الموضوع: أيام في العراق
عرض مشاركة واحدة

قديم 29-03-09, 06:45 AM

  رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

أيام في العراق (9) النجف: مدينة المكتبات والروحانيات
كانت فيها أول مطبعة حجرية في العراق وأسعار العقارات فيها هي الأغلى عراقيا
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةباب القبلة في صحن الإمام علي بن أبي طالب («الشرق الاوسط»)
النجف: معد فياض
«السلام عليك يا أمير المؤمنين» هذه العبارة تقرأها واضحة فوق بوابات ضريح الامام علي في مدينة النجف او «الحضرة الحيدرية» كما تسمى في العراق. والنجف قامت كمقبرة ثم مدينة تلتم حول ضريح الامام الذي تقول مصادر المدينة التاريخية انه مدفون بين سيدنا آدم والنبي نوح.
والنجف التي تلتصق صحراؤها بصحراء الجزيرة العربية، تقوم عند تخوم بحر من الرمال، هذا هو بحر النجف الذي يقال ان سفنا كانت تبحر اليه من غير ان يحدد أي مصدر متى كان ذلك.
في هذه المدينة العلمية الدينية توجد اكثر من ثلاثة الاف مكتبة خاصة باستثناء المكتبات التي احرقها الحرس الجمهوري عام 1991، وباستثناء المكتبات العامة التي تضم الاف المخطوطات النادرة. ولكن، كيف هو الطريق الى النجف، البعيدة القريبة، السهلة والمستحيلة؟
«الشرق الأوسط» امضت ثلاثة أيام في المدينة التي كانت تضم اول مطبعة حجرية، ودخلت احدى اقدم مكتباتها العامة.
المشهد الاول الذي سيفاجأك وانت تدخل الى مشارف مدينة النجف التي تبعد مسافة 161 كم الى جنوب غرب بغداد هو لمعان 7777 طابوقة مطلية بـ 200 كيلوغرام من الذهب الخالص تغلف قبة ضريح الامام علي بن ابي طالب التي ترتفع الى 42 مترا ومحيط قاعدتها 50 مترا، على ان هذه القبة المذهبة هي ليست أول وآخر مفاجآت هذه المدينة المقدسة لدى العراقيين شيعة وسنة، ولدى كل شيعة العالم عامة لوجود ضريح «أمير المؤمنين».
كل شيء في النجف يشكل مفاجأة قائمة بذاتها، موقعها، تاريخها، عمارتها، اعلامها، مكتباتها، مساجدها، مدارسها، اسواقها والاهم من هذا كله حوزتها العلمية الشهيرة ومراجعها.
قبل عام 2003 لم يكن الوصول الى هذه المدينة يشكل ادنى صعوبة، فالناس كانت تذهب لزيارة مرقد الامام علي بسياراتها الخاصة او في الباصات العامة، لكن الامور تغيرت اليوم كثيرا خاصة بعد ان وجد بعض المسلحين من السنة موقعا لهم في ما يطلق عليه بـ«مثلث الموت» والذي يشمل ثلاث بلدات هي المحمودية واليوسفية واللطيفية، وغالبا ما تنصب هناك كمائن عبارة عن مفارز تفتيش مزيفة تسيطر عليها هذه الجماعات المسلحة التي تنتسب الى تنظيمات القاعدة والتي تعاقب المسافرين من الشيعة، والمشكلة هي ان الطريق الى النجف، او الى المحافظات ذات الاغلبية الشيعية: الحلة (مركز محافظة بابل) وكربلاء والنجف يمر عبر مثلث الموت هذا، وهناك طريق صحراوي يعرف بالطريق السريع لا تقل خطورته عن الطريق التقليدي.
والعقاب هنا يتراوح ما بين الضرب المبرح «محظوظ هذا الذي يحظى بمثل هذه العقوبة فقط»، حسب حيدر عبد الامير الشويلي، طالب في السنة الثالثة بالجامعة المستنصرية في بغداد، وهو من سكان مدينة الحلة «حيث يتوجب عليه السفر بين مدينته وبغداد يوميا او ثلاث مرات في الاسبوع كاقل تقدير لعدم وجود اقسام داخلية(سكن لطلاب الجامعة) وايجار شقة او بيت لمجموعة من الطلاب سيجعل منا هدفا سهلا للجماعات المسلحة بالاضافة الى ان التكاليف هي اكبر من طاقتنا المادية بكثير.
