضرورية، ولا بد أن نشكر جهودهم مع كونها كانت مؤقتة؛ إنهم حملوا الراية في زمان تخاذل الكثيرون عن حمل الراية، وداموا على الجهاد مع صعوبته، وألحقوا بعض الهزائم بالصليبيين منعتهم من التوسع الأكثر في بلاد المسلمين، ومهدوا لمن يأتي من بعدهم ليكمل المسيرة، وأنقذوا أرواحًا كانت من الممكن أن تزهق، وديارًا كانت من الممكن أن تهدم، ولعلهم لو ظهروا في زمانٍ اجتهد فيه من سبقهم في تربية الشعوب، وتعليم الناس، لكان لهم شأن آخر، ولكن الأمور تجري بالمقادير !

ونعود إلى أهل حلب !

لقد وجد أهل حلب أنفسهم في حيرة شديدة، وشعروا أن البلد بلا قائد ولا رابط، وأن قائدهم المفترض حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ضعيف، وحتى لو جاء بجيشه فلن يستطيع أن يدفع عنهم، فهو لا يرغب أصلاً في مواجهة الصليبيين، والجهاد صعب، ولن يَقْوَى عليه إلا من يطلبه، بل ويشتاق إليه.
ومن هنا قرَّر أهل حلب أن يستعينوا بقائد من خارج حلب يأتي ليتسلم زمام الأمور، ومن ثَمَّ يَرُدُّ هؤلاء الغزاة عن المدينة الآمنة: حلب! فبمَن يستعينون؟!
إن معظم الزعامات التي كانت حولهم كانت في غاية الضعف، ولم يكن أمامهم إلا أحد رجلين: إما طغتكين قائد دمشق، أو آق سنقر البرسقي زعيم الموصل .

أمّا طغتكين، فهو على الرغم من قوته وحفاظه على دمشق فترة طويلة فإنَّه لم يكن القائد المنشود، وذلك أنه كان دومًا في حاجة إلى المعونة من الخارج، بل كان أحيانًا يتحالف مع الصليبيين في فترات ضعفه، وها هم الصليبيون يأتون بجيوشهم لحصار حلب غير معتبرين بقوة طغتكين القريبة من حلب، ومن ثَمَّ فإن أهل حلب شعروا أن هيبة طغتكين لن تردع الصليبيين، ولن تردهم خاسرين .

لكن القائد الآخر آق سنقر البرسقي شأنه مختلف! فهذا القائد، مع كونه لا يمتلك تاريخًا جيدًا في المنطقة؛ حيث هُزم قبل ذلك من الصليبيين أثناء فترة ولايته الأُولى على الموصل، إلا أنه يتمتع ببعض الخصال التي تجعل كفَّته أرجح من كِفَّة طغتكين.
فهو أولاً : يتمتع بدرجة عالية من الصلاح والتقوى تجعله يسير فيهم بالعدل والرحمة، وهي صفات افتقر إليها شعب حلب عدة عقود .

وهو ثانيًا : يمتلك جيشًا قويًّا هو جيش الموصل، ويكفي أن أحد أبرز قادته هو عماد الدين زنكي الذي اشتهر أمره بين المسلمين .

وهو ثالثًا : يحكم شعبًا فاهمًا محبًّا للجهاد، وهو شعب الموصل؛ ولذا فجيشه يختلف عن بقيَّة جيوش هذا الزمان، وهو يعلم كيف يكون الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل الكرسيِّ أو المال .

وهو رابعًا : على عَلاقة جيِّدة جدًّا وشخصيَّة بالسلطان السلجوقيّ محمود؛ ومن ثَمَّ فهو بذلك يضمن تأييدَ أكبر سلطة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت .

وهو خامسًا : سيضيف قوة جديدة إلى المنطقة بالإضافة إلى قوة طغتكين؛ لأن هناك سابق اتحاد بين قوة الموصل وقوة دمشق أيام مودود رحمه الله، فلو أُعيدت هذه الوَحدة بالإضافة إلى حلب فلعل ذلك يردع الصليبيين ويحقق النصر .

ومن هنا رجحت كفة آق سنقر البرسقي، وأرسل أهل حلب من فورهم رسالة استغاثة إليه، تطلب منه القدوم لتسلُّم مفاتيح المدينة العظيمة : حلب !

