عرض مشاركة واحدة

قديم 08-04-09, 07:57 PM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
جيفارا
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

وضعت ثيابي القليلة في حقيبة ، وفي قلبي ارادة جديدة، واتجهت الى فيينا. مثل والدي، قررت ان انتزع من القدر مصيراً ميزاً ، وان اكون شيئاً خاصاً ، أي شيء ، باستثناء موظف حكومي.
الفصل الثاني: اعوام الدراسة والمعاناة في فيينا . . .
حين ماتت والدتي ، حدد القدر اجزاء كثيرة من مصيري المستقبلي .
خلال الشهور الاخيرة من مرضها ، ذهبت الى فيينا لاجتياز الاختيار المبدأي لدخول المعهد الفني. كنت قد اعددت بعض اللوحات ، متاكداً من ان الامتحان سيكون في غاية السهولة . فقد كنت الافضل في الفصل في مجال الرسم دائماً ، ومنذ ذلك الوقت ، تقدمت قدراتي بسرعة، فاصابني الغرور .

ومع ذلك، شعرت بالمرارة لان قدراتي على الرسم الهندسي فاقت بكثير قدراتي كرسام. وكل يوم كان ولعي بالفنون المعمارية يتزايد - خصوصاً بعد رحلة لمدة اسبوعين قضيتها في فيينا في سن السادسة عشر. وقد كان هدف تلك المرحلة هو دراسة متحف الفن، وان وجدت نظراتي تتطلع اكثر لهيكل المتحف. فمنذ الصباح الباكر وحتى المساء، تجولت في الاروقة متابعاً كل ما يشغف فكري، وان كان جل اهتامي قد انصب على المتحف ذاته. لساعات وقفت اما مبنى الاوبرا، وبدا لي المكان ساحراً مثل قصور الف ليلة وليلة.

والان كنت في المدينة الخلابة للمرة الثانية، منتظراً على احر من الجمر نتائج الامتحان. كنت متاكداً من النجاح لدرجة ان سقوطي اصابني بذهول مطبق. وجين تحادثت مع المسؤول، وطلبت منه التوضيح، اكد لي ان اللوحات التي قدمتها تشير الى عدم توافر الموهبة المطلوبة للرسم لدي، وان اكد ان مجال الرسم الهندسي هو الملائم لي ولم يصدق انني لم ادرسه البتة. مكتئباً تركت البنى، لاول مرة في حياتي غير عارف بما يجدر بي فعله.

عرفت الان انه لابد لي ن دراسة الهندسة . وكان الطريق صعباً: فكل مارفضت دراسته خلال صراعي مع والدي بات ضرورياً. ما كان ممكناً دخول كلية الهندسة بدون الشهادة الثانوية. وهكذا بدا ان حلمي الفني لن يتحقق ابداً.

حين عدت لفيينا مرة تالثة، بعد وفاة والدتي، كان الطموح والعناد قد عادا لي. قررت ان اصير مخططاً هندسياً ، وكل الصعاب كانت التحدي الذي لابد لي من اجتيازه. كنت مصمماً على مواجهة العقبات، وامامي صورة ابي، الذي بدأ حياته مصلحاً للاحذية ، وصعد بجهوده الخاصة الى موقع حكومي جيد. توفرت لدي امكانيات اكثر، وهكذا بدا ان الصراع سيكون اسهل، وما بدا لي آنذك سوء الحظ، امتدح اليوم كمساعدة القدر الحكيم. فبينما ازدادت معاناتي اليومية، ازدادت ارادة المقاومة داخل ذاتي وفي نهاية المطاف تفوقت على غيرها من العوامل . تعلمت خلال تلك الايام الشدة ، وتحولت من طفل مدلل الى رجل قُذف به الى قلب المعاناة والفقر المدقع. ومن ثم تعرفت على اولئك الذين سادافع عنهم في ايام مستقبلية.

خلال تلك المرحلة ادركت وجود خطرين مدقعين يحيطان بالشعب الالماني، وهما اليهودية والشيوعية. ولا تزال فيينا، التي يتصورها الكثيرني مدينة اللذات البريئة، تجلب لذهني اسوء صور المعاناة الانسانية التي عرفتها لمدة خمسة اعوام اضطررت خلالها للعمل ، اولاً كمستاجر يومي، ثم كرسام.