يروي حيدر حادثة تندرج تحت وصف السخرية المرة او الحزينة، يقول «كنت اتنقل بين بغداد والحلة بواسطة سيارة خاصة لاحد الزملاء الذي ندفع له اجرة تنقلنا، ثم تم استهداف هذا الزميل وبعد ان انتشرت قصص الجماعات المسلحة في مثلث الموت قررنا التنقل بواسطة الباصات العامة، والمثل الشعبي عندنا يقول(الموت مع الجماعة رحمة)».
يضيف الشويلي قائلا «كانت تنقلاتنا امنة حتى واجهتنا ذات صباح باكر احدى هذه الجماعات المسلحة ونحن بين بلدتي اللطيفية واليوسفية وبدأوا بقراءة اسمائنا في بطاقات الهوية وانزالنا من الباص، وبلا شك فان اسمي يدل بوضوح على اني شيعي وكذلك اسماء من تم انزالهم ووضعونا في صف واحد وقالوا لقد حكمنا عليكم بالاعدام لانكم من الرافضة (الشيعة)، ووسط الصراخ والبكاء حيث كان معنا بعض النسوة، ضحك قائد المجموعة وقال،هذه المرة سنعفو عنكم لكننا سنأخذ كل ما معكم من فلوس وخواتم وموبايلات وقرر ان يعاقب الشباب بعدة صفعات وتركونا نمضي في طريقنا».
يقول الشويلي «لقد امتنعت عن الذهاب الى الجامعة ما يقرب من شهر بسبب هذه الصدمة، ثم استعدت رباطة جأشي وعدت الى الدوام حتى صادفتنا بعد اكثر من شهرين مجموعة مسلحة اخرى في ذات المحيط ومارسوا معنا نفس الاسلوب الذي مارسوه في المرة الماضية، وقلت لقائد المجموعة لقد اخذتم مني كل شيء في المرة الماضية وانا طالب جامعي وليس معي أي موبايل او فلوس، فاجاب ساخرا، اذن انت زبون قديم وعقوبتك ستكون اربع صفعات فقط، وهذا ما كان».
لكن الشويلي شكك في ان تكون هذه الجماعة التي «اوقفتنا مرتين، ولحسن الحظ، من تنظيمات القاعدة ولو كانت بالفعل من هذه التنظيمات لما تركونا نمضي احياء بل لقتلوا الجميع كما فعلوا مع آخرين، والجماعة التي واجهتنا كانت من عصابات التسليب على ما يبدو، ففي هذه المناطق تم اعدام الكثير من الابرياء من غير ان يفرقوا بين امرأة ورجل وطفل، واختطفوا العشرات الذين تم اكتشاف جثثهم فيما بعد»، مشيرا الى ان «الامر سيئ للغاية سواء كانت هذه المجموعات سنية او شيعية وانا لا ابرئ احدا هنا فكما للسنة ميليشيات مسلحة فاللشيعة ايضا ميليشياتهم واخطرهم جيش المهدي الذين لا يتورعون عن اقتراف أية جريمة وحسب مصالحهم الشخصية لا حسب مصلحة البلد او الطائفة».
كانت المرة الاولى التي دخلت فيها النجف بعد غربة دامت اكثر من 15 عاما هي في ابريل (نيسان) عام 2003 عندما لم تكن النجف قد تحررت من سيطرة قوات النظام السابق وميليشيات حزب البعث التي كانت تعرف بـ«فدائيي صدام» التي كانت بقيادة عدي النجل الاكبر لصدام حسين.
