عرض مشاركة واحدة

قديم 05-09-09, 10:03 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
البارزانى
Guest

إحصائية العضو



رسالتي للجميع

افتراضي



 

الاستراتيجية التوفيقية


أصبح واضحاً أن السياسة الاستراتيجية الروسية قد برهنت على نفوقها في التعامل مع القضايا الدولية، وذلك من خلال معرفتها العميقة والشاملة لمبادئ ومفاهيم الشعوب تجاه قضاياها ذات الأهمية الكبرى (القضايا الاستراتيجية أو المصالح العليا). ولا ريب أن هذه المعرفة تحتاج لمعلومات دقيقة وصحيحة ومستمرة عن كل القضايا العالمية. فهل يمكن الافتراض بأن شبكات الاستخبارات الروسية العالمية (الموروثة من عصر (كي. جي. بي) والمطورة في عهد بوتين) ذات قدرة متفوقة على شبكات الاستخبارات الأمريكية والغربية (الأوروبية)؟.
يظهر أن القضية الحاسمة ليست في حشد سيول المعلومات: وإنما في معرفة قراءة المعلومات بصورة واقعية؛ فالسياسات الأمريكية -والغربية الاوروبية؛ تقرأ كل المعلومات- وخاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية والاسلامية، من خلال أفكار ومبادئ العصر الاستعماري، ومن خلال المخططات المعاصرة (اسرائيل والمصالح المتجددة).
وعلى سبيل المثال فقد أصبح من المعروف عربياً وإسلامياً وعالمياً أنه في عصر الانهيار العربي، والهجوم العالمي، أصبحت الشرعية الدولية هي المنبر الخطابي الذي تحاول فيه القيادات العربية التعبير عن مواقفها ومتطلباتها. ولكن الولايات المتحدة والدول الغربية قد أخذت على عاتقها إحباط أي مشروع قرار عربي يتضمن ولو هامشاً ضيقاً من (الحق والعدل والكرامة الإنسانية). وفي يوم 14 نيسان - إبريل 2006م تقدمت الدول العربية بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يتضمن طلب ممارسة ضغط على إسرائيل لوقف ضرباتها العسكرية على المدن والقرى الفلسطينية وحماية الشعب الفلسطيني. ولكن المندوب الامريكي (جون بولتون) عمل خلال ثلاثة أيام لإدخال تعديل بعد تعديل حتى لم يبق من المشروع ما يستحق البحث، وكانت الذريعة الأمريكية (الجاهزة دائماً) قد لخصت الموقف الأمريكي بالكلمات التالية: "إن المشروع ينتقد إسرائيل بشكل غير متناسب وغير منصف وغير ضروري".
وهكذا سقط المشروع. ولم يبق أمام الشعب العربي الفلسطيني إلا التفرغ الكامل لترميم منازله المهدمة وتشييع ضحاياه، ونقل جرحاه إلى المستشفيات. فهل هناك حاجة للاستخبارات الروسية - ومعها الصينية -لمعرفة المواقف العربية والإسلامية؛ لاصطياد الأخطاء الأمريكية الإسرائيلية؟.
في ذلك اليوم ذاته (14 نيسان -إبريل- 2006) كانت هناك أكثر من 600 شخصية قيادية -عربية وإسلامية وعالمية تلتقي في طهران- وهي تمثل سبعين بلداً لمناقشة تطورات القضية الفلسطينية (تحت شعار القضية الفلسطينية مفتاح خلاص الأمة الاسلامية). ولقد اكتسبت الاستراتيجية التوفيقية الروسية مكانتها العالمية عبر دور روسيا في التنظيمات ذات الصفة الدولية (عضوية مجلس الأمن- عضوية اللجنة الرباعية لمعالجة القضية الفلسطينية، عضوية اللجنة السداسية لمعالجة الأزمة الكورية، عضوية اللجنة للدول الصناعية الثمانية، الخ...).