ما جلبته من مال ما كفى حتى لاشباع الجوع اليومي. كان الجوع صديقاً لي آنذاك، وما تركني للحظة، بل شاركني في كل شيء. كل كتاب اقتنيته ، وكل مسرحية شاهدتها، جعلته اقرب الي. ومع ذلك، درست خلال تلك الايام اكثر من أي فترة اخرى. باستثناء زياراتي النادرة للاوبرا التي دفعت ثمنها جوعاً ، ما كان لدي أي لذة سوى القراءة. وهكذا خلال تلك الفترة قرات كثيراً وبعمق. كل وقت الفراغ المتاح لي بعد العمل قضيته في القراءة، وبهذه الطريقة جمعت خلال بضع اعوام المعارف التي تغنيني حتى الساعة .

خلال تلك الاعوام، تكونت في ذهني صورة للعالم تبقى القاعدة التي استخدمها في كل قرار اتخذه ، وكل تصرف اقوم به. وانا اليوم مقتنع بان كل سلوكياتنا تنبع من آراء تنتج اثناء شبابنا. فحكمة النضوج تحوي الاراء الخلاقة التي ينتجها الفكر الشاب ولا يمكن تطويرها آنذاك، مضافاً لها الحذر الذي يتعلمه الانسان بالتجربة. وهذه العبقرية الشبابية ستكون الاداة الاساسية لخطط المستقبل، التي سيمكن تحقيقها فقط لو لم تدمرها تماماً حكمة النضج.

كانت طفولتي مريحة، بلا قلق يذكر. كنت انتظر مجيء الصباح، بلا أي معاناة اجتماعية. فقد انتميت لطبقة الراسمالية الصغيرة ، وكنت لهذا السبب بعيداً عن الطبقات العاملة. وبالرغم من ان الفرق الاقتصادي بين الطبقتين كان محدوداً ، الا ان الفاصل بينهما كان شاسعاً . وقد يكون سبب العداء بين الطبقتين هو ان الموظف، الذي ما استطاع الا بصعوبة ترك الطبقات العاملة ، يخشى من العودة الى تلك الطبقة المحتقرة، او على الاقل ان يتصوره الناس جزءاً منها. هناك ايضاً الذكريات المخيفة للفقر، وانعدام المعايير الاخلاقية بين الطبقات المنحطة، وهكذا يخشى الراسمالي الصغير أي اتصال مع هذه الطبقة. وهذا الصراع عادة يدمر كل شعور بالرحمة. فصراعنا للبقاء يدر عواطفنا لاولئك الذين تخلفوا ورائنا.

اشكر القدر الذي اجبرني على العودة لعالم الفقر والخوف، لان التجربة ازاحت عن عيوني غشاء نتج عن تربية الرأسمالية الصغيرة. عرفت الان معاناة الانسانية ، وتعلمت التفرقة بين المظاهر الفارغة والكائن الموجود في داخلها.
كانت فيينا التي شاهدتها احدى اكثر مدن اوربا تخلفاً. الثراء الفاحش والفقر المدقع تجاورا. في مركز المدينة وحاراتها شعرت بنبض 52 مليوناً . اما المحكمة الفخمة والمناطق المجاورة لها، وخصوصاً المباني الحكومية،

فجذبت لها الذكاء والثراء. وهذه المناطق كانت كل ما يوحد الشعوب المختلفة الموجودة في هذه الدولة. فالمدينة كانت العاصمة الثقافية والسياسية والاقتصادية. مجموعة مديرى الشركات العامة والخاصة، موظفي الحكومة، الفنانين، والمدرسين والمثقفين، عاشت في مواقع قريبة بجوار الفقراء، وواجهت جيوشاً من العمال كل يوم. خارج القصور المعروفة تشرد الاف من العاطلين، وفي ظلال اسوارها رقد من لا يملكون مسكناً.

معرفة هذه الوضاع المزرية ودراستها لن يتم من مواقع عالية : لا احد ممن لم يسقطوا في اشداق هذه المعاناة يمكن له ان يفهم الآمها. ومن حاولوا دراستها من الخارج غرقوا في لغو الحديث والعاطفة ، وانا لا ادري ان كان تجاهل الاغنياء للفقير اكثر ضرراً من افعال اولئك الذين يدعون الشفقة عليه بتكبر وغرور. والنتيجة دائماً سلبية على كل حال، بينما تزداد الوضاع سوءاً. ولا يجدر بالفقير ان يرضى بصدقة بدلاً من ان تعاد له بعض حقوقه.

لم اعرف الفقر من بعيد: بل ذقت طعم الجوع والحرمان، ولم ادرسه بطريقة موضوعية، بل خبرته داخل روحي. وكل ما استطيع فعله الان هو وصف المشاعر الاساسية، وذكر بعض ما تعلمته من هذه التجارب.

 

 


   

رد مع اقتباس