كنت اول صحافي يدخل مدينة عراقية مع بداية عمليات تحرير العراق على ايدي القوات الاميركية، وكانت «الشرق الأوسط» من اوائل الصحف التي تدخل العراق بهذه الصفة وتنقل اخبار الحرب من هناك، من ميدان الواقع. كنت قد رافقت عبد المجيد الخوئي نجل أحد أبرز المراجع الشيعية، وهو ابوالقاسم الخوئي، وكانت الرحلة قد انطلقت من لندن ثم البحرين فقاعدة الامام علي(طليلة) في الناصرية جوا، لنستقل بعدها طائرات هليكوبتر اوصلتنا الى صحراء بحر النجف.
في المرة الاولى كدت أُقتل مع الخوئي وماهر الياسري وحيدر الرفيعي على ايدي اتباع مقتدى الصدر مثلما اثبتت التحقيقات القضائية التي اجريت هناك، («الشرق الأوسط» نشرت القصة كاملة على حلقات وقت ذاك).
لهذا السبب شكلت زيارتي الثانية الى مدينة النجف خطورة من نوع خاص بالنسبة لي، ذلك ان اتباع الصدر ما زالوا هناك ولهم سيطرة على جوانب من المدينة وانا من شهد وكتب عن حادثة مقتل الضحايا الثلاث، والخطورة الثانية بشكل عام هي تجاوز مثلث الموت، اما الخطورة الثالثة فهي وجود صحافي من خارج العراق وسط هذه المدينة، والصحافي اليوم في العراق هو هدف سهل للاختطاف او للاغتيال خاصة ان احصائيات الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان والدفاع عن حريات الصحافيين تؤكد ان اكثر الصحافيين الذين قتلوا خلال السنوات الاربع الماضية قد لاقوا حتفهم في العراق الذي صنفته آخر احصائية دولية بانه «البلد الاكثر خطورة على الحياة في العالم».
لكن هذه الاسباب لم تكن كافية لمنعي من زيارة المدينة التي كنا نحب ان نضيع باسواقها وازقتها يوم كنا نزورها ونحن فتيان مع عائلاتنا. كان لا بد من زيارة النجف ولقاء بعض مراجعها من العلماء والكتابة عنها وعن حوزتها العلمية بغض النظر عن المخاطر التي تحيط بي كصحافي.
شخصان فقط ابديا استعدادهما لمساعدتي للوصول الى النجف والتجول فيها، هما جواد الخوئي نجل العلامة الديني محمد تقي نجل المرجع ابو القاسم الخوئي الذي اغتالته اجهزة النظام السابق بحادث سيارة عام 1994.
وعمار النجل الاكبر لعبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، حيث يترأس (عمار) مؤسسة شهيد المحراب التي مركزها النجف، فبينما وفر لي الحكيم الدعم اللوجستي الذي يتلخص بتوفير واسطة النقل والحماية من بغداد حتى النجف والتجوال فيها ومن ثم عودتي بعد يومين، فان الخوئي رتب لي برنامج زياراتي لايات الله من المراجع الشيعة، وقد توفرت لي كامل الحرية في التجوال والمقابلات واجراء الاحاديث.
كان الطريق بين بغداد والنجف مزروعا بنقاط التفتيش التي يتبع بعضها للجيش العراقي والبعض الاخر لوزارة الداخلية، وعندما سألت مرافقي عن كيفية الاطمئنان عن صحة نقاط التفتيش هذه، اجاب قائلا «خليها على الله»، ثم استطرد قائلا «لكثرة ممارستنا وسفرنا المستمر بين بغداد والنجف صرنا نشتم وعن بعد رائحة الخطر وفيما اذا كانت هذه النقطة او تلك حقيقية او مزيفة».
بعد زيارتي للنجف بيومين تعرض موكب عمار الحكيم نفسه لاطلاق النار مرتين وهو في طريق عودته من النجف الى بغداد، مرة في اللطيفية (مثلث الموت) والثانية عند تخوم الدورة حيث اصيب ستة من حراسه بجروح.