وجد آق سنقر البرسقيّ أمير الموصل أن هذه فرصة لا تُعَوَّض لمواصلة الجهاد ضد الصليبيين ، خاصة أنَّ السلطان محمود قد أظهر رغبة في الجهاد قبل ذلك، ومن هنا تحرك بسرعة ملبِّيًا نداء أهل حلب، ووصلها بالفعل في ذي الحجة سنة 518هـ\ يناير 1125م؛ ليُوَحِّد بذلك بين الإمارتين الكبيرتين : الموصل وحلب وإذا كنا قد رأينا شرًّا كبيرًا في غياب المجاهد بلك بن بهرام عن الساحة، وإطلاق سراح بلدوين الثاني دون فائدة تذكر ، وحصار بلدوين وأعوانه لمدينة حلب، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة؛ فإنه كان من وراء هذا الشرِّ خيرٌ كثير، وهو توحيد قوة الإمارتين المهمَّتين: الموصل وحلب. وهذه الوحدة وإن كانت لم تحقق أهدافها في أول أيامها، إلا أنها لفتت الانتباه إلى قيمة اتحاد هاتين الإمارتين، وبذلك يُعتبر هذا الحدث نواةً لما سيحدث مستقبلاً من اتحاد إستراتيجي مؤثر بينهم .

أما لماذا تعتبر هذه الوَحدة مهمة جدًّا فذلك لأسباب عدة منها :


أولاً : تواصل إمارة الموصل مع إمارة حلب دون وجود فارق بينهما يعني اتصال الجسر العسكريّ من العراق، بل من شرق العالم الإسلامي كله بما في ذلك فارس (مركز السلاجقة الرئيسي)، مع أرض الشام حيث يوجد الصليبيون .

ثانيًا : الدعوات الجهادية الحقيقية كانت تظهر في الموصل، فإذا تَوَحَّدَت الموصل مع حلب فإنه يُتَوَقَّع أن تسري هذه الدعوة في حلب ومنها إلى الشام، بعد غياب حقيقي لهذه الدعوة في أرض الشام طوال السنوات السابقة .

ثالثًا : الإمكانيات البشرية والعسكرية للإمارتين كبيرة، فاتحادهما يعني تكوين قوة صلبة تستطيع مواجهة الصليبيين .

رابعًا : وجود حلب تحت حكم الموصل التابعة أصلاً للسلاجقة والخلافة العباسية سيضع المسئولية رسميًّا على السلطنة والخلافة، ولن يصبح الأمر مجرَّد تفضُّل بالمساعدة، أو تبرُّع بالجهاد .

خامسًا : الجيوش العسكرية العراقية كانت تعاني دائمًا من عدم وجود قاعدة انطلاق متقدمة في أرض الشام، ولعلنا نذكر الأزمة التي وُضع فيها مودود رحمه الله عندما أَغْلَق رضوان حاكم حلب أمامه أبواب المدينة عندما جاء بجيوشه للجهاد ضد الصليبيين.
سادسًا: هناك فرصة كبيرة لانتقال علماء المسلمين من العراق، وخاصة من الموصل وبغداد، لإعادة بناء أهل حلب والشام عقائديًّا وفكريًّا، وخاصةً أن سيطرة الباطنية على الأمور في أعظم مدينتين بالشام وهما: حلب ودمشق، أدى إلى كثير من الاضطراب في مفاهيم الناس .

فهذه كانت بعض الفوائد من اتحاد الموصل مع حلب؛ ولذلك ظهر الاحتفال بهذه الخطوة واضحًا عند كل المسلمين المخلصين المعاصرين للحدث، كما ظهر ذلك أيضًا في كتابات المؤرخين، وما زال يظهر في تحليلاتنا إلى زماننا هذا، ولا شكَّ أن الوَحدة بصفة عامة أمر يدعو إلى الاحتفال والاهتمام .

وهكذا جاء آق سنقر البرسقيّ إلى حلب، وبمجيئه رحلت القوات الصليبية حيث شعرت بقوة الجيش السلجوقي العراقي، وتعاطف الناس في حلب معه، ومن هنا لم يحدث صدام بين المسلمين والصليبيين .

رتَّب آق سنقر الأوضاع في حلب، ثم عاد إلى الموصل بعد أن ترك فيها أميرًا يتبعه ، ثم ما لبث أن عاد إلى المنطقة في أوائل سنة (519هـ)\ مارس 1125م، وزار إمارة شيزر، وتسلم الرهائن الصليبية من سلطان بن منقذ أمير شيزر، وذلك بناء على المعاهدة التي كانت تنصُّ بتسليم هؤلاء الرهائن لزعيم حلب في حال الإخلال بأي بند من بنود الاتفاق .