ومن المفيد التوقف هنا عند الدور الروسي الجديد في (لجنة الثمانية) حيث ترأست روسيا أولَ مرة هذه اللجنة التي عقدت اجتماعها في (سانت بيترسبورغ) في شهر تموز -يوليو- 2006.
وتمهيداً لهذا الحدث، كتب الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) بحثاً في الأول من آذار -مارس - 2006 كان من أهم معطياته ما يلي:
"عرفت روسيا على الدوام بمواقفها المستقلة والمتوازنة من مختلف القضايا الدولية، وخصوصاً ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط وأولها قضية الصراع العربي الاسرائيلي، ومحاولات أمريكا نشر الديموقراطية في المنطقة، أو ما يعرف (بمشروع الشرق الأوسط الكبير) إضافة إلى المسألة العراقية والملف السوري اللبناني، حيث ستتمكن روسيا من خلال تربعها على عرش الدول الثمانية الكبار، من ممارسة دور لتفعيل هذه القضايا في الاتجاه الذي يخدم مصالح دول المنطقة المعنية.
"ولم يتشكل التفاؤل بنجاح هذا الدور من فراغ إنما يستند الى مواقف روسيا الفعلية ذاتها من القضايا التي سبق ذكرها، فروسيا بحكم علاقاتها الجديدة مع الطرفين العربي والاسرائيلي، وكونها من جهة أخرى عضواً في اللجنة الرباعية الدولية، ممارسة دور توفيقي عادل. وضمن هذا الإطار يمكن تصنيف موقف موسكو المتوازن من خيار الشعب الفلسطيني وفوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية واستقبالها لقيادة الحركة فيما بعد -وسط دهشة بعض دول الثماني، واعتراض الولايات المتحدة الخ...".
وبعد ذلك جاء عقد (قمة روسيا والاتحاد الاوروبي) في سوتشي المنتجع الصيفي على بحر قزوين يوم 25 -آيار- مايو- 2006 .
وتضمن برنامج القمة: " مناقشة المسائل المتعلقة بتعزيز الاستقرار والأمن الدوليين وتسوية النزاعات في البلقان والشرق الأوسط". وصرح الرئيس (بوتين) أمام المؤتمرين- في الجلسة الافتتاحية، وكان مما قاله: "أستطيع التأكيد مرة أخرى على أهمية الحوار السياسي الخارجي بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وترى روسيا في الاتحاد الاوروبي أحد شركائها الرئيسيين، وأعيد التذكير هنا بأن الجانبين قد انطلقا منذ العام الماضي بإنشاء مجالات للتعاون المشترك. وهذه المجالات أربعة هي: المجال الاقتصادي، ومجال الأمن الداخلي، والقضاء، والأمن الخارجي، علاوة على العلوم والثقافة".
وتصادف عقد القمة الروسية - الأوروبية مع (يوم أفريقيا) فأرسل الرئيس الروسي بهذه المناسبة رسالة تهنئة إلى رؤساء الدول والحكومات الافريقية، ووعد بدعم الدول الافريقية في قمة الدول الصناعية الثمانية، وأكد على موعد استضافة موسكو لجلسة (منتدى الشراكة مع افريقيا) في تشرين الاول -اكتوبر- 2006 ، وما هو متوقع من أجل تقديم دعم شامل للدول الافريقية. وتشكل هذه التحركات بمجموعها صورة واضحة للدور الروسي التوفيقي بين الدول الكبرى والدول الصغرى. فهل ستتمكن روسيا من تطوير هذا الدور الناجح حتى الآن، أم إن هذا الدور سيبقى تكميلياً لخدمة (النظام العالمي الجديد)؟...