كانت اجابة مرافقي لاسئلة القائمين على نقاط التفتيش باننا من سكان النجف وعائدين الى بيوتنا، بينما كان يصارح آخرين بانه من المجلس الاعلى الاسلامي في العراق فيدعونا نمر بسرعة متجاوزين طوابير السيارات المنتظرة. وعلى العموم فان نقاط التفتيش هذه وسيطرتها على الطريق الذي يربط بين بغداد ومحافظات الفرات الاوسط تشعر الناس بالاطمئنان والرضا، وبصورة عامة فان الامن يسود هذه المحافظات باستثناء عمليات الانتحاريين وتفجير السيارات المفخخة مثلما حدث في الحلة وكربلاء وحتى النجف، وايضا باستثناء ما يحدث من اشتباكات بين جيش المهدي والقوات العراقية او قوات الشرطة مثلما حدث في الديوانية لمرات عدة.
«النجف مرة أخرى.. من يصدق ذلك» هكذا قلت لنفسي ونحن ندخل تخوم هذه المدينة المزدحمة الحركة والناس القادمين اليها من كل مكان. كانت السيارات تزحف في سيرها البطئ بفعل الازدحام لا سيما اننا وصلنا المدينة في ساعات الصباح الاولى.
لفتت نظري حركة العمران التي نمت في اطراف المدينة، قال مرافقي وهو ضابط في الجيش العراقي ومهمته ضمن حماية مكتب رئيس المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، ان «اسعار العقارات في مدينة النجف هي الاغلى عراقيا، اغلى من اسعار عقارات المناطق الراقية في بغداد»، ومع نمو العمران اتسعت اسواق بيع مواد البناء. كلما اقتربنا من مركز المدينة دنت منا قبة ومآذن ضريح الامام علي وكأنها أكف من ذهب تتضرع الى السماء الصافية حيث كانت اشعة الشمس تتفاعل مع لمعان ذهب القبة الكبيرة فيعود شعاع الشمس مذهبا ناشرا الاحساس بالطمأنينة في النفوس.علق مرافقي الضابط قائلا «عشرات الالاف من الزوار يدخلون المدينة يوميا قادمين من جميع مدن العراق ومن ايران، والان يجري العمل لانجاز مطار النجف ليخفف من هذا الزحام الذي تتحمله الطرق البرية التي تربط مدن العراق بالنجف».
استقبلتنا ساحة (ميدان) ثورة العشرين التي كانت تعد بوابة المدينة لكنها صارت اليوم وسط النجف لزحف حركة العمران وبناء البيوت والمراكز التجارية والاسواق والفنادق والمقاهي والمطاعم. على يسار الساحة يرتفع صرح ضريح محمد باقر الحكيم الذي اغتيل عام 2003 بحادث تفجير سيارته بعد لحظات من تركه ضريح الامام علي، حيث كان قد ادى صلاة الجمعة واطلق عليه لقب(شهيد المحراب)، لكن «بناية الضريح لم تكتمل بعد وعند يمين الساحة تمتد واحدة من أكبر مقابر العالم التي تحمل اسم وادي السلام، اذ ما من شيعي يتمنى الا ان يدفن في هذه المقبرة لقربها من ضريح الامام علي، وبالفعل فان غالبية شيعة العراق وشيعة ايران مدفونون في وادي السلام الذي يشرف عليها آل ابو اصيبع وهم احدى اشهر واغنى عائلات النجف الاصيلة. وتاريخيا فان النجف عبارة عن مقبرة «نشأت حول مرقد الإمام في ظهر الكوفة عند إظهاره في أواخر القرن الثاني، ثمّ ورثت الكوفة مكانةً وسكاناً»، حسب موسوعة النجف على شبكة الانترنت. ويؤكد رضوان الكليدار الذي توارثت عائلته منذ 400 عام الاشراف على ضريح الامام علي او ما يسمى بالروضة الحيدرية، ان «الامام علي هو الذي اختار مكان دفنه بين قبري آدم ونوح وإنّ الإمام دفن عندهما بإعلامه ووصيته، وأنّ فيها أيضاً وعلى مسافة كيلومتر واحد قبرا هود وصالح».
وبالرغم من ان مدينة النجف تقع فوق هضبة ترتفع 70 مترا عن مستوى سطح البحر الا انها ارتبطت ببحر النجف الذي لم نجد اي مؤرخ او مصدر يؤكد مشاهدته لهذا البحر لكن المصادر التاريخية للمدينة وعلماءها يتحدثون عن بحر النجف باعتباره كان موجودا هنا في يوم ما.