ثم بدأ آق سنقر الجهاد مباشرة ضد الصليبيين، فاستطاع السيطرة على حصن كفرطاب بالقوة، وهو من الحصون التي كانت في الاتفاق مع بلدوين الثاني، ثم حاصر بعده حصن زردنا ، ونتيجة هذه الحملات استنجدت أنطاكية ببلدوين الثاني الذي جاء مسرعًا إلى المنطقة، خاصة أن ابنته الآن رهينة في يد آق سنقر البرسقي، واشترك معه في النجدة جيش طرابلس بقيادة الأمير بونز، وكذلك جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وترك آق سنقر حصار زردنا، واتجه إلى منطقة عَزاز شمال حلب ، حيث دارت موقعة كبيرة بين الطرفين اقتتلوا فيها قتالاً شديدًا، ثم تمكَّن الصليبيون - للأسف الشديد - من إلحاق الهزيمة بالمسلمين ، لكنها لم تكن هزيمة ساحقة كما تُصَوِّرُها بعض الكتابات بدليل أن قتلى المسلمين كما ذكر ابن الأثير كانوا ألفًا فقط ، وبدليل قَبول الطرفين للجلوس للتفاوض بعد المعركة مما يُعطِي انطباعًا بالتكافؤ النسبي بين الفريقين .

وكانت نتيجة المفاوضات كالآتي :


أولاً : يُسَلِّم آق سنقر الرهائنَ الصليبيين إلى بلدوين الثاني .

ثانيًا : يحتفظ المسلمون بكفرطاب .

ثالثًا : تُعقد هدنة بين الطرفين لمدة معينة لم تحدِّدها المصادر ، ولكن من الواضح أنها كانت هدنة لمدة قصيرة ؛ لأن آق سنقر رجع مسرعًا إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع في جيشه، وجمع المجاهدين لصدام جديد، وقد ترك على حلب ابنه عز الدي مسعود بن آق سنقر .

كانت هذه هزة لآق سنقر لكنها هزة لم تُلْغِ زعامته، ولم تزعزع مركزه، ولم تُفقده ثقة السلطان محمود فيه، ولا ثقة الشعوب الإسلامية في قدراته وإخلاصه، ومن ثَمَّ فالآمال كانت لا تزال معقودة عليه في تحرير الأراضي الإسلامية من دنس الصليبيين .

وبينما يُعِدُّ آق سنقر عُدَّته للتجهز لصدام جديد بعد انقضاء الهدنة إذ الأخبار تأتي من الشام أن بونز أمير طرابلس استطاع انتزاع قلعة رَفِنِيَّة من أيدي المسلمين، وهذه القلعة تابعة لحمص التي تتبع بدورها طغتكين أمير دمشق ، وهي قلعة في غاية الأهمية لسببين رئيسيين؛ الأول لأنها تُشرف على طرابلس، ومن ثَمَّ فهي تهدد أمن الإمارة الصليبية بكاملها، والثاني أنها تشرف على الطريق بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثَمَّ فالسيطرة عليها يؤمِّن الإمدادت الصليبية من بيت المقدس إلى أنطاكية، ومن الجدير بالذكر أن بلدوين الثاني شارك بونز في إسقاط قلعة رَفِنِيَّة، وبالتالي نقض الهدنة التي كانت بينه وبين آق سنقر البرسقي .

هنا استنجد طغتكين بآق سنقر الذي جاء من فوره بجيشه في منتصف عام 520هـ\ 1126م، وأرسل آق سنقر ابنه عز الدين مسعود لقتال الصليبيين عند رَفِنِيَّة بينما توجه هو إلى حصار حصن الأثارب المهمِّ، وهو من الحصون التابعة لأنطاكية.
أقبل بلدوين الثاني مسرعًا ومعه جوسلين دي كورتناي أمير الرها، وكان واضحًا أنه خشي من القوة المتنامية لآق سنقر، ومن إصراره وعزمه على مواصلة الجهاد، ومن تعاطف المسلمين معه، ومن اتفاق زعماء الشام عليه، فعرض عليه الصلح، وعقد الهدنة من جديد، وهذه المرة سيدفع بلدوين الثاني الثمن، وهو إعادة حصن رَفِنِيَّة الخطير للمسلمين !