المعارضة الداخلية


يظهر من خلال ما سبق أن الدول الكبرى، وفي مقدمتها: القطبان الروسي والأمريكي، قد قطعت شوطاً بعيداً في إقامة النظام العالمي الجديد على قاعدة (التعددية القطبية). وإذا كانت أمريكا تمثل (القوة أو العصا) فإن روسيا تمثل بالمقابل (المرونة أو الاغراء - الجزرة) وتشاركها فيها كل الجوفة التكميلية لمنظومة الدول الكبرى- الاتحاد الاوروبي واليابان والصين وسواها.
ولقد جاء التحول الحاسم يقيناً - كما كان متوقعاً- عبر تجربة (الحرب الانغلو الامريكية على العراق).
ويمكن على ضوء هذا الواقع الجديد، القول بأن الدول الكبرى قد أصبحت تمثل بصدق (الحكومة العالمية) عبر (مجلس الأمن) وعبر (مجموعة الدول الثمانية)، وأن المواقف المتباينة من بعض القضايا المثيرة للجدل (مثل الموقف من ملف تسلح إيران النووي) أو (الموقف من ملف العلاقات السورية) أو حتى الموقف من مسألة (دارفور): هي نوع من التباين لا يماثله ولا يشابهه إلا تباين السياسات في الديموقراطيات الغربية بين نظام الحكم والمعارضة-، حيث تتعاون الكتل الرئيسية في الأهداف وتختلف في الأساليب (كما هي أوضاع المعارضة الداخلية في أمريكا وبريطانيا بخاصة في مواجهة الحرب على العراق -وما يتصل بهذه الحرب وما يتفرع عنها).
ولكن تبقى المعارضة محددة بسقف المصالح العليا سواء كانت هذه المصالح العليا ممثلة بالسلم والأمن العالمي، والمصالح العليا المشتركة للدول الكبرى، أو كانت هذه المصالح مرتبطة بسياسة دولة كبرى وذات علاقة وثيقة بأمنها ومصالحها (مثل قضية مكافحة الإرهاب أو حتى قضية الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ الباليستية، وربما متوسطة المدى وذات المدى القصير، كما في الأسلحة الصاروخية المنتشرة في إسرائيل وأقاليم الوطن العربي). وبالتالي يمكن القول: "إن من الخطأ الكبير الاعتماد على دعم دولة كبرى ضد سياسات دولة كبرى منافسة، وأنه من غير الواقعية، محاولة استعداء بعض الدول الكبرى على بعضها الآخر، أو حتى الاستقواء بدعم دولة كبرى للتطاول على دولة كبرى منافسة، إذ أصبحت هذه الدول بمجموعها قريبة بعضها إلى بعض أكثر من أي يوم مضى، وأنه ما من دولة كبرى على استعداد للتضحية بمصالحها الاستراتيجية لأي سبب فكيف إذا كان هذا السبب ذا علاقة بسياسة الحكومة العالمية الجديدة التي تعتمد على المعارضة -ربما- أكثر من اعتمادها على التبعية أو الموالاة؟!".
ولقد أظهر مضمون البحث الدور الكبير لروسيا الاتحادية وسياساتها في الوصول بالتحولات السياسية العالمية إلى مرحلتها الراهنة (مرحلة الحكومة العالمية). ولكن هل ينتقص هذا من دور بقية الكتل والدول الكبرى في دفع السياسات العالمية نحو التماثل والتكامل في عصر (أسلحة الدمار الشامل) والخوف من (مخزون الأسلحة الدفينة) ذات القدرات التدميرية المجهولة؟...
لقد كانت سياسة روسيا العالمية هي(السياسة العسكرية). كانت ظاهرة صناعة الأسلحة -بكل أنواعها- وتجارتها هي اداة تنفيذ تلك السياسة، وربما كان نجاح روسيا الكبير في هذا المضمار هو الحافز الأول الذي دفعها للاستمرار في هذه السياسة وتطويرها، وكان الدمج بين (السياسة والعسكرية) في التعامل مع الأزمات. وعلى سبيل المثال، ففي ذروة الموقف المتوتر بين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي من جهة وبين إيران من جهة اخرى - أعلنت موسكو (يوم 26 آيار -مايو- 2006) بأن روسيا ملتزمة بتنفيذ عقود التسلح مع إيران. وسيتم تبعاً لذلك تسليم إيران منظومة أسلحة صاروخية مضادة للطائرات، وأن هذه الصفقة لن تؤثر في موازين القوى العسكرية في المنطقة. وكانت موسكو قبل ذلك قد تابعت تجارب مجموعة الأسلحة الصاروخية التي أطلقتها إيران خلال مناوراتها السنوية (البحرية والبرية والجوية) ومنها صاروخ (فجر - 3) بحر - بحر تم إطلاقه يوم 2-4-2006. وتم وصفه بأنه من أفضل الصواريخ دقة- وهو من عيار 240 ملم ومداه 40كم، وأنه يشكل تهديداً قوياً للقطع البحرية (والغواصات) في منطقة الخليج، وكانت روسيا قد زودت (دمشق) أيضاً بشبكة صواريخ مضادة للطائرات. وأعلن بأن هذه الشبكة خاصة بحماية مقار القيادات والمراكز الحساسة في الدولة. فهل يمكن اعتبار هذه الظاهرة بمثابة (ردع) ضد كل عدوان على الدول التي تعتبرها روسيا (قواعدها المتقدمة) في عصر النظام العالمي الجديد؟ أم إنها مجرد إعلام للدول الحليفة لروسيا لتكون على بينة من أمرها في رسم سياساتها العسكرية؟.
هناك أمثولة أخرى لا بد من التعرض لها. ففي يوم 17 نيسان -ابريل- 2006 عقدت الحكومة الروسية اجتماعا لها برئاسة الرئيس فلاديمير بوتين. وصرح وزير الدفاع سيرغي ايفانوف بعد انتهاء الاجتماع بما يلي: "ستتابع روسيا مشاركتها في عملية صنع السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة في السودان. وسيتم خلال ثلاثة أيام نفل مجموعة جوية روسية إلى السودان تضم 200 من العسكريين وأربع مروحيات قتالية وأسلحة وذخائر متنوعة" وما من حاجة للقول أن هذا الدعم العسكري هو دعم رمزي ومنعوي أكثر مما هو دعم مادي قوي. وربما لم يكن السودان في أزمته خلال تلك الفترة بحاجة لأكثر من هذا الدعم المعنوي، الذي سيضمن له فتح قنوات الحوار مع (المجتمع اللولي) من خلال (البوابة الروسية).
وبإيجاز شديد، فاستراتيجية اصطياد الأخطاء والافادة منها -هي من الاستراتيجيات الدولية -التي كثيراً ما تطبقها الجماعات والافراد لتحقيق أهداف معينة. ويظهر أن روسيا قد أتقنت استخدام هذه الاستراتيجية، ليس ذلك فحسب، بل ربما أصبحت لديها القدرة لدفع منافسيها لارتكاب الأخطاء. فهل يمكن طرح نظرية أن مثل هؤلاء المنافسين يعيشون في حالة غفلة عن أساليب الخداع والمكر بالاعتماد على القوة العمياء؛ التي طالما كررت جرائمها وأخطاءَها وانحرافاتها؛ وتجربة الحرب في فلسطين والعراق أفضل برهان.

 

 


   

رد مع اقتباس