لكن الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي يذكر«إنّ بحر النجف كان مجرى للسفن الشراعية، وليس لدينا عنه أمر يوثق به عدا ما حدّثنا به الرحالة البرتغالي (تكسيرا) وان كان ذلك في وقت متأخر تاريخياً. قال تكسيرا الذي وصل إلى النجف في 18 سبتمبر( أيلول) سنة 1604: إنّ مدينة النجف كانت تطل من موقعها العالي على بحر النجف، مشيرا الى إنّه ليس لهذه البحيرة شكل معين لكنها تمتد بطولها حتىّ يبلغ محيطها خمسة وثلاثين إلى أربعين فرسخا، وهناك قريبا من منتصفها ممر ضحل تستطيع الحيوانات اجتيازه خصوصا في المواسم التي يقل فيها ماء البحر. واضاف «إنّ هذه البحيرة كانت شديدة الملوحة، ولذلك كان يستخرج منها الملح الذي يباع في بغداد والمناطق المجاورة مع ملوحتها كان يكثر فيها السمك بأنواعه المختلفة. ويرى تكسيرا أنّ بحر النجف يستمد ماءه من الفرات، ولذلك يلاحظ ازدياد مقادير الماء في مواسم الطغيان. لكن موقع بحر النجف اليوم هو مجرد صحراء متسعة تنفتح وتتصل مع صحراء المملكة العربية السعودية غربا، وحسب الاثاري العراقي الدكتور فوزي رشيد فان اولى الهجرات التي قدمت من الجزيرة العربية الى العراق قدمت عبر هذه الصحراء.
وحتى عام 1931 كانت النجف تعيش محتمية بسورها وكانت تتألف من اربعة محلات رئيسية تنحدر منها غالبية عائلات النجف الاصلية، وهي: محلة المشراق ومحلة العمارة، وهي أكبر محلة في النجف وقامت اجهزة النظام السابق بتهديم قسم كبير منها، ومحلة الحويش، ثم محلة البراق. اما اليوم فتضم النجف اكثر من 30 حيا سكنيا غالبيتها بنيت بعد عام 1980 وهي احياء تضم موظفين او عسكريين حصلوا على قطع اراضي سكنية عن طريق نقاباتهم المهنية مثل حي الاطباء والمعلمين والضباط والمهندسين، وهكذا، ومن احيائها الراقية الجديدة، حي السعد وحي المثنى وحي حنون.
ان طبيعة المدينة المحافظة انعكست على عمارتها التقليدية حيث البيوت تنحسر الى داخل الازقة بشبابيك وشناشيل ضيقة ومغلقة تستطيع ان ترى من خلالها ربة البيت من غير ان يراها أي من المارة، ولعل ما يميز بيوت النجف وبسبب مناخها الساخن صيفا فانك قلما تجد بيتا نجفيا تقليديا من غير سرداب (قبو) كانت تحفظ فيه الخضروات والفواكه كما يستخدم للنوم في فترة ما بعد الظهر، وكانت هناك بيوتات متقاربة عائليا وجغرافيا تترابط فيما بينها من خلال هذه السراديب اذ يمكن للنساء الانتقال من بيت لاخر من دون الحاجة للخروج الى الطريق العام. كما كانت تشتهر بيوت النجف بوجود بئر فيها لشحة المياه في المدينة فهي لا تقع على نهر وكان الناس يشترون الماء من السقا.
الاحياء السكنية الحديثة التي مررنا بها ونحن في طريقنا الى مركز المدينة القديمة لا تختلف معماريا او حتى في تقسيم شوارعها عن أية مدينة عراقية اخرى. وكلما اقتربنا من المركز تسللت الينا رائحة التاريخ المنبعثة من اسواق ومكتبات ومساجد ومدارس وبيوت النجف العتيقة وأزقتها (عكودها) حيث يسمون الزقاق شعبيا بالعكد تعريفا لمفردة عقد.
تفاخر بيوتات النجف بمكتباتها، واذا اردت ان تتعرف على هذه المدينة التي كانت فيها اول مطبعة حجرية في العراق فعليك ان تتعرف على مكتباتها المزدهرة بعشرات الالاف من المخطوطات والكتب النفيسة والنادرة. ويكاد لا يخلو أي بيت من بيوت عائلاتها المعروفة من المكتبات الضخمة، ويفرد الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري، وهو ابن النجف، فصلا كاملا في ذكرياته عن مكتبة والده وما كانت تضمه من امهات الكتب والمخطوطات.
ويصف جواد الخوئي حفيد المرجع الكبير آية الله ابوالقاسم الخوئي مكتبة جده قائلا «لم نستطع وقتذاك ان نعد الكتب التي كانت موجودة في مكتبة جدي لكن والدي افرغ لها اكثر من اربع صالات، وكان كل طالب علم يتعب من ايجاد مصدر او كتاب يأتي الى مكتبة الخوئي ليجده هناك».
لكن قوات الحرس الجمهوري التي دخلت النجف بعيد القضاء على الانتفاضة الشعبية في 1991 وعاثوا الفساد والقتل في اهالي النجف بينما هدموا واحرقوا اهم مكتبات المدينة وحولوا المخطوطات والكتب النادرة الى رماد اختلط مع دماء الضحايا.
واليوم نستطيع ان نعد 15 مكتبة عامة في النجف، وهي: مكتبة الروضة الحيدرية، مكتبة مدرسة الصدر الاعظم، المكتبة الحسينية الشوشترية، مكتبة كاشف الغطاء، مكتبة جمعية الرابطة الادبية، مكتبة صاحب الذريعة، مكتبة كلية الفقه، مكتبة الادارة المحلية، مكتبة آل حنوش، مكتبة الامام أمير المؤمنين، مكتبة مدرسة آية الله البروجردي، مكتبة آية الله الحكيم، مكتبة جامعة النجف الدينية ومكتبة الامام الحسن، بالاضافة الى وجود «اكثر من 3000 مكتبة خاصة موجودة في بيوتات النجف، خاصة ومكتبات المراجع الاربع، آية الله السيستاني، آية الله الفياض، آية الله النجفي، وآية الله الحكيم» حسب مجيد عبد الهادي محمود مدير مكتبة آية الله عبد المحسن الحكيم العامة.
وتقوم مكتبة آية الله عبد المحسن الحكيم في ذات موقعها القديم في اول شارع الرسول قبالة باب القبلة لصحن الامام علي. اول ما استقبلتنا رائحة الورق، رائحة المخطوطات والكتب التي اصطفت فوق رفوف ثلاثة طوابق من بناية المكتبة التي تتوجها قبة خضراء.
يقول مجيد عبد الهادي محمود مدير المكتبة «لقد تم تأسيس مكتبة الحكيم عام 1957 كمكتبة عامة يستفيد منها طلاب العلم من طلاب الحوزة او غيرهم، وهي تضم اكثر من 6500 مخطوطة قديمة، حيث يعود تاريخ اقدم المخطوطات الى 650 هجرية واحدثها 1300 هجرية، وهناك ايضا 42 الف كتاب مطبوع تحتوي على عناوين لكل الاختصاصات الاسلامية والعلمية والفلسفة والتاريخ والتراجم».
واشار محمود الذي كان يعمل امام جهاز الكمبيوتر الى ان «موضوعات المخطوطات تتوزع على الفقه والفلسفة وعلوم الكيمياء والفيزياء وهناك اقبال كبير من قبل المحققين على هذه المخطوطات التي لم ينشر اغلبها». ويوضح مدير واحدة من اهم المكتبات العامة في النجف ان «هناك اقبالا كبيرا من قبل طلبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية ممن يدرسون للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراة، كما يواظب على الحضور طلبة الحوزة بمختلف مستوياتهم واعمارهم». ويؤكد مدير مكتبة الحكيم بان هناك «اكثر من 3000 مكتبة خاصة تضم كل منها الاف الكتب وعددا كبيرا من المخطوطات النادرة».

 

 


   

رد مع اقتباس