كانت نتيجة مُرضية جدًّا لآق سنقر، وخاصة أنها جاءت دون قتال، وسيستعيد المسلمون حصنًا مهمًّا، وسيأخذون بالهدنة الفرصة لإعادة تنظيم جيوشهم وأمورهم، ومن ثَمَّ وافق آق سنقر البرسقي وتسلَّم حصن رَفِنِيَّة، وأبقى عز الدين مسعود ابنه في حلب، وعاد أدراجه إلى الموصل .

لقد بدأ المسلمون الآن ينظرون إلى آق سنقر على أنه القائد الذي سيصمد في الحرب ضد الصليبيين، وهذا - لا شك - أسعد المسلمين كثيرًا، إلا أن هذه السعادة لم تكن في قلوب كل من يرقب الأحداث .
لقد كانت هناك عيون يملؤها الشرُّ، وقلوب يغمرها الحقد ترقب هذا النمو لشعبية هذا المجاهد، وهذه الآمال المعقودة عليه !!

إنها عيون الباطنية وقلوبهم!

إن هذه العصابات الإسماعيلية الشيعية المسلحة ما كانت لتستقر أبدًا أو تسعد وهي ترى جهودًا سُنِّيَّة مخلصة تهدف إلى توحيد الأمَّة، وإعلاء راية الجهاد، وطرد الصليبيين؛ لذلك قررت هذه القلوب الحاقدة والنفسيات المعقدة أن تتخلص من هذا الرمز الجديد، كما تخلصت قبل ذلك من سلفه المجاهد مودود، ومن قبله من الوزير العالم نظام الملك!
وفي اليوم الذي عاد فيه آق سنقر إلى الموصل، وهو يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 520هـ الموافق 26 من نوفمبر 1126م، دخل آق سنقر رحمه الله المسجد الجامع لصلاة الجمعة، وكان يصلي رحمه الله مع العامة وَسْط الناس، وفي الصف الأول، وإذا ببضعة عشر باطنيًّا يهجمون عليه في وقت واحد، وتناوشوه بسكاكينهم وخناجرهم فسقط شهيدًا رحمه الله، في يومٍ كان من المفترض أن يحتفل فيه المسلمون باستعادة حصن رَفِنِيَّة !

إن طريق الجهاد شاقٌّ وطويل، ومشاكله لا تنتهي، وآلامه كثيرة، لكن مع ذلك يبقى الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه، وعلى الأمة التي تبغي عزة، وتهفو إلى ريادة وسيادة أن تتعوَّد على مثل هذه الصدمات، ولا تيأس لفقدان رمز من رموز الجهاد؛ لأن الله إذا اطَّلع على الصدق في قلوب الناس، والرغبة الحقيقية في الجهاد، رزقها مَن يحمل الراية، وكثيرًا ما يكون هذا البديل أعظم ألف مرة ممن فُقد، وهذا تدبير مَن لا يغفل ولا ينام .

ومع ذلك فلا يمنع أن تحدث هزة وأزمة مؤقَّتة بعد فقدان رمز مهمٍّ من رموز الجهاد والصلاح، ولقد تزامن مع استشهاد آق سنقر البرسقي رحمه الله عدة حوادث جعلت أحوال العالم الإسلامي في اضطراب أكثر وأزمة أكبر .

فمن هذا مثلاً حدوث خلاف عظيم بعد مقتل البرسقي بأقل من شهرين بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود، وقد تطور هذا الخلاف حتى وصل إلى صدام بالجيوش، وكادت مقتلة عظيمة بين الطرفين تحدث لولا أن الله سلَّم، وقُمعت الفتنة، واعتذر الخليفة المسترشد للسلطان القويِّ محمود، واستقرت الأوضاع نسبيًّا .

ومن هذه الحوادث أيضًا وصول بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول، بعد أن بلغ سنَّ الرشد، وكان وصوله في شوال (521هـ) أكتوبر 1127م ، ولم يكن يَقِلُّ شراسة عن أبيه، حتى وصفه المؤرخ أسامة بن منقذ بأنه كان بليَّة على المسلمين .

وبهذا استقرت أوضاع الصليبيين إلى حدٍّ كبير، فبلدوين الثاني على رأس مملكة بيت المقدس، وجوسلين دي كورتناي على رأس الرها، وبونز على رأس طرابلس، وبوهيموند الثاني على رأس أنطاكية .

وقد سعى بلدوين الثاني إلى تقوية الأواصر بينه وبين مملكة أنطاكية، فاستقبل بوهيموند الثاني استقبالاً حافلاً، بل وعرض عليه الزواج من ابنته الثانية أليس، فقَبِل بوهيموند الثاني، وبذلك صارت الرابطة بين مملكة بيت المقدس وأنطاكية قوية ومتصلة .
ومن الحوادث العجيبة أيضًا التي أدَّت إلى اضطراب في صفوف المسلمين، أن السلطان محمود استخلف على الموصل وحلب بعد استشهاد آق سنقر البرسقيّ ابنه عز الدين مسعود بن آق سنقر، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا ورعًا كأبيه، وكان عازمًا على استكمال مسيرة الجهاد، وقد حاول أن يضم إحدى القلاع المجاورة لحلب إليها، غير أنه مات فجأة في أثناء الحصار دون أن يتعرض إليه أحدٌ بشيء، وكان ذلك في عنفوان شبابه، وأحدث موته اضطرابًا كبيرًا؛ إذ قام أحد المماليك واسمه جاولي بمحاولة تنصيب أخي عز الدين مسعود، وكان طفلاً صغيرًا؛ من أجل أن يتولى هو الوصاية عليه، وأرسل رسولين بذلك إلى السلطان محمود، وانخلعت قلوب العامة خوفًا من أن يقبل السلطان بهذا الوضع، مما سيضع البلد على حافة هاوية، فالأمر خطير، والصليبيون يطرقون الأبواب بشدة، ويحتلون بلادًا واسعة، ويحتاج المسلمون إلى شخصيَّة مجاهدة صابرة قوية لا إلى طفل صغير يتحكم فيه ملك صاحب مطامع !!

أرسل جاولي - كما ذكرنا - رسولين إلى السلطان محمود ، وكان الرسولان هما القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري قاضي حلب ، وصلاح الدين محمد حاجب عز الدين مسعود البرسقي، وكان جاولي قد وعدهما بالولاية والتقديم إذا أفلحا في إقناع السلطان محمود بما يريد .

ومع أن الرسولين قد وُعِدَا بمال ومنصب إلا أن الله لطيفٌ بعباده، فقد اختار جاولي رسولين صالحين في قلوبهما رأفة على الأمة ، ونُصْحٌ لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا فقد قرر هذان الرسولان أن ينصحا السلطان بما يمليه عليهما الشرع والدين، لا بما يرغب فيه جاولي أو غيره، مضحِّين بذلك بدنيا قد وُعدا بها .

التقى الرسولان بشرف الدين أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود، وقالا له في أمانة بالغة: "قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمَكَّنَ الفرنج منها وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود مارِدِين إلى عريش مصر، وقد كان البرسقي (آق سنقر) مع شجاعته وتجربته وانقياد العساكر إليه يكفُّ بعض عاديتهم وشرِّهم، ومنذ قُتِل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع، ذي رأي وتجربة يذبُّ عنها ويحفظها، ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويُقال: ألا أنهيتم إلينا جليَّة الحال؟" .

رفع الوزير شرف الدين هذا الكلام المهم إلى السلطان محمود فاستحسنه جدًّا، واستدعاهما وشكرهما، ثم سألهما عمن يُرَشِّحان لمثل هذا المنصب الخطير، فعرضا له بعض الأسماء، غير أنهما حسَّنا له اسمًا معينًا ورغَّباه فيه، فقَبِل السلطان محمود ترشيحهما إذ خبر بنفسه قوة الرجل المرشَّح وخبرته وإخلاصه وورعه، ومن ثَمَّ صار هذا الرجل الجديد أميرًا على الموصل وحلب، وهذا المرشح الجديد والزعيم المرتقب هو عماد الدين زنكي رحمه الله ، وهو الزعيم الذي يحتاج منا إلى وقفات ووقفات، فهو - كما هو معروف - من علامات الجهاد البارزة في تاريخ الأمة .

فما هي قصة هذا البطل العظيم عماد الدين زنكي؟ وكيف علا نجمه واشتهر أمره؟ وما خطواته في الإصلاح؟ وما طريقته في التجديد والتغيير؟ وكيف كان تفاعل الشعب معه وموقف الأمراء منه؟ وما ردُّ فعل الصليبيين لظهور هذا النجم الجديد ؟